الحلقة 12 و الاخيرة : كتاب ” جدار بغداد .. يوميات شاهد على غزو العراق ” للصحفي العراقي وليد الزبيدي

وليد الزبيدي

الحلقه الثانيه عشره

لم يحدد المسؤولون العراقيون ساعة معينة لبدء الحرب الأمريكية على العراق، وأبقوا الأبواب مفتوحة على جميع الاحتمالات، ويبدو إن المسؤولين عن قناة تلفزيون الشباب، التي يشرف عليها عدي النجل الأكبر للرئيس العراقي، قد تلقوا تعليمات بالاستمرار في البث في ليلة الحرب خلافاً لما كانت معتادة عليه هذه القناة، التي يتوقف بثها بعد الثانية ليلاً من كل يوم، كان ذلك ليلة بدء الحرب، ومن الواضح أن التعليمات وصلت من مكتب عدي شخصياً، الذي كان مسؤولاً عن اللجنة الأولمبية العراقية، وكانت تلك التعليمات في إطار التكهنات، ليس إلا، فقد استمر البث في قناة الشباب حتى الساعة الرابعة وخمسة وأربعين دقيقة فجراً، أي بعد انتهاء المهلة التي حددها الرئيس الأمريكي جورج بوش بخمسة وأربعين دقيقة، وبعد أن شعر القائمون على البث، أن الأجواء مازالت هادئة، ولم يعكر صفو ونقاء ليل بغداد أي شيء. بادروا إلى إنهاء البث، واستناداً إلى التعليمات، التي تلقوها، فأن الكادر الفني والمذيعين والمحررين، يجب أن يبقوا في حالة إنذار، لذلك لم يغادر هؤلاء مبنى التلفزيون، الذي يقع ضمن بناية محطة التلفزيون العراقي الرسمي، في منطقة الصالحية مقابل فندق المنصور على مقربة من نهر دجلة في جانب الكرخ من بغداد.
أما تلفزيون بغداد، فقد أنهى برامجه قبل قناة الشباب، بأكثر من ساعتين، وعاود البث بعد نصف ساعة من بداية بث قناة الشباب، التي بدأت بث برامجها بعد أن أمطرت صواريخ كروز الأمريكية وطائراتها مدينة بغداد، في الخامسة والنصف من صباح العشرين من آذار/مارس 2003.

لم يعرف أحد، فيما إذا علم عدي صدام حسين ببداية الحرب، قبل وصول الصواريخ إلى بغداد، من خلال الوسائل التي أبلغت ذلك إلى القصر الجمهوري، الذي سارع المسؤولون فيه إلى الاتصال الفوري بالمواقع الرئاسية كافة، بما فيها قصر الدورة، الذي كانت تسكنه زوجة الرئيس العراقي ساجدة خير الله وبناتها. واستهدفته الضربة الأمريكية الأولى. إذ لم يبادر عدي في تلك الدقائق، التي سبقت وصول الصواريخ، إلى إبلاغ كادر تلفزيون الشباب، من مصورين ومهندسي بث ومخرجين، عن قرب وصول الصواريخ، لكي يسجل هؤلاء سبقاً إعلامياً في تصوير اللقطات الأولى لبداية الحرب، ويفسر العارفون ببواطن الأمور في القصر الرئاسي، تكتم عدي هذا، بأنه يدخل ضمن الاحترازات الأمنية المشددة، التي وضعها جهاز الأمن الخاص، ويشرف على تنفيذها بصرامة كبيرة قصي النجل الأصغر للرئيس العراقي، لهذا لم يعرف كادر قناة الشباب، الذي يرتبط بقنوات اتصال هاتفية مباشرة بعدي صدام حسين، ببداية الهجوم، إلا من خلال دوي الانفجارات العنيفة التي هزت العاصمة بغداد.

لاشك إن الساعات الأولى، والأيام القليلة الأولى، لم تكن سهلة، فإذا كانت خطة الهجوم البري الأمريكي معروفة لدى قادة الجيش العراقي، وهذا ما قاله لي عدد من كبار ضباط الجيش والحرس الجمهوري، فأن خطة الهجوم الجوي والصاروخي على بغداد، ومراكز القيادة الرئيسية الأخرى، لم تكن معروفة بجميع تفاصيلها، وهذا الغموض، لابد أن يشكل هاجس خوف من احتمالات عديدة، قد تحصل في الضربات الأولى، كما إن ذات الهاجس، أخذ يمور في نفوس الكثير من العراقيين، الذين وجدوا خلال ساعات أنهم قد دخلوا اتون الصدمة والترويع، التي طالما سمعوا بذؤاباتها وشظاياها الكلامية، تصل إليهم عبر الأثير، إلا أنهم الآن يعيشون بين ثناياها.

