الحلقه الحاديه عشره
في الوقت الذي كان قادة البيت الأبيض والبنتاغون، ينتظرون بفارغ الصبر، ما يؤكد دقة الهدف الذي انتخبوه في ضربتهم الأولى لمدينة بغداد، فجر الخميس العشرين من مارس 2003، والذي قالت مصادرهم الاستخبارية، أن الرئيس العراقي صدام حسين وخمسة من كبار مساعديه يجتمعون فيه، وقت إصابة ذلك المكان، وهو القصر الرئاسي في منطقة الدورة، بجانب الكرخ من العاصمة العراقية، الذي يقع وسط بساتين النخيل، وبينما كان كبار القادة الأميركيين، ينتظرون وصول الأخبار السارة لحظة بلحظة، وكان العالم أجمع، يرقب تطور الأحداث في العراق بعد صدور أول بيان أمريكي، في ذلك الوقت، كان صدام حسين، يتجول بسيارة نوع مرسيدس، من موديل الثمانينات في منطقة شارع أبو نؤاس، الذي يطل على منطقة القصر الجمهوري، من الضفة الشرقية لنهر دجلة، وتتبعه سيارة واحدة نوع بك اب، ولم يكن معه في السيارة، إلا الشخص الذي يقودها، وكان السائق يعتمر الكوفية الحمراء بدون عقال، وأمضى صدام حسين في ذلك المكان ما يقارب الخمسة وأربعين دقيقة، كان يتجول اثناءها في الفروع المؤدية إلى شارع الكرادة داخل الموازي لشارع أبو نؤاس، ثم يعود بعد مدة، إلى ذلك الشارع، في المسافة المحصورة بين فندق الميرديان والجسر المعلق.
توقف صدام حسين عدة مرات، عند المفارز التي كانت منتشرة هناك، والمكونة من ميليشيا حزب البعث وبعض أفراد الأجهزة الأمنية، ويقول شهود عيان، أن صدام حسين، كان يتابع البيانات الأمريكية من خلال إذاعة البي بي سي، ويستمع إلى التقارير، التي تبث عن أول ساعات الحرب على العراق، وكان يغطي الأحداث من الجانب العراقي الصحفي العراقي المخضرم صبحي حداد.
كان أفراد هذه المفارز أول من تأكد من عدم دقة البيان الأمريكي، الذي استمعوا أليه، بعد القصف مباشرة، الذي سقط خلاله (40) صاروخاً نوع (توماهوك)، كما شاركت في الهجوم الأول قاذفتان من طراز (اف 117) وهي المعروفة باسم (الشبح)، والقت قنابل من نوع (جيه.دي.أي.ام) الموجهة بالأقمار الاصطناعية، وتزن الواحدة (2000) رطل.
في تلك الأثناء، وبعد انتهاء القصف، لم تكن عائلة الرئيس تعلم بمصيره، لأنه لم يكن قريباً من قصر الدورة، الذي استهدفه القصف، وكان مخصصاً لزوجته (ساجدة خير الله) وبناته. كما إن أعضاء القيادة وكبار المسؤولين، لم يعرفوا بمكان وجود صدام حسين، الذي يتحرك بسرية تامة، ويختار أماكن محددة، لا يعرف بها، إلا عدد قليل جداً من أفراد حمايته، وسكرتيره الخاص الفريق عبد حميد محمود، إضافة إلى نجله الأصغر قصي الذي كان يشرف على الحرس الجمهوري.
لم يكن فجر ذلك اليوم عادياً، فقد كانت الساعة الرابعة صباحاً، الفاصلة والحاسمة، إذ ينتهي الإنذار النهائي الذي وجهه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للرئيس صدام حسين ونجليه، لمغادرة العراق، وهذا ما رفضته بغداد بشدة.
