نبوخذ نصر أو بختنصر أو بخترشاه (بالآرامية: ܢܵܒܘܼ ܟܘܼܕܘܼܪܝܼ ܐܘܼܨܘܼܪ؛ وبالعبرية: נְבוּכַדְנֶצַּר؛ وبالإغريقية: Ναβουχοδονόσωρ) هو أحد الملوك الكلدان الذين حكموا بابل، وأكبر أبناء نبوبولاسر، ويعتبر نبوخذ نصر أحد أقوى الملوك الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين، حيث جعل من الإمبراطورية الكلدانية البابلية أقوى الإمبراطوريات في عهده بعد أن خاض عدة حروب ضد الآشوريين والمصريين، كما أنه قام بإسقاط مدينة أورشليم (القدس) مرتين الأولى في سنة 597 ق م والثانية في سنة 587 ق م، إذ قام بسبي سكان أورشليم وأنهى حكم سلالة داؤد، كما ذكر أنه كان مسؤولًا عن بناء عدة أعمال عمرانية في بابل مثل الجنائن المعلقة ومعبد إيتيمينانكي وبوابة عشتار.[2]
الاسم الأكدي لنبوخذ نصر هو نبو كودورو أوصور، ومعناه نابو حامي الحدود،[3] ونابو هو إله التجارة عند البابليين وهو ابن الاله مردوخ.[4] ولقد أطلق عليه الفرس اسم بختنصر ومعناه السعيد الحظ.[5] أما الأكاديميون والمؤرخون الحاليون يفضلون تسميته بنبوخذ نصر الكبير،[6] أو نبوخذ نصر الثاني وذلك لوجود ملك آخر استخدم هذا الاسم قبله وهو نبوخذ نصر الأول الذي حكم بابل في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
حياته[عدل المصدر]
نبوخذ نصر هو الابن الأكبر لنبوبولاسر مؤسس سلالة بابل الحادية عشر، نبوبولاسر والذي قال عنه المؤرخ الكلداني بيروسوس بأنه حول بابل من منطقة تحت سلطة الإحتلال الآشوري إلى إمبراطورية عظيمة، وهو الذي قام بإسقاط نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية بمساعدة الميديين.[7]
وقبل أن يصبح نبوخذ نصر ملكاً، قاد الكلدان إلى هزيمة الآشوريين مرة أخرى الذين حظوا بدعم الملك المصري نخاو الثاني وتمكن من هزيمة الفراعنة والآشوريين في معركة كركميش في عام 605 ق م، وبعد ذلك تمكن نبوخذ نصر من السيطرة على المناطق التي كانت محتلة من قبل الآشوريين ومنها سوريا وفينيقية، ولكن في نفس العام وفي شهر أغسطس توفي والد نبوخذ نصر الملك نبوبولاسر، فعاد نبوخذ نصر إلى بابل ملكا شرعيا عليها.[8]
ولقد مد نبوخذ نصر جيوشه إلى سوريا ويهوذا ووصل إلى حدود مصر بالتحديد في أرض غزة الحالية، ولم يقم نبوخذ نصر بتدمير المدن التي كان يدخلها وأكتفى فقط بفرض الجزية عليها، ولكن بعد انسحاب مصر من الأراضي السورية بدأت تحرض الممالك الكنعانية ضد سلطة بابل عليها، فكانت مدينة عسقلان أول المدن التي عصت في سنة 604 ق م، فقام نبوخذنصر بإحتلالها وسبى بعض من سكانها وعين ملكا آخر عليها،[10] ولم تقبل مملكة يهوذا أيضاً بدفع الجزية إلى بابل وقرر يهوياقيم ملك يهوذا العصيان على بابل، ففرض نبوخذ نصر الحصار على أورشليم عاصمة مملكة يهوذا وسبى بعضا من سكانها مع ملكهم يهويا كين في سنة 597 ق م،[11] إلا أن نبوخذ نصر لم يسقط مملكة يهوذا وأقام صدقيا ابن الملك يهوياقيم مكانه ملك على يهوذا،[12] إلا أن اليهوذيين قرروا العصيان مرة أخرى وبقيادة صدقيا وبدعم من المصريين، فقام البابليون في البداية بهزيمة المصريين الذين جاؤوا لمساعدة يهوذا، وبعدها إتجه البابليون لمحاربة مملكة يهوذا، فقام البابليون بحصارها لسنة كاملة وبعدها تمكن نبوخذنصر من إختراق مدينة أورشليم وثم دخلوا إلى أورشليم وسبوا معظم سكانها ومنهم ملكهم صدقيا (الذي نصبه نبوخذ نصر ملكاً) وأحرقوا هيكل سليمان، وبهذا أنهى حكم سلالة داوود على مملكة يهوذا وذلك في عام587 ق م.[13] ولكن بعد ذلك قامت مدينة أخرى بالعصيان وهي مدينة صور الكنعانية فحاصرها لمدة 13 عام (585-572 ق م)، إلى ان قبل الكنعانيون الهيمنة البابلية،[14] وبذلك يعد هذا الحصار الأطول في التاريخ على مدينة، وحسب ما يقول نبوخذنصر في إحدى الألواح الأثرية بأنه تمكن من عزل ملكها الشرير وشق الطرق إلى صور بين الجبال وشتت سكانها الأشرار إلى إتجاهات الأرض الأربعة واختار ملكاً أخر عليها.[15]
وحسب أحد الألواح الموجودة حاليا في لندن، في السنة 37 من حكمه جهز نبوخذ نصر جيشاً إلى مصر لمواجهة الملك الفرعوني أحمس الثاني فعندما سمع الفرعون أحمس بذلك أيضا جهز جيشاً من المصريين وتوجه نحو فينيقية لكن لا يعرف نتائج تلك الحرب لأن النص المسماري غير واضح ومخروم.[16]
وفي آخر أيام نبوخذ نصر قام ببناء إمبرطورية كلدانية بابلية عظيمة إمتدت قوتها من الخليج العربي وبلاد الفرس إلى البحر الأبيض المتوسط، وكانت بابل الإمبراطورية الأقوى في زمنه، وفي الشهر السادس من سنة حكمه مات نبوخذ نصر عن عمر ناهز 44 عاما في الحكم، وخلفه اميل مردوخ.[17]
أعماله المدنية[عدل المصدر]
إضافة لأعمال نبوخذنصر الحربية والتي لا تقل شئناً عن أسلافه ملوك بلاد الرافدين من الأكديين والآشوريين فكان له أيضا عدة أعمال عمرانية منها بناء الحدائق المعلقة التي سميت بحدائق بابل المعلقة، حيث ذكر المؤرخ الكلداني بيروسوس بأن هذه الجنائن بنيت إكراماً لزوجته الميدية الفارسية أميديا ابنة الملك سياخريس الذي تحالف معه نبوبولاسر،[18] وأعدها المؤرخ والرحالة الاغريقي هيرودوت ضمن عجائب الدنيا السبع القديمة، ويقول هيرودوت أن الحدائق المعلقة قام بدعمها بالمياه عبر أنابيب تمكن من إصعاد المياه إلى الأعلى وهذا يكشف ان البابليين كانوا يعرفون نظرية أرخميدس.[19]
كما ذكر أن نبوخذنصر قام بدعم بابل بسورين أحدهما داخلي والأخر خارجي وكان عرضهما كبيراً وقد قال هيرودوت بأن بابل هي المدينة الوحيدة التي كانت تمشي فيها العربات على سورها، كما بنى نبوخذنصر لمدينة بابل 8 بوابات وكان أكبرها بوابة عشتار بأسم الآلهة عشتار والتي كانت تتوسط شارع الموكب الذي كان يحتفل به البابليين بعيد أكيتو (رأس السنة البابلية)،[20] كما قام نبوخذنصر ببناء المعابد مثل معبد إيساكيلا ومعبد إيتيمينانكي (وهي زقورة بابل وألتي عرفت عند اليهود ببرج بابل[21])والذي كان مسكن الإله مردوخ حسب المعتقد البابلي،[22] وبنى نبوخذنصر قصرا كبيرا لنفسه[23][24] كما نسب إليه بناء تمثال أسد بابل الذي لا زال موجوداً في بابل، وعبد عدة طرقات وخاصة في سوريا ولبنان، كما نقشت إحدى رسوم نبوخذنصر وكتابات له في عدة مناطق من جبال لبنان،[25] وكذلك ذُكر أن الملك قام بكتابة شريعة قانونية مشابهة لشريعة حمورابي وقام بتطويرها وسميت باسم شريعة الشمس،[26] فكانت بابل في زمن نبوخذنصر أجمل مدن العالم القديم ونالت شهرة كبيرة بين الأمم في ذلك الوقت[27][28] ويقول نبوخذنصر في إحدى الكتابات المنقوشة على جدار بوابة عشتار: أنا (نبوخذنصر) باني هذه الأسوار والبوابات وأنا الذي أوصلتها إلى المياه من تحتها، وأنا الذي وضعت فيها الحجارة الزرقاء الصافية وأنا الذي بنيت الغرف داخل السور، وأنا الذي نقشت صور الثيران والتنانين في السور وأنا الذي زينتها بهذه الأشكال الجميلة لكي تتمتع البشرية برؤية هذا المنظر المهيب.[29]
صفاته[عدل المصدر]
يعتبر الملك نبوخذ نصر قائداً عالمياً عبر التاريخ، حيث كان يستخدم عبقريته وذكاءه للاستفادة من الشعوب التي يحتلها، إذ كان يستنفد معظم الإمكانيات البشرية والمادية للشعوب التي يستولي عليها إلى حد التحكم بحياتهم، إلا أنه امتاز بتسامحه الديني وحرية الفكر وسمح للشعوب المحتلة أن تعبد آلهتها، وكان يشارك الشعوب طقوسهم الدينية ويحترم آلهتهم، فيعتبر أعظم ملوك بابل وقد اشتهر بلقب (مقيم المدن) فقد كان فاتحاً للمدن لا غازياً، وإمتاز بذلك لأنه كان يعتمد على مشورة مستشاريه وقد أعترف بهذا في مقولته المشهورة: (الكبرياء الزائدة مدمرة للنفس).[30]
في التوراة
أما الكتاب المقدس فصوره كشخصية متغطرسة ومتكبرة وقاسية وخاصةً عندما يذكر إرميا أنه بعدما سبى نبوخذ نصر ملك يهوذا صدقيا، أخذه عنده مكبل بالقيود، حيث قام هناك بقتل أولاد الملك أمام الملك نفسه ثم فقع عيني الملك،[31] وفي سفر دانيال تم تصوير نبوخذنصر كشخصية متغطرسة بعد أن حكم على كل حكماء بابل بالموت بسبب عجزهم عن تفسير إحدى أحلام نبوخذ نصر حتى بدون أن يعرفوا الحلم،[32] لكن في نفس الوقت صوره كشخصية عادلة بعد أن حكم بالموت على الذين أرادوا قتل شدرخ وميشخ وعبدنغو والذين كانوا أصدقاء دانيال من السبي البابلي،[33] كما صور نبوخذ نصر بكونه أول ملك أجنبي يؤمن ويعظم إلههم الواحد يهوه أو (الله)، بعد أن أصيب بسبعة أزمنة بمرض أصبح فيه كالحيوان وبعد انقضاء الأزمنة السبعة آمن بالله وملك لمدة سنتين آخرتين،[34] إلا أن الإجماع بين العلماء هو أن سفر دانيال هو أحد أعمال الخيال التاريخي.[35][36][37] ويعتقد أن تحول نبوخذ نصر إلى اليهودية هو حدث غير حقيقي.[38][39] فترة جنونه يعتقد أنها خيال هي الأخرى، حيث عزاها المؤرخون إلى الشائعات حول إقامة نبو نيد في تيما، والتي تم تطبيقها لاحقًا على نبوخذ نصر من خلال الخلط بين الاثنين.[40] بينما ذكر في سفر يهوديت عن نبوخذنصر ملك الآشوريين الذي كان يريد من الناس عبادته.[41]
في المصادر الأخرى[عدل المصدر]
أما في المصادر الإسلامية، فحسب ما ذكره المؤرخ الطبري