منذ دخولها الحرب مع العراق قبل أربعين عاماً، حولت إيران التوتر الحاد مع جارتها إلى نفوذ واسع، سهل لحلفائها الظفر بالسلطة، لتصبح اليوم شريكةً أساسيةً فيها، بحسب ما جاء في تقرير اعدته وكالة الأنباء الفرنسية في الذكرى الـ40 للحرب بين الجارتين.
ولم يكن عزيز جبر، الاستاذ في جامعة المستنصرية في بغداد والذي عاش سنوات الحرب (1980-1988)، يتوقع حدوث هذا الأمر إطلاقاً.
وقال جبر، لوكالة “فرانس برس” عن هذا التحوّل، إنّه “من الصعب تخيله، لكنه حدث، الأحزاب السياسية المرتبطة بإيران، بينها ما صنع في إيران، هي الممسكة بزمام السلطة في العراق اليوم”.
الحرب الإيرانية – العراقية
وغزا الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، إيران في 22 سبتمبر 1980، جرّاء قلقه من محاولة رجال الدين الذين وصلوا إلى السلطة في طهران عام 1979 استنساخ “ثورتهم الإسلامية” في العراق.
ولجأت إيران طوال سنوات الحرب التي تعد أطول حروب القرن العشرين وخلفت نحو مليون قتيل، إلى توفير ملاذ للجماعات المناهضة لنظام صدام، بينها شخصيات كردية وفي “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” وجناحه العسكري “فيلق بدر”، اللذان تشكلا في إيران عام 1982.
ولم تنقطع إيران عن دعم هذه الأطراف حتى سقوط صدام حسين بالغزو الدولي الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
شخصيات موالية لإيران في السطلة
وتسلقت شخصيات عراقية لطالما تحالفت مع إيران خلال السنوات الـ17 الماضية إلى أعلى هرم السلطة في العراق.
وقضى ثلاثة رؤساء وزراء من بين ستة شغلوا هذا المنصب بعد العام 2003، إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعادل عبد المهدي، معظم فترة الثمانينات في طهران.
كما تولى قادة بارزون في “فيلق بدر” مناصب أمنية رفيعة.
ويشغل اليوم نيجيرفان ومسرور بارزاني اللذان لجأت عائلاتهما إبان نظام صدام إلى إيران، منصبي رئيس، ورئيس وزراء إقليم كردستان العراق.
وقال جبر بهذا الخصوص: “الأذرع التي صنعتها إيران لم تصنع لغرض الحرب فحسب بل لتستفيد منهم اليوم عندما تمكن هؤلاء من الوصول إلى السلطة” في العراق.
وعادة ما تستخدم في طهران المسيرة السنوية لتكريم ضحايا الحرب كمناسبة لاستعراض الأسلحة الجديدة بما في ذلك صواريخ بالستية، بينما يحتل قدامى المحاربين مناصب عسكرية عليا في طهران.
من ناحية اقتصادية، بات العراق أكبر سوق للمنتجات الإيرانية، غير الهيدروكربونية، ووصلت قيمة الصادرات الإيرانية إلى تسعة مليار دولار خلال الفترة بين مارس 2019 والشهر ذاته من العام الحالي، وفقاً لغرفة تجارة طهران.
“سُلّم بلدي لإيران”
وبات هذا النفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي المتزايد مصدر إزعاج للعراقيين.
وقال عسكري سابق يدعى محمد عبد الأمير (56 عاماً)، في حديث لوكالة “فرانس برس” إنّ “العراقيين المشاركين بالحكومة سمحوا لإيران بهذه التدخلات السافرة في العراق وسلموا البلد باقتصاده وزراعته وحتى أمنه”.
وأضاف “حاربت خمس سنوات وأسرت عشر سنوات (في إيران)، وفي نهاية المطاف، سُلم بلدي لإيران”.
وتفشى الإحباط بشكل واسع في أوساط العراقيين وبلغ ذروته مع تصاعد الاحتجاجات المطلبية غير المسبوقة التي انطلقت في أكتوبر الماضي في بغداد وأغلب مدن جنوب البلاد ضد الطبقة السياسية التي تتهم بالفساد والفشل في إدارة البلاد والولاء لطهران.
وبعد أشهر، قتلت الولايات المتحدة الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في غارة نفذتها طائرة مسيرة قرب مطار بغداد.
وكان سليماني، الذي بدأ مسيرته خلال الحرب العراقية الإيرانية ووصل لمناصب رفيعة، المشرف الرئيسي على ملف العراق. أما المهندس، فكان قياديا بارزاً في الحشد الشعبي، ومقرباً من إيران.
ورأى محللون أنّ الهجوم قطع أهم حلقات النفوذ الإيراني في العراق.
التفاف حول البرلمان والوزارات
وفي مايو الماضي، تولى مصطفى الكاظمي رئاسة وزراء العراق وأحاط نفسه بمستشارين يوصفون بأنهم أقل ولاء لإيران مقارنة بأسلافهم.
وفي ظل تراجع نفوذها في مكتب رئاسة الوزراء، التفتت طهران إلى البرلمان العراقي والوزارات، بحسب التقرير.
33 عاما لم تمحُ الذاكرة: هجوم صدّام الكيميائي حاضرٌ في سردشت الإيرانية
نشرت في: آخر تحديث:
مر 33 عاما على استخدام نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين سلاحا كيميائيا ضد مدينة سردشت الإيرانية، لكن سكانها لا يزالون يعانون من آثار مجزرة يرون أنها لم تلقَ الاعتراف الجدير بها من المجتمع الدولي.
تقع سردشت في محافظة أذربيجان الغربية بشمال غرب إيران، غير بعيدة عن الحدود الطويلة مع العراق. ولا تزال المدينة وسكانها يعانون من آثار قصف جوي تعرضوا له في 28 حزيران/يونيو 1987 خلال حرب الأعوام الثمانية بين العراق وإيران، والتي اندلعت في 22 أيلول/سبتمبر.
ويعد هذا القصف أول استخدام لسلاح كيميائي ضد تجمع مديني.
ويقول رئيس جمعية ضحايا الهجوم الكيميائي على سردشت صالح عزيز بور “اذا فقد أحدهم ساقه أو ذراعه في الحرب، يمكن ان يستبدلها بطرف اصطناعي”، لكن “عندما تحترق رئاتنا (…) من يتنفس بالنيابة عنا؟”.
ويشير لوكالة فرانس برس الى أن الضحايا والجرحى “تراوحوا بين طفل يبلغ من العمر ثلاثة أشهر، ورجل في السبعين من عمره. كلهم مدنيون”.
بلغت الحصيلة الرسمية للقصف العراقي 119 قتيلا و1518 جريحا. لكن بحسب عزيز بور الذي كان يبلغ الخامسة والعشرين من العمر في 1987، تعرّض نحو ثمانية آلاف شخص لغاز الخردل الذي يقول الخبراء إنه استخدم في الهجوم، وعانوا من آثاره التي أدت في مراحل لاحقة الى وفيات إضافية.
أما من بقي على قيد الحياة من سكان المدينة، فلم يتخلص من تداعيات الهجوم.
ويقول محمود أسدبور، الأستاذ البالغ من العمر 50 عاما، “حتى اليوم، أعاني أحيانا من ضغط كبير على رئتيّ (…) لدرجة أني لا أتمكن من النوم”.
وفاقم انتشار فيروس كورونا المستجد في إيران خلال الأشهر الماضية المعاناة الصحية هذه. ولم تسلم سردشت من تسجيل حالات إصابة بكوفيد-19، ما تسبب بمشاكل إضافية لسكانها ومخاوف على وضعهم الصحي.
وتقول الطبيبة روجان قادري، مديرة الشبكة الصحية العامة في سردشت، “نظرا لأن مناعتهم ضعيفة (…) تصبح فرص نجاتهم ضئيلة” في حال أصيبوا بالمرض الذي تعد إيران أكثر الدول تأثرا به في منطقة الشرق الأوسط.
– “في قفص” –
اضطرت الظروف الصحية الراهنة الناجين من الهجوم، لالتزام منازلهم للوقاية من أي إصابة بكوفيد-19.
ويقول محمد زماني “نحن في المنزل، لا نخرج منه، كما لو إننا في قفص”.
يستذكر إبن التاسعة والخمسين عاما سماع “أصوات انفجارات مكتومة” في ذاك اليوم من العام 1987. أما زوجته ليلى معروف زاده، فكانت حينها ممرضة متطوعة تعمل على مساعدة الجرحى.
تستعيد السيدة صرخات المصابين في المستشفى الميداني، الصادحة من وجوه “مألوفة” تنشد مساعدتها. وتوضح “صدور بعضهم كانت قرمزية، بينما طغى هذا اللون على كامل جسد آخرين”.
ساعدت معروف زاده المصابين لساعات، قبل أن تعاني بدورها من آثار الغاز السام، وتفقد بصرها بشكل جزئي.
لم يقتصر هذا الأثر عليها، بل شمل آخرين أيضا منهم رسول ملاحي الذي كان مزارعا في السابق.
ويقول الرجل الذي لا يزال يستخدم يوميا جهاز تنفس اصطناعي إنه فقد بصره “كليا (…) لفترة 18 يوما”.
وتوضح الطبيبة قادري “آثار غاز الخردل دائمة (…) يؤثر على الرئتين وأحيانا يتسبب بتدميرهما. عليك أن تتعلم التعايش مع ذلك”.
تشمل العوارض الجانبية التورم والتقرح في العينين والاحمرار والحكاك في الجلد، إضافة الى ضيق التنفس وصعوبة الحركة والإرهاق.
