العراق بين الطائفة والعشيرة : هل يولد المشروع الديمقراطي البديل من رحم العجز؟ مقالا للكاتب د. أيمن الحديثي

د. أيمن خالد

ين تصير الانتخابات مجرد تأكيد على الواقع لا فرصة للتغيي و منذ العام 2003، والعراق يدور في دوامة سياسية عنوانها الأبرز: الطائفة والعشيرة.
وفي كل دورة انتخابية، تُزاح الستائر لتكشف عن مشهد يتكرر: عناوين حزبية كثيرة، لكنها تعود لتصطف تحت مظلتي الطائفة والقبيلة. نخب تتحدث عن الدولة، لكن القرار لا يُصنع إلا داخل بيوت الزعامات الدينية أو مضائف شيوخ العشائر. أما الكفاءات العلمية، والمواهب المهنية، والأسر العريقة التي كانت ترسم ملامح العراق ذات يوم، فقد تم تهميشها كأنها طيف بلا جسد.
في بلد يحكمه النظام البرلماني، لا تصل إلى البرلمان إلا إذا كنت ابن الطائفة، أو حاملًا لراية العشيرة، أو مدعومًا من شبكة المال–السلاح–المقدس.
فهل يمكن لعراق مثل هذا أن ينتج مشروعًا ديمقراطيًا بديلًا؟

1. بنية النظام السياسي: اختناق داخل صناديق مغلقة
المشكلة في العراق ليست في صندوق الاقتراع ذاته، بل في من يُسمح له بالوصول إليه.
الناخب محاصر بنظام انتخابي معقد، مليء بالمفخخات السياسية والدوائر المغلقة، يخدم القوى التقليدية ويقيد خيارات الناس.
والأحزاب التي تتقدم الانتخابات، غالبًا ما تتقنع بعبارات مثل “الدولة”، و”الإصلاح”، و”النهضة”، لكنها في الحقيقة امتداد طبيعي لنظام المحاصصة الطائفية، أو لسلطة القبيلة التي تتحكم بأصوات جماعية وتعيد تدوير النفوذ.
فما لم يُعد النظر في هندسة النظام نفسه، فإن أي حديث عن البديل سيبقى صدىً لحلم لا يجد حوامله السياسية.

2. الكفاءات المعطلة: النخبة التي لم يُتح لها النزال
العراق يزخر بعقول إدارية، أكاديمية، قانونية، وأدبية، كان يمكن أن تكون عصب الدولة ووقود نهضتها.
لكن هذه الكفاءات أُقصيت في السنوات الماضية لأسباب متعددة: الطائفية، غلبة السلاح، تهميش الطبقة الوسطى، والإحساس بعدم جدوى المشاركة.
المعضلة أن النظام لا يمنح هذه النخب فرصة عادلة للمنافسة. فالمشهد الانتخابي تحكمه الولاءات لا الكفاءات، والوليمة السياسية تُقدم لمن يحشد الأصوات لا لمن يصوغ البرامج.
بل إن مجرد محاولة فرد علمي مستقل خوض الانتخابات، دون دعم عشائري أو طائفي، تتحول إلى مغامرة خاسرة سلفًا.
ولذا فإن السؤال الجوهري ليس: أين الكفاءات؟ بل: من يمنحها الحق بالدخول؟ ومن يحميها من الإقصاء السياسي والاجتماعي؟

3. هل يمكن تأسيس تيار سياسي خارج الطائفة والعشيرة؟
نعم… ولكن بشروط قاسية وواقع معقد.
ليس المطلوب محو الطائفة أو هدم العشيرة، فهما مكونان من نسيج المجتمع العراقي، ولهما دور اجتماعي وثقافي لا يُنكر.
لكن المطلوب أن يتم تجاوزهما سياسيًا لا وجوديًا، من خلال:
• بناء أحزاب عابرة للهويات، قائمة على البرامج لا الانتماءات.
• دعم نواة مدنية تملك خطابًا وطنيًا، لا محليًا ضيقًا.
• إصلاح قانون الانتخابات ليمنح الأفراد والنخب فرصًا حقيقية.
• حماية العملية السياسية من سطوة السلاح والمال السياسي.
• إشراك الجاليات العراقية في الخارج، وهم كنز نخبوي غير مفعّل.
ولن يكون ذلك ممكنًا ما لم تتوافر إرادة دولية ومحلية حقيقية لإنقاذ ما تبقى من فكرة الدولة.

خاتمة: الدولة حين تُختزل في العائلة الكبرى

العراق لا يعاني من نقص في الوعي، بل من وفرة في القهر المنظم.
الناس تعرف ما تريد، لكن لا أحد يسمعهم خارج طاولة الطائفة والعشيرة.
والكفاءات تدرك ما تملك، لكن الأبواب موصدة إن لم تكن من أصحاب الحظوة أو السلاح.
إن المشروع الديمقراطي البديل ليس شعارًا، بل معركة وعي وتنظيم وجرأة، تبدأ من الاعتراف بالاختطاف السياسي الحاصل، وتنتهي بإعادة الحق لصاحب الكفاءة، لا صاحب الولاء.
عندها فقط، قد يرى العراق طريقًا إلى الديمقراطية الحقيقية… خارج الخرائط القديمة.