العراق عند خط التقاطع الدولي مقالا للكاتب د. أيمن خالد

رئيس الوزراء محمد شياع السوداني

يقف العراق اليوم في قلب معادلة إقليمية ودولية معقدة، حيث تتقاطع على أرضه وفي فضائه السياسي والأمني تيارات متعارضة في الأهداف لكنها متشابكة في الأدوات. إيران، التي خرجت من تصعيد عسكري استمر 12 يوما مع إسرائيل في ربيع 2025 وهي محمّلة بتداعيات سياسية واقتصادية وأمنية، ترى في العراق عمقا استراتيجيا لا يمكن التفريط به.
في المقابل، تدرك الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل أن الملف العراقي يمثل الحلقة الأكثر حساسية في طوق النفوذ الإيراني، ولذلك تضغطان بقوة لإضعاف أو إنهاء حضور الفصائل الولائية والحشد الشعبي كأدوات حرب بالوكالة، وهو ما تُبرّره واشنطن ضمن إطار القانون الدولي الذي يقيّد الأنشطة العسكرية غير النظامية العابرة للحدود، استنادا إلى المادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة التي تؤكد مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة.

وإضافة إلى ذلك، تستند الولايات المتحدة إلى الاتفاقيات الثنائية المبرمة مع الحكومة العراقية، وفي مقدمتها اتفاقية الإطار الاستراتيجي لسنة 2008، التي تنص على التعاون الأمني في مواجهة التهديدات المشتركة، ما يمنح واشنطن أساسا قانونيا –وإن كان مشروطا بطلب رسمي– للتدخل أو الضغط باتجاه إعادة تنظيم المشهد الأمني في حال رأت أن استقرار العراق مهدَّد بفعل كيانات مسلحة خارجة عن سيطرة الدولة.
كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطا اقتصادية عبر تفعيل العقوبات على مصارف وشخصيات سياسية عراقية تتهمهم بدعم الحرس الثوري، أو تسهيل صفقات تسليح لا تمر عبر القنوات الرسمية للدولة، وهو ما يزيد من تعقيد الوضع العراقي، ويضاف إلى ذلك الدور الفعّال لمؤسسات الضغط الأمريكية التي تعمل على تشريع قوانين جديدة تُضيّق على التحويلات المالية الموجهة من العراق إلى كيانات مرتبطة بإيران، ما جعل من البنك المركزي العراقي أداة مراقبة أمنية بقدر ما هو ذراع سيادية اقتصادية.

هذه المعادلة تجعل العراق ساحة اختبار مستمر، ليس بين قوتين فحسب، بل بين رؤيتين متناقضتين لمستقبل المنطقة: رؤية الهيمنة الممتدة عبر شبكات النفوذ غير المباشر، ورؤية إعادة ترتيب التوازنات الداخلية بما يخدم الأمن القومي الأمريكي–الإسرائيلي.

البيئة العراقية بين النفوذ الخارجي ومحدودية السيادة

منذ عام 2003، استطاعت إيران أن ترسّخ حضورا متداخلا في بنية القرار السياسي العراقي، عبر شبكة من العلاقات والمصالح التي تشابكت مع مراكز قوى داخلية متنوعة، وقد اعتمدت طهران في ذلك على دعم مجموعات وواجهات مؤسسية داخل النظام السياسي العراقي، وفّرت لها غطاء سياسيا وأمنيا واقتصاديا فاعلا. هذا الامتداد لم يكن حكرا على تيار واحد، بل انخرطت فيه أطراف متباينة التوجهات المذهبية، غير المعتمدة على لون واحد، وجدت في العلاقة مع طهران وسيلة لحماية مصالحها أو تعزيز وضعها الداخلي في ظل صراعات السلطة.
في المقابل، يواجه رئيس الحكومة الحالي معضلة مزدوجة: من جهة، الضغوط الأمريكية والدولية الرامية إلى إنهاء ظاهرة السلاح الموازي، ومن جهة أخرى، وجود منظومة داخلية–سياسية–عسكرية تتشابك مصالحها العضوية مع إيران، وتشكل جزءا من توازن القوى الحاكم. هذا التناقض يضع القرار العراقي في حالة من التعليق والتجاذب بين قوتين خارجيتين متنافرتين، بينما تظل قدرة الداخل على إنتاج مسار سيادي مستقل محدودة ضمن مشهد يتسم بالتداخل الأمني والسياسي والاقتصادي.
وفي هذا السياق، تبرز الصفقات العسكرية غير الرسمية التي تموَّل من قِبل أطراف محلية ذات ارتباطات خارجية، دون المرور عبر وزارات الدفاع والمالية، مما يثير إشكاليات تتعلق بالشفافية القانونية وسيادة الدولة، خاصة مع تزايد الضغوط الغربية لإخضاع العقود الدفاعية جميعها لإطار قانون المشتريات العامة ولرقابة البرلمان العراقي.

