في كل رمضان يرتفع سقف توقعات المشاهد في الجزائر، وينتظر دراما تليق بما يجري من أحداث، أو مستقاة من وقائع جرت في الماضي. يتوقع أعمالاً يجد فيها صورة لحاله، أو تستعير قصصاً تعكس ما يموج من طفرات من حوله. وفي كل مرة يصاب بإحباط. لأن الأعمال لم ترق إلى ما يرجوه الناس. وقبل كل رمضان تتراكم الإعلانات الترويجية،
و التي تبشر بموسم درامي خصب، ترافقها لافتات من قبيل: «ترقبوا أضخم عمل درامي» أو «ترقبوا المسلسل الذي سوف يصنع الحدث»، وبمجرد الشروع في عرض الحلقات، ندرك أن المسلسل لا حدث، بل هو مضيعة للمال والجهد. فقد تكاثرت التلفزيونات الخاصة، في السنين الأخيرة، التي تستفيد من سخاء الدولة في دعمها بالإعلانات، ومعها تضاعفت الإنتاجات، وصارت خيبة الأمل مضاعفة، إزاء الانحدار الذي وصلت إليه الدراما في الجزائر، لاسيما هذا العام، وأظنه أسوأ المواسم منذ رفع الحظر عن الإعلام، وتحرير القطاع فصار متاحا للخواص بعدما كان حكراً على الحكومة، حيث بات المشاهد يجد نفسه إزاء أعمال لا تحترم العقل ولا المخيلة.
نشاهد في أحد المسلسلات، ممثلاً وهو يسقط في حوض سباحة، وبعد ثوان يعاود الظهور من أجل إتمام المشهد وقد عاد بالثياب نفسها، لكن ولا قطرة ماء تبللها. هل يعقل هذا الأمر؟ في الجزائر نعم.. الاستسهال بات رأس مال الدراما. في مسلسل آخر نصادف بطلاً يقع بسهولة في حب فتاة، وبسهولة كذلك يكتشف أنها على علاقة مع آخر، ثم بسهولة مماثلة يعثر على من خانته معه، مع العلم أن المسلسل يفترض أن يدور في مدينة تعداد سكانها ثلاثة ملايين نسمة. هكذا بات كل شيء سهلا في نظر هؤلاء المخرجين. كما أن السيناريوهات تُكتب على عجل، والغريب لم يعد يوجد كتاب سيناريو، بل يكتب العمل من طرف مجموعة أشخاص. هل صارت الجزائر عاقرا لا يوجد فيها كاتب سيناريو محترف؟ كلا، بل يوجد. لكن في الجزائر يحتكر المخرج كتابة السيناريو والإنتاج. يحتكر المال، بينما الممثلون نراهم يتناوبون أمام الكاميرا مثل أشباح. يتظاهرون تارة بالبكاء وتارة بالضحك. إنهم غير مقتنعين بالأدوار التي أسندت إليهم، فكيف يرجون أن يقتنع بهم المشاهد من خلف الشاشة؟ والعامل المشترك في الأعمال الدرامية، التي تعرض هذه الأيام، أن نصادف فيها شخصيات تظهر فجأة مثلما تختفي فجأة، من حلقة إلى أخرى. فالمخرج يهمه أن يملأ الحيز الزمني من الحلقة، لا يهم أن يكون العمل مقنعاً.
عطب في المخيلة
هذه الحالة التي وصلت إليها الدراما المحلية تعكس الحالة التي تمور فيها البلاد، فالمخيلة صارت معطوبة، والسبب الذي أودى إلى عطب في المخيلة، هو تضييق حيز الحرية، ما جعل المخرجين يلجؤون إلى الحلول السهلة في المشاهد وفي السيناريوهات. يخشون المغامرة أو الاجتهاد مخافة مقص الرقابة، أو تصيبهم لعنة الناشطين على السوشيال ميديا. لأن ما يطلق عليها «خطوط حمر» في تزايد. الإشارة إلى السياسة خط أحمر، التلميح إلى شخصيات بعينها خط أحمر، الاقتباس من أحداث تاريخية كبرى يخضع إلى عين الرقيب كذلك. ماذا بقي لصناع الدراما؟ لم يبق لهم سوى الخضوع إلى هذا الواقع. أن يكبحوا المخيلة والإبداع، وأن يتجنبوا سوء المآل. يبدو أن الواقع الجزائري تحول إلى مقدس، يفترض أن نعيش فيه في صمت، من غير أن يتحول مادة في مسلسلات رمضان، ولا أن يتعرض إلى نقد.