من ناحيتها، لم تضع دوائر الدولة المعنية خطة لمجابهة حرب (الصدمة والترويع) وبالأحرى، لم تتم دراسة خطورة هذا الاتجاه، الذي اهتمت به الإدارة الأميركية، وجعلته الواجهة الأساسية لحربها على العراق، أما الإجراءات، التي تم إتخاذها، فلم تخرج عن الإطار التقليدي، المتمثل بضرورة إدامة البث التلفازي والإذاعي، والحرص على إصدار الصحف اليومية، وضرورة توزيعها على أوسع رقعة جغرافية، مع إعطاء الأولوية للإذاعة والتلفاز، وأهتم وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف بهذا الجانب، وتم تهيئة إذاعات متنقلة في جميع المحافظات العراقية، وكانت من نوع الإذاعات المتحركة، وجرى الاستعداد بذات الطريقة لإدامة البث التلفازي، وخلال اجتماعاته مع الدائرة الهندسية التابعة لوزارة الإعلام، كان الصحاف يؤكد باستمرار على احتمال قصف وتدمير محطات البث، وأنها من الأهداف الأساسية، التي تقع في دائرة الأهداف الحيوية، التي تتصيدها الطائرات والصواريخ الأمريكية.

الجانب الآخر، الذي كان يؤكد الصحاف على ضرورة الالتزام به، هو جانب السرية في إعداد محطات البث المتنقلة، وعدم الإفصاح عن شكلها والأماكن، التي ستتخذ منها مواقع لها، لكن سرعان ما انتشر الحديث عن تلك المحطات (الكارفانات)، بعد أن تذمر عدد من المذيعين في مجالسهم الخاصة، من الخطر، الذي يهدد حياتهم، لأنهم أُبلغوا بأنهم سيجلسون داخل تلك (الكارفانات) لقراءة البيانات العسكرية والتعليقات، ولأنهم يعلمون أن مراكز البث ستكون مستهدفة بسهولة، فقد طالبوا، بأن تكون أماكن جلوسهم على مبعدة من نقاط البث، وقالوا بأن ذلك، لا يكلف سوى أسلاك (كيبلات) لا تكلف كثيراً، ويمكن أن تبعدهم عن منطقة الخطر، لمسافة مائة متر على أقل تقدير.
أما وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، فكان يقول لهم دائماً، طالما أن الجانب الأمني مضمون، فأن القوات الأمريكية، سوف لن تتمكن من الوصول إلى مواقع البث العراقية، وبعد انتهاء الحرب، تحدث عدد من العاملين في دائرة الإذاعة والتلفزيون عن هذه المسالة، وقالوا إن مراكز البث التي تم قصفها، أما كانت معلومة في المكان، مثل استوديوهات البث، أو الأماكن التي زارتها لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة، ويتهم هؤلاء تلك اللجان بأنها قدمت تفاصيل دقيقة للبنتاغون، ويستشهدون بحادثة للتأكيد على ذلك، فقد كانت هناك مرسلة إذاعية في مدخل بناية قريبة من مقر الإذاعة والتلفزيون، ولم ينتبه أحد إلى هذه المرسلة الإذاعية، التي استمرت في العمل حتى بعد إسقاط التمثال عصر التاسع من أبريل/نيسان 2003، ولم تتعرض للقصف والتدمير، لأنه لم يتوقع أحد أن تكون مرسلة للإذاعة في مدخل البناية.

