الحلقه الثامنه
رغم تسارع الأحداث، ودخولنا من نهر إلى شاطئ، ثم إلى بحر ومحيط هائج، خلال أيام معدودات، إلا أنه لابد من التوقف ملياً عند الأسبوع، الذي سبق الحرب، فقد شهد ذلك الأسبوع، تحركات واسعة جداً على الساحة السياسية، وتسارعت عمليات لجان التفتيش في البحث عن الأسلحة برئاسة هانز بليكس، خاصة ما يتعلق بتدمير آخر حصون الأسلحة العراقية من صواريخ (الصمود -2) وعمليات استجواب العلماء العراقيين، على انفراد.
في 13 مارس 2003، وصل مجلس الأمن إلى طريق مسدود، بعد نقاشات طويلة وواسعة بين الأطراف المعنية بالقضية العراقية، وكانت لندن قد عرضت ستة شروط بشأن نزع أسلحة العراق، وقوبلت تلك الشروط برفض فرنسي-روسي-صيني-ألماني، وقال وزير الخارجية الفرنسي أن تلك الشروط تندرج ضمن ما أسماه في حينها بـ (منطق الحرب).
في ذلك اليوم، بدأت تتحدث بعض الأوساط السياسية العراقية، خاصة في أروقة وزارتي الإعلام والخارجية، عن احتمالات توجيه إنذار نهائي للعراق، من قبل الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، لكن لم يتكهن أحد بطبيعة ذلك الأنذار، وأعتقد البعض، أن الإنذار قد يتضمن الطلب من الرئيس العراقي التنحي عن السلطة، وتردد أن نجله الأصغر قصي صدام حسين، قد يكون البديل، ضمن حكومة مؤقتة، ثم يجري الإعداد لمؤتمر وطني موسع تشترك فيه قيادات من المعارضة العراقية في المنفى.
طبعاً لم تخرج هذه التكهنات خارج النقاشات والحوارات الداخلية، ومن غير المسموح أن تشير أليها وسائل الإعلام الرسمية، سواءً على شكل تسريبات أو تكهنات، ومن الواضح أن هذه التكهنات جاءت على خلفية رفض العراق استقبال اللجنة العربية، التي قررت زيارة بغداد، ليبقى الحوار عبر الخطابات مع واشنطن، وليس عبر الوفود، التي قد تطرح ما هو أقسى، خاصة تردد في ذلك الوقت عن مبادرات لاستضافة صدام حسين في بعض دول الخليج.
في ذلك اليوم الذي ظهرت فيه مواقف دولية رافضة للمنطق الأمريكي-البريطاني، أعلن العراق، أنه سيسلم الأمم المتحدة تقريراً عن غاز (في أكس)، كما أنه سيسلم تقريراً ثانياً عن الجمرة الخبيثة (انثراكس).
من الواضح، أن الحكومة العراقية، كانت تعتقد أنها بخطواتها المتسارعة هذه، إنما يشكل ذلك مصدر ضغط كبير على الإدارة الأمريكية، وأن كسب المزيد من الوقت، قد ينجم عنه الدخول في مناورات، من شأنها إضعاف الجبهة المضادة المتألفة في ذلك الوقت، من (الولايات المتحدة وبريطانيا وأسبانيا).
أما الإدارة الأمريكية، فقد تحركت باتجاهين، فمن ناحية قال وزير الخارجية كولن باول، أنه من المتحمل عدم التصويت على قرار ثانٍ، وهذا إعلان صريح، على أن واشنطن قد تشن الحرب، دون الحاجة إلى موافقة الأمم المتحدة، إلا إن آري فلايشر المتحدث باسم البيت الأبيض رجح أن تستمر المشاورات لمدة أسبوع آخر، هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد العسكري، فقد أبرزت وسائل الإعلام الأمريكية، ونقلت عنها الفضائيات العربية ووسائل الإعلام الأخرى، أن البنتاغون بدأ بنشر قاذفات نوع (بي -2) ستيلث، وأمرت أكثر من (12) مدمرة قاذفة للصواريخ بالتوجه من البحر المتوسط إلى الخليج.