كما أن العديد من الفاعلين السياسيين المرتبطين بشبكات إقليمية مؤثرة يديرون أنشطة اقتصادية موازية، تشمل عقود مقاولات وصفقات استيراد كهروميكانيكية من دول متعددة، ما يعمّق من الاقتصاد المزدوج داخل الدولة العراقية. هذا التوازن الهش يجعل القرار السيادي العراقي في حالة “تعليق دائم” بين مركزين خارجيين متنافسين، مع هامش محدود جدا للمناورة الذاتية، ويُعزّز من ظاهرة “الدولة الهجينة” التي تعيش فيها مؤسسات الدولة الشرعية تحت سقف سلطة موازية مسلحة واقتصادية.
وتُعيد الحالة العراقية طرح إشكالية السلاح الموازي كواحدة من أبرز التحديات التي تعرقل استكمال بناء الدولة، فانتشار السلاح خارج إطار المؤسسة الرسمية جاء من رحم تفكك أمني وإداري أعقب الغزو، وتغذّى على بيئة هشّة لم تُنتج عقدا اجتماعيا مستقرا، ما أدى إلى نشوء منظومات مسلّحة موازية للدولة ترتبط بشبكات إقليمية ومصالح محلية متشابكة.

وفي ظل هذا الواقع، لا يمكن التعاطي مع هذه الظاهرة من زاوية أمنية أو قانونية فقط، بل يتطلب الأمر معالجة سياسية شاملة تعيد بناء مفهوم الشرعية وتوازن القوة ضمن الإطار الوطني، على قاعدة السيادة الفعلية، لا عبر مساحات التأثير الخارجي أو التفاهمات المؤقتة.

الحراك الإيراني الإقليمي والبعد الميداني

لا يتوقف الحراك الإيراني عند حدود العراق، بل يمتد إلى فضاءات إقليمية متشابكة تسعى من خلالها طهران إلى تعزيز عمقها الاستراتيجي وتثبيت خطوط اتصالها مع الحلفاء، وتأتي زيارات متكررة لمسؤولين إيرانيين إلى بغداد –من بينهم وزير الخارجية ورئيس مجلس الأمن القومي– ضمن هذا السياق الأوسع، الذي يشمل تحركات على محاور متزامنة، من بينها لبنان واليمن، حيث تحتفظ إيران بعلاقات وثيقة مع قوى سياسية وعسكرية محلية تشكّل امتدادا لمجالها الحيوي الإقليمي.

وقد أوردت تقارير في أغسطس/آب 2025 أن مسؤولين من الحرس الثوري التقوا بقيادات بارزة من (حزب الله) في بيروت، في وقت تصاعدت فيه التوترات في المنطقة على خلفية الاشتباك مع إسرائيل، كما نُقل عن مصادر إعلامية أن تطورات مشابهة سُجّلت في الساحة اليمنية، في ظل تحركات عسكرية واستعراضات قوة متزامنة.

هذه الأنشطة تؤكد أن طهران تنظر إلى العراق ليس فقط كمنطقة نفوذ سياسي واقتصادي، بل كممر لوجستي حيوي ضمن شبكة عمليات أوسع. وضمن هذا الإطار، تُتهم بعض الكيانات العراقية ذات الارتباط الخارجي بتسهيل حركة الأموال والمعدّات خارج الأطر الرسمية، الأمر الذي تعدّه الولايات المتحدة –في حال ثبت تورطه في أعمال ضارة بالاستقرار الإقليمي أو بانتهاكات ضد المدنيين– خرقا محتملا للقانون الدولي الإنساني.
كما ربطت تقارير دولية بعض شركات الشحن والتمويل العراقية بعمليات دعم لوجستي لفواعل إقليمية متحالفة مع طهران، ما أدى إلى فرض عقوبات بموجب قانون “كاتسا” الأمريكي، قانون مواجهة خصوم الولايات المتحدة من خلال العقوبات، ومن اللافت أن هذه الشبكات اللوجستية تستفيد أحيانا من الممرات التجارية الرسمية –مثل الموانئ الجنوبية– لإخفاء طبيعة أنشطتها، ما يجعل من عملية الرصد والتتبع تحديا استخباريا بالغ التعقيد، وهنا يظهر العراق بالنسبة لإيران كجزء من “خط الدفاع المتقدم”، لا مجرد جار إقليمي أو حليف سياسي.