من هنا، كانت مهمة الإعلام العراقي، تنصب على التعبئة الداخلية، أما في ميدان مخاطبة الرأي العام العربي والدولي، فقد كان الاعتماد مركزاً بالدرجة الأساسية على وجود العدد الهائل من محطات التلفاز العربية والأجنبية في بغداد، التي كانت تسارع لنقل المؤتمرات الصحافية العراقية، إضافة إلى نقل وقائع القصف اليومي وعلى مدار الساعة.
نعتقد بأن أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبها الإعلام العراقي، هو إمساكه بمسألة (أم قصر) والمراهنة على موضوعها في الميدان الإعلامي، وكأنه أراد أن يؤسس إلى الانتصار العراقي، من خلال إعطاءها زخماً كبيراً والتركيز عليها، وإذا أخذنا القضية من الناحية الإعلامية المجردة، فلا شك، أن صمود قطعات في بقعة ما بوجه قوات العدو، تستدعي الاهتمام بها وإيلائها أهمية كبيرة، ولكن يجب أن تدخل هنا أهم عناصر لعبة الحرب النفسية، فإذا كان الهدف من تمجيد الصمود في (أم قصر) هو إعطاء زخم للقوات المسلحة في قواطع الحرب للصمود ومواجهة العدو، فلا ضير في ذلك، بل أن المسالة تصبح حيوية وحاسمة، وتقتضي تسليط المزيد من الأضواء الإعلامية عليها، شريطة أن يكون الحديث عن ذلك الصمود، في حدود الإمكانات العسكرية، التي تتدخل في استمرار ذلك الصمود.

لكن الذي حصل في مسالة (أم قصر)، أن العراقيين واصلوا الحديث عن صمود أم قصر وأسموه بـ (الصمود الأسطوري)، وفي الواقع لم تكن هذه المدينة، إلا عبارة عن مركز بسيط جداً لوحدة إدارية (مقر ناحية أم قصر) التابعة لمحافظة البصرة، وتتألف هذه الوحدة الإدارية من عدة بنايات بسيطة في بنائها، ولا توجد فيها ملاجئ محصنة، لتستخدم كخنادق للدفاع من قبل المقاتلين، وحتى لو كانت هناك ملاجئ على سبيل الافتراض، فأن جميع التحصينات العراقية اعتبرت ساقطة من الناحية العسكرية، منذ الثالث عشر من فبراير/شباط عام 1991، عندما استخدمت الولايات المتحدة قنابل خاصة بالملاجئ العراقية، واستخدمت هذا النوع من القنابل، في اختراق وتدمير ملجأ العامرية، وقتلت جميع من فيه من النساء والأطفال والشيوخ، في الهجوم الشهير إبان حرب الخليج الثانية.

لذلك، فأن الحديث عن صمود مقاتلين بأعداد قليلة، وبتجهيزات بسيطة في مكان غير محصن، ولا يبعد سوى عشرات الكيلومترات من القواعد الأمريكية في الأراضي الكويتية، لم يكن مبنياً على فهم دقيق لاشتراطات المواجهة مع قوة عظمى، تمتلك جميع أدوات التدمير، في حرب غير متكافئة، أعلنت فيها الولايات المتحدة، أنها عازمة على تحقيق أهدافها، التي لن تقل ولو بدرجة واحدة عن احتلال العراق بأكمله.

أما أبرز التناقضات، التي وقع فيها الجانب العراقي، فتتمثل بالحديث بقوة عن الصمود في منطقة (أم قصر)، وفي الوقت ذاته، يقول كبار المسؤولين، أن المعركة الحاسمة ستكون عند أسوار بغداد، ورغم اندفاع القطعات البرية داخل الأراضي العراقية، واستمرار القصف المدمر على بغداد ومناطق مختلفة أخرى، إلا إن العراقيين وعبر وسائل الإعلام، واصلوا الحديث عن أسطورة الصمود في أم قصر، وما يثير الانتباه، إن الذي يقرأ ما بين سطور تصريحات المسؤولين الأمريكيين، يجد ابتهاجاً أمريكاً بهذا التفاخر العراقي، وفي الواقع، إن ذلك يناغم الاستراتيجية الأمريكية، في حربها على العراق، وعلى حد وصف أحد الضباط العراقيين، بعد انتهاء الحرب بأسابيع، وفي ضوء مناقشات الحرب ومراحلها، وتحديداً موضوع أم قصر، فقد علق بقوله، كان بعض الضباط يتساءلون عن سر الإبقاء على أم قصر دون تدميرها من قبل الصواريخ أو الطائرات الأمريكية، وفي الواقع، ومن خلال مشاهداتنا لفظاعة القصف الأمريكي، فأن تدمير جميع البنايات المعدودة في أم قصر، لم يأخذ أكثر من عشر دقائق، من قبل الطائرات الأمريكية، إلا إن الذي حصل، إن الأمريكيين، كانوا يتابعون بشغف أي حديث يضخم من موضوع أم قصر، ولاشك إن ذلك يدخل في حسابات تتعلق بنتائج الحرب، وفي اعتقادنا إن مخططي الحرب الأمريكيين، لم يضعوا في حساباتهم هذه القضية، لكن الجانب العراقي، ساهم بقوة في لفت انتباههم، لخلق أسطورة عراقية، لم تقف في حقيقية الأمر، إلا على رمال متحركة وأرضية في غاية الهشاشة. أما العراقيون، فكانوا بحاجة إلى أي قصة صمود لتضخيمها والإمساك بجميع خيوطها، دون دراسة جميع العوامل الفاعلة في هذه القضية، والانجرار وراء الخطابية والشعارية، وعدم اخضاع هذه المسالة إلى الدراسة والتمحيص، واعتماد مبدأ الفعل ورد الفعل في السياسة الإعلامية، التي قد تحقق نجاحات محددة، في مواضع معينة، لكنها قد تضع صاحبها في هوة سحيقة، دون أن يعرف أنه يسير بقدميه صوب ذلك.