وبينما لم تعلق المصادر الرسمية العراقية، على ما تم تسريبه في ذلك اليوم (13/3/2003) من معلومات عن إجراء مفاوضات سرية من قبل وكالة المخابرات الأمريكية مع ضباط عراقيين كبار للاستسلام، قال لي أحد المسؤولين في وزارة الخارجية، أن القيادة العراقية، أهملت هذه التسريبات، واستناداً إلى معلومات من مكتب طارق عزيز، الذي أطلع عليها، فأن المسؤول العراقي، عَدْ ذلك أحد أنواع الحرب النفسية. وسألت بعد انتهاء الحرب عدة ضباط، من بينهم من العاملين في الاستخبارات العسكرية العراقية، فيما إذا تم استجواب ضباط كبار، يشتبه بأنهم من المقصودين بتلك المعلومات، أكدوا أنه لم يحصل أي نوع من تلك الاستجوابات، وقالوا أن مثل تلك الأوامر، غالباً ما تأتي عن طريق سكرتير الرئيس الفريق عبد حميد محمود، وتكون مشخصة من قبل جهاز المخابرات العراقي، الذي يتابع الشؤون الاستخباراتية مع الدول الأخرى.
على الصعيد الإعلامي، سالت أحد المقربين من وزير الإعلام العراقي السابق محمد سعيد الصحاف، عن ردود فعل الوزارة عندما أعلنت واشنطن يوم (13/3/2003) عن تسمية مراسلي قناة (CNN) و(BBC) لتغطية أخبار الحرب على العراق، فأعلمني، أن الوزارة لم تهتم بذلك الخبر، ولم يتم اعتماده على أساس أنه أحد المؤشرات، التي تؤكد إصرار واشنطن على شن الحرب. وقال أن الوزارة كانت منشغلة في تلك الأيام، بتغطية نشاطات لجان المفتشين، إضافة إلى دراسة الزخم الكبير من طلبات الشبكات والمراسلين، الذين وصلوا إلى العاصمة الأردنية، للوصول إلى بغداد، وكان الصحاف وزير الإعلام، قد أصدر أمراً بإيقاف إعطاء الأذونات، بسبب العدد الكبير من الإعلاميين، الذين تدفقوا في تلك الأيام، وانتشروا في المركز الصحفي، الذي يقع في الطابق الأرضي لوزارة الإعلام.
رجح أحد المسؤولين في وزارة الإعلام، أن عدم منح الأذونات، كان بناءً على طلب من الأجهزة الأمنية، وليس بناءً على رغبة محمد سعيد الصحاف، وذلك بسبب شكوك تلك الأجهزة من احتمال حصول اختراقات أمنية، من خلال العاملين في وسائل الإعلام، ووصلت الشكوك، إلى حد وصول معلومات تفيد باحتمال دخول صحفيين إسرائيليين إلى العراق، يحملون جوازات سفر كندية وأسترالية وفرنسية وتركية.
أما يوم (14/3/2003) لم يكن أقل أهمية من اليوم الذي سبقه، فقد تواصلت المسارات الثلاثة تتصاعد، وهذه المسارات هي (الموقف العراقي، وموقف المجتمع الدولي، والتصعيد الأمريكي).
فعلى الصعيد الدولي، جاء موقف الأمم المتحدة مشجعاً جداً للعراق، إذ شكك كبير المفتشين هانز بليكس بالأدلة التي أعلنها كولن باول في تقريره الشهير، كما أشاد هانز بليكس بالتعاون العراقي، وذلك في تقرير القاه أمام مجلس الأمن الدولي. وعلى صعيد إحراج واشنطن طالبت فرنسا بمزيد من الوقت، جاء ذلك على لسان وزير الخارجية الفرنسي دوفلبان، ما عزز الموقف الداعي إلى خيار السلام، ما أعلنه في ذلك اليوم أيضاً د.محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية عن عدم عثور مفتشي الوكالة على انشطة محظورة في العراق. وبينما كان أعضاء مجلس الأمن يستعدون للاجتماع وصلهم خبر اعتبروه ساراً ومفيداً لنقاشاتهم، تمثل بإصدار الرئيس العراقي السابق صدام حسين مرسوماً جمهورياً حظر بموجبه انتاج واستيراد أسلحة الدمار الشامل.
