الحلقة السابعة : جدار بغداد .. يوميات شاهد على غزو العراق ” للصحفي العراقي وليد الزبيدي

وليد الزبيدي

الحلقه السابعه

لاشك أن أي دارس للأسابيع القليلة التي سبقت الحرب، مع تصاعد الموقف في الأيام الأخيرة من تلك الأسابيع، لابد أن يتوقف عند حديث هام للرئيس العراقي، أثناء اجتماع لمجلس الوزراء، الذي يرأسه صدام حسين، كان ذلك بتأريخ الثاني والعشرين من فبراير، قال فيه (أن المعركة القادمة ستكون الفاصلة، وقال أن الظروف الآن تختلف عن عام 1991، لأن العالم الآن يعارض التوجهات الأمريكية سواءً في أوربا أو في أمريكا نفسها). وبثت هذا الحديث وكالة الأنباء العراقية الرسمية على شبكتها الداخلية والخارجية.
قبل هذا الاجتماع وفي نفس اليوم، كان الرئيس العراقي السابق، قد التقى على انفراد مع طارق عزيز نائب رئيس مجلس الوزراء، الذي عاد من تركيا، بعد زيارة التقى خلالها كبار المسؤولين الأتراك، وجرى التباحث حول موقف الحكومة التركية من الحرب على العراق، واحتمال استخدام أراضيها لشن هجوم من المناطق الشمالية. وكانت تجري في تلك الأثناء نقاشات حامية داخل تركيا حول هذا الموضوع، وحضر اجتماع مجلس الوزراء د.ناجي الحديثي وزير الخارجية، الذي كان عائداً من اجتماع لوزراء الخارجية العرب عقد في القاهرة.

هناك ملاحظتان جديرتان بالاهتمام في حديث الرئيس العراقي السابق صدام حسين، هما:

الأولى: أنه تحدث عن معركة، ولم يتحدث عن حرب، هذا يعني أن المستلزمات الخاصة بالمواجهة، ستكون في حدود المعركة، التي يفترض أن تقتصر على توجيه ضربات، والمرجح أن تكون جوية باستخدام الطائرات والصواريخ، ويبدو أنه كانت هناك قناعة لدى القيادة العراقية، أو ربما الرئيس صدام حسين، بأن الإدارة الأمريكية، ستضطر إلى نهج ذات الطريق، الذي سلكته أواخر عام 1998، إبان (ثعلب الصحراء) في عهد كلنتون. وأن تلك الضربات قد تكون قاسية، لكن أطرافاً دولية، ستتدخل ويتم إيقافها باتفاق عراقي-أمريكي واسع، يشمل تسوية الكثير من الأمور الإقليمية والدولية.

الثانية: من الواضح أن الرئيس العراقي صدام حسين، يراهن كثيراً على الموقف الدولي من الحرب، إضافة إلى نظرته إلى الموقف داخل الولايات المتحدة نفسها، التي شهدت احتجاجات ضد الحرب، وما قاله صدام حسين، هو نتيجة لقناعته، بأن الإدارة الأمريكية، لابد أن تلتزم بما يقرره المجتمع الدولي، من خلال الأمم المتحدة، وما يفرضه الشارع الأمريكي، المتمثل بالرأي العام، وتأثير جماعات الضغط الداخلي، ورغم أن الجميع من المراقبين والمحللين، أرادوا الوصول إلى نقطة الجزم في مسألة رؤية صدام حسين لنشوب الحرب من عدمه، إلا أن ما برز مجرد تكهنات، فالذي يستند في تحليله إلى هذه الزاوية، سرعان ما يكتشف ما يناقضها في زاوية أخرى.
فإذا كانت الدولة العراقية، تسير بسياقات واضحة واعتيادية في جوانب عديدة، وبما يعطي مؤشرات لاقتناعها بحتمية نشوب الحرب من عدمه، فأن ثمة ما يشير إلى أن الدولة تتخذ احترازاتها بقوة، وخير مثال على ذلك، ما قامت به وزارة التجارة. إذ سارعت إلى توزيع حصص غذائية وفق نظام البطاقة التموينية، التي بدأ العمل بها عام 1990، مع بداية تطبيق العقوبات الاقتصادية على العراق، وخلال أربعين يوماً، تستلمت العوائل العراقية حصصاً غذائية تكفي لثلاثة أشهر، وأردت الحصول على إجابة تؤكد أن ذلك يأتي ضمن قناعة الدولة بقرب نشوب الحرب، وناقشت الموضوع مع د.محمد مهدي صالح وزير التجارة حينذاك، فأجابني بطريقة دبلوماسية، وقال، أننا استوردنا كميات كبيرة من المواد الغذائية، وكمياتها تزيد عن الطاقة الاستيعابية للمخازن العائدة لوزارة التجارة في المحافظات العراقية، ونحاول إفراغ هذه المخازن، وتجهيز العوائل بحصصهم الغذائية.
استفسرت منه، إذا كان يتوقع تدمير هذه المخازن، كما حصل خلال حرب 1991، أجانبي باقتضاب، أنهم كوزارة مسؤولة عن توفير الغذاء للمواطنين ويضعون بحساباتهم جميع الاحتمالات. وليؤكد أنه يتحدث عن خطط استراتيجية، قال لي، مثلاً على صعيد مستلزمات البناء من حديد تسليح وزجاج وغير ذلك تم استيراد احتياجات العراق لثلاث سنوات مقبلة.

