اتفاق أستانا لن يعود مقالا للكاتب عبد اللطيف المناوي

مقالات

آفة الأنظمة ضيقة الأفق أنها تجيد إضاعة الفرص الواحدة تلو الأخرى. ولنا فى نظام بشار الأسد نموذجًا لتلك الآفة التى تصيب أولئك المتعجرفين المنفصلين عن شعوبهم.

ومن بين فرص كثيرة مرت وتسربت من يد ذلك النظام كان اتفاق أستانا الذى حضرت مصر اجتماعه الأخير فى الدوحة ليلة هروب الأسد. نتحدث عنه اليوم لأن الروس ألمحوا إلى إمكانية التعامل على أساس ذلك المسار، كما يطلق عليها أيضًا، بعد سيطرة الفصائل على الحكم فى سوريا. وللوهلة الأولى، هو أمر يبدو كالوهم غير قابل للتطبيق. ولكن لا بأس من فهمه كنموذج عملى على فرصة ضائعة.

كان الهدف من الاتفاق تعزيز الجهود القائمة لتحقيق السلام من خلال معالجة القضايا الفورية، مثل تقليل العنف ودعم وقف إطلاق النار المحلى.

تم التوصل إلى اتفاق أستانا فى يناير عام ٢٠١٧ برعاية تركيا وروسيا وإيران، بهدف إنشاء مناطق لخفض التصعيد وتعزيز الحوار بين الأطراف المتحاربة فى سوريا. ورغم الانتقادات التى وُجهت له باعتباره أداة لتعزيز نفوذ القوى الخارجية، إلا أنه وفر إطارًا لإدارة الصراع وحقق تهدئة مؤقتة فى بعض المناطق. ومع سقوط نظام بشار الأسد، تثار تساؤلات حول إمكانية استمرار أو استعادة عملية أستانا فى ظل سوريا المجزأة والمهيمنة عليها من قبل الميليشيات.

كل طرف من الأطراف الثلاثة كان له دور. روسيا دعمت النظام السورى وسعت إلى تعزيز سيطرته وإبراز نفوذها الجيوسياسى. أما تركيا فقد ركزت على منع توسع الأكراد قرب حدودها، حيث تعتبرهم تهديدًا لأمنها القومى. وهدفت إيران إلى الحفاظ على نفوذها فى سوريا وتعزيز استراتيجيتها فى بناء «الهلال الشيعي» فى الشرق الأوسط.

رغم أن اتفاق أستانا أدى فى البداية إلى تقليل العنف فى بعض المناطق، إلا أن فاعليته تراجعت بمرور الوقت بسبب تحولات التحالفات، حيث كانت العلاقات بين الدول الضامنة مضطربة، خاصة بين تركيا وروسيا بسبب تضارب المصالح فى إدلب والمناطق الكردية. كما كان استبعاد أطراف رئيسية، مثل الولايات المتحدة والقوى الغربية وبعض جماعات المعارضة، سببًا فى تقليل شرعية الاتفاق على المستوى الدولى. وتآكل وقف إطلاق النار بالرغم من الجهود المبذولة، إذ استمرت الانتهاكات لوقف إطلاق النار، خصوصًا فى إدلب التى ظلت ساحة للاشتباكات المستمرة.

ترك سقوط نظام الأسد سوريا مجزأة بين فصائل متنافسة، كل منها مدعوم من قوى خارجية ذات أجندات مختلفة، حتى وإن بدأ المشهد حتى الآن موحدًا ومتماسكًا، إلا أن الاختلافات أقوى بكثير من أن تظل كامنة. هذا الواقع المجزأ وتباين مصالح القوى الرئيسية يجعل استعادة إطار عمل مثل أستانا تحديًا كبيرًا، بل يتخطى التحدى إلى الاستحالة تقريبًا.

مع ذلك، قد يظهر إطار جديد، يعتمد على البراجماتية والضرورات الإنسانية. لكن السؤال الأساسى يبقى: هل ستقبل الميليشيات والقوى الخارجية بإعطاء الأولوية للمصلحة السورية الجماعية على حساب أجنداتها الخاصة؟.