ليس هناك أدنى شك بأن الدستور يُعد واحداً من أهم الاختراعات البشرية، فهو لا يقل قيمة وأهمية عن اختراع الدولة ذاتها، لأنه بمثابة عقد اجتماعي وسياسي وحقوقي ينظم حياة الدول وعلاقاتها بالشعوب ويضبط حركتها وحركة المجتمعات والأفراد ويحدد حقوق الجميع، وإلا لكانت قد تحولت إلى غابات تحكمها شريعة الغاب، لهذا تتفاخر الدول بدساتيرها وتعمل دائماً على تحديثها لتتواءم مع التطورات البشرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكن ما قيمة الدساتير عند العرب
يا ترى؟ نسأل هذا السؤال ونحن نرى اليوم هذا الهيجان المتصاعد في سوريا حول ضرورة وضع دستور جديد للبلاد البارحة قبل اليوم، وكأن سوريا كانت تعيش منذ تأسيسها بموجب الدستور ومواده وقوانينه، وأنها أصبحت اليوم تائهة ضائعة بلا دستور.
أرجو هنا ألا يظن أحد أننا نقلل من أهمية وضع دستور جديد للبلاد بعد سقوط النظام وتحرير سوريا، لا أبداً، بل نشد على أيدي كل من يعمل على التفكير بدستور جديد يرسم معالم مستقبل سوريا الجديدة بعد أكثر من اثنين وستين عاماً من حكم الديكتاتورية العسكرية والأمنية الفاشي، لكن السؤال المؤلم: متى عملت الأنظمة العربية على مدى تاريخها بالدساتير التي تضعها؟ ألا تُعد الدساتير بالنسبة للعرب مجرد ترف سياسي لتزيين الحياة السياسية لا أكثر ولا أقل؟
معظم الدول العربية لديها دساتير جميلة جداً على الورق، وهي تنافس حتى جمهورية أفلاطون بعدلها وإنسانيتها ووطنيتها وتحضرها ودقتها وسموها، لكن لو نظرنا إلى مواد الدساتير وقارناها بالحياة على أرض الواقع لوجدنا الدساتير العربية في واد والحياة السياسية والاجتماعية في واد آخر تماماً، فقلما تجد حاكماً أو نظاماً عربياً يعير الدستور أي اهتمام، فهو مجرد لازمة من لوازم المسرح السياسي العربي للبهرجة الإعلامية فقط، لأنه قلما يجد طريقه إلى التطبيق، وقد رأينا على مدى عقود من حكم الجنرالات والقومجيين العرب أنهم يضعون دساتير تبدو روائع أدبية على الورق، بينما كانوا يدوسون عليها ليل نهار في الحياة السياسية والحقوقية. كم يطبق العرب يا ترى من مواد دساتيرهم؟
هل عدلوها يوماً لخدمة الشعوب مثلاً، أم لا يلجؤون إلى الدساتير إلا عندما يريد هذا الطاغية أو ذاك تعديل هذه المادة أو ذاك القانون خدمة لنفسه حصرياً؟ ونحن السوريين مثلاً لم نسمع بالدستور ولا بالحقوق الدستورية يوماً على مدى أكثر من نصف قرن إلا عندما اجتمع مجلس الشعب البائد ليعدل المادة التي تحدد عمر الرئيس، لأن الرئيس السوري الساقط بشار الأسد كان وقتها تحت السن القانونية، أي أنه كان ولداً قاصراً، فعدلوا له المادة الدستورية كي يصبح رئيساً، لكنه ظل قاصراً حتى بعد أن بلغ من العمر عتياً، فسقط سقوطاً تاريخياً مدوياً. وقلما يلجأ الحكام العرب إلى الدستور إلا ليعدلوا المواد المتعلقة بفترة بقائهم في السلطة، فيغيروها كي يجثموا مزيداً من السنوات على صدور الشعوب التي لم تستفد من الدساتير والحقوق التي تنص عليها شيئاً على مدى عقود وعقود، لا بل إنها لا تعرف محتوى الدساتير، لكن ليس لأنها لا تريد العمل بها، بل لأنها تعلم علم اليقين أن الطواغيت والجنرالات الذين يحكمونها لم يلتزموا يوماً بالدستور، وكانوا يجمدون العمل به بموجب قوانين الطوارئ، كما فعل النظام السوري البائد، الذي عطل الدستور لعقود كي يحكم البلاد كما يحلو له.
لا عجب إذاً أن الأديب السوري الراحل الشهير محمد الماغوط قال في إحدى مسرحياته عندما سُئل عن الدستور «إن الدستور أكله الحمار». ولو نظرنا إلى العديد من الدول العربية اليوم سنجد فعلاً أن دساتيرها أكلتها الحمير، لهذا مثلاً لو سألت الشعوب العربية اليوم عن قوانين دساتيرها ستجد أن الغالبية العظمى لا تعرف شيئاً عنها. اسأل الشعوب:
هل قرأتم الدستور قبل أن تصوتوا عليه، فسيكون الجواب بالتأكيد لا. كم عدد العرب الذين قرأوا دساتير بلادهم؟ أكاد أجزم أن الغالبية العظمى لم تقرأ الدستور المفترض أنه أهم وثيقة قانونية تحكم العلاقة بين الشعب والدولة، فلا قيمة للقوانين والدساتير في حياتنا العربية حتى الآن، لأننا مازلنا حتى اليوم مجرد قطعان يسوقها هذا الطاغية أو ذاك خدمة لمصلحة نظامه ومصالح مشغليه في الخارج. ليست العبرة أبداً بوضع الدساتير، بل بتطبيقها، فما فائدة تلك اللوائح الحقوقية الجميلة إذا ستكون عرضة للتعطيل أو الانتهاك المنظم كما نشهد في العالم العربي البائس منذ عقود وعقود؟ لا تنسوا أن بريطانيا مثلاً ليس لديها دستور، لكنها من أعظم نماذج الحكم في التاريخ البشري.