لم تزل تداعيات سقوط نظام الأسد تتدحرج ككرة الثلج، إذ ما أن تخفت أزمة حتى تندلع أخرى أشد وأعتى. ومع دخول التأثيرات الأقليمية، وأصابع اللاعبين الإقليميين والدوليين التي باتت تحرك المعادلة السورية، أصبحت الأزمة أكثر استعصاءً ودخلت في عنق زجاجة، يبدو ان الخروج منها ليس قريبا. لكن السؤال الذي بات يطرح وبشدة هو: ألا يذكرنا كل ما يحصل في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، بالدرس العراقي الذي حدث بعد سقوط نظام صدام 2003؟
عندما أطاح الاتئلاف الذي تقوده الولايات المتحدة، نظام صدام حسين في نيسان/ أبريل 2003، كان قد مرّ 13 عاما على الانتفاضة الشعبية التي أعقبت حرب تحرير الكويت عام 1990، حيث سيطر المنتفضون على كل محافظات الجنوب ذات الأغلبية الشيعية، ومحافظات الشمال ذات الأغلبية الكردية، بينما لم تتحرك محافظات الوسط ، ذات الأغلبية السنية، وكذلك العاصمة بغداد، حيث مركز قوة النظام.
بطش النظام بصواريخه ودباباته بالمدن المنتفضة، وسحق المتمردين المسلحين ومعهم الآلاف من المدنيين الأبرياء، حتى المراقد المقدسة لم تسلم من بطش الآلة العسكرية لفرق الحرس الجمهوري المقبلة من بغداد. وبقي هيكل النظام المتداعي مترنحا طوال 13 عاما، حيث خرجت كردستان العراق عن سيطرة بغداد، وعاشت نوعا من الاستقلال، أو الحكم الذاتي تحت حماية الائتلاف الدولي الذي كون ما يعرف بالمنطقة الآمنة بعد الهروب المليوني للأكراد إلى داخل المناطق الحدودية التركية نتيجة خوفهم من تكرار تجربة الضربات الكيماوية التي نفذها النظام عام 1988. هذا المشهد حصل ما يطابقه تماما في سوريا، إذ اندلعت الثورة الشعبية في سوريا إبان أحداث الربيع العربي عام 2011 ، حيث اشتعلت شرارة الاحتجاجات في درعا جنوب سوريا، وسرعان ما امتدت شرارة الغضب الشعبي لتشمل كل التراب السوري. لجأ النظام لأقسى أنواع القمع والتنكيل بالمتظاهرين السلميين، وامتلات معتقلات وسجون النظام بالمحتجين السلميين، وبضمنهم النساء والأطفال، ونتيجة التدخلات الخارجية من جهة، وعنف النظام المفرط من الجهة الأخرى، تحولت الانتفاضة السلمية إلى صراع مسلح لم تشهد سوريا مثيلا له طوال تاريخها الحديث، وخرجت محافظات كردستان سوريا (روجآفا) عن سيطرة دمشق، وحققت نوعا من الاستقلال الذاتي المدعوم أمريكيا. وعاش نظام الأسد حالة الترنح طوال 13 عاما بسبب الدعم الروسي ـ الإيراني وبإسناد الميليشيا اللبنانية والعراقية، لكنه سقط أخيرا في كانون الأول/ ديسمبر 2024. عندما سقط النظام الشمولي العراقي في أبريل 2003، تبخرت قوات الجيش وفرق الحرس الجمهوري والأجهزة البوليسية القمعية من قوات الأمن العام والأمن الخاص والمخابرات والأستخبارات العسكرية وغيرها، وفي غضون أيام أصبح العراق خاليا من ضباط وأفراد الأجهزة العسكرية والأمنية الذين أذاقوا العراقيين الويل والذل طوال عقود. لم يختف زبانية النظام، بل تخفوا (تحت الارض) في مدنهم التي وفرت لهم حاضنات تحميهم من التغيير الذي لم يكونوا يعرفون حجم تداعياته المقبلة.
كان العراقيون في أيام التغيير الأولى يهتفون (إخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن منبيعه) ومع تدخل العديد من الأطراف الإقليمية، بالإضافة للوجود العسكري للائتلاف الدولي، والعشرات من أجهزة المخابرات الدولية المختلفة، التي باتت تتصارع في الساحة العراقية، تغيرت قوانين اللعبة، وخرجت فلول نظام صدام وعناصر أجهزته القمعية، التي طالها العزل والتهميش بعد حل الجيش والأجهزة الأمنية، الذي أنتج فقدان السطوة والمال وحتى التهديد بالفاقة والعوز والسجن أو القتل. وسرعان ما أشعل فلول النظام وأزلامه المدعومون والممولون إقليميا فتيل الاقتتال الأهلي.