هذا الانفصال بين الدراما والحياة العامة التي يعيش فيها الناس أوجد فاصلا بين الاثنين، انتصب جدار بين المتلقي والعمل التلفزيوني، صار المشاهد لا يعثر على صورة له في تلك الأعمال، ما حتم عليه الانصراف عنها، ومشاهدة فضائيات أجنبية.
شهد الإبداع في السنة الماضية أسوأ سنواته، في الجزائر، جراء المحاكمات التي تعرض لها كتاب، ويبدو أن صناع الدراما، ابتلعوا الدرس، حكموا على أنفسهم بالرقابة الذاتية، بدل أن يتعرضوا بدورهم إلى محاكمات أخلاقية أو دينية.
حرية هشة
في ظل الافتقار إلى هامش من الحرية، وفي فضل فشل المخرجين في الاستعارة من أجل محاكاة الواقع، فقد تحولت سيناريوهات الدراما إلى قصص مباشرة، تخلو من إسقاطات، وتحولت هذه المسلسلات إلى موعظة، صارت أقرب إلى دروس أخلاقية، أو إلى خطب أئمة يوم الجمعة، في دعوة الناس إلى تجنب المخدرات، أو تفادي الرشوة، وكذلك في دعوة الشباب إلى تغيير محتوى الفيديوهات التي ينشرونها في «تيك توك» أو «أنستغرام». هكذا ببساطة صارت المسلسلات عبارة عن دروس أخلاقية، كأن المخرج صار معلماً بينما المتلقي ليس أكثر من تلميذ، يتلقى الدرس ولا خيار له سوى تقبل ما يشاهده في شاشة التلفزيون. صارت هذه المسلسلات توصي الناس بالبر بالوالدين وبالرأفة بالفقير والمسكين. اختارت الابتذال بعدما فشلت في معاركة الخيال. ففي بلد مثل الجزائر حيث الدستور يكفل حرية المعتقد وحرية الدين، يجد المواطن نفسه محاصراً بدراما رمضان، التي تحث على الصلاة والزكاة. والشيء الآخر الذي نلاحظه، أن الدراما باتت مختطفة، صارت حكراً على مخرجين وممثلين بعينهم، لا ينازعهم في مراتبهم آخرون، حيث نجد أن الممثلين أنفسهم يتبادلون الأدوار من مسلسل إلى آخر، يخرجون من مسلسل ثم يدخلون إلى آخر. الوجوه نفسها تتكرر من قناة تلفزيونية إلى أخرى، بل من الممثلين من يظهر في مسلسل كوميدي، ثم في الساعة التي تليها نراه في مسلسل درامي. فكل شيء صار مباحاً في المسلسلات الجزائرية. ماذا نفعل بمعاهد تكوين الممثلين؟ هل نغلقها؟ بحكم أن الشاشة باتت حكراً على جماعة دون أخرى. أتخيل ما يشعر به ممثل شاب، خريج واحد من المعاهد الفنية، وهو يرى الأبواب موصدة في وجهه. ومن المفارقة أن هذه الأعمال الدرامية تستفيد من سخاء المعلنين، مع ذلك لا أحد يحاسبها إزاء فشلها في إقناع الناس على مشاهدتها.
في الجزائر وعلى خلاف دول أخرى، يراهن المنتجون على نجاح مسلسل أو فشله بناء على أرقام المشاهد في يوتيوب، ولا يصرحون بأرقام المشاهدة على شاشة التلفزيون. نعلم أن أرقام اليوتيوب يسهل تضخيمها، مثلما نعلم أن القنوات تخجل من كشف أرقام مشاهديها. ورغم هذا الفشل الذي نراه هذا العام، سوف يعود المنتجون أنفسهم، في العام المقبل، مع المخرجين والممثلين، ويبشرون بمسلسلات جديدة، وكأن شيئاً لم يحصل. هكذا تدور العجلة في الجزائر.