أم قصر، التي لم تكن ضمن اجندة القوات المسلحة العراقية، ولم تكن ضمن البرنامج الإعلامي العراقي، برز أسمها على حين غرة، عندما بثت وكالات الأنباء في اليوم الأول من الحرب (20/3/2003) خبراً مفاده، أنه قد تم الاستيلاء على ميناء أم قصر، وكاد الخبر، أن يمر مثل بقية الأخبار، التي اندرجت تحت البيانات الأمريكية في الساعات الأولى من الحرب، إلا إن وزارة الإعلام، أرادت أن تتأكد من دقة هذا الخبر، خشية أن يتعرض وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، لسؤال عن احتلال أم قصر، وبعد عدة اتصالات مع مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، والتأكد من المعلومات بدقة بمكتبه، تأكدت وزارة الإعلام من عدم صحة هذا الخبر، وكان ذلك قبل غروب شمس يوم الخميس أول يوم في الحرب، وابتدأت شرارة أم قصر الأولى، من خلال خبر يتألف من ثلاثة أسطر جاء فيه (تود وكالة الأنباء العراقية، أن تؤكد بصورة جازمة أن لا أساس للأنباء التي تحدثت عن احتلال أم قصر، وأن ما يحصل حتى الآن، هو تبادل قصف مدفعي وصاروخي أرضي وجوي من الطرفين فحسب).

وبينما بثت وكالة الأنباء العراقية ذلك الرد، نشرته صحيفتا (الثورة) الناطقة بلسان الحزب الحاكم وصحيفة (الجمهورية) الناطقة بلسان الحكومة على الصفحة الثانية وفي مكان غير بارز. إما البيان العسكري الذي صدر في ذلك اليوم، وهو أول بيان عسكري عراقي، فلم يتضمن الإشارة إلى هذه المسألة. في حين أشار البيان، إلى ما أسماه بمحاولات اختراق للحدود العراقية في مناطق النخيب وعكاشات، ولم يتطرق إلى موضوع أم قصر.

بعد يوم واحد من بداية الحرب أزداد الاهتمام بموضوع أم قصر، وبينما تحدث وزير الدفاع العراقي الفريق أول ركن سلطان هاشم أحمد في أول مؤتمر صحفي له أثناء الحرب (الجمعة 21/3/2003) عن محاولات أمريكية بريطانية لاحتلال مناطق الفاو وأم قصر وصفوان جنوبي البصرة، ووصف تلك المحاولات بالمستميتة، في اليوم ذاته تحدث وزير الداخلية العراقي محمود ذياب الأحمد في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، عن المعارك التي تدور في جبهة الحرب، وعن (أم قصر) قال بأن أحداً من الأمريكيين أو البريطانيين لم يدخلها على الإطلاق، وقال أن بإمكان الصحفيين الاتصال بالمسؤول الإداري عن أم قصر والتحدث أليه عبر الهاتف، وتحدث المسؤول العراقي عن هذه المسألة بثقة عالية، محاولاً إبراز ما أسماه بالكذب الأمريكي، الذي يعني من وجهة نظره ناجم عن تخبط في السياسة بسبب الفشل في الميدان العسكري. وبينما تجاهلت الصحف العراقية اليومية (الثورة، الجمهورية، العراق، القادسية) موضوع أم قصر، فقد أولت صحيفة (بابل) التي يشرف عليها عدي النجل الأكبر للرئيس العراقي صدام حسين، أهمية استثنائية لما أسمته الصمود في أم قصر، وتناولت قصة الصمود تلك من خلال أربع قصص أخبارية نشرتها يوم السبت (22/3/2003) في صفحاتها (2 و10 و15 و18). وفي الوقت ذاته أهتم تلفزيون بغداد بالموضوع، وقال في تعليق له، أن أم قصر تحت السيطرة العراقية.

