“روسيا خدعت بشار الأسد”، قالها الجنرال بهروز إثباتي، وهو أحد أبرز قيادات الحرس الثوري الإيراني، خلال محاضرة خاصة تناولت الدور الروسي في الشرق الأوسط وأسباب انهيار النظام السوري. في تصريح قاسي ولافتة مع بداية الأسبوع الأول لسقوط بشار الأسد.
فبينما كانت إيران تروج لفكرة إعادة تشكيل نظام دولي جديد يتحدى الهيمنة الأمريكية، ويشهد صعوداً متزايداً لنفوذ روسيا والصين، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، شهدت الساحة السياسية تطوراً مفصلياً مع انهيار النظام السوري.
إذ أن النظام المذكور أعلاه يُعد أحد الركائز الأساسية المتحالفة مع روسيا في المنطقة، بعد أن تعرض أنظمة حليفة لروسيا سابقاً للانهيار، مثل الأنظمة المصرية والليبية والعراقية.
وخلال تصريحه، نوه إثباتي إلى خيانة محتملة من الحليف الروسي. إلى جانب ما يثيره التصريح من تساؤلات حول طبيعة العلاقة الروسية-السورية ودور موسكو في النهاية الدراماتيكية لحكم الأسد.
بدوره، أشار مدير مكتب الإعلامي للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد إلى أن “خدعة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانت عاملاً رئيسياً في تسريع انهيار النظام السوري”.
وعلى أثر هذه التصريحات ثارت موجة من النقاشات الأكاديمية والسياسية حول طبيعة الدور الروسي على الساحة الدولية والإقليمية، ومدى قدرتها الفعلية على حماية حلفائها، خصوصًا في ظل الأزمات المعقدة التي تواجهها الدول المرتبطة بموسكو.
الأهداف الروسية في الشرق الأوسط: أفق الطموح ومحدودية الموارد
تمثل أهداف روسيا في الشرق الأوسط امتدادًا لرغبتها في تعزيز مكانتها العالمية، لكنها اصطدمت بواقع سياسي واقتصادي وعسكري معقد. حيث تسعى روسيا، كوريثة للاتحاد السوفيتي، إلى إعادة ترسيخ نفسها كقوة عظمى وبناء أمجاد الماضي، من خلال تقديم نموذج عالمي متعدد الأقطاب ينافس الهيمنة الأمريكية.
حيث دعمت موسكو، خلال الحقبة السوفيتية، دعمت أنظمة مناوئة للغرب في الشرق الأوسط، كنظام الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ونظام حافظ الأسد سوريا. واليوم، تعمل روسيا بقيادة فلاديمير بوتين على تكرار ذات الدور عبر دعم قوى إقليمية كإيران، ودول عربية كسوريا، وذلك وفق رؤية روسيا للشرق الأوسط كأحد ساحات تقويض الهيمنة الأمريكية من خلال دعم هذه الأنظمة.
مع ذلك، فشلت موسكو في إحياء أمجادها القديمة، فسقوط نظام بشار الأسد، بعد عقد من الدعم الروسي، كشف عن خلل عميق في الاستراتيجية الروسية. رغم التدخل الروسي الكبير في عام 2015، الذي قلب موازين المعارك لصالح الأسد، بدأ التزام موسكو يتراجع مع مرور الوقت نتيجة للعديد من العوامل الداخلية والخارجية. حيث قلّص تصاعد الغزو الروسي لأوكرانية في عام 2022 من الوجود العسكري الروسي في سوريا بشكل كبير، نتيجة نقل العديد من الوحدات العسكرية إلى أوكرانيا. هذا الانسحاب أدى إلى إضعاف القدرات العسكرية للنظام السوري، مما جعله غير قادر على مواجهة التحديات المتراكمة على مدار السنوات الماضية.
إلى جانب ذلك، ساهمت العقوبات الغربية في تآكل الاقتصاد الروسي وإضعاف قدرته على تمويل عملياته الخارجية. ووفقًا لتقرير نُشر على موقع “مودرن دبلوماسي”، فإن الاقتصاد الروسي مهدد بانهيار وشيك نتيجة التأثيرات السلبية للحرب في أوكرانيا. أدى هذا التراجع في الموارد وتشديد العقوبات إلى تقليص التزامات موسكو تجاه نظام بشار الأسد، مما زاد من ضعف النظام السوري وتفاقم أزماته.
