تواجه فرنسا تحديات اقتصادية وسياسية عميقة، ما يثير تساؤلات حول استقرارها ومستقبلها في أوروبا. ومع ارتفاع ديونها العامة وتصاعد عجز الميزانية، حذرت وكالات التصنيف الائتماني من تدهور الوضع المالي للبلاد. هذه الأزمة الاقتصادية تتشابك مع حالة من عدم اليقين السياسي، والتي ظهرت مع تعاقب الحكومات في عهد الرئيس ايمانيول ماكرون، ما عطل محاولات الإصلاح.
والتقرير التالي يسلط الضوء على هذا الوضع بالداخل الفرنسي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وانعكاساته على التكتل الاوروبي الساعي لإعادة تموضعه داخل الخارطة الجيوسياسية العالمية المتغيرة، خاصة وأن “القارة العجوز” تسعى إلى الوحدة في مواجهة حرب روسيا على أوكرانيا والوقوف امام تنامي النفوذ الصيني والتوترات التجارية مع الولايات المتحدة.
▪︎ ارتدادات اقتصادية جديدة
لم يعد الاضطراب السياسي والمالي الذي تشهده فرنسا من المسائل الداخلية التي خص حكومة فرنسوا بايرو وحدها، بل بات عاملاً مؤثراً في حسابات الأسواق الأوروبية والعالمية، فثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو يواجه اختبارات صعبة تتعلق بميزانيته المثقلة، والنتيجة أن موجات القلق تجاوزت باريس لتصيب بروكسل وفرانكفورت ولندن وواشنطن، في صورة “ارتدادات اقتصادية” تترجمها الأسواق يوماً بعد آخر، وتدور نقاشات صاخبة، في مقر المفوضية الأوروبية ببروكسل، حول ما إذا كانت فرنسا قادرة على تقديم خطة مالية متوسطة الأجل متسقة مع الإطار الأوروبي الجديد. وهذا الإطار، الذي فُعّل مطلع 2024 ليمنح الدول مرونة مقابل التزامات واضحة بخفض الدين، يجد نفسه اليوم أمام أول اختبار جدي، إذ قال مسؤول أوروبي لصحيفة “فاينانشال تايمز” إن “فشل باريس في الالتزام قد يفتح الباب أمام دول أخرى للتراخي”، محذراً من تآكل المصداقية الجماعية لقواعد الاتحاد الأوروبي.
▪︎ كابوس الأسواق
ويراقب البنك المركزي الأوروبي، في فرانكفورت، عن كثب تأثير الأزمة الفرنسية على انتقال السياسة النقدية، فارتفاع العوائد الفرنسية يعزز المخاوف من “تجزؤ الأسواق” داخل اليورو، وهو كابوس لطالما سعى البنك لتجنبه منذ أزمة ديون جنوب أوروبا.
وفي حال تواصل الضغط على السندات الفرنسية، قد يجد المركزي نفسه مضطراً لتوضيح أدواته الوقائية أو إعادة النظر في وتيرة خفض الفائدة، رغم تراجع التضخم إلى مستويات أقرب إلى الهدف، وهذ يعني أن السياسة المالية المتعثرة في باريس قد تقيد السياسة النقدية في مجمل منطقة اليورو، بما فيها خفض سعر الفائدة. وأظهرت بيانات من بورصة لندن أن صناديق التحوط خفضت تعرّضها لأسهم البنوك الفرنسية، وزادت مراكزها على السندات الألمانية والبريطانية. وقال أحد مديري الصناديق لـصحيفة “وول ستريت جورنال “، إن “السوق لم تعد تتعامل مع فرنسا مصدر استقرار، بل اقتصاد يحمل مخاطرة إضافية”، مشيراً إلى أن موجة تحويل الأموال نحو الأصول البريطانية والألمانية مرشحة للاستمرار إذا طال أمد الأزمة.
▪︎ العدوى الصامتة
تحمل البنوك الإيطالية والإسبانية في محافظها حصة معتبرة من السندات الفرنسية، ما يجعلها عرضة لاضطرابات في حال حدوث موجة بيع واسعة. ووفق تقديرات محللين في بنك “باركليز”، فإن ارتفاع علاوة المخاطر على السندات الفرنسية بمقدار 50 نقطة أساس إضافية قد يخصم ما بين “0.2 و0.3 ” نقطة مئوية من النمو في منطقة اليورو خلال 2025. وهذه “العدوى الصامتة” تجعل باريس ليست وحدها التي تدفع الثمن، بل جيرانها أيضاً، وعلى صعيد أسواق الصرف، تحوّلت الأزمة إلى عامل ضغط على اليورو. ففي تعاملات الأسبوع الماضي، انخفضت العملة الأوروبية الموحدة أمام الدولار إلى أدنى مستوى لها منذ ستة أشهر، بحسب صحيفة “بلومبيرغ”. ويرى المتعاملون أن أي تصعيد سياسي أو اجتماعي في فرنسا سيزيد علاوة المخاطر على الأصول الأوروبية، ما يعزز الطلب على الدولار والذهب، وإذا استمرت الفجوة بين العوائد الفرنسية والألمانية في الاتساع، فقد يصبح اليورو عرضة لمزيد من التراجع، وهو ما ينعكس مباشرة على تكلفة الواردات وميزان المدفوعات في القارة.