توقع البعض، داخل العراق وخارجه، وحتى صدرت تصريحات من قبل مسؤولين أمريكيين، تشير إلى احتمال، أن يكون صدام حسين، قد أعد خطاباً، أو عدة تسجيلات لخطابات، تتلائم وطبيعة الهجوم الأول، الذي تشنه القوات الأمريكية، ويتم بثه، لتفادي أي طارئ محتمل، لكن لم يتسلم العاملون في تلفزيون العراق، ولا القناة الفضائية العراقية، أي تسجيل من هذا النوع، وقال لي عدد من العاملين في مكتب وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف، أنه لم يسمع أحد بوجود خطاب من هذا النوع معد سلفاً من قبل صدام حسين. وجاء مثل هكذا احتمال، لأنه يدخل ضمن مستلزمات الحرب النفسية في الحروب، خاصة الحديثة منها، أو لنقل أحدث وآخر الحروب، التي يتم نقل تفاصيلها لحظة بلحظة إلى مختلف أرجاء العالم، بعد دخول البث الفضائي المباشر، وتصور البعض، أن تسجيل مثل هكذا خطاب، يجنب وزارة الإعلام العراقية، حالات الإحراج، مثلما حصل ساعة اندلاع حرب الخليج الأولى فجر السابع عشر من يناير 1991، عندما لزم الإعلام العراقي الصمت منذ الساعة الثانية والنصف، لحظة سقوط الموجة الأولى من الصواريخ على (68) هدفاً حيوياً في بغداد ومناطق العراق الأخرى، حتى الساعة الخامسة والنصف صباحاً، وبينما كانت وسائل الإعلام منشغلة بالحرب على العراق، وتنقل عن شبكة (CNN) الأخبارية الأمريكية، وإحدى الشبكات الألمانية، ما يحصل في العراق من عمليات قصف، بدأ بث الإذاعة العراقية بافتتاح تقليدي، بآيات من الذكر الحكيم، واستمرت تلاوة آيات من القرآن الكريم، كما هو معتاد، لمدة نصف ساعة، أما نشرة الأخبار الأولى، التي بدأت في الساعة السادسة صباحاً، فكان خبرها الأول، يتحدث عن شخصية تونسية تعبر عن استنكارها للتهديدات الأمريكية بشن (الحرب) على العراق، ثم توالت فقرات الأخبار الأخرى.
في السادسة وأربعين دقيقة، بدأت الإذاعة العراقية، تبث أناشيد وطنية حماسية، تمجد الرئيس صدام حسين، وتحث العراقيين على المقاومة والصمود، وتتهجم على الولايات المتحدة. وقبل السابعة من صباح يوم السابع عشر من يناير 1991، قال أحد المذيعين، أن الرئيس صدام حسين، رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة، سيوجه خطاباً هاماً.
مضت أكثر من نصف ساعة، ولم يسمع الناس ذلك الخطاب، ويروي قصة ذلك المأزق وزير الإعلام العراقي الأسبق لطيف نصيف جاسم، إذ يقول، أن أحد أفراد حماية الرئيس وصل إلى مكتبه، وأبلغه بالتنويه عن خطاب للرئيس، وبعد ذلك بحوالي ربع ساعة وصل شريط تسجيل (كاسيت)، وعندما تم فحصه من قبل الفنيين، وجدوا أن الشريط، لا يتضمن خطاباً للرئيس صدام حسين، بل كان غناءً بدوياً، ويقول وزير الإعلام العراقي الأسبق، لقد شعرت بحرج شديد جداً، لأنني أدركت أن أفراد حماية الرئيس أعطونا الشريط الخطأ غير الشريط، الذي فيه الخطاب، وأن الوزير نفسه، لا يعرف أين مكان الرئيس الآن، ولا أحد يستطيع معرفة مكانه في ذلك الوقت، في تلك الأثناء، كان المذيع يخرج بين بث نشيد وآخر، معلناً عن انتظار خطاب الرئيس صدام حسين.