بعد مرور عدة أيام، لم يكن موضوع أم قصر قد أخذ مداه في الشارع العراقي، فالغالبية العظمى، كانت تتوقع صدور بيان أمريكي يعلن سقوط أم قصر بأيدي قوات المارينز، وتبث صوراً لتجوال جنودها داخل البنايات البسيطة لأم قصر، في تلك الأثناء، كان غالبية العراقيين، يتابعون تفاصيل الأخبار من خلال قناة (العالم) الإيرانية، التي بدأت بثها بالتزامن مع بداية الحرب، ولأن بثها كان يتم التقاطه من خلال الهوائي الأرضي، فقد اتجه الكثير من العراقيين لمتابعة تطور الأحداث من خلال هذه القناة، التي أطلقت على الحرب الأمريكية على العراق تسمية (حرب السيطرة) لدرجة أن البعض أطلق على قناة العالم، أسم (قناة حرب السيطرة)، وكانت هذه القناة تتابع تفاصيل ما يحصل في أم قصر، من خلال بث مباشر لمراسلها، الذي يستخدم كاميرا دقيقة لنقل الأحداث من نقطة قريبة من ضفة شط العرب الشرقية من الجانب الإيراني، كما أنها نقلت القصف الذي تعرضت له مدينة البصرة والمناطق الحدودية الأخرى.

أما الاهتمام الحقيقي بموضوع أم قصر، فقد بدأ يتسع عند العراقيين بدافعين أساسيين هما:

الأول: أراد العراقيون خلق نموذج صمود عراقي في الحرب الأمريكية، خاصة بعد أن اندفعت القوات الأمريكية داخل الأراضي العراقية، ووصلت إلى مشارف مدينة النجف، التي لا تبعد سوى مائتي كيلومتراً من العاصمة العراقية، ولم يكن أمام العراقيين أي نموذج سوى أم قصر، لذلك اقترنت التعليقات السياسية والتحليلات بالصمود في أم قصر، دون الأخذ بالاعتبار الجوانب الأخرى لهذه القضية.

الثاني: أن عدم حسم الحرب خلال ساعات، أو عدة أيام، كما حاولت إشاعة ذلك وسائل الإعلام الأمريكية، ساهم في تبني الكثير من العراقيين للاعتقاد القائل بأن الخطة الأمريكية في حربها على العراق، قد تجابه الكثير من المعوقات والأخطار، واعتقد أصحاب هذا الرأي، أن قضية أم قصر واحدة من هذه المعوقات، وساهم في ترسيخ هذه القناعة الإعلام الأمريكي وتصريحات بعض كبار المسؤولين في البنتاغون، وسنأتي على رصدها، في سياق حديثنا عن هذه المسألة.