▪︎ توترات تجارية متصاعدة
وتضيف الأزمة الفرنسية عنصر عدم يقين في لحظة حساسة للأسواق العالمية التي تواجه بالفعل اضطرابات في أسواق السندات الأميركية وتوترات تجارية متصاعدة. ففي نيويورك، حذر محللون في بنك “جي بي مورغان” من أن استمرار الأزمة في فرنسا سيزيد من جاذبية السندات الأميركية ملاذاً آمناً، ما قد يرفع الدولار أكثر ويضغط على التدفقات نحو الأسواق الناشئة. أما في آسيا، فقد أشار تقرير من “نيكاي” إلى أن المستثمرين اليابانيين أعادوا تقييم مراكزهم في السندات الأوروبية، وزادوا مشترياتهم من الأصول الأميركية، تحسباً لتقلبات إضافية في منطقة اليورو. وتترقب الأسواق قرارات وكالات التصنيف الدولية، التي تستعد لمراجعة وضع فرنسا في الأسابيع المقبلة، لكن التأثير لا يقتصر عليها وحدها، إذ حذر خبراء في وكالة موديز من أن أي خفض لتصنيف فرنسا قد ينعكس على تقييم البنوك الأوروبية التي تحتفظ بسنداتها، وهذا يعني أن الأزمة السياسية في باريس قد تتحول إلى “مضاعف سلبي” على النظام المالي الأوروبي كله، يرفع كلفة الاقتراض ويحد من شهية المستثمرين الدوليين.
▪︎ مفترق طرق اقتصادي
وتواجه فرنسا لحظة فارقة يتداخل فيها الاضطراب السياسي مع ضغوط مالية واقتصادية متنامية، بعد سقوط حكومة رئيس الوزراء فرنسوا بايرو إثر حجب الثقة في البرلمان. وبينما انعكس ذلك مباشرة على ثقة المستثمرين وارتفاع تكاليف الاقتراض، كشفت بيانات رسمية عن تراجع حاد في الإنتاج الصناعي، في وقتٍ تحاول فيه التقديرات الاقتصادية للمصرف المركزي طمأنة الأسواق بوجود نمو محدود رغم التصعيد السياسي. والمشهد الذي ترسمه تقارير “فرانس برس” و”أسوشييتد برس” و”بلومبيرغ” يعكس مزيجاً معقداً من القلق والمرونة داخل ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. وخلاصة هذه التقارير أنه بين ارتفاع عوائد السندات وتراجع الإنتاج الصناعي، تقف فرنسا عند مفترق طرق اقتصادي حساس، في وقتٍ تحاول مؤسساتها المالية إظهار قدرة على الصمود بوجه أزمة سياسية متصاعدة. ومع انتظار قرار وكالة فيتش بشأن التصنيف الائتماني، يبدو أن التحدي الأكبر يكمن في كيفية الموازنة بين استعادة ثقة المستثمرين ودفع عجلة النمو، دون الانزلاق نحو أزمة مالية أعمق قد تتجاوز حدود فرنسا إلى منطقة اليورو بأكملها.
▪︎ تراجع الإنتاج الصناعي
في موازاة ذلك، نقلت “أسوشييتد برس” عن المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية أن الإنتاج الصناعي الفرنسي تراجع بنسبة 1.1″1.1%” في يوليو تموز الماضي، في أكبر انخفاض خلال ثلاثة أشهر، بعد قفزة نسبتها 3.7% في يونيو الماضي.
وسُجّل التراجع الأبرز في معدات النقل “10.7%” وخاصة قطاع الطيران والفضاء، بينما انخفض إنتاج الآلات والسلع المعدنية بنسبة “2.2 %”، والمنتجات الغذائية والمشروبات بنسبة “1.3 %”. هذا التراجع الصناعي يزيد المخاوف من دخول الاقتصاد في تباطؤ إضافي بعد الأزمة السياسية. لكن رغم هذه التحديات، أشار تقرير بلومبيرغ إلى أن مصرف فرنسا المركزي يتوقع استمرار النمو عند “0.3%” في الربع الثالث من العام الحالي، بدعم من قطاعي الطيران والمعدات، مع نمو معتدل في الخدمات وتحسّن غير متوقع في البناء. وأظهر مسح شمل “8500” شركة أن التوقعات لم تتجه نحو انكماش، رغم القلق المتصاعد من الإضرابات والاضطرابات السياسية، ومع ذلك، ارتفع مؤشر “اللايقين” الاقتصادي إلى مستويات مماثلة لما بعد إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون الانتخابات التشريعية في يونيو حزيران الماضي.