لكن بعد دقائق اكتشف الفنيون في الإذاعة العراقية، أن الرئيس سجل خطابه على جزءٍ من هذا الشريط، الذي يحتوي غناءً بدوياً ويعود إلى مرافق الرئيس حينذاك عبد حميد محمود، الذي أصبح فيما بعد سكرتيراً خاصاً للرئيس، وسارعوا إلى بثه، بعد إحراج وقلق وتوتر عاشه وزير الإعلام ومن معه.
هذه القصة، وما صاحبها من إحراج، ونظراً لأهمية الإعلام، وتطوره الذي تسارع بقوة خلال العقد الماضي، ربما كان أهم الدوافع، التي تجعل صدام حسين، يفكر في وضع البدائل، في قيادة معركة ليست بالسهلة، وقد تكون فصولها في غاية التعقيد.
لكن صدام حسين، لم يجهز حتى صيغة الخطاب، وربما بدأ كتابة خطابه، داخل السيارة، التي كان يتجول بها في شارع أبو نؤاس وفي المناطق القريبة منه، وذكر شاهد عيان، أنه مع طلوع الفجر، وقبل أن يشاهد سيارة الرئيس للمرة الأخيرة، شاهده يرتدي نظارات طبية، وينكب على كتابة شيء ما، ومن المرجح أن يكون هو الخطاب، الذي تم تسجيله في غرفة ضيقة، ذات ملامح مجهولة، وكان صدام حسين، يعيد قراءة بعض الفقرات، ما يدلل على عدم إلمام كاف بالنص المكتوب، وأنه لم يُعَدْ سلفاً، وأن النص كتب بخط اليد على دفتر ملاحظات، كان صدام يقلب صفحاته، وتوعد الولايات المتحدة في الخطاب بـ (قتال طويل وقاس).
أثناء إلقاء الخطاب، توقع البعض، أن الولايات المتحدة، تمكنت من تحديد مكانه، رغم أنه من المستحيل في تلك الظروف الصعبة والحساسة، أن يلقي صدام حسين خطاباً على الهواء مباشرة، إذ قد تحدد مكان تواجده الأقمار الاصطناعية الأمريكية، التي تملأ سماء العراق والمنطقة بأسرها، تولد ذلك الشعور، عندما انقطع إرسال الفضائية العراقية، بعد بدء صدام حسين في إلقاء خطابه ببضع دقائق، وعاد بعدها، ثم انقطع ثانية، وظهر صدام حسين يرتدي بزته العسكرية، التي تخلى عنها منذ عدة سنوات، وحرص قبل ذلك اليوم الظهور بالزي المدني، واستخدم نظارات خاصة بالقراءة.
مقربون من عائلة الرئيس صدام حسين، ذكروا أن عائلته ماعدا نجليه (عدي وقصي) لم يعرفا بمصيره، إلا بعد أن ألقى خطابه، كذلك العديد من كبار المسؤولين في قيادة الحزب والدولة، ماعدا وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، وكانت الهواتف ترن منذ ساعات الصباح الأولى في مكتب الصحاف، الذي لم يغادر مكتبه في ذلك اليوم، للاستفسار عن الرئيس صدام، وكان المتصلون من كبار قيادة حزب البعث والوزراء. ولم تتوقف تلك الاتصالات، إلا بعد ظهور الرئيس على شاشة التلفاز.