في بغداد أشرت تلك المعطيات دفقاً معنوياً لكل الذين يتوقعون تغليب الحل السلمي، والذين ينطلقون من أن الولايات المتحدة مسرورة، لأنها تحقق المزيد من النتائج الإيجابية داخل الساحة السياسية والعسكرية العراقية، لمجرد التلويح باستخدام القوة لشن الحرب على العراق وتغيير نظام صدام حسين بالقوة، كما أعتقد الكثير من العراقيين، بأن التعاون العراقي، يأتي ضمن اتصالات سرية مع العواصم الكبرى، مع أن قلة من العراقيين، وفي الأحاديث الخاصة، لم يستبعدوا حصول مؤامرة بين العواصم الكبرى (فرنسا وألمانيا وروسيا) والولايات المتحدة، وأن إعلان تشدد هذه الدول يتم بالاتفاق بينهم، مع فتح خطوط سرية مع بغداد لدفعها نحو مزيد من التعاون مع المفتشين، وبما يضمن التأكد من خلو العراق، من أي سلاح قد يستخدمه ضد جيرانه أو ضد إسرائيل، وعدم قدرة قواته الصاروخية والجوية للتصدي للقوات الأمريكية، التي ستشن الحرب على العراق.
إلا إن مثل هذا التصور، لم يأخذ مساحة واسعة داخل المجتمع العراقي، لأن غالبية العراقيين، ينتمون إلى تنظيم حزب البعث الحاكم، وعليهم الإيمان بدقة وصواب خطوات القيادة، وأنها لابد أن تكون مدروسة بدقة وعناية فائقتين.
من بين النشاطات اللافتة للرئيس العراقي صدام حسين، في تلك الأثناء، سلسلة اللقاءات، التي أجراها مع كبار الضباط العراقيين. ومن الواضح إنه أراد أن يحقق ثلاثة أهداف، من لقاءاته شبه اليومية المكثفة مع كبار قادة الجيش والحرس الجمهوري، التي كانت تبث تسجيلات منتقاة منها، عبر قنوات التلفاز العراقية، التي تشرف عليها الحكومة.
ومع إن التفصيلات في الأحاديث، التي يتقدم بها الضباط، كانت من اختيارهم، إلا إن أحد كبار الضباط أخبرني، أن الإطار العام لكل متحدث، كان يُحدد من قبل المسؤولين في مكتب الرئيس قبل بدء الاجتماع.
أما الأهداف الثلاثة، فتتلخص بالآتي:
أولاً: انصبت أحاديث كبار الضباط، على مسألة الاستعدادات الخاصة بوحداتهم وصنوفهم في مواجهة القوات الأمريكية، ويتم التركيز على أن ضباط وجنود تلك الوحدات والصنوف، يعاهدون الرئيس والقيادة، على مقاتلة الأمريكيين، وتحقيق النصر، كما يتجه خطاب الضباط إلى الحديث عن أهلهم وعوائلهم، الذين يعاهدون على مقاتلة الأمريكيين والصمود بوجه قواتهم، وفيما يتعلق بهذه النقطة تحديداً، فأن الرئيس صدام حسين، أراد أن يدفع بأكبر عدد ممكن من الضباط للاجهار بموقفهم، بعد بثه عدة مرات من خلال وسائل الإعلام، ونشره في الصحافة الرسمية، في مراهنة على التزام هؤلاء بأقوالهم، وتمسكهم بعد ذلك بمواقفهم، التي أعلنوها، وتعود الذاكرة، إلى طريقة صدام حسين، في إشراك أكبر عدد ممكن من المسؤولين في المواقف، التي يعتقد إنها تسير باتجاه محنة أو معضلة، وبعد سنوات طويلة من تأميم النفط العراقي عام 1973، قال صدام حسين، أنه طلب من أعضاء القيادة وكبار المسؤولين، التحدث عن قرار التأميم وامتداحه في تجمعات جماهيرية، وعبر وسائل الاعلام، وقال أنه أراد من ذلك، أن يتمسك المسؤولون بمواقفهم، التي أعلنوها، خشية أن يتراجعوا بعد ذلك، ويضغطوا باتجاه يخالف موقفهم من قرار التأميم. وأجد أن الرئيس العراقي، في تلك اللقاءات، التي كانت تأخذ فيها أحاديث كبار ضباط الجيش والحرس الجمهوري هذا الاتجاه، إنما كان في ذهنه ذات الهاجس. وفي الشارع العراقي، تحولت تلك الأحاديث، إلى موضوع يومي في النقاشات، خاصة في المناطق والأحياء وحتى بين العوائل، التي يظهر منها ضباط يتحدثون أمام الرئيس وعبر شاشات التلفاز.
