عودة (رنكو) الأمريكي مقالا للكاتب ياس خضير البياتي

مقال

الكثير من المحلِّلين وصُنَّاع القرار لم يتوقعوا أن يعود (رنكو) مرةً أخرى، وهو يحمل مسدسه الذهبي الخارق الذي يقتل الجميع دون أن يُصاب هو -حتى ولو بخدش-.

لقد كان فوز ترامب مُفاجئًا للكثيرين، وهو الذي يمتلك سجلًّا نفسيًّا مليئًا بالعُقَد والتوترات والنرجسية والعصبية من خلال سماتٍ هستيرية، تتمثَّل في رغبته في الاستعراض وجذبِ الانتباه، ورغبته في الإغواء والاستحواذ على الآخرين، إلى جانب درامية تعبيره ونزعته العنصرية التي تستهين بالآخرين وتُهينهم.

لديه توجُّهٌ مُتعجرف، وهو لا يُحب إلا نفسه، ويُعاني من داء العظمة، وانتفاخ في الذات. والأهم من ذلك كله، هو سعادته بمكانته المالية ونفوذه وسلطته.
لذا، يُواجه علماء النفس والسياسيون صعوبة في تفسير العشق الأمريكي لشخصيةٍ يسيطر عليها مرض النرجسية المريضة.
فبعضهم يرى أن الشخصية الأمريكية تميل إلى الخيال والغرابة والتجديد والمغامرة والمخاطرة، والانجذاب إلى أبطال استعراضيين يُظهرون ثقةً بالنفس -حتى لو كانوا خاطئين-.
كما يُنظر إلى هؤلاء الأشخاص على أنهم نماذجُ للنجاح في عالم الأعمال، وأنهم قادرون على تحقيق الآمال الاقتصادية للأفراد.
في المقابل، هناك مَن يعتقد أن الأمريكيين برجماتيون ويُقدِّسون الدولار؛ حيث يستمتعون بالحياة بلا قيود، وهو ما يُعد جزءاً من الثقافة الأمريكية.
جاء (ترامب) ردة فعل لأوضاع اقتصادية متدهورة، وشعورٌ عام بالإحباط من كل شيء، وأمزجة متقلبة بين الجمهور الأمريكي، وأزمة مستقبلية مجهولة المعالم، وأجيال رقمية تائهة في بحرٍ من المعلومات المتناقضة، حيث إنسانٌ أمريكي مُثقل بهموم الضرائب والصحة والخدمات، بالإضافة إلى قضية المهاجرين.

يشعر الكثير من الأمريكيين بالإحباط واليأس عند مشاهدة مناظر مؤلمة تؤثر على شخصيتهم وكبريائهم، خاصة في ظل بطء حركة السياسة والاقتصاد.
كما أن رئيسهم الأسبق (بايدن) يتلعثم في خطاباته ويقع في العديد من الزلات المتكررة. فهو يخلط بين الأمور ويُخطئ في ذِكر الحقائق، كأن يجعل سيسي مصر رئيساً للمكسيك، وينسى اسم رئيس وزراء أستراليا، ويُخبر مؤيِّديه -بفخر-أنه التقى الرئيس الفرنسي ميتيران في عام (2021)، على الرغم من أنه تُوفي قبل نصف قرن!

سنعيش مع ترامب أربع سنوات مليئة بالمفاجآت السارة والحزينة، تحت وقع أصوات المفرقعات التي تحمل الوعود والتهديدات لمن يُعارضه.
سنشهد استعراضات تُزعج الأصدقاء والأعداء معًا؛ فها هي ذي أوروبا تشعر بالقلق من قُدومه، وتتابع -عن كثب-ما قد يحدث من عبثه وخططه وطموحاته المزعجة. ويخطأ من يعتقد أنه سيلبي طموحاته وأحلامه هنا وهناك، لأن مُتقلب المزاج لا يؤتمن، ومن يراهن عليه أقول: الثعلب لا يؤتمن على قن الدجاج!

