اقرأوا هذا التقرير

مع أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت عقب عودة رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي من واشنطن في أغسطس الماضي، عن تخفيض حجم قواتها الموجودة في العراق بمقدار الثلث، لتُبقي على 3500 عنصر وعد الرئيس دونالد ترمب بسحبهم تدريجياً خلال السنوات الثلاث المقبلة، إلا أن هذا الإعلان لم يُثن الفصائل الشيعية المسلحة عن مواصلة هجماتها الصاروخية على مواقع وجود القوات الأمريكية، وبشكل خاص منطقة السفارة الأمريكية في بغداد ومحيط المطار؛ ما دفع واشنطن إلى التهديد بإغلاق بعثتها الدبلوماسية في بغداد والرد على مطلقي الهجمات؛ الأمر الذي يجلب خسائر سياسية واقتصادية على العراق.

تصاعُد الهجمات على القوات والمصالح الأمريكية

شهد شهرا أغسطس وسبتمبر الماضيين تصاعداً في عدد الهجمات على هذه المواقع، دون وقوع أي خسائر بشرية. ويبدو أن لهذه الهجمات هدفين: الأول، إحراجُ حكومة الكاظمي وإظهارها بمظهر الضعيف، وإبقاؤها تحت التهديد المستمر، لمنعها من التقارب أكثر مع الجانب الأمريكي وجعلها في موضع الدفاع، خصوصاً بعد الاحتفاء الأمريكي بالكاظمي خلال زيارته لواشنطن في أغسطس الماضي. والهدف الثاني، إبقاء القوات الأمريكية والعمليات اللوجستية المرتبطة بوجودها تحت الضغط المستمر. وفي الغالب يتم تبني هذه العمليات من فصائل وتشكيلات غير معروفة كـ “أهل الكهف” و”عصبة الثائرين” و”أولياء الدم”، والتي يُعتقد أنها مجرد واجهات لفصائل معروفة، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق والنجباء. وبالتالي، تتجنب هذه الضربات إيقاعَ خسائر بشرية في الجانب الأمريكي خشيةَ أن تقوم الولايات المتحدة برد فعل كبير (كما حصل في عملية القصف التي أودت بحياة 25 من أعضاء كتائب حزب الله في القائم نهاية العام الماضي، وعملية اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في يناير الفائت).

لكن الآونة الأخيرة شهدت تكتيكات جديدة من طرف الفصائل المسلحة، من أبرزها مهاجمة قوافل الشركات أو الأفراد المتعاقدين لنقل معدات القوات الأمريكية، وهو تكتيك يستهدف ردع المدنيين العراقيين من التعامل مع القوات الأمريكية، لكنه أيضاً قد يهدف إلى السماح لشركات محددة مرخصة من تلك الفصائل بالحصول على عقود من تلك القوات. وقد حصلت هجمات متعددة في بابل وجنوبي بغداد وذي قار وغيرها تستهدف شاحنات النقل، وغالباً من دون وجود ما يؤكد أنها تنقل معدات للقوات الأمريكية سوى بيانات تلك الفصائل.

أما التكتيك الجديد الآخر فيشمل توسيع قائمة أهداف تلك الفصائل لتشمل بعثات دبلوماسية غير أمريكية، كما حصل عند انفجار عبوة ناسفة في بغداد أثناء مرور قافلة دبلوماسية تابعة للسفارة البريطانية في 15 سبتمبر. وليس واضحاً دوافع هذا العمل أو ما إذا كان تَقّصد استهداف البعثة البريطانية، لكن من الملاحظ أنه حصل بعد فترة قصيرة من استهداف مقر شركة أمنية بريطانية في منطقة القادسية ببغداد في الثالث من سبتمبر الماضي، وهذه الشركة تقوم بحماية أمن مطار بغداد. وكانت كتائب حزب الله العراق تسيطر على صالة رئيسة لكبار الشخصيات (VIP) في مطار بغداد، وقد قامت حكومة الكاظمي بإلغاء العقد الممنوح إلى شركة ذات صلة بهذا التنظيم؛ الأمر الذي عمق التوتر بين الجانبين. وفي أول عملية من نوعها، جرى استهداف مركز لتعليم اللغة الإنجليزية في النجف يحمل اسم “المعهد الأمريكي”.

الرسالة الأمريكية والتحرك العراقي

أمام ما يبدو أنه عجز حكومي عن التعامل مع مطلقي الصواريخ، وجهت الولايات المتحدة رسالة قوية في 27 سبتمبر الفائت من خلال اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو برئيس الجمهورية العراقية، برهم صالح، مضمونها أنه لدى الولايات المتحدة معلومات عن إعداد إيراني لهجوم كبير في شهر أكتوبر يستهدف أحد المصالح الأمريكية، وأن الرئيس ترمب يُفكر جدياً بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد لمنع الطرف الإيراني والفصائل المرتبطة به من الاستمرار في مهاجمة وتهديد السفارة ومنتسبيها، وأن الولايات المتحدة ستتخذ إجراءات حازمة في حالة تعرضها لهجمات جديدة، وهذه الإجراءات ستطال مواقع فصائل الحشد الشعبي وبعض القيادات الشيعية.

قد يكون إرسال الأمريكيين الرسالة عن طريق صالح، وليس الكاظمي، إشارة إلى شعور بخيبة الأمل من قدرة الكاظمي على التحرك ضد الفصائل؛ أو قد تكون محاولة لتوسيع دائرة نقاش هذا الموضوع ليشمل الدائرتين الكردية والسُّنية ولا يكون حكراً على النقاش الداخلي في الدائرة الشيعية. وقد نقل الرئيس برهم صالح هذه الرسالة في اجتماع ضم مصطفى الكاظمي وزعامات الكتل السياسية، غاب عنه كلٌّ من هادي العامري ونوري المالكي. وتحدث صالح والكاظمي في الاجتماع عن التهديد الأمريكي بإغلاق السفارة والقيام بأعمال عسكرية أحادية، وإدراج قادة سياسيين عراقيين في لوائح العقوبات الأمريكية، فضلاً عما هو متوقع من إيقاف الاستثناء الممنوح للعراق لاستيراد الغاز والكهرباء من إيران، والذي تم تمديده لمدة 60 يوماً بدلاً من 120 يوماً، كما حصل سابقاً بعد تولي الكاظمي لمنصبه في مايو. كما قام الكاظمي بلقاء السفير الإيراني في بغداد إيرج مسجدي، وإبلاغه بضرورة أن تتوقف إيران عن دعم هذه الفصائل، وتقديم الغطاء السياسي أو الأيديولوجي لها، وبعدها أرسل الكاظمي وزير خارجيته، فؤاد حسين، إلى طهران حاملاً الرسالة نفسه.

وتشير المعلومات إلى أن وزير الخارجية الأمريكي طلب فعلاً من السفير الأمريكي في بغداد ماثيو تولر إعداد خطة لإخلاء السفارة، كما أن هناك نحو 12 بعثة دبلوماسية غربية تخطط أيضاً للإغلاق في حالة إخلاء الأمريكيين سفارتهم في بغداد، نظراً لاعتمادهم كثيراً على الدعم اللوجستي والمعلوماتي الذي يقدمه الجانب الأمريكي. ويبدو أن الأمريكيين يفكرون بنقل مركز ثقلهم الدبلوماسي والعسكري إلى أربيل، حيث يتمتعون بالحماية الكافية.

بعد استلام هذا التهديد، صعّدت الحكومة عملياتها الأمنية للبحث عن مطلقي الصواريخ، وقام جهاز مكافحة الإرهاب بالانتشار في بغداد لهذا الغرض. كما أصدر مقتدى الصدر بياناً قوياً حمّل فيه فصائل منضوية في “الحشد الشعبي” مسؤوليةَ القصف والاغتيالات التي حصلت مؤخراً، مُعتبراً أنه لم يعد كافياً تعبير بعض قيادات الحشد عن عدم رضاها عن هذه الأعمال، بل لابد من “السعي بالحكمة والتروي إلى إنهاء جعل العراق ساحةً لصراع الآخرين، ولنسعَ معاً لاستقلال العراق وسيادته وسلامته وأمنه… وإلا ضاع العراق من أيدينا”. وتلا ذلك، إصدار ائتلاف “الفتح”، الذي يقوده هادي العامري ويضم معظم الفصائل المقربة من طهران، بياناً يُعلن فيه أنه يقف ضد أي “عمل يستهدف البعثات الدبلوماسية والمؤسسات الرسمية وأن هذه الأعمال إضعاف للدولة وضرب لهيبتها وهو أمر مرفوض ويؤدي إلى نتائج خطيرة”، كما دعا البيان منتسبي الحشد الشعبي إلى أن يكونوا “مثلاً أعلى في الالتزام بالقانون والابتعاد عن كل ما يسيء إلى صورة هذا الكيان المقدس”.

ويبدو أن بيانات القوى الشيعية الموالية لإيران الرافضة لاستهداف البعثات الدبلوماسية الأجنبية تنسجم مع الموقف الإيراني الذي عبّر عنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة الذي دان في 17 سبتمبر “أي هجمات على الوفود والبعثات الدبلوماسية”، ثم بيان السفارة الإيرانية في بغداد الذي عبّر عن الموقف نفسه. ويمكن فهم موقف إيران هذا بميلها إلى تهدئة المواجهة مع الولايات المتحدة وعدم إعطاء ترمب ذريعةً لتحشيد الرأي العام الداخلي ضدها، واستخدام الصراع معها لتحسين فرصه في الانتخابات المقبلة.

بيد أن التشرذم الذي أصاب معسكر الفصائل “الولائية” بعد اغتيال المهندس، وغياب القيادة المركزية لا يزال يلعب دوراً في تقوية العناصر الأكثر تطرفاً، وفي تعدد مراكز القوى داخلها، وهو ما انعكس على الموقف تجاه الوجود الأمريكي في العراق، بين الفصائل الشيعية الأكثر تطرفاً التي ترغب في الاستمرار في استهداف المصالح الأمريكية في العراق لدفع الأمريكيين إلى الخروج منه كلياً، والفصائل الشيعية الأخرى التي تخشى من تبعات تلك الأعمال، لما قد تنطوي عليه من استهداف لقواتها بضربات من طيران التحالف بقيادة الولايات المتّحدة أو تعرض قادتها لعقوبات أمريكية، فضلاً عن التبعات السياسية والاقتصادية على العراق في ظل الأزمة المالية التي يعانيها في ظل جائحة كورونا.

الاستنتاجات

يؤشر التهديد الأمريكي بإغلاق السفارة الأمريكية في بغداد إلى شعور الإدارة الأمريكية بأن حكومة الكاظمي لم تقم بما يكفي للحد من هجمات الفصائل على المنطقة الخضراء ومطار بغداد الدولي، وأن الإدارة الأمريكية أيضاً لا تقبل أن تتخذ الحكومة العراقية موقفاً وسطياً في الصراع بين طهران وواشنطن، وتريد خطوات أكثر جدية تثبت فيها حكومة الكاظمي أنها تعمل جدياً على خفض النفوذ الإيراني في العراق.

وعلى الأرجح لا تريد الولايات المتحدة أن تترك أي أوراق أساسية بيد الجانب الإيراني قبيل موعد الانتخابات المقبلة، وفي الوقت نفسه لا يبدو أن إدارة ترمب تخلت عن منظورها الضيق للعراق من زاوية الصراع مع إيران، ولا ترغب في الصبر لمدة طويلة لرؤية وضوح أكبر في الموقف العراقي، وهو أمر يُحذِّر منه مراقبون عديدون يعتقدون بأنه ليس بوسع الكاظمي أن يُجري تعديلاً أساسياً في توازنات القوى الداخلية وأن يَحد من نفوذ الفصائل المرتبطة بطهران، بل يحتاج إلى مزيد من الوقت وإلى استراتيجية طويلة الأمد لتقوية المؤسسات الأمنية الرسمية.