ثانياً: على صعيد التماسك الداخلي في المؤسسة العسكرية، أراد صدام حسين، أن يلتقي أكبر عدد ممكن من ضباط الجيش والحرس الجمهوري، حتى يشعر هؤلاء بأن الخطة العسكرية، التي وضعتها القيادة العامة للقوات المسلحة ومقرها في بغداد، ويرأسها صدام حسين شخصياً، لابد أن تدخل حيز التنفيذ بدقة، وأن مثل تلك اللقاءات، تعزز من القناعات بضرورة تنفيذها، كما أن القيادة العراقية، أدركت حقيقة، أن معنويات الجيش العراقي، ليست بالصورة، التي تؤهله لخوض حرب بهذا المستوى، وبهذا القدر من عدم التكافؤ، وأن ضباط الجيش، خاصة الرتب المتوسطة والصغيرة، يعيشون أوضاعاً اقتصادية ثقيلة، ورغم أن الرئيس صدام حسين، حاول معالجة جانباً منها، قبل الحرب بعام، من خلال توزيع أراضي سكنية عليهم مجاناً، إلا إن الضباط، كانوا يقارنون باستمرار بين أوضاعهم المعاشية، وأوضاع أُسَرِهِمْ خلال الحرب مع إيران بين عامي 1980-1988، وحتى بداية التسعينات، وأوضاعهم خلال السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال، كان ضباط كبار، يضطرون للتدافع مع الجنود للحصول على مقعد في سيارات النقل، وهذه المسألة، تحز في نفوسهم، فعندما كانوا برتب أقل، كانوا يعيشون برفاهية وتقدير كبيرين. ولا شك أن هذا الشرخ في البناء النفسي للضابط العراقي، في تلك المرحلة، كان مهماً وفاعلاً باتجاه يضعف من القدرات العراقية، التي سجلت تراجعاً كبيراً على صعيد التسليح والتجهيز والاستعداد. لهذا كان الرئيس صدام حسين، يريد أن يعيد إلى أذهان الضباط، بعض أوجه أيام ثمانينات القرن الماضي، التي كانت تشهد زخماً كبيراً من التكريمات الخاصة للضباط، من أوسمة وانواط شجاعة وسيارات حديثة، إضافة إلى مبالغ مالية كبيرة.
إلا أن المشكلة كانت قد أخذت أبعاداً عميقة، وأن المؤسسة العسكرية العراقية، قد أصابها الإنهاك، وارتبكت صورة الضابط في الأوساط الاجتماعية بما كانت عليه في السابق، ولم تعد تلك الصورة المغرية، التي تجذب الكثير من الشباب، للانخراط في سلك العسكرية، وأصاب هذا الاهتزاز الوسط العائلي لهؤلاء الضباط، ما عدا القيادات العليا في الجيش والحرس الجمهوري والاستخبارات العسكرية، فقد حافظ هؤلاء الضباط الكبار على امتيازاتهم العالية.
ثالثاً: من الواضح، أن صدام حسين أراد أيضاً، نقل صورة، ضمن أسلوب الحرب النفسية، تخالف ما كانت تردده بعض وسائل الإعلام الأمريكية، عن وجود خروقات كبيرة، داخل قيادات الجيش والحرس الجمهوري والأجهزة الأمنية، ومن خلال تلك الحشود الكبيرة، التي كان يلتقيها، يؤكد أن جميع الضباط يعلنون استعدادهم للقتال، ومن مختلف صنوف الجيش. وكان أحد أهداف تلك الصورة، أن تصل إلى البنتاغون، الذي تدرك القيادة العراقية، أنه يتابع كل شاردة ووارده تحصل في العراق، خاصة فيما يتعلق بالقوات المسلحة، ويخضع ذلك للدراسة والتحليل، من قبل مختصين وعلماء ومراكز بحوث ودراسات.
