🔹عندما تولّى مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء في مايو 2020، لم يكن العراق يعيش مرحلة اعتيادية، بل كان على حافة الانهيار السياسي والأمني والاجتماعي، فقد خرجت الجماهير إلى الشارع في ثورة تشرين التي اجتاحت البلاد مطالبةً بالكرامة والخدمات والعدالة، فيما حاولت أطراف تخريبية أن تحوّل هذه الانتفاضة الشعبية إلى أداة صدام مع الدولة، بزجّ الشباب في مواجهة مع القوات الأمنية والدولة نفسها.
في ظل هذه الظروف المتأزمة، جاء الكاظمي كخيار توافقي، وسط فراغ حكومي إثر استقالة حكومة عادل عبد المهدي، ليقود واحدة من أكثر المراحل حساسية وتعقيداً في تاريخ العراق الحديث.
🔹أولاً: حكومة الكاظمي.. استجابة لأزمة وولادة وسط نار
عند تسلّمه المسؤولية، كانت البلاد تغلي، ومؤسسات الدولة مفككة، والشارع غاضب، والاقتصاد منهار، وسقوط الثقة بالعملية السياسية يكاد يكون كاملاً، ورغم هذه التحديات، استطاع الكاظمي أن يُشكّل كابينة وزارية ذات طابع مهني ومستقل، خلافاً لما اعتاده العراق من محاصصات طائفية وحزبية.
ضمّت حكومته شخصيات أكاديمية وذات خبرة، ما هدّأ من التوتر الشعبي، وأرسل رسالة إيجابية للشارع مفادها أن هناك تغييراً فعلياً قد بدأ، واختيار الكاظمي كان جزءاً من الحل، فالرجل لم يكن جزءاً من الطبقة السياسية المتورطة في الفساد، بل كان يُنظر إليه كـ”رجل دولة هادئ”، يملك علاقات داخلية وخارجية معتدلة، وسجلاً نظيفاً في العمل الحكومي خلال تسمنه جهاز المخابرات الوطني.
🔹ثانياً: إنجاز الانتخابات المبكرة.. استجابةً لتشرين
من أهم وعود الكاظمي كان تنظيم انتخابات نيابية مبكرة، وهو المطلب الأول لثوار تشرين والحركات الاحتجاجية التي عمت جميع محافظات الوسط والجنوب
وبالفعل … بعد جهود تنظيمية وتشريعية وأمنية، جرت الانتخابات في أكتوبر 2021، وسط رقابة دولية صارمة، لم تكن الانتخابات مثالية، لكنها كانت الأفضل من حيث النزاهة والإجراءات منذ عام 2005، وشكّلت نقطة تحول في إعادة ثقة الشارع بالعملية الانتخابية، هذا الإنجاز أعاد تعريف دور الدولة كمؤسسة جامعة تستجيب لمطالب شعبها ولا تتصارع معه، ولا تستبيح كرامته وعنفوانه.
🔹ثالثاً: احتواء الصدام المسلح بين الصدريين والفصائل
واحدة من أخطر المحطات التي واجهتها حكومة الكاظمي كانت أزمة المواجهة بين التيار الصدري وأطراف ما يعرف بالإطار التنسيقي والفصائل المناصرة له بعد الانتخابات.
كانت هناك محاولات حقيقية لجرّ الحكومة إلى مواجهة دموية مع جمهور الصدريين، ما كان سيؤدي إلى تفكك الدولة ودخول العراق في اقتتال داخلي.
الكاظمي تعامل مع هذه الأزمة بحكمة، رافضاً استخدام السلاح ضد أي طرف عراقي، ومفضّلاً الحوار والتهدئة، هذا القرار أنقذ البلاد من الانزلاق في حرب أهلية، وقطع الطريق أمام مشاريع الفوضى الداخلية التي أرادت استغلال لحظة الانقسام.
🔹رابعاً: محاربة الفساد وكشف الملفات الكبرى
الفساد كان ولا يزال من أخطر ما يُهدد الدولة العراقية، وفي عهد الكاظمي، شُنّت حملات غير مسبوقة لملاحقة ملفات الفساد الكبيرة، أبرزها كان ملف نور زهير، المتورط بسرقة أموال الأمانات الضريبية، في واحدة من أضخم عمليات الفساد في تاريخ الدولة.
تم القبض على المتورطين في الجريمة في زمن حكومة الكاظمي، وأُعيدت أجزاء من الأموال، في خطوة عززت الثقة بأن الحكومة جادة في مواجهة الفساد
لكن ما خيّب الآمال هو إطلاق سراح نور زهير لاحقاً في الحكومة الحالية، وهو ما أضر كثيراً بمنجز الكاظمي، وأعطى انطباعاً أن الحرب على الفساد مرتبطة بشخصية القيادة السياسية، لا بمنظومة مؤسساتية راسخة.