في مساء الثامن من ديسمبرعام 2024 عندما وصلت قوات «هيئة تحريرالشام» إلى مشارف العاصمة دمشق، اختفى الرئيس بشار الأسد، واختفت معه فرق الجيش السوري ومنتسبو الأجهزة القمعية وفروع الأمن المنتشرة في كل مدن سوريا التي أذاقت السوريين المرّ طوال عقود. وعلى خطى الطريقة العراقية اختفى أزلام النظام (تحت الأرض) في مدنهم وقراهم وبين طوائفهم وقبائلهم بانتظار الآتي من الأحداث. وخرج السوريون مبتهجين بتحقيق النصر يهتفون للوحدة السورية وللخير المقبل، لكن سرعان ما لعبت الأجندات الإقليمية دورها وأشعلت شرارة التمرد لدى دروز سوريا في الجنوب، وسرعان ما استغلت إسرائيل الوضع الرخو الذي تعيشه سوريا، إذ تدخلت حكومة نتنياهو اليمينية وطرحت نفسها حامية لدروز سوريا، بينما اشتعلت شرارة القتال في الساحل السوري ذي الأغلبية العلوية، حيث تعرضت قراه ومدنه لمجازر على يد ميليشيات نفذت عمليات إبادة على الهوية بحق المئات من المدنين العلويين والمسيحيين.
بعد 2003، تحالف بعث العراق مع خليط من القوى القومية والسلفية والجهادية الإسلامية تحت مظلة عرفت باسم (مجلس شورى المجاهدين) التي قادها الإرهابي الأردني ابو مصعب الزرقاوي، الذي حظي بدعم وتمويل تنظيم «القاعدة» الدولي وفتحت له خزائن عدة دول إقليمية أقلقها التغيير الذي حصل في العراق،
وصعود نجم الشيعة والأكراد برعاية أمريكية على حدود بلدانهم. وضخت الدماء الجهادية عبر الحدود الشرقية والغربية للعراق، فعاشت مدنه تناحرات، وظهرت سرديات التقسيم القائمة على أطروحة الولايات العثمانية ، وخرافة (العراق دولة مصطنعة، صنعتها بريطانيا) وبدأت المكونات الصغرى: القومية والقبلية والطائفية، تأكل من جرف الوحدة الوطنية بشكل شره ومتسارع، حتى وصلنا إلى اللحظة الفارقة التي تمثلت في اشتعال الحرب الأهلية عام 2006، وعاش العراقيون تمظهراتها في القتل على الهوية، وإلقاء الجثث المجهولة على قارعات الطرق.
اليوم تحاول قوى سورية وإقليمية تشكيل قوات علوية شيعية في الساحل السوري باسم (لواء درع الساحل) لمواجهة قوات النظام الجديد، وبما أن سوريا ما بعد الأسد اليوم في أضعف حالاتها، فإن اطروحات التقسيم أخذت تطرح كسردية تتكئ على معطيات التقسيم الإثني والديني والطائفي، حيث الأكراد المستقلون في الشمال الشرقي، والدروز الذين يحاولون الحصول على حصتهم من معادلة التغير في الجنوب، بينما العلويون في الشمال الغربي يريدون تشكيل كيانهم بدعم وحماية شيعية إقليمية، أما سنة سوريا فإنهم يلوحون بورقة المظلومية التي عاشوها طوال نصف قرن من حكم نظام الأسدين. ليبدو الوحدويون السوريون اليوم في أضعف حالاتهم.
هذه الصفحة الملعونة من تاريخ سوريا والعراق قادت الى صفحات أخرى صاحبها توالد وتفريخ التنظيمات الإرهابية والميليشيات التي تغولت وأصبحت أقوى من الدولة في البلدين، حتى وصلنا الى صفحة تنظيم الدولة (داعش) في صيف 2014، الذي قضم حوالي ثلث مساحة العراق وربع مساحة سوريا وشكل كيانا هلاميا ممتداً عبر البلدين طوال أربع سنوات من 2014 إلى 2018، حيث دفع ثمن هذه الصفحة الإرهابية العراقيون والسوريون من دماء أبنائهم، وخراب مدنهم، وخساراتهم المادية التي تجاوزت المليارات.
في كل تفاصيل الدرس العراقي، كان الوضعان العراقي والسوري متداخلين وملتبسين بين صفحات الحرب الطويلة وفاصلات السلم القليلة، إذ تأججت حروب المخابرات والمليشيات، وتسويق الرعب المتبادل بين الطرفين، حيث كان نظام الأسد فاعلا في أغلب مفاصل الألم العراقي، وكانت أجهزة مخابراته ترعى وتسهل إدخال الجهاديين والانتحاريين العرب والأجانب عبر الحدود السورية العراقية، ليحصدوا بمفخخاتهم أرواح الآلاف من العراقيين، حتى وصل الأمر بحكومة المالكي إلى تقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيه نظام الأسد بارتكاب جرائم إرهاب بحق العراقيين عام 2009. لكن المعادلة قلبت بتأثير إيران وذراعها الأقوى فيلق القدس، الذي كان يقوده الجنرال الأبرز قاسم سليماني،
فأصبحت الميليشيات الشيعية العراقية المقربة من الحكومة عام 2011 أحد أبرز اللاعبين الذين دافعوا عن نظام الأسد، وحالوا دون سقوطه طوال 13 عاما من الاقتتال الأهلي.
واليوم يخشى العراقيون امتداد نار الحرب السورية ووصولها إلى مدنهم بعد أن ذاقوا الأمرين في الصفحات السابقة من هذه العلاقة الملتبسة، وتقف قوات العراق الحكومية وشبه الحكومية، بكل قوتها على الحدود الغربية للعراق تراقب ما قد يحدث في الصراع السوري الداخلي الذي يوشك على الانفجار.