استشراف المواجهة وأبعاد الحسم


المشهد الراهن ينذر بأن المواجهة المقبلة، إذا اندلعت، لن تكون محدودة أو جزئية، بل قد تعيد رسم الخريطة السياسية والأمنية في المنطقة. الولايات المتحدة تبدو مصممة على الحسم في ملف النفوذ الإيراني بالعراق، ليس فقط عبر الضغوط السياسية، بل من خلال إعادة صياغة بنية القرار العراقي على نحو يقلل من قدرة طهران على المناورة. ضمن هذا السياق، يُتوقع أن تُكثّف واشنطن من استخدام أدوات العقوبات الاقتصادية على الأفراد والكيانات، مستندة إلى تشريعات مثل قانون الحرس الثوري كمنظمة إرهابية أجنبية، ومبادئ القانون الدولي المتعلقة بمسؤولية الدولة عن الأعمال التي ترتكبها قوات غير نظامية تعمل لحسابها.
في المقابل، يدرك الإيرانيون أن أي خسارة في العراق ستؤثر على نفوذهم في لبنان واليمن، وربما على تماسك جبهتهم الداخلية، خصوصا مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بعد عقوبات أمريكية جديدة استهدفت قطاع “البتروكيماويات” في تموز 2025، كما أن فقدان الحضور في العراق سيؤدي إلى انكشاف جغرافي خطر يهدد سلسلة النفوذ الممتدة من طهران إلى الضاحية الجنوبية. أما القوى الدولية الأخرى، كالصين وروسيا، فهي وإن لم تتدخل عسكريا، إلا أنها ترى في العراق ساحة نفوذ اقتصادي وجيوسياسي يصعب التفريط بها، خصوصا في ملفات الاستثمار في النفط، والبنى التحتية، وصفقات الطاقة الذكية. وسط هذه المعادلة، تبدو النتيجة الحتمية أن “الضعيف سيسقط”، وأن مكامن القدرة على السيطرة والردع –سواء في الجانب الأمريكي أو الإيراني– هي التي ستحسم شكل العراق المقبل.

معادلات التوازن والردع بعد المواجهة


لقد أفرزت المواجهة الأخيرة بين إيران من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، معادلات قوة جديدة غيّرت الأنماط المألوفة لإدارة النزاعات المسلحة، فإسرائيل رغم تفوقها الاستخباري والتقني، وجدت أن قدرتها على العمل بحرية باتت مقيّدة بمعادلات الرد المتبادل، خاصة في ظل تطوير إيران لقدرات مسيّراتها الهجومية والتشويش الإلكتروني عبر جبهات متعددة. أما واشنطن، فقد اكتشفت أن أدوات الضغط القصوى لن تكفي وحدها لكبح السلوك الإقليمي لطهران دون إعادة تموضع عسكري شامل في المنطقة، وهو ما ترفضه البيئة السياسية الأمريكية الداخلية.
بالمقابل، تلقت إيران تحديات أمنية وضربات مباشرة ومؤثرة، لكنها أثبتت أنها تمتلك شبكة غير متناظرة من أدوات الردع تمتد من العراق إلى البحر الأحمر، وهو ما يجعل خيار الحرب الشاملة مكلفا وغير مضمون النتائج، ويضاف إلى ذلك أن إيران بدأت تعتمد على منظومات تشويش وتحكم ميداني تديرها شخصيات غير إيرانية في بيئات رخوة، ما يعقّد مهمة تعقبها قانونيا.

هذه المعادلات الجديدة تلقي بثقلها على الملف العراقي، بوصفه ساحة التماس المباشر، والأكثر قابلية للانفجار أو إعادة التشكيل، في وقت تحاول فيه الأطراف كلها إعادة تعريف مفهوم “التكلفة المقبولة” في النزاع الإقليمي، ويبقى السؤال مفتوحا: هل يتجه العراق نحو الحسم أم نحو إعادة تدوير الأزمة في بنية توازنات جديدة؟