أما الجواب الذي لم أحصل عليه من وزير التجارة، فكان عن استفسار أردت من خلاله استيضاح نقطة تشير إلى اقتراب أو ابتعاد موعد الحرب واحتمالات توقف الصادرات النفطية العراقية، أو إيقاف العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء والدواء، وكان سؤالي محدداً عن المصادر المالية، التي اعتمدتها الدولة في توفير متطلبات فقرات البطاقة التموينية، التي بدأ تطبيقها كما ذكرنا منذ منتصف عام 1990، في الوقت الذي توقفت فيه الصادرات النفطية العراقية، واستمر هذا الحال على ذات المنوال، حتى مطلع عام 1996، عندما تم الاتفاق بين الأمم المتحدة والعراق، على تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء والحاجات الإنسانية.
صمت د.محمد مهدي صالح قليلاً، وأجابني بعدها بقوله، لقد أرسلت المخابرات الأمريكية أكثر من عشرين صحافياً لمقابلتي ومعرفة هذا السر، الذي مازال يدوخ الحكومة الأمريكية، لأنه وكما تعلم، ليس من السهل، أن نوفر الغذاء والدواء لمدة ست سنوات لثلاثة وعشرين مليون عراقي. وقال لي، أنه لم يعط أي جواب للأمريكيين.
قلت له أنا عراقي، وكما تعلم أنا مهتم بدراسة أوضاع العراق والعلاقات العراقية الأمريكية، وأريد أن أفهم الطريقة التي تديرون فيها الأزمة، وهي ليست بالأزمة البسيطة وطرفا المعادلة مختلفين تماماً بجميع الإمكانات.