تبقى مهمة (قطع رأس النظام)، التي أسماها وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، وذات التسمية، التي وضعها قائد القوات المشتركة تومي فرانكس في اجندة الحرب على العراق، من المراحل الحساسة في الحرب، لأنها كانت تهدف القضاء على الرئيس العراقي صدام حسين ونجليه وعدد من كبار مساعديه، وجاء التخطيط لها وتنفيذها بعناية فائقة حسب ماذكرت وكالة المخابرات المركزية، وماتحدث به لاحقاً تومي فرانكس في مذكراته عن الحرب، التي صدرت بعنوان (American Soldier)، أي جندي أمريكي، ومن الواضح، أن القادة الأمريكيين، سعوا جاهدين، إلى وضع الخطط الكفيلة، باختصار الحرب، أو على الأقل تقليص فترتها، ولم يكن أمامهم خيار، سوى القضاء على صدام حسين ونجليه مع كبار المسؤولين، من العاملين في القيادة العراقية، وسارع البنتاغون إلى وضع الخطة المناسبة لذلك، استناداً إلى المعلومات، التي حملها مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينت، التي تؤكد أن الرئيس العراقي ونجليه مع كبار القادة العراقيين، يعقدون اجتماعاُ في القصر الخاص بزوجة الرئيس ساجدة خير الله وبناتها في بساتين الدورة، وتقول وكالة المخابرات المركزية، أن هذه المعلومات، التي اعتبروها في غاية الأهمية، وصلتهم عن طريق مصدرين مختلفين، وإن هذين المصدرين موثوقان جداً، حسب كبار المسؤولين في المخابرات الأمريكية.
وجاء في حيثيات تقديم تلك المعلومة، أن وكالة المخابرات المركزية، تمكنت من زرع شبكة عملاء جديدة وفاعلة لها، في أماكن حساسة وهامة في بغداد. وكانت مسؤولية البنتاغون، تتمثل في وضع الخطة المحكمة لتعقب هذه الأهداف، وأن قتلهم على حد وصف تومي فرانكس، يعني إصابة النظام العراقي بالشلل التام، لأن الشخصيات المقصودة رئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة صدام حسين ونجله قصي المشرف على الحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية الأخرى، ونجله الثاني عدي المسؤول عن منظمة (فدائيي صدام)، ولابد أن يحضر الاجتماع وزير الدفاع الفريق أول ركن سلطان هاشم أحمد، ورئيس أركان الحرس الجمهوري الفريق أول ركن سيف الدين فليح الراوي، إضافة إلى مسؤولين آخرين.
هنا، لابد من التوقف عند مسالة، تدفق المعلومات الاستخبارية، التي تصل إلى البيت الأبيض، خلال الساعات، التي سبقت الإجهاز على الهدف المرسوم في مزارع الدورة، فقد كان يتحدث جورج تينت عن مصادره بثقة مطلقة، ثم جاء إبلاغ تومي فرانكس بعد ذلك، بأن المعلومات في غاية الدقة، وقبل المباشرة بإطلاق صواريخ توماهوك، وانطلاق طائرات (اف 117)، وصلت معلومات جديدة، تؤكد إن هذا القصر يحتوي على تحصينات عسكرية ومخبأ منيع ومحصن، الأمر الذي يجعل صواريخ توماهوك غير فاعلة في مهمتها.
من هنا، ارتأت القيادة العسكرية في البنتاغون استخدام قنابل معروفة باسم مدمرة المخابئ، وتم تخصيص هذه القنابل لضرب القصور الرئاسية.
في تلك الأثناء، لم تكن القيادة العراقية على علم بساعة الصفر، ولكن، وكما ذكر بعض الضباط، فأن التعليمات صدرت يوم الأربعاء، إلى كافة القطعات، تؤكد أن الهجمات، قد تحصل هذا الليل، ورجح بعض الضباط، أن يبدأ القصف في ساعة مبكرة، وقبل انتهاء فترة الإنذار، الذي ينتهي في الساعة الرابعة صباحاً بتوقيت بغداد، أي قبل أكثر من ساعتين من شروق الشمس في سماء العاصمة العراقية.
