منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وُلدت مصطلحات جديدة لم تكن مألوفة في التاريخ السياسي العراقي، بل لم تكن مألوفة في تاريخ الدول ذات النظم المستقرة. فجأة أصبحنا نسمع عن «المكوّن الشيعي» و«المكوّن السني» و«البيت الكردي» و«البيت الشيعي» و«البيت السني»، وكأن السياسة تحولت إلى تجمعات مذهبية وعرقية لا إلى مؤسسات تمثل الأمة كلها. هذه المصطلحات لم تكن بريئة، ولم تأتِ من فراغ،
بل هي نتاج لحظة انكسار واحتلال وفقدان الرشد السياسي، لحظة استغلتها شراذم تصطاد في عفن التاريخ لتكرس خطابًا يفرّق ولا يوحّد، ويقسّم ولا يبني.
هذه المفردات العابرة للتاريخ لم تُنتج إلا هشاشة في الوعي الجمعي، وأورثت العراق سنوات من الانقسام والحروب الأهلية، وفتحت أبوابه أمام الاستغلال الإقليمي والدولي. إن بقاء هذه المصطلحات يعني بقاء العراق أسيرًا لدوائر مظلمة، فيما الخلاص يبدأ من تطويقها، وتجفيف منابعها، وإعادة السياسة إلى مسارها الوطني الجامع.
السياسة بطبيعتها تبحث عن البرامج والرؤى والاستراتيجيات، لكنها في العراق ما بعد الاحتلال استُبدل بها الهويات الفرعية. صار الانتماء للمذهب أو للطائفة أو للعشيرة أهم من الانتماء للوطن. هكذا انتقلت السلطة من مفهوم الدولة الجامعة إلى مفهوم «البيت» الضيق. بيت لا يرحّب إلا بأهله، ولا يوزّع المكاسب إلا على أبناء المكوّن، ولا يرى في الآخر إلا خصمًا أو تابعًا. وهكذا تحوَّل العراق إلى خارطة متشظية من الولاءات المتقابلة، بدل أن يكون بيتًا جامعًا لمواطنيه جميعًا.
وهنا تتجلى المأساة: وطن يُختزل في مفردات مريضة، ودولة تُختطف من قِبل شعارات هزيلة، وأمة تُزج في صراع عبثي لا نهاية له ما لم تنهض إرادة سياسية جديدة، تطيح بهذا القيد وتعيد تعريف السلطة على أساس المواطنة الجامعة.
أجواء الحقد والكراهية
هذه المصطلحات لم تكن مجرد لغة خطابية عابرة، بل سرعان ما تحولت إلى إطار عملي لإدارة الحكم. الوزارات قُسّمت على أساس المكوّنات، والقرارات صيغت داخل البيوت الطائفية، والانتخابات لم تكن سوى عملية إعادة إنتاج للاصطفافات نفسها. النتيجة كانت سنوات من الحروب الأهلية، والاقتتال الداخلي، والتفجيرات، والتهجير. الإرهاب نفسه، بما فيه من تنظيمات وحشية كتنظيم «داعش»، وجد بيئة خصبة في هذا المناخ المسموم.
فالخطاب الطائفي المقيت غذّى أجواء الحقد والكراهية، وأورث العراق جراحًا ما زالت مفتوحة حتى اليوم. ومع استمرار هذه الثقافة السياسية الفاسدة، يصبح الإصلاح مجرد شعار عابر، بينما الحقيقة أن أي نهضة عراقية مرهونة بقطع جذور الطائفية وتجريم مصطلحاتها رسميًّا وشعبيًّا.
الأخطر من ذلك أن هذه المصطلحات لم تبقَ داخل العراق فقط، بل راحت تهدد بالانتقال إلى دول الجوار العربي والإسلامي. فإذا قُبلت في العراق اليوم، فمن يضمن ألا تُصدَّر كنموذج بائس هدّام إلى المحيط العربي والإسلامي، لتصبح قوالب جامدة تُفرّغ السياسة من محتواها المدني وتستبدل به خطابا «مكوناتيا» مأزوما. وهنا تكمن الخطورة الكبرى؛ أن يتحول العراق، بغير وعي منه، إلى مُصدّر لثقافة الانقسام بدل أن يكون محورًا للوحدة.
المصطلحات ليست مجرد كلمات، بل حوامل لثقافة سياسية كاملة. فإذا تم تقبُّلها في العراق، فإنها تعطي شرعية لاستخدامها في دول أخرى تعاني أصلًا هشاشة أو انقسامات. هذا يعني أن العراق قد يصبح -من حيث لا يقصد- مصدرًا لإعادة إنتاج الطائفية السياسية إقليميًّا.
حين يخرج المصطلح من الحدود العراقية ويتبناه الخطاب الإعلامي أو النخب السياسية في الجوار، فإنه يُحوّل الطائفية إلى إطار مؤسسي بدل أن تبقى مشكلة ظرفية، وهذا أشد فتكًا لأنه يجعل الانقسام قاعدة من قواعد السياسة بدل أن يبقى خللًا طارئًا.