ويعاني الناجون من آثار إضافية حاليا: مذ أعادت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض العقوبات الاقتصادية المشددة على إيران عام 2018 بعد الانسحاب الأميركي الأحادي من الاتفاق بشأن البرنامج النووي، بات من الصعوبة بمكان إيجاد الأدوية التي يحتاج إليها هؤلاء.
– “صمت” دولي –
بدأ نظام صدام حسين باستخدام الأسلحة الكيميائية في مطلع الثمانينات. لكن مجلس الأمن الدولي انتظر حتى 1986 ليدين “استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاعات” العسكرية، لكن من دون أن يسمّي العراق ورئيسه آنذاك بالاسم.
وبعد الهجوم على سردشت، اعتمد مجلس الأمن الصياغة المبهمة ذاتها، لا سيما وان الدول الخمس دائمة العضوية فيه (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين والاتحاد السوفياتي سابقا)، كانت تؤيد النظام العراقي بشكل أو بآخر، وبدرجات متفاوتة.
ينتقد ناجو سردشت “صمت” المجتمع الدولي حيال ما تعرضوا له، لا سيما وأن العديد من الدول والشركات الغربية كانت متهمة بالمساهمة في برنامج الأسلحة الكيميائية للنظام العراقي في الثمانينات.
حاليا، تبدو المدينة التي يتجاوز عدد سكانها 46 ألف نسمة (مقارنة مع نحو 18 ألفا في العام 1987)، وكأنها تخلصت بشكل شبه كامل من الآثار المادية للهجوم.
فسردشت التي ترتاح على سفح تلة، وتمتاز بالمنازل المتواضعة ومباني الطبقات الثلاث محدودة الارتفاع، نفضت عنها غبار الحرب، باستثناء شواهد صغيرة، مثل الطبقة العلوية لمبنى تجاري أصيب بشكل مباشر بقذيفة لا تزال آثار دمارها ماثلة للعيان.
– “الثوم المتعفن” –
خلال سنوات الحرب ما بين ضفتي الخليج، اعتاد أهالي سردشت سماع الصوت المدوي لقصف الطيران العراقي.
لكن بعد ظهر 27 حزيران/يونيو 1987، اختلف المشهد: ألقت الطائرات قنابل على أربعة أحياء مختلفة، لكن صوت انفجارها لم يصمّ الآذان كما المعتاد.
ويوضح زماني “رأيت غبارا أبيض اللون يتصاعد، رائحته كرائحة الثوم المتعفّن”، مضيفا “كنت السبّاق للقول إن هذا سلاح كيميائي، لأنه سبق لي أن اختبرته على الجبهة” في العام 1984، حين كان عنصرا في القوات الإيرانية.
لم يتصور العديد من السكان أن الغاز السام قد يستخدم ضد المدنيين، ولجأوا الى التدابير التي كانوا أوصوا باعتمادها في حالات القصف التقليدي، لا سيما الاحتماء في ملاجئ تحت الأرض، غير مدركين أن الغاز سرعان ما سيتسرب إليها.
أدرك آخرون، مثل علي محمد (56 عاما)، أن ما يحصل هو هجوم كيميائي يستدعي تدابير مختلفة، مثل الهرب بعيدا.
ويقول محمد إنه عندما عاد بعد ساعات، شاهد “وضعا كارثيا لا يمكن وصفه”.
ويضيف متأثرا “عند المنعطف أمام مبنى الهلال الأحمر، كانت الجثث مكدسة تمهيدا لنقلها”.
– “رمز” –
سقط النظام العراقي إثر الاجتياح الأميركي في 2003، واعتقل صدام في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه.
انعكس هذا الأمر “سعادة” لدى أسدبور، قبل أن يختبر “خيبة أمل” عندما أعدم صدام في 2006، من دون أن يحاكم على خلفية الهجوم الكيميائي على سردشت.
في العام 2005، قدمت معروف زاده شهادة مؤثرة أمام محكمة في لاهاي كانت تحاكم الهولندي فرانس فان أنرات بتهمة مساعدة نظام صدام حسين في الحصول على أسلحة كيميائية.
حكم على فان أنرات بالسجن 17 عاما لإدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم حرب، مرتبطة بهجوم سردشت الكيميائي، وآخر مماثل على حلبجة في إقليم كردستان بشمال العراق في العام 1988، تسبب بوفاة نحو خمسة آلاف شخص.
ولعل هذا الحكم خفف من ألم بعض أهالي سردشت، لكنه لم يشف غليلهم في البحث عن العدالة والحق.
لذا، يأمل الناجون في أن تنال مدينتهم اعترافا دوليا بما تعرضت له، وتصبح “رمزا” للهجمات بأسلحة غير تقليدية، حالها كحال مدينة هيروشيما اليابانية التي ألقى عليها الجيش الأميركي قنبلة نووية خلال الحرب العالمية الثانية.
أما هدفهم من ذلك، فهو “ألا تتكرر أبدا” هجمات من هذا النوع.