تفنيد رواية “العالم متعدد الأقطاب” وحدود القوة الروسية
سقوط النظام السوري برئاسة بشار الأسد، وهو الحليف العربي الأخير لروسيا في المنطقة، كان له تأثيرات إقليمية ودولية عميقة، حيث أكدت هذه الواقعة أن روسيا ليست ركيزة لنظام عالمي جديد كما كانت تحاول تصوير نفسها خلال السنوات الماضية. هذا إلى جانب أنها لم تستطع لغاية الآن، بالتشارك مع الصين أيضاً، من صياغة مبادئ النظام العالمي الذي تدعيان إليه. على العكس، هما متمسكان بهذا النظام بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، مع تعديل مركزهما فيه. بما يعني أنهما يبحثان عن تعزيز المصالح الوطنية لهما، وليس تعزيز المبادئ والقوانين الناظمة لهذا النظام.
اعتمدت روسيا خلال الأزمة السورية على استخدام قوتها العسكرية والدعم الدبلوماسي كأدوات رئيسية لتحقيق أهدافها، والتي تفتقر أساساً لأدوات القوة الناعمة، كالاقتصاد والثقافة والنماذج التنموية. ففي عام 2015، نجحت مؤقتاً في تغيير مسار الصراع لصالح نظام الأسد، لكن ذلك جاء بتكلفة اقتصادية وسياسية باهظة. ورغم نجاحها في تثبيت النظام لفترة، لم تتمكن موسكو من تحقيق استقرار دائم، مما يكشف محدودية قدرتها على معالجة القضايا الجيوسياسية بشكل مستدام.
هذه التطورات أظهرت حدود تأثير روسيا في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب. فرغم سعي موسكو إلى تقديم نفسها كضامن لهذا النظام، أخفقت في تقديم نموذج عملي يُبرز قدرتها على حماية حلفائها وضمان استقرارهم. بدلاً من ذلك، اعتمدت على استراتيجيات قصيرة الأمد، مثل الاتفاقيات الثنائية مع طهران، لتغطية عجزها عن توفير استجابة شاملة للأزمة السورية.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يروج دائمًا لرؤية نظام عالمي جديد ينهي الأحادية القطبية، مستندًا إلى تدخلاته العسكرية في الشيشان، جورجيا، أوكرانيا عام 2014، ولاحقا عام 2022، وسوريا. هذه التدخلات فتحت شهية روسيا للتوسع والترويج لنظام دولي يتوافق مع رؤية قيادتها الجديدة. ومع ذلك، اصطدمت هذه الطموحات بجدار التحديات، حيث أدى انهيار النظام السوري خلال 11 يومًا، بعد أكثر من 9 سنوات من الدعم الروسي المباشر، إلى توجيه ضربة قاسية لهذه الرؤية.
هذا السقوط السريع للنظام السوري أثار مخاوف حقيقية لدى الأطراف الإقليمية العربية التي كانت تأمل في بناء علاقات استراتيجية مع روسيا. وقد شعرت هذه الدول، خاصة في المجالين الأمني والدفاعي، أن موسكو لا يمكن الاعتماد عليها، خاصة وأن العديد من الزعماء لا يزالون يتذكرون تخلي روسيا السريع عن النظام العراقي عام 2003 لصالح الولايات المتحدة.
وهكذا، بات واضحًا أن رواية “العالم متعدد الأقطاب” التي تروج لها موسكو تعاني من تناقضات عميقة، حيث أن الأحداث الأخيرة أكدت أن روسيا غير قادرة على تقديم بديل عملي للنظام الدولي الحالي، مما قلل من مصداقيتها كقوة عظمى تسعى لبناء نظام عالمي جديد.
العراق: محطة روسيا القادمة لتعويض خسائرها؟
في نوفمبر 2022، قام زعيم ميليشيا “حركة حزب الله النجباء”، أكرم الكعبي، بزيارة إلى العاصمة الروسية موسكو، حيث اجتمع بعدد من المسؤولين السياسيين والشخصيات الدينية. كانت الزيارة هي الأولى من نوعها لزعيم ميليشيا عراقي إلى روسيا، مما أبرز اهتمام موسكو بملف الفصائل المسلحة في العراق، وسعيها لاستغلال وجود هذه الجماعات لحماية مصالحها في المنطقة.
خلال الزيارة، أطلق الكعبي تصريحات قوية ضد التواجد الأمريكي في العراق، قال فيها: “إن النجباء لن تسمح للولايات المتحدة بالاعتداء على أراضي العراق وثرواته من خلال مواصلة احتلالها له.”
هذا التقارب بين الميليشيات العراقية الموالية لإيران وروسيا أدى إلى تسجيل حالات انتقال لعناصر عراقية للقتال إلى جانب الجيش الروسي في الحرب ضد أوكرانيا. وبهذه الخطوة، حاولت الميليشيات إرسال إشارة إلى موسكو تؤكد استعدادها لدعم المصالح الروسية، سواء داخل العراق أو في سوريا أو حتى في ساحات نزاع أخرى مثل أوكرانيا.