لكن بعد مرور ساعة على انقضاء المدة، شعر الكثير من العراقيين، الذين سهروا الليل بانتظار بدء الضربة الأولى، بأن الهجوم قد يتأخر، وربما يحصل في أي وقت، في تلك الأثناء، وصلت إشارات سريعة إلى عائلة الرئيس صدام حسين في قصر الدورة، بالإسراع بالخروج من داخل القصر واللجوء، إلى مواضع كانت معدة على مقربة من المكان ومحصنة بكفاءة عالية، ووصلت تلك التحذيرات إلى القصور الرئاسية الأخرى في منطقة الرضوانية، وأماكن سكن عوائل كبار المسؤولين، وسارعت العوائل إلى تلك الملاجئ، التي تقع خارج القصور الرئاسية، وفي الواقع، لم يكن صدور تلك التعليمات من القصر الرئاسي، استناداً إلى معلومات استخبارية معينة، بل أنها جاءت، بعد أن تأكد انطلاق الصواريخ من الغواصات الأمريكية المتمركزة في البحر الأحمر والخليج العربي، ويقول خبراء عسكريون عراقيون، أن الدفاعات الجوية العراقية، تستطيع رصد انطلاق صواريخ توماهوك في دقائقها الأولى، ويتم تبليغ جميع الجهات المعنية باتصالات سريعة خلال دقائق، وأن رحلة هذه الصواريخ تستغرق بين 35-40 دقيقة لتصل إلى أهدافها. ومن الواضح، أن الأوامر صدرت إلى العوائل، التي سارعت إلى الملاجئ المحصنة، استناداً إلى تلك الإشارات، التي التقطتها الرادارات العراقية، في تلك اللحظات من فجر يوم الخميس العشرين من مارس 2003.
عندما ظهر صدام حسين على التلفزيون، تبين أن الهجوم الأمريكي، لم يكن مبنياً على معلومات دقيقة، وحاولت بعض الوكالات، أن تقرأ خطاب صدام حسين، بما يتناسق ويتناغم والبيان الأمريكي الأول، الذي أكد على اعتماد معلومات استخبارية موثوقة عن وجود صدام حسين في الهدف، لتقول أن أحد نجلي الرئيس قد قُتل، واستندت تلك التحليلات، إلى ماجاء في خطاب صدام حسين، الذي قال في إحدى فقراته (فداكم وفدى أمتنا المجيدة، النفس والأهل والولد). وفي هذا الصدد تساءل المحرر السياسي في وكالة (د.ب.أ) صباح ذلك اليوم بقوله: أن الخطاب اثار الكثير من التساؤلات، أبرزها: هل أصيب أحد من أفراد عائلة صدام حسين في الهجوم؟.
لكن يبقى السؤال، عن حقيقة المعلومات الاستخبارية، التي وثقت بها القيادة الأمريكية، وهل كانت لعبة عراقية، أوهمت الأمريكيين، أم إنها جزء من الحرب النفسية الأمريكية، التي أسموها بـ (الصدمة والترويع)، لقد تلاشى الحديث عن المعلومات، التي قادت إلى الضربة الأولى، بعد عدة ساعات من ظهور صدام حسين، وغاب الحديث عنها تماماً، بعد ظهور نجلي الرئيس العراقي في اجتماع مع والدهما.
منذ ساعات الصباح الأولى، ليوم الخميس، وهو أول أيام الحرب، عقدت قيادات الأركان في الفيالق العراقية المنتشرة في مختلف مناطق العراق مؤتمرات، تدارست خلالها، سبل مواجهة القوات الأمريكية والبريطانية، وقال لي عدد من الضباط، إن النقاشات انصبت على ثلاث مسائل رئيسية، هي:
الأولى: تنفيذ الخطة العسكرية التي تركز على امتصاص زخم الضربة الجوية الأولى، التي توقعت القيادة العسكرية العراقية، أنها ستطال مقرات الفيالق والفرق، وأماكن انتشار جنود المشاة، بهدف إضعاف القدرات القتالية لهذه القوات، وتم المباشرة بتنفيذ خطة الانتشار في مناطق مختلفة، في محيط الوحدات العسكرية، وإخلاء فوري لمراكز القيادة والتوجيه، خاصة تلك التي زارتها لجان التفتيش، سواءً في التسعينات من زمن لجنة (اونسكوم) أو تلك التي بدأت نشاطاتها عام 2002، وهي لجنة (انموفيك). وكانت القيادة العامة للقوات المسلحة، قد توصلت إلى قناعة تامة، بنقل خرائط تفصيلية لتلك المواقع، إلى البنتاغون من خلال لجان التفتيش.