وبعد عدة أيام من الحرب، بدا المشهد مغايراً تماماً، خاصة لدى القطاع الواسع، الذي فهم مسالة (الصدمة والترويع) على أنها تهدف إلى حسم الحرب خلال ساعات، أو ثلاثة أيام على أقصى تقدير. وبدت الحرب في ظاهرها، لا تختلف عن حرب عام 1991، التي عاش العراقيون جميع تفاصيلها، واستمرت على هذا المنوال مدة أربعين يوماً. وعلى الجانب الآخر، ظهرت تصريحات من قبل مسؤولين أمريكيين، عززت قناعة العراقيين بقوة دفاعاتهم خاصة في (أم قصر)، وفي هذه المرحلة، انتقل العراقيون من مرحلة التفكير بالحرب، على أساس التفوق الأمريكي المطلق، إلى مرحلة المقارنة بالقدرات على أرض الواقع، وأوغل البعض بالتفاؤل أكثر، فتحدثوا عن الصعوبات التي سيجابهها، الجنود الأمريكيون في صحراء العراق تحت الشمس اللاهبة خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب القادمين، على اعتبار أن الحرب ستطول، وأن جنرال الحر العراقي، سيكون شبيهاً بجنرال الثلج السوفيتي إبان الحرب العالمية الثانية، وكيف كان للثلوج تأثيرها على جيوش هتلر التي غزت الاتحاد السوفيتي.
لم تكن القناعة عند العراقيين، استناداً إلى ما يحصل في ميدان الحرب وحده، بل أنهم كانوا يتلقفون كل ما يقال عن هذا الموضوع من قبل مسؤولين وخبراء وما تذكره وسائل الإعلام في العالم.

في تلك الأثناء، كانت أجهزة المذياع لا تفارق العراقيين، بل وصل الأمر بالبعض، إلى استخدام جهازين أو أكثر في آن واحد، ليتابع تطورات الحرب من خلال جميع الإذاعات الرئيسية، التي تواصل تغطيتها للحرب من بغداد والعواصم الكبرى في العالم.
في اليوم الرابع للحرب، اتجهت وسائل الإعلام العراقية، إلى إبراز اعترافات أمريكية وبريطانية، تبين دخولها في مأزق الحرب في العراق، ونقلت صحيفة (بابل) عن الجنرال براين بوريدج القائد الأعلى للقوات البريطانية في الخليج معلقاً على المعارك في أم قصر بقوله(أن العراقيين يقاتلون بشراسة)، وكان يتحدث على قناة بي بي سي البريطانية.

كما عزز الثقة عند العراقيين موضوع الأسرى، الذين أسرتهم القوات العراقية، والضجة التي أثارتها واشنطن، بسبب عرض قناة الجزيرة الفضائية القطرية لقطات لهؤلاء الأسرى، واعترف في حينها رئيس هيئة الأركان المشتركة ريتشارد مايرز أن عشرة أمريكيين اعتبروا في عداد المفقودين.
من جانبها نشرت صحيفة (الثورة) الناطقة بلسان حزب البعث الحاكم أخباراً على صفحتها الأولى قالت عناوينها (انهيار المعنويات في صفوف القوات الأمريكية) وخبراً آخر ينقل اعترافاً للبنتاغون يؤكد أن الدفاعات العراقية قوية ومنظمة.

أما البيان العسكري العراقي، الذي صدر يوم الأحد المصادف (23/3/2003) فقد تحدث بقوة عن الصمود في أم قصر وقال: على مدى اربعة أيام ظل الأعداء يناطحون أسوار ضاحية أم قصر الصامدة، ولم يحققوا مأرباً مما يبتغون.

وبينما قال المعلق السياسي لصحيفة (الثورة) أن الفاو أول عناوين النصر، فقد نقلت الصحف العراقية عن فضائية الجزيرة تأكيدها على ملحمة عراقية حقيقية في أم قصر. في الوقت ذاته، تحدث وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف عن الفاو، التي تقع ضمنها أم قصر، وقال أن العشائر هناك تقاتل الأمريكيين والبريطانيين. وفي ضوء الاهتمام المتزايد بأم قصر، قال أحد المعلقين العراقيين في مقال له، لا تستغربوا أن تكسر أم قصر أنف أمريكا (الثورة 24/3/2003 الصفحة الأخيرة). وأفردت صحيفة (بابل) افتتاحيتها يوم 24/3/2003 للحديث عن الصمود في أم قصر، وقالت: إنه الصمود الأسطوري الجبار في ميناء صغير بمساحته، في أم قصر. وذهب وزير الإعلام إلى أبعد من ذلك، عندما وصف حال القوات الأمريكية والبريطانية بقوله (أن الغزاة في ورطة وهم في مستنقع لن يخرجوا منه إلا جثثاً هامدة..مؤتمر صحفي يوم الأحد 23/3/2003). وقال في هذا المؤتمر (أن مقاتلي الوحدات العراقية في أم قصر يذيقون قطعان المرتزقة الأمريكان والبريطانيين الموت المؤكد).
خلال أقل من مائة ساعة، من بداية المعركة تولد شعور عند العراقيين، انتقلوا فيه من المتخوفين من الضربة الأولى، التي تحمل بين طيات تهديداتها جميع الأشكال والألوان المنضوية تحت مفهوم الصدمة والترويع، إلى امتصاص هذا النوع من الصدمة، والتعامل مع نتائجه على أساس أنها فشلت في تحقيق أهدافها.
الأمر الذي ساعد في تعزيز مثل هذه القناعة عند شريحة واسعة جداً من العراقيين، الانتقادات اللاذعة، التي بدأت تصدر من وسائل الإعلام الأمريكية، خاصة مايتعلق بعدم قدرة القوات الأمريكية على تحقيق انتصار سريع، وفي يوم الاثنين (24/3/2003) نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية مقالاً افتتاحياً قالت فيه: أن مسؤولي البنتاغون، كانوا يتوقعون أن يستقبل العراقيون الجنود الأمريكيين كمحررين. واعترفت الصحيفة (أن العراقيين أنزلوا خسائر فادحة بقوات التحالف. أما صحيفة نيويورك تايمز، فقد أكدت أن اسر الجنود الأمريكيين من قبل العراقيين، يؤكد مساوئ استراتيجية التقدم السريع).