كما أن الصين تُدرك خباياه، وخططه للحد من قوتها الاقتصادية، وإيران جاهزة للمواجهة إما بالبارود أو من خلال عقد صفقات سرية.
أما العرب، فهم في حيْرة حول مستقبلهم، بين مَن يخاف أو يتردد أو يتوخَّى الحذر من نزواته وطموحاته ومطالبه الخطيرة؛ بينما تظل (إسرائيل) الدولة الوحيدة التي تعيش أوقات الازدهار، وتترقَّب ضم المزيد من الأراضي وإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد!
ومن يقرأ كتاب ترامب (فن الصفقة) الذي نشر عام 1987 سيكتشف عقليته التجارية في صفقات التجارة والسياسة، وكسب المعارك والنفوذ لتحقيق المكاسب، وسياسة الحزم والمرونة ضمن فكرة (كيف أفكر وأتصرف وأتفاوض وأعقد الصفقات)، حيث تجسيد فكرة الصدمة، والتلاعب بالمشاعر، وتضخيم التهديد والهجوم المباغت، والتمويه الصامت بالخداع.

فلا غرابة اليوم، أن يجعل (كندا) ولاية أمريكية، ويخاطب أوربا وكوريا والصين بالضرائب على منتجاتهم، ويتحدث مع (بنما) بلغة التهدد والوعيد.
وأن يجعل من غزة أرضا استثمارية عقارية، رغم إنها ليست من ممتلكاته الأمريكية، ولا هي من ورثة والده الألماني، ولا من والدته الأسكتلندية!
ومع ذلك، أود أن أقول: إنه من خلال قراءتي لشخصية ترامب، وتوقُّعاتي السابقة بنجاحه في الانتخابات الأولى والثانية، على الرغم من أن فكرة فوزه كانت بالنسبة لبعض المنظِّرين نوعًا من المِزاح أو نكتة من نكات العصر؛ فقد تمكَّن ترامب من تحقيق ما تُريده إسرائيل وتطمح إليه؛ ضم بعض الأراضي، والقضاء على أعدائها من مختلف أنواع المقاومة، والاستمرار في تعزيز التطبيع في المنطقة، وابتزاز الدول الغنية من خلال صفقات مالية بمليارات الدولارات تحت ذريعة الأسلحة والتكنولوجيا والحماية.
ترامب، الذي يقود أقوى دولة في العالم، قد يكون عاقلًا في بعض الأمور ومجنونًا في اتخاذ القرارات المصيرية.
ستتوقف الحروب هنا وهناك في عهده، حيث ستنتصر حروب الاقتصاد والتجارة والابتزاز. قد نشهد إسقاط بعض الحكومات، وفق سيناريوهات تشمل: الطائرات المسيرة، حرب الاقتصاد، الحصار، والتجويع لتأجيج الغضب الشعبي. كما قد تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية بطريقة دراماتيكية ومفاجئة تبهر الجميع.
أما إيران، فهي تُواجه تهديد الحصار القاتل و”سياسة الضغط الأقصى” التي تهدف إلى إيقاف تصدير النفط إلى الصفر، فضلًا عن ممارسة الضغط عليها للعودة إلى طاولة المفاوضات، ومنعها من الحصول على سلاحٍ نووي، أو تُقيِّد أنشطتها النووية، بالإضافة إلى برنامجها للصواريخ الباليستية وسياساتها الإقليمية.
أن عاصفة “الضغط الأقصى” على إيران تعني أيضا الضغط على العراق لتجفيف منابع الفساد في الكهرباء والوقود والدولار ومزاداته، حيث سياسة التغيير الهادئ والبطيء مع العراق، والتلاعب بنظامه المالي، والسياسة الصارمة تجاه الدولار، واحتواء الفصائل المسلحة الموالية لإيران، أي سياسة احتواء إيران من العراق.

المؤكَّد: إن خططه، وأحلامه المريضة ستصطدم بإرادة الدول ومصالحها، والعالم لن يكون في حالة من الاستقرار؛ لأن الاستقرار يتعارض مع شخصيته التي لا ترى سوى نفسها، معتقدة أنها الوحيدة القادرة على تحريك العالم كقطعة شطرنج كيفما تشاء ،وحيث تركيبته العجيبة؛ الجمع بين شخصيتين إيهما غلبت مضى في تبعاتها؛ تاجر لا يقبل الخسارة، وحاكم يرغب بالصدارة.

كرامة الوطن والمواطن مقالا للكاتب ياس خضير البياتي