▪︎ مؤشرات النمو والصمود
ووفق تقرير “فرانس برس”، تخطت تكاليف الاقتراض الفرنسية نظيرتها الإيطالية لأول مرة منذ سنوات، حيث ارتفع عائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات إلى “3.48%” مقارنة مع “3.47%” للإيطالية، قبل أن يتراجع إلى “3.41%” عند إغلاق بورصة باريس. ويعكس ذلك قلق الأسواق من الاستقرار السياسي بعد سقوط حكومة بايرو، لاسيما أن الدين العام بلغ نحو “3.3” تريليونات يورو، أي “114%” من الناتج المحلي الإجمالي. وتترقب الأسواق تقييم وكالة فيتش الاسبوع المقبل، وسط مخاوف من خفض التصنيف الحالي “-AA” مع نظرة سلبية، ما قد يزيد الضغوط على تكاليف خدمة الدين.
▪︎ أعلى عجز بالميزانية
وفرنسا مثقلة بالديون لدرجة أنه لا تتفوق عليها في الاتحاد الأوروبي سوى اليونان وإيطاليا، وبنسبة تتراوح بين “5,4 و5,8 ” في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الحكومة في باريس مسؤولة أيضا عن أعلى عجز في الميزانية في الاتحاد الأوروبي.
وللوصول إلى هدف العجز المطابق لمعايير الاتحاد الأوروبي البالغ 3 في المئة يجب إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق. ونظرا لأن ذلك لا يمكن تنفيذه سياسيا، فإن الأسواق المالية تستجيب بفرض علاوات مخاطرة على السندات الحكومية الفرنسية، وفي بعض الأحيان كان لا بد من دفع علاوة على السندات الحكومية الألمانية التي تعتبر آمنة بشكل خاص وهي علاوة لم تُدفع منذ أكثر من 16 عاما. وهذا يعني أن السندات الحكومية الألمانية ذات أجل استحقاق مدته عشر سنوات لا تستحق سوى فائدة بنسبة 2,7 في المائة تقريبا في حين أن السندات الفرنسية تستحق فائدة بنسبة 3,5 في المئة تقريبا.
ويتساءل فريدريش هاينمان في مقابلة مع “DW”، هل يجب أن نقلق بشأن اليورو إذا خرجت المالية العامة لثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي عن السيطرة؟ ويجيب”نعم، يجب أن نقلق، منطقة اليورو ليست مستقرة في هذه المرحلة”، ويضيف، هاينمان الباحث الاقتصادي في مركز ” ZEW ” في مانهايم، وهو مركز ليبنيز للأبحاث الاقتصادية الأوروبية، “لا أشعر بالقلق الآن من حدوث أزمة ديون جديدة على المدى القصير في الأشهر المقبلة، ولكن يجب بالطبع أن نتساءل إلى أين سيؤدي ذلك إذا استمرت حالة عدم الاستقرار السياسي في بلد كبير مثل فرنسا التي شهدت ارتفاعا مستمرا في نسبة الدين خلال السنوات الأخيرة”.
▪︎ مأزق البنك المركزي الأوروبي
يوضح هاينما “إن السبب الرئيسي في عدم زيادة توتر أسواق السندات، أي عدم ارتفاع أسعار الفائدة على السندات الفرنسية هو الأمل في أن يقوم البنك المركزي الأوروبي بشراء السندات الحكومية الفرنسية من أجل تحقيق الاستقرار”، ويتابع “لكن هذا الأمل قد يكون خادعا لأن البنك المركزي الأوروبي يجب أن يحذر من الإضرار بمصداقيته في هذا المجال”. إنها مشكلة معروفة منذ زمن طويل: كلما كان هناك حاجة إلى التوفير أو إجراء إصلاحات، تثور الأحزاب اليسارية واليمينية في فرنسا وتعبئ أنصارها. وقد دعت النقابات إلى إضراب عام في 10 سبتمبر أيلول الجاري بعد يومين من تصويت البرلمان على حجب الثقة. وتعود إلى الأذهان ذكريات احتجاجات السترات الصفراء التي شلت فرنسا في خريف 2018. وكان السبب في ذلك هو زيادة الضرائب على الديزل والبنزين التي أراد الرئيس ماكرون من خلالها دفع التحول الأخضر.
“المفوضية الأوروبية مسؤولة جزئيا عن هذه المشكلة، فقد تغاضت مراراً عن فرنسا، بل تغاضت تماماً، وكانت هذه تنازلات سياسية خوفا من إعطاء دفعة للشعبويين”، كما يوضح الاقتصادي هاينمان.