إن من واجبنا أن نطارد هذه المصطلحات ونطوّقها قبل أن تتمدد أكثر، فهي ليست مفاهيم أصيلة في الفكر السياسي، ولا تعبيرات عن هوية جامعة، بل هي «منتجات قهر» ظهرت في فترة مظلمة من تاريخ العراق، فرضها الاحتلال، ورسّخها من أراد الانتقام من العراق ومن حضارته. المكوّن والبيت ليسا أحزابًا سياسية ذات برامج، ولا تيارات فكرية تقدّم حلولًا، إنهما أدوات لابتزاز المجتمع، وتحويل ثرواته إلى غنائم موزعة على أسس مذهبية وعرقية.
بيت شيعي وبيت سني
السياسة الحقيقية لا تُبنى على هذا النحو. السياسة مشروع دولة، مشروع مستقبل، مشروع سيادة. العراق لا يمكن أن ينهض وهو محكوم ببيوت مغلقة لا ترى أبعد من حدودها الطائفية، ولا بمكونات تحولت إلى صناديق مغلقة تمنع التفاعل بين أبناء الشعب الواحد. ما تحتاج إليه البلاد هو العودة إلى الأصل؛ المواطنة. المواطنة هي العقد الاجتماعي الذي يجمع الناس تحت راية واحدة، ويمنحهم حقوقًا متساوية، ويفرض عليهم واجبات متساوية. من دون المواطنة لن تكون هناك دولة، بل مجرد رقع جغرافية متناحرة، يسيطر على كل منها «بيت» أو «مكوّن».
حين تُختزل السياسة في «بيت شيعي» أو «بيت سني» أو «بيت كردي»، فهي تتحول إلى جدران عازلة تفصل العراقيين عن بعضهم بدل أن تجمعهم. هذه الجدران لا تنتج مشروع دولة، بل «كانتونات» متناحرة تتناوب على السلطة، وتستنزف مقدرات البلد باسم «التمثيل».
إن العراق أمام خيار تاريخي؛ إما أن يبقى أسير «مصطلحات الظلام» التي وُلدت في زمن الاحتلال والخذلان، أو أن ينتقل إلى عهد جديد تُحكم فيه الدولة بالمواطنة، وتُدار فيه السياسة بالبرامج لا بالولاءات. المواطنة ليست ترفًا، بل شرط وجود وبقاء، ومن دونها لن يكون مستقبل.
لقد آن الأوان لتسمية الأشياء بأسمائها. «المكوّن» و«البيت» ليسا إلا خدعة لغوية، ابتكرها من لا يريد للعراق أن ينهض. هما قناع للهيمنة الأجنبية، وأداة بيد من يسعى لتفكيك العراق وتحويله إلى مناطق نفوذ تتقاسمها القوى الإقليمية والدولية. من هنا، فإن مواجهة هذه المصطلحات ليست معركة لغوية فقط، بل معركة سياسية واستراتيجية. إذا أردنا إنقاذ العراق، فعلينا أن نبدأ بتحرير اللغة من أسر هذه المفاهيم المريضة. فالمصطلحات ليست بريئة، إنها تشكّل الوعي، وتوجّه السلوك، وتبني الواقع.
فالمعركة ضد هذه المصطلحات ليست مجرد نزاع لغوي، بل هي اختبار لقدرة العراقيين على استعادة وعيهم الجمعي وبناء سرديتهم الوطنية. إن رفض «المكوّن» و«البيت» ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة سيادية وأخلاقية لحماية الهوية، وفتح الطريق أمام عراق يتجاوز الطوائف نحو دولة مواطنة جامعة.
لا يليق بهذا البلد
حين نقول إن الانتكاسات السياسية تبدأ من المصطلح، فإننا لا نبالغ. الكلمات تصنع الأفكار، والأفكار تصنع السياسات، والسياسات تحدد مصير الشعوب. حين قبلنا بمصطلح المكوّن، فتحنا الباب لتقسيم السلطة على أساس مذهبي. وحين قبلنا بمصطلح البيت، سلَّمنا بأن الوطن لا يسع الجميع، وأن لكل طائفة بيتها. والنتيجة أننا خسرنا الدولة، وخسرنا السيادة، وخسرنا الأمان. واليوم، إذا لم نتحرك لمطاردة هذه المصطلحات وإنهائها، فسوف نخسر المستقبل أيضًا. فالمجتمعات لا تنهض تحت شعارات ضيقة، بل حين تعود إلى الهوية الجامعة، وتستعيد الثقة بذاتها، وتدرك أن المصطلح ليس مجرد لغة بل هو عقد اجتماعي جديد يفتح الأفق نحو الإصلاح والنهضة.
العراق بلد الحضارات، وبلد الخلافة، وبلد العلماء والشعراء. لا يليق بهذا البلد أن يُدار بمفردات الطائفية والجهل، ولا أن يبقى أسيرًا لخطاب أنتجه الاحتلال ورعته قوى الانتقام. الطريق إلى العراق الجديد يبدأ من هنا؛ من تنظيف قاموسنا السياسي من هذه الألفاظ، ومن إعادة بناء خطاب يقوم على الوحدة والمواطنة والسيادة. عندها فقط نستطيع أن نقول إننا بدأنا نخرج من النفق المظلم إلى أفق دولة حقيقية، دولة لا تعرف المكوّن ولا البيت، بل تعرف شعبًا واحدًا اسمه العراق.