أما مدى نجاح صدام حسين في تحقيق الأهداف الثلاثة، فلا أدري حجم تأثير تلك اللقاءات على البنتاغون، ولكن ما لمسناه في الشارع العراقي، يمكن القول، ومن خلال ما كنت أسمعه، وأعيشه أثناء أيام الحرب، أن الكثير من الشخصيات ووجهاء المجتمع وشيوخ العشائر، وحتى آباء الضباط، كانوا يذكرون أبنائهم باستمرار بالعهود، التي قطعوها أمام الرئيس، وإن أي نوع من التخاذل في ساحة المعركة، يعني فضيحة في الأوساط العشائرية والاجتماعية، ولمس تلك المواقف الكثير من العراقيين، ولا شك أن هذا الهدف قد تحقق بنسب متفاوتة، أما الأهداف الأخرى، فلا اعتقد أنها حققت شيئاً يذكر، خاصة ما يتعلق برفع الروح المعنوية الداخلية للضباط والمراتب الأخرى، التي أصابها الخواء خلال سنوات مرت ثقيلة على الجيش العراقي.
لم تكن الأحداث تسير على ظهر جمل، بل كانت متسارعة، ومع تسارعها، كانت القناعات تتغير، وهذا ما حصل في العراق في الخامس عشر من آذار، ففي هذا اليوم، برزت أولى قناعات المسؤولين العراقيين، التي ترجح كفة نشوب الحرب، إذ إن قراءة بسيطة للتحرك الأمريكي، يكشف بوضوح أن الإدارة الأمريكية، تدير ظهرها بقوة ولا تأبه بالأمم المتحدة، ولا تعير اهتماماً، لما يقوله قادة الدول الكبرى، وما يتردد من معارضة للحرب داخل الولايات المتحدة، وكما أشرنا فأن هذين العاملين، سبق للرئيس العراقي، أن راهن عليهما، أثناء اجتماعه مع كبار المسؤولين العراقيين في الثاني والعشرين من فبراير 2003، أي قبل هذا التأريخ بأقل من شهر.
وكان إصرار الرئيس بوش على عقد قمة ثلاثية في جزر الازور مع الحلفاء المؤيدين لشن الحرب وهما كل من أسبانيا وبريطانيا، تأكيد على اتخاذ قرار الحرب، وجاءت أول إشارة قوية لنشوب الحرب، دون موافقة الأمم المتحدة، على لسان جاك سترو وزير خارجية بريطانيا الحليف القوي للولايات المتحدة، عندما قال لإذاعة الـ (BBC) بتأريخ (15/3/2003)..(أن وقوع عمل عسكري أصبح الآن أكثر احتمالاً). من جهته اعترف وزير الخارجية الفرنسية بضعف قدراتهم المناهضة للمشروع الأمريكي، وقال في محطة التلفزيون الفرنسية (فرانس 2) أن التصميم الأمريكي على شن حرب على العراق كبير جداً، وأكد أن المسألة ليست سوى أيام.
في هذا اليوم، انقلبت الكثير من الموازين في بغداد، وعقد الرئيس العراقي صدام حسين عدة اجتماعات، لم تعلن تفاصيلها وسائل الإعلام، وصدرت من مكتب الرئيس قصاصات ورق صغيرة، بتوقيع السكرتير الخاص الفريق عبد حميد محمود، كانت موجهة إلى الأجهزة الأمنية، وإلى الجهاز الحزبي، وإلى قيادة الحرس الجمهوري ورفعت تلك القصاصات من درجة التأهب لمواجهة ما قد يحصل في الأيام أو الأسابيع المقبلة.