كما تسعى روسيا، عبر سفيرها في بغداد، لتعزيز هذا التقارب من خلال المشاركة في الفعاليات والمناسبات الشيعية والالتقاء بزعماء الميليشيات بصورة دورية. هذه التحركات تسعى إلى إرسال رسائل واضحة بأن موسكو مستعدة لتكون داعماً وغطاءً لهذه الجماعات المسلحة، متجاهلة بذلك الانتقادات الدولية والمحلية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان التي تورطت بها هذه الميليشيات، والمتواجدة على قوائم الإرهاب الدولية.
مع ذلك، يبدو أن العراق لن يكون الأرضية المثالية لترميم صورة روسيا وتعويض خسائرها، وذلك بسبب التطورات السريعة في الأوضاع الميدانية. حيث تراجعت قوة الفصائل المسلحة بالعراق، بالتزامن مع تدهور نفوذها نتيجة الحدث السوري، ما يجعل هذا الرهان محفوفًا بالمخاطر. كذلك تواجه موسكو صعوبة متزايدة في كسب التأييد الشعبي العراقي، نتيجة نبذ المواطنون لسياسات موسكو القائمة على دعم الميليشيات، والتي تسبب تعميق الانقسامات الداخلية وتعطيل استقرار العراق.
لذا، فإن محاولات روسيا لتعويض خسائرها عبر العراق قد تصطدم بعقبات كبيرة، مما يضعف من قدرة موسكو على استغلال العراق لتحقيق أهدافها الإقليمية والدولية.
روسيا: دولة غوغائية انتهازية لا يمكن الاعتماد عليها
أثبتت سياسة موسكو تُحركها نتيجة المصالح الذاتية على حساب حلفائها، متجاهلة الالتزامات والشراكات عند الضرورة. حيث تخلت موسكو عن صدام حسين، عند غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، رغم علاقتها الطويلة معه، مكتفية بالإدانة اللفظية فقط.
وفي سوريا، تدخلت روسيا عسكرياً لدعم بشار الأسد، لكن دعمها كان مشروطاً بمصالحها الاستراتيجية، ومنها الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا. لاحقاً، بدى الدعم الروسي ليس مطلقاً؛ فعندما أصبحت المعارضة السورية على مشارف دمشق، قررت موسكو “خداع الأسد” والتخلي عنه سريعاً لتحقيق مكاسب سياسية.
كذلك شراكتها مع إيران في سوريا، لم تكن خالية من التوترات. فرغم تعاونهما لدعم النظام السوري، لم تتردد موسكو في تهميش طهران عند الحاجة لإرضاء قوى دولية أو تحقيق مكاسب سياسية. وتنسيقها المستمر مع إسرائيل أدل دليل على ذلك. وهو ما يعكس نزعتها الانتهازية وعدم اكتراثها بحلفائها عند تضارب المصالح.
وعن الجوار الروسي، مثل بيلاروسيا، يبقى الدعم الروسي مشروطاً أيضاً. حيث يجد رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، مراراً وتكراراً تحت ضغط موسكو لتقديم تنازلات سياسية واقتصادية، مما يبرز أسلوب “الابتزاز المقنع” الذي تتبعه روسيا مع حلفائها بدلاً من الشراكة المتوازنة.
حيث يظهر تاريخ روسيا بوضوح لا لبس فيه أنها شريك غير موثوق في الأزمات الكبرى، من تخليها عن صدام حسين، إلى دعمها المشروط لبشار الأسد، والشراكة الانتهازية مع إيران، وضغوطها على بيلاروسيا. حيث تبرز روسيا كدولة تحركها مصالحها الذاتية دون أي اعتبار لالتزاماتها تجاه حلفائها، ما يجعل الوثوق بها كشريك يعتمد عليه في اللحظات الحرجة موضع شكوك كبيرة.
“ببساطة، روسيا ليست إلا قوة انتهازية تسعى لتحقيق مصالحها الضيقة على حساب شركائها الذين يعتمدون عليها”.
بعد سقوط النظام السوري: هل لا تزال روسيا شريكاً موثوقاً لدول المنطقة؟
مع سقوط النظام السوري، أحد أهم حلفاء روسيا في الشرق الأوسط، نتيجة تعرضه للخداع من قبل الرئيس بوتين، بات من الصعب على موسكو الترويج لفكرة “عالم متعدد الأقطاب”. وهذا الحدث يثير بدوره تساؤلات عميقة حول مصداقية روسيا كحليف استراتيجي في المنطقة، وقدرتها على تقديم الدعم المستدام لشركائها.
بقلم.. شاهو القره داغي
باحث في مركز رامان للبحوث والاستشارات