المصور الذي أسقط حكم الأسد مقالا للكاتب علي قاسم

مقال

تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي أكد فيها أن الولايات المتحدة لن توجه ضربة إلى إيران، وأن إسرائيل لن تفعل ذلك، تمهد لعصر تنتفي فيه الحاجة إلى استخدام السلاح.

بالنسبة إلى رجل الأعمال ترامب، السلاح وظيفته الردع، وأي ضربة عسكرية هدفها محصور بهذه الوظيفة، أما إسقاط الأنظمة فالطريق الوحيد إليه هو العقوبات الاقتصادية. وهذا يحيلنا إلى سوريا، لنتساءل: هل سقط حكم الأسد بالسلاح؟

مع دخول هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة إلى دمشق خلال شهر ديسمبر الماضي تبخرت وحدات الجيش، وما توقع البعض أن يؤدي إلى مجزرة، حسم خلال أيام. وبعد مرور شهرين لا يزال الناس يتساءلون كيف حصل ذلك؟

الأسد أسقطته العقوبات الاقتصادية. كان الشارع السوري ينتظر هذه اللحظة، وعندما حلّت انفضّ الجميع من حول النظام يراقبون انهياره.

هل يمكن القول إن العالم تقاعس عن إنقاذ السوريين، وإنه بتقاعسه هذا قد تسبب بموت عشرات الآلاف كان بالإمكان إنقاذهم

قد تختلف التفاصيل، لكن الأسباب والنهايات واحدة دائما، الفساد والفشل الاقتصادي هما ما يؤدي إلى انهيار الأنظمة. لا يوجد من يدرك هذه الحقيقة أكثر من إمبراطور العقارات الذي أصبح رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية.

ترامب يؤمن بأن العقوبات الاقتصادية والضغوط ستؤدي إلى فشل اقتصادي وتدفع الأنظمة إلى تقديم تنازلات دون الحاجة إلى خوض حروب مباشرة. إنها مسألة وقت فقط، في النهاية لا بد أن يسقط النظام من الداخل.

قد يرى البعض أن هذه السياسة فاشلة ولن تؤدي إلى نتيجة ملموسة، يستدلون على ذلك بالنموذج الإيراني وكوريا الشمالية، فكلا البلدين صعّدا من مواقفهما بدل أن يقدما أيّ تنازلات.

في الواقع هذا ظاهريا، وترامب ليس على عجلة من أمره. ثم هل هناك من يجادل ويشكك في أن الفشل الاقتصادي هو السبب المباشر في انهيار الاتحاد السوفياتي.

الحرب الباردة – وهي حرب اقتصادية وإعلامية في جوهرها – بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي استمرت لمدة 44 عاما و9 أشهر (من 12 مارس 1947 إلى 26 ديسمبر 1991) وفي النهاية أدت إلى تفكك الاتحاد السوفياتي. وكان قد سبق ذلك انهيار جدار برلين (9 نوفمبر 1989) بعد أن وصل النظام في ألمانيا الشرقية إلى وضع لم يعد فيه قادرا على تلبية احتياجات المواطنين.

انهيار الجدار سبقه هروب العديد من الألمان الشرقيين عبر دول أخرى إلى ألمانيا الغربية، مما زاد الضغط على الحكومة. وهو ما حدث أيضا في سوريا.

لا شك أن للحرب التي شنتها إسرائيل على حماس في غزة وعلى حزب الله في جنوبي لبنان، دورا في إضعاف إيران وإضعاف النظام في سوريا، إلّا أن تفكك الجبهة الداخلية والمعنويات المنهارة لقوات الجيش كان لهما دورهما الحاسم، وهذا حصل بسبب من العقوبات التي أقرتها الولايات المتحدة ضد النظام السوري، وكان من نتائجها أن انتهى الوضع بأكثر من 90 في المئة من السوريين إلى العيش في خط الفقر ودونه.

بدخول الفصائل المسلحة إلى دمشق لم تكن عناصر وحدات الجيش والأمن مستعدة لتقاتل دفاعا عن نظام جوّعها وأذلّها.

الحديث عن العقوبات الاقتصادية الأميركية يقودنا إلى الحديث عن ضابط سابق في جيش نظام الأسد انشق وبحوزته مجموعة من الأدلة تكشف عن تعذيب وقتل الآلاف، عرف باسمه الحركي “قيصر”، وهو الاسم الذي اعتمد لتسمية العقوبات المفروضة على سوريا.

بعد سقوط النظام خرج قيصر إلى العلن معلنا عن هويته؛ فريد ندا المذهان، رئيس القسم القضائي للشرطة العسكرية في دمشق. كان المذهان مصورا عسكريا عهد إليه توثيق جثث السوريين الذين قُتلوا على يد النظام، وكان معظمهم قد تعرض للتعذيب الوحشي حتى الموت.

وفي تخطيط لا تشبهه إلا المشاهد السينمائية، قام قيصر بتسريب الصور مستخدما بطاقة ذاكرة “فلاش ميموري” يضعها في جواربه أو داخل ربطة الخبز، يعبر بها نقاط تفتيش وحواجز القوات الحكومية.

في إفاداته المعلنة للمرة الأولى، قال المذهان إن “أوامر التصوير وتوثيق جرائم النظام كانت تصدر من أعلى هرم السلطة للتأكد من أن القتل ينفذ فعليا.” وكان قادة الأجهزة الأمنية يعبّرون عن ولائهم المطلق لنظام الأسد عبر صور جثث ضحايا الاعتقال.

بحلول عام 2013، كان المذهان قد جمع أدلة تكفي ليتخذ قراره بالانشقاق عن الجيش.

كانت الصور، التي كُشف عنها للمرة الأولى عام 2014، أول توثيق واسع النطاق لنظام الاعتقال الوحشي. ووفقا لمنظمات حقوقية، فإن عدد الضحايا الذين وثقهم المذهان بلغ 11 ألف جثة لأشخاص قُتلوا بين مايو 2011 وأغسطس 2013. وكانت عمليات الإعدام تتم يوميا بمعدل 10 إلى خمسين عملية إعدام، تدرج على أنها “سكتة قلبية”. وهو تعبير مخفف للموت تحت التعذيب.

هل يمكن القول إن العالم تقاعس عن إنقاذ السوريين، وإنه بتقاعسه هذا قد تسبب بموت عشرات الآلاف كان بالإمكان إنقاذهم.

استنتاج مثل هذا ليس صحيحا بالضرورة. وهو لو أدى إلى تقصير فترة المعاناة، لن يضمن أن يكون عدد الضحايا أقل، بل غالبا ستكون أعداد الضحايا أضعافا مضاعفة. النظام كان حينها قويا (لم يتم إضعافه بعد) ولديه حلفاء مستعدون للتدخل لإنقاذه.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن دول العالم وبينها دول الجوار، أدت دورا إنسانيا لا يمكن إنكاره باستقبالها الملايين من السوريين الفارين من الجحيم.

في 11 ديسمبر 2019، أقر الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب، قانون “قيصر” لمعاقبة النظام السوري ورئيسه على جرائم حرب ارتكبها بحق المدنيين. حينها توقعت الإدارة الأميركية أن يحتاج الوقت إلى خمس سنوات لينهار النظام بفعل العقوبات.

في 8 ديسمبر 2024، أي بعد خمس سنوات، انهار النظام. وثبت بما لا يدع مجال للشك أن سلاح العقوبات الاقتصادية أمضى من السلاح التقليدي.