وضمن الجهود التي كان يبذلها وزير الخارجية د.ناجي الحديثي لتأجيل الحرب، أقترح إرسال دعوة عاجلة إلى كبير مفتشي الأسلحة هانز بليكس ود.محمد البرادعي لزيارة بغداد، واستناداً إلى مقربين من وزير الخارجية، فأنه ضَمَنَ تلك الدعوة، عبارة (في أسرع وقت ممكن).
جاءت هذه الدعوة قبل ساعات من انعقاد القمة الثلاثية في جزء الأزور البرتغالية. وكان رأي وزير الخارجية، أن مثل هذه الدعوة، قد تكون عائقاً أمام تلك القمة، التي باتت جميع المؤشرات تدلل على أنها ستتخذ قرار الحرب النهائي.
في أحد الاجتماعات، التي لم يعلن عنها، اقترح عزة الدوري نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، أن يسارع العراق، إلى اتخاذ الإجراءات العسكرية الحازمة، وتقسيم العراق إلى أربع مناطق عسكرية تحت إشراف قادة الحزب وبمعاونة كبار العسكريين وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الأخرى، وعلمت أن اقتراح الدوري، الذي أصغى أليه الرئيس صدام حسين وأيده علي حسن المجيد، استند إلى المعلومات، التي تقول أن خمسين ألف جندي أمريكي بدأوا يجربون السترات الواقية من الأسلحة الكيمياوية. وهذه أكبر تدريبات تجري لأعضاء فرقة الاستطلاع الأولى من مشاة البحرية على معدات الحماية.
في اليوم التالي، أتجه عدد من كبار المسؤولين إلى المناطق التي أسندت إليهم مسؤولية الإشراف عليها، إلا إن قصي صدام حسين النجل الأصغر للرئيس والذي كان يشغل منصب نائب رئيس المكتب العسكري إضافة إلى إشرافه على الحرس الجمهوري، بقي في بغداد، وشوهد في اليوم التالي (17/3/2003) يقود سيارته (ميرسيدس سوداء) بنفسه على طريق المطار، قرب نصب الجندي المجهول في جانب الكرخ من بغداد، والغريب أنه كان وحيداً في السيارة، تتبعه سيارتان من أفراد الحماية الخاصة به.
ما أثار الانتباه، أنه كان يتأمل المناطق المحيطة بنظرات غريبة، ويلقي نظرات طويلة على البنايات والأحياء، كان يقود سيارته ببطءٍ، في حين تجتازه السيارات الأخرى مسرعة، وشاهده وتعرف عليه غالبية، الذين اجتازوه في ذلك اليوم، فطريق المطار عادة ما يسلكه الرئيس صدام حسين وكل من عدي وقصي إضافة إلى كبار المسؤولين، ولم يكن من الصعوبة التعرف على موكب المسؤولين في ذلك الشارع.
لا أعرف إذا كان قصي صدام حسين يدرك، أنه يودع هذه الأماكن، وهو الشاب، الذي يعرف هول الحرب، ويعلم حجم قوة الولايات المتحدة، ولديه المعلومات التفصيلية عن القدرات العراقية، التي تعد ضعيفة جداً، قياساً إلى ما يمتلكه الطرف الآخر من قدرات هائلة، من تكنولوجيا متطورة وطائرات وقاذفات وبوارج وأجهزة رصد وتنصت وغير ذلك، وما موجود من أسلحة عراقية تُعد بدائية جداً، قياساً بذلك.
لا أحد يعرف أين كانت وجهة سير قصي صدام حسين في ذلك اليوم الربيعي، وكان الوقت في حدود الساعة الثالثة عصراً، لكن جميع من شاهده، يتذكر كيف كان يوزع نظراته على الأشياء، ويقود سيارته ببطء، وهو ما لم يعتد الناس على مشاهدتهم لسيارات المسؤولين تسير على هذه الشاكلة، التي غالباً ما تسير بسرعة فائقة.
في ذلك اليوم، أصبحت أزرار الحرب تحت الأصابع، ولم يعد بمقدور أحد أن يتفلسف ويقول، أن الولايات المتحدة، تمارس ضغوطات نفسية لتحقيق جميع مكاسبها السياسية والعسكرية في العراق، فقد أعطت قمة الازور تبريرها للحرب. وأعلن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني في (16/3/2003) قائلاً: لا شك أننا اقتربنا من نهاية الجهود الدبلوماسية في إطار الأزمة العراقية.
ما عزز من قناعة العراقيين، بأن الحرب وشيكة، إبراز وسائل الإعلام الأمريكية في ذلك اليوم، الذي عقدت فيه قمة الازور لتقرير يشير إلى أن الاستخبارات الأمريكية تعجز عن تقديم أدلة محددة إلى الكونغرس أو البنتاغون عن أسلحة العراق المحظورة. ويتضمن التقرير (نشرته الواشنطن بوست في 16/3/2003) معلومات تقول أن كبار المسؤولين في الاستخبارات الأمريكية يقولون أنهم مقتنعون بأن العراق يخبئ أسلحة دمار شامل، إلا أنهم يشعرون بأنهم لن يكونوا قادرين على إثبات ذلك، إلا بعد الغزو، حيث تكون للقوات العسكرية الأمريكية ومحللي الأسلحة الأمريكيين فرصة مطلقة غير مقيدة داخل العراق.
بعد هذا التمهيد، الذي يتلائم وطبيعة التصعيد الأمريكي، لتهيئة الأجواء لشن الحرب على العراق، جاء الإنذار النهائي الذي وجهه جورج بوش إلى الرئيس العراقي صدام حسين ونجليه بمغادرة العراق خلال (48) ساعة. ولم يسمع بخطاب الرئيس بوش الكثير من العراقيين، لأنه تم إلقاءه عبر التلفزيون الأمريكي في ساعة متأخرة من صباح الثامن عشر من مارس، وسبق ذلك إعلان كوفي عنان بسحب المفتشين وجميع موظفي الأمم المتحدة من العراق، كما أعلن تعليق برنامج النفط مقابل الغذاء.
جاء الانذار النهائي للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، ليضع حداً للتصورات المتناقضة، التي كانت تسيطر على العراقيين، وأغلق الباب بصورة نهائية، بوجه الذين يعتقدون، إن السياسيين الأمريكيين، يعتمدون أسلوب المناورة السياسية، لتحقيق أهدافهم الكبرى، دون استخدام السلاح، منطلقين من استمرار سياسة الضغوطات، كما حصل مع الاتحاد السوفيتي السابق، وكسب الجولات الصعبة، من خلال استخدام قوة الإعلام الأمريكي وسطوته، في شن الحرب النفسية على مراحل، دون اللجوء إلى الحرب الحقيقية، باستخدام الأسلحة الحديثة، التي تعتمد على التكنولوجيا المتطورة.
إلا إن السؤال، الذي برز بقوة، لدى شرائح كثيرة، من العراقيين، وهم يلمسون هذا التطور السريع والخطير في موقف الولايات المتحدة، الذي وصل أعلى قوته وصرامته وتشدده، كان السؤال يتمحور حول، مدى إدراك الرئيس صدام حسين، لما كان يجري في الخفاء، في أروقة السياسة الأمريكية والدولية، وهل كان مقتنعاً بإصرار واشنطن على شن الحرب، أم أنه كان يرى، مايراه الآخرون، من أن أمريكا، تريد ممارسة أقوى الضغوطات، لنزع أسلحة العراق، أو التأكد من عدم وجودها، وبعد ذلك، تحقق انتصارها، الذي طالما تحدثت به إلى المجتمع الدولي، دون استخدام السلاح.
أم إن صدام حسين، كان يدرك تماماً، أن الخطة الأمريكية، كانت تسير على مراحل مدروسة، ولمجرد أن تتأكد واشنطن من خلو العراق، من صواريخ، قد تصل إلى إسرائيل، أو إلى قواعدها في منطقة الخليج، كما حصل عام 1991 عندما استخدم العراق تلك الصواريخ بعيدة المدى، فأنها ستنقض على العراق، مستخدمة أسلحتها المتطورة جداً، ومستفيدة من عدم التكافؤ بين القوات المسلحة العراقية، وقوات الخصم.
ثم تأتي الأسئلة الأخرى، التي تقول، إذا كان صدام حسين يدرك حقيقة النوايا والمخططات الأمريكية، لماذا سمح لهم بإسقاط ورقة الخوف، بسماحه لمفتشي الأسلحة، الذين تؤمن بغداد، بأنهم يقدمون المعلومات التفصيلية إلى الإدارة الأمريكية، بدخول جميع المواقع الحساسة، والتقاط الصور، وبعد ذلك السماح بتدمير آخر الصواريخ العراقية نوع (صمود -2)، التي يصل مداها إلى (150) كم، والتي يمكن استخدامها، ضد القطعات الأمريكية، في حال دخولها الأراضي العراقية، ويمكن استهدافها إذا ما بدأت تقدمها، من الأراضي الكويتية، إذا ما تم إطلاقها من الحدود الجنوبية في مدينة البصرة، أو من شبه جزيرة الفاو.
لم يكن بإمكان العراقيين في تلك الساعات، التي باتت تفصلهم عن بداية الحرب الأمريكية، من إيجاد أجوبة لتلك الأسئلة، وهيمنت الاستحضارات لمواجهة الحرب، على أي شيء آخر.
ورغم كل ما دار من لغط، حول زيارة وزير خارجية قطر إلى العراق، في شهر مارس، وسط تلك الأجواء المتشنجة، إلا إن ما أعلنه لاحقاً الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، عن تلك الزيارة، ولقاءه مع الرئيس صدام حسين، يكشف عن بعض الأسئلة، التي شغلت الأذهان، ومازال الكثيرون يبحثون عن إجابة دقيقة عنها. وبعد سنة ونصف من تأريخ تلك الزيارة، كشف وزير خارجية قطر عدة حقائق، استناداً إلى ما دار من حديث بينه وصدام حسين، ومن أهم تلك الحقائق:
أولاً: أن الزعامات العربية، لم تتدارس بعناية تامة أبعاد الأزمة العراقية، ولم تضع اجندة خاصة بها، على أمل إيجاد حل مناسب، يحفظ للعراق سيادته ويجنب أهله محنة الحرب والدمار. وأكد وزير خارجية قطر في (17/9/2004) في مؤتمر صحافي بباريس، أن مهمته كانت لشرح أبعاد المخطط، الذي يتم تنفيذه، وأنه كان مقتنعاً بأن الحرب ستقع وهذه القناعة لم تتبناها الدول العربية الأخرى، التي يمكن أن تكون مؤثرة في الضغط باتجاه الخيار الدبلوماسي.
ثانياً: أن أرجحية عدم وقوع الحرب، كانت هي الغالبة عند القيادة العراقية، والمعضلة، أن بعض الدول العربية ساهمت في ترسيخ ذلك عند القيادة العراقية، وتحديداً في عقل صدام حسين، ويؤكد وزير خارجية قطر بهذا الخصوص، أنه اكتشف من خلال الحديث مع صدام حسين، أن هناك رسائل تصله من دول عربية، وبعضها من دول ساهمت بشكل مباشر وعلني في الحرب، أو بشكل غير مباشر، توحي تلك الرسائل بإمكانية تحاشي تلك الحرب. ويقول الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، أن الدول العربية وغيرها تتحمل مسؤولية ما هو حاصل من حرب وتتماتها، لأنه لو وصلت رسائل واضحة إلى العراق، تؤكد وقوع الحرب، لتجنبنا كل هذه المشاكل، لكن الرسائل كانت مغايرة للحقيقة.
وتسربت بعض المعلومات، على نطاق ضيق من أروقة وزارة الخارجية العراقية، تؤكد أن الوزير القطري كان قد ناقش هذا الموضوع مع نظيره العراقي د.ناجي الحديثي، خلال لقاءات تمت في عدة عواصم، وأن الوزير العراقي كان متفقاً مع وجهة نظر الوزير القطري خاصة فيما يتعلق بخطورة التطمينات، التي تأتي من أطراف دولية وعربية، وتحث العراق على المزيد من التعاون مع لجان التفتيش، وأن أبواب الحلول الدبلوماسية، سوف تكون مشرعة بعد ذلك.
الحلقة السابعة : جدار بغداد .. يوميات شاهد على غزو العراق للصحفي العراقي وليد الزبيدي