🔹خامساً: المشاريع الحكومية السريعة والاستجابة لمطالب الناس
رغم ضيق الوقت والموارد، بادرت حكومة الكاظمي إلى إطلاق مشاريع خدمية عاجلة في قطاعات مهمة منها:
🔻الصحة: بناء وتطوير مستشفيات جديدة في المحافظات، أبرزها مستشفى في الناصرية وآخر في بغداد.
🔻التربية والتعليم: ترميم عشرات المدارس وبناء مجمعات مدرسية حديثة.
🔻الكهرباء: مشاريع طوارئ لرفع قدرة الإنتاج وتوفير ساعات إضافية من الكهرباء.
🔻الرياضة: افتتاح ملاعب وتأهيل منشآت رياضية مغلقة منذ سنوات.
🔻البنية التحتية: تطوير الطرق الداخلية والجسور المتضررة، خصوصاً في بغداد والبصرة والنجف.
هذه المشاريع ساهمت في تحسين بعض الجوانب الحياتية، وأثبتت أن الدولة، حينما تُدار بكفاءة، قادرة على الإنجاز حتى في أصعب الظروف. كما مهّدت هذه الخطط لنجاح حكومة السوداني لاحقاً، التي ورثت بيئة مخدومة جزئياً على المستوى الفني والتنفيذي
🔹سادساً: نجاح الحكومة السوداني امتداد لنجاح الكاظمي
لا يمكن النظر إلى نجاح حكومة محمد شياع السوداني في ملف الخدمات والعلاقات الخارجية بمعزل عن الأساس الذي وضعته حكومة مصطفى الكاظمي، فالكثير من المشاريع الخدمية التي جرى افتتاحها أو تنفيذها في عهد السوداني، كانت في الأصل مخططة أو منطلقة في عهد الكاظمي، سواء في قطاع الصحة أو التعليم أو البنى التحتية أو مشاريع الكهرباء.
كما أن التحول الإيجابي في علاقات العراق الخارجية مع دول الخليج وتركيا وإيران، الذي استثمره السوداني بنجاح، جاء نتيجة سياسة التهدئة والانفتاح والتوازن التي أرساها الكاظمي، والتي جعلت العراق مقبولاً لدى الأطراف الإقليمية والدولية كافة، ومؤهلاً للعب دور الوسيط
بالتالي، فإن ما تحقق لاحقاً من استقرار نسبي ونجاحات في بعض الملفات لم يكن وليد اللحظة، بل كان امتداداً طبيعياً لنهجٍ وُضع سابقاً، ومهدت له حكومة الكاظمي وسط أصعب الظروف السياسية والاقتصادية.
🔹سابعاً: مطاردة السلاح المنفلت وحماية المتظاهرين
من أكثر ما ميز فترة الكاظمي هو رفضه استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، وحرصه على لقاء ممثلين عن المحتجين بشكل مباشر، هذه اللقاءات أرسلت رسالة طمأنة، بأن الحكومة لا ترى الشعب عدواً بل شريكاً.
في المقابل، شنّ الكاظمي حملات أمنية لملاحقة عصابات السلاح المنفلت، وفرض هيبة الدولة على مناطق كانت تُعد خارج السيطرة، ورغم التحديات الكبيرة، كانت هذه الحملات ضرورية لإعادة الاعتبار لسلطة القانون، ولبناء بيئة آمنة تُمكّن الدولة من تنفيذ واجباتها
🔹ثامناً: السياسة الخارجية.. العراق بوابة للحوار لا ساحة للصراع
في منطقة تتقاطع فيها النزاعات، لعب الكاظمي دوراً فريداً في تحييد العراق عن التوترات الإقليمية، عبر سياسة خارجية متوازنة ومبنية على مبدأ السيادة والشراكة.
مع السعودية ودول الخليج أعاد فتح أبواب التعاون الاقتصادي والطاقة، وفتح الأجواء لحوار أمني وسياسي هادئ، ومع تركيا، حاول الكاظمي ضبط العلاقات المتوترة، وتأكيد حقوق العراق المائية، دون التصعيد ومع إيران حافظ على علاقات مستقرة، دون السماح بتأثير النفوذ السياسي الإيراني، كما استضاف قمة بغداد التي جمعت السعودية وإيران وفرنسا ومصر، في مشهد غير مسبوق، أثبت أن العراق قادر على لعب دور الجسر بين المتخاصمين
🔹ختاماً .. الكاظمي كخيار لعبور المرحلة الحساسة
اليوم، ومع تصاعد التوتر في المنطقة العربية والشرق الأوسط، يبدو أن العراق في حاجة إلى شخصية هادئة وعقلانية فاعلة تساعد الدولك على تجاوز الأزمات والعراق لا يحتاج لزعيم يلوّح بالسلاح، بل رجل دولة يُدير العراق برويّة، ويستثمر ثقة المجتمع الدولي، ويُجيد الإصغاء للشارع العراقي.
ومن وجه نظري فأن وجود السيد الكاظمي ضمن المشهد السياسي العراقي هو خيارٌ فاعل ومؤثر ليس فقط لإنقاذ العراق، بل لجعله مركز توازن واستقرار في محيط متقلب.