الثانية: التشديد على مسألة الأمن العسكري داخل الوحدات، ومع إن التشديد مطلوب في الحروب، وسبق أن عاش ذلك الجيش العراقي، إلا إن التوجيهات صدرت بتحاشي الحديث عن الأسرار العسكرية الحساسة، لاحتمال التقاط تلك الأحاديث من قبل الأقمار الاصطناعية، أو ربما يكون هناك من تم تجنيده من بين القطعات، للعمل الاستخباري لصالح الولايات المتحدة.
الثالثة: منع التجمعات للجنود والضباط، والحرص على عقد الاجتماعات لكبار الضباط في أماكن بعيدة، عن مراكز القيادة، وبطريقة لا تثير انتباه القوات الأمريكية، خشية تعرض تلك التجمعات لهجمات بالطائرات المقاتلة، التي كانت تفرض سيادة مطلقة في سماء العراق.
أما طبيعة المهمات القتالية للوحدات التابعة للجيش النظامي، فقد انحصرت في التصدي لأي هجوم بري تشنه الدروع ووحدات المشاة الأمريكية والبريطانية، والعمل على إفشاله، والمناورة بالقطعات الأمامية، في حال تحرك قطعات من القوات المعادية، مع التأكيد على أن الدور الفاعل لهذه القطعات، سيبدأ في مرحلة لاحقة.
الأمر، الذي ناقشته القيادة العراقية باهتمام أقل، مسألة احتمال دخول قوات أمريكية من المناطق الشمالية، لتخفيف الضغط على القوات المندفعة من منطقة صفوان في الجنوب، باتجاه مدينة البصرة، في طريقها إلى العاصمة العراقية، ورغم إن نائب رئيس الوزراء طارق عزيز، نقل وجهة نظر الحكومة التركية، قبل شهر من بدء الحرب، التي أكدت على رفض تركيا لدخول قوات أمريكية من حدودها الجنوبية باتجاه العراق، إلا إن القادة العسكريين في بغداد، طالبوا بالإبقاء على هذا الاحتمال، على أن تنتشر القطعات العسكرية النظامية في المناطق الممتدة من كركوك إلى الموصل، ونشر قطعات دفاعية أخرى في المناطق الأخرى في محيط محافظة ديالى.
أما قوات الحرس الجمهوري، فقد عقدت مؤتمراً صباح يوم الخميس، بعد ساعات من بداية القصف الجوي، رأسه الفريق أول ركن سيف الدين فليح الراوي، قائد الحرس الجمهوري، وضم كبار قادة الحرس، وابلغ الراوي هؤلاء القادة، أن مهمة قوات الحرس الجمهوري الدفاع عن مدينة بغداد، وأن هناك عدة فرق من قوات الحرس، يمكن المناورة بها، وتحريكها من محيط مدينة بعقوبة في الشمال الشرقي، وأخرى في منطقة أبو غريب بين بغداد والفلوجة، وتكون مهمة هذه القوات، تنفيذ مهمات قتالية، أينما اقتضت الضرورة، ولم يوضح الراوي طبيعة المهمات القتالية، والأماكن التي يمكن أن تذهب أليها، وأبلغ القادة بأن تفاصيل أية خطة ستتم دراستها، ومن ثم عرضها أمام المشرف على الحرس الجمهوري قصي صدام حسين عضو قيادة قطر العراق لحزب البعث ونائب رئيس المكتب العسكري.
قبل أسبوع من ذلك التأريخ، كانت قيادة الحرس قد عقدت عدة مؤتمرات تدارس قادتها، الخطط العسكرية، التي انصبت على جانبين، هما فرض طوق قوي على القوات الأمريكية في حال وصولها إلى مدينة بغداد، والمشاركة في حرب الشوارع، التي كان من المتوقع حصولها، في أطراف أحياء عديدة في بغداد، والمناطق المرشحة، هي العامرية والغزالية وأطراف الشعلة والكاظمية والسيدية وحي الجهاد والدورة بجانب الكرخ، وحي الشعب والراشدية ومنطقة جسر المثنى وأطراف بغداد الجديدة والزعفرانية وجسر ديالى في جانب الرصافة.
استناداً لذلك، تم وضع خطة للانتشار في تلك الأحياء، وتم استئجار منازل خاصة، لتكون مقرات للقوات التي ستخوض حرب الشوارع في تلك الأحياء، إضافة إلى مراكز للإدارة والمعلومات، وصدرت الأوامر، قبل بداية الحرب، بأن يكون التواجد في تلك المنازل قليلاً، ويرتدي الجميع الزي المدني، مع تقليل الحركة واستخدام سيارات مدنية، حتى لا يتم رصدها من قبل الأقمار الاصطناعية الأمريكية، ولتكون بعيدة عن أعين الجواسيس، الذين من المتوقع أن تزج بهم الـ (CIA) في العراق، وبالأخص في العاصمة العراقية.
انقضاء الساعات الأربع والعشرين الأولى، كانت هامة للعراقيين، وعدها المسؤولون العراقيون كذلك، لأن الضربات الأمريكية، لم تحقق ما تم الترويج له، من إحداث الصدمة والترويع، منذ الضربة الأولى، وأخذ الحديث بهذا الاتجاه يدور بين العراقيين.
من جانبها، قالت البنتاغون أن الضربة الأولى، التي استهدفت المقار الرئاسية، لم تكن بداية الحرب، وأنها جاءت استناداً إلى معلومات استخبارية، وترك قصف اليوم الأول، عند الكثير من العراقيين، انطباعاً مشابهاً لما حصل في حرب عام 1991، فقد أخذ العراقيون يقارنون بين مايحصل في ذلك الوقت، وماكان يحدث من قصف عام 1991. واقتنع الكثيرون بأن الحرب، التي لم يتوقعون حصولها، قد حصلت فعلاً، لكنها قد تكون حرباً طويلة وصعبة، خاصة بعد أن تبين أن البيان الأمريكي الأول، لم يكن دقيقاً، وكذبه ظهور الرئيس العراقي وهو يلقي خطاباً، ثم ظهوره ثانية يرأس اجتماعاً شارك فيه نجله الأصغر قصي المشرف على الحرس الجمهوري، وسلطان هاشم أحمد وزير الدفاع.
وبينما اختفى الحديث في الأيام اللاحقة، عن أهم ما حصل في اليوم الأول، وفي الساعات الأولى لبدء الحرب، وهو استهداف صدام حسين ونجليه وكبار المسؤولين، فأن الحدث الذي ظل يتفاعل، طيلة أيام الحرب اللاحقة، هو ما أعلنه الجيش الأمريكي في اليوم الأول من الحرب، عن احتلاله منطقة (أم قصر)، ونفي بغداد ذلك الخبر، الذي أبرزته وسائل الإعلام الأمريكية، وظل الغموض يلف هذه القضية، بين إدعاءات كل من الولايات المتحدة والعراق. ونعتقد أن أحد مرتكزات الحرب النفسية، التي حققت نجاحاً كبيراً، كان موضوع (أم قصر)، التي نعتقد إن الحديث عنها، سيبرز بقوة كبيرة خلال اليومين الأخيرين من الحرب، وتحديداً بعد أن تأكد احتلال المطار من قبل القوات الأمريكية، التي دخلته مساء الثالث من أبريل عام 2003.