في هذه الأثناء، أخذ بعض القادة العسكريين الأمريكيين والبريطانيين يتحدثون عن مقاومة عراقية، ونقلت بعض تلك التصريحات صحيفة فايننشال تايمز البريطانية بتأريخ (24/3/2003) وأشار هؤلاء القادة إلى المقاومة في أم قصر. واستناداً إلى ما قالته وكالتا أنباء رويترز ويونايتدبرس، التي يرافق مراسلوها ومصوروها القوات الأمريكية الزاحفة من الجنوب، فقد جاء في تقارير هاتين الوكالتين ليوم الاثنين (24/3/2003) أن الدبابات الأمريكية قد أخفقت في كسر المقاومة العراقية بعد سبع ساعات من القتال في أم قصر، وأعلن في ذلك اليوم أيضاً قادة عسكريون أمريكيون، أنهم دخلوا في أعنف يوم من القتال، حيث تواجه قواتهم مقاومة شرسة وهي تتجه إلى بغداد. ولم تتردد وكالات الأنباء في صياغة تقاريرها، بالاتجاه الذي يخدم استراتيجية الصدمة والترويع، ففي وسط كل هذه الأحاديث والتوقعات، واعترافات كبار ضباط الجيش الأمريكي بحجم المقاومة التي يبديها العراقيون، فقد ألمحت بعض الوكالات إلى أن نجاح التكتيك في أم قصر، قد يتضاعف بشدة عند أبواب بغداد، وقالت في تعليقاتها، أن ذلك قد يوقع المزيد من الخسائر بين صفوف القوات الأمريكية.

هنا لابد من التأكيد، على أن الخسائر بين الجنود العراقيين، في تلك الأيام، كانت قليلة جداً، وهذا ما لم يعتد عليه العراقيون في حروبهم السابقة، وتم تفسير ذلك، ضمن سياق القناعة التي أخذت تتنامى بفشل الاستراتيجية الأمريكية، ورأى العراقيون إن ذلك يمثل أحد جوانب هزيمة القوات الأمريكية، وعدم تمكنها من التأثير على القوات المسلحة العراقية.
يمكن القول، أنه منذ تلك الأيام، أي قبل أن ينقضي الأسبوع الأول من الحرب، أخذ العراقيون يربطون في تحليلاتهم لمجريات الحرب، بين ما قالته الإدارة الأمريكية من حرب خاطفة سريعة تُجْهْز فيها على العراق بأجمعه، وما يحصل من قصة مذهلة يسمعون بتفاصيلها من خلال طرفي النزاع العراقي والأمريكي. وبينما رأى العراقيون بأن حكومتهم تريد أن ترفع من معنويات الناس في الإشادة بالمقاومة، رأوا أن اعتراف أمريكا بما يحصل في تلك البقعة الصغيرة، التي تعمد البيان العسكري العراقي، الذي صدر بعد 48 ساعة من بداية الحرب أن يسميها ضاحية، بقصد التقليل من مساحتها والتعظيم من بسالتها في المقاومة يدلل على ارتباك واضح في استراتيجية الحرب الأميركية على العراق.