ما قاله لي، أن الذين يعرفون هذا السر هم ثلاثة أشخاص، الرئيس صدام حسين، وكان معه الفريق حسين كامل (صهر الرئيس العراقي) الذي قُتل مع بعض أفراد عائلته فيما بعد، إثر عودته من رحلة الانشقاق الشهيرة إلى الأردن في عام 1996. وهو شخصياً، أي وزير التجارة، ولم يزد على ذلك أي شيء.
قلت له هذا لا يكفي، وهذه المعلومات لا تغني أي جانب من اهتمامي بالموضوع. ابتسم الوزير العراقي، حدجني بنظرة، قال، لا يمكن أن أتحدث بذلك، إلا بعد أن يتم رفع العقوبات عن العراق، واوعدك، أنك أول من سيعلم بتفاصيل هذا السر، لكن الذي حصل، أنه عندما تم رفع العقوبات من قبل الأمم المتحدة، كان الوزير العراقي داخل معتقله مع أركان القيادة العراقية، في معتقل المطار، في الضاحية الغربية من العاصمة العراقية. وما هو مؤكد أن وكالة المخابرات المركزية، قد علمت بالتفاصيل الدقيقة، قبل أن أعلم بها أنا، وليس من خلال الصحافيين، الذين أرسلتهم أليه، كما قال لي، ولكن من خلال المحققين، الذين استجوبوه منذ أن تم اعتقاله بعد احتلال العراق.
خلاصة ذلك، أنني لم أحصل على ما يعزز قناعتي، بأن الحكومة العراقية، تتصرف على أساس أن الحرب قائمة، لا محال، كما أنني، لم أتوصل إلى ما يفيد بعكس ذلك.
لكن ما يمكن تأكيده، أنه لم يسجل أحد، أي حالة ارتباك لدى كبار المسؤولين العراقيين، خاصة من خلال تصريحاتهم الصحافية، أو اللقاءات التي تتم معهم، ورغم وصول قرع طبول الحرب، إلى أعلى درجاته خلال الأسبوع الثالث من مارس 2003، وحصول عمليات نزوح للعوائل من الأثرياء باتجاه الأردن حصراً، وتوجه الكثير من العوائل، لتأمين أماكن سكن لها في المدن والمحافظات المحيطة ببغداد، إلا أنه لم يسجل واستناداً إلى معلومات مؤكدة، أية عمليات نزوح لعوائل كبار المسؤولين العراقيين، من داخل العاصمة. وروت عائلة أحد المسؤولين الأمنيين في الدولة، وهو ليس من الخط الأول، كيف فقدت هذه العائلة، كل ما لديها من ممتلكات، بسبب إصرار رب الأسرة على عدم السماح لهم بمغادرة منزلهم، وبعد يوم التاسع من أبريل، يوم احتلال بغداد، وما حصل من عمليات نهب خاصة للوزارات وبيوت المسؤولين، فقد ضاع كل شيء، عندما اضطروا لمغادرة البيوت على وجه السرعة، بعد أن انهار كل شيء، واختفى جميع المسؤولين.
كان يقول لهم رب الأسرة، وهو مسؤول أمني من الخط الثاني، أنه طالما ظلت عوائل المسؤولين في بيوتهم، فلا يمكن أن نغادر، وبعد أن ألحت الزوجة على الرجل، أجابها بصراحة، بأن خروجهم، قد يُعَدْ، أحد أنواع التخاذل، وربما يدخل في خانة الخيانة، ولمح لها، بأن عقوبة ذلك، تصل إلى حد الإعدام، وهذا الحوار بين أفراد العائلة، اشتد اثناء زيادة القصف الجوي، واقتراب القوات الأمريكية من بغداد، أي عندما وصلت تلك القوات إلى مدينة النجف، واحتد النقاش أكثر، بعد أن احتل الجيش الأمريكي المطار عصر الثالث من أبريل عام 2003.

أما بقية عوائل كبار المسؤولين، فكانت تجابه بجواب رادع من أؤلئك المسؤولين، وهو أن عائلة الرئيس صدام حسين، لم تغادر مسكنها، رغم دخول الحرب موعدها فجر العشرين من مارس، وكان بيان رسمي عراقي، قد صدر صباح ذلك اليوم، وبعد أن تم استهداف قصر الدورة، وهو خاص بسكن زوجة الرئيس (ساجدة خير الله وبناتها وأطفالهن)، وروى مقربون من الحراس الشخصيين للعائلة، أن أوامر سريعة وصلت إلى زوجة الرئيس بالخروج من القصور الرئاسية مع الأطفال، وإخلاء المنازل بصورة كاملة، وكان ذلك قبل خمسة وأربعين دقيقة من سقوط الصواريخ، على تلك القصور الفخمة، التي تقع وسط بساتين من النخيل والحمضيات، ولا تبعد كثيراً عن نهر دجلة على الضفة الشرقية، ومن المرجح أن الإخلاء بدأ بعد أن انطلقت الطائرات والصواريخ الأمريكية من قواعدها.
في الأسبوع، الذي سبق اندلاع الحرب، اختلطت سويعات الربيع، بلحظات من التوتر والتشنج لدى بعض العراقيين، وعدم المبالاة لدى البعض الآخر، ومثلما اختلفت التفسيرات بخصوص اندلاع الحرب من عدمه، فقد اختلف الشارع العراقي أيضاً، بهذا الشأن، فبينما انهمكت شريحة وبالأخص من كبار ضباط الجيش المتقاعدين بالاستحضارات الضرورية، لمواجهة حرب قد تكون على الأبواب، سواءً محاولة إحكام النوافذ وتحصين مداخل المنزل، وتهيئة المستلزمات الضرورية لاحتمالات حرب كيمياوية، والاتصال ببعض الأقارب في المدن القريبة من بغداد، لتهيئة أماكن للطوارئ، وبادر البعض إلى استأجار منازل بسيطة في مدن المحمودية والفلوجة وبعقوبة وبلد، وحتى في القرى القريبة من مراكز تلك المدن، وحرص هذا الفريق، الذهاب بسياراتهم الشخصية إلى محلات الصيانة، لتجهيزها على أفضل وجه، استعداداً لأي طارئ وأي احتمال.
أما غالبية شرائح المجتمع العراقي، فلم تأبه كثيراً، لما كان يدور في فلك السياسة، وكانوا يراهنون على نجاح المفتشين في مهامهم، أكثر من الإصغاء والتدقيق، إلى ماكان يحاك بدقة وعناية فائقتين في البيت الأبيض، وتجري مراحل تنفيذه، بسرعة على مقربة من الحدود العراقية.
في تلك الأيام، التي كانت مشحونة بكل شيء خطير، وترسم بوضوح ذلك المستقبل المجهول، لفت انتباهي اندفاع العراقيين للاستمتاع بالأجواء الربيعية، التي مازالت تحمل بعض لسعات برودة الشتاء، رغم سطوع الشمس، وفي منتجع (صدامية الثرثار) قرب المدخل الشرقي لمدينة الفلوجة، انزويت لمدة، أتأمل تلك الحشود من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وقد استغرقوا في عالم آخر، بين مجاميع تتجول بالزوارق الصغيرة داخل البحيرات الاصطناعية، وآخرين انشغلوا بإعداد المشويات العراقية من تكة وكباب على الفحم، وهناك مجاميع من الشباب والشابات، كانوا يرتدون الملابس الأنيقة، ويؤدون رقصات عراقية، تصاحبها انطلاق ضحكات فرح مجلجلة.
في هذه الأجواء، وعلى مقربة من مويجات البحرية المتدافعة، التقطت صورة فوتوغرافية لولدي الأكبر (محمد) البالغ من العمر عشر سنوات. ووسط ذلك الصخب والزحام، وانشغالنا بما يحصل من احتفاليات صغيرة غادرنا المكان، قبل الغروب، وسمعت العديد من العوائل، يرددون، أنهم سيأتون إلى هذا المكان عدة مرات، بعد انتهاء امتحانات نهاية السنة الدراسيه من العام (2003)، أي بعد ثلاثة اشهر تقريباً من ذلك التأريخ، ولم يدر بخلد أحد أن هذا المنتجع السياحي، سيتحول إلى ثكنة لجنود المارينز الأمريكيين بعد أسابيع من ذلك اليوم، لتخرج منه الدوريات الأمريكية في مداهمات كثيرة وتنفيذ حملات الاعتقالات، وبالمقابل أصبح هدفاً يومياً للقصف بالهاونات والصواريخ.
بعد يومين وجدت نفسي أتأمل بحذر وخوف وقلق الصورة الفوتوغرافية، التي التقطتها لأبني (محمد) من بين مجموعة الصور، التي التقطناها في تلك السفرة العائلية بمنطقة (صدامية الثرثار) قرب مدينة الفلوجة، التي أشرت أليها سابقاً، وتوقفت كثيراً عند نظرته الطفولية، التي بدت حزينة، أو ربما أنا أحسست بها هكذا، فكرت كثيراً، وكنت أخشى أن يطال هذا الحزن العائلة خلال الأيام المقبلة، وربما الأشهر، ومازال الاحتمال مفتوحاً، وحتى هذه الأيام، وأنا أبحث في حيثيات الحرب وما تحمله من فواجع ومفاجآت، لا أستطيع النظر ملياً بتلك اللقطة، التي بدا بها (محمد) ملتحفاً كل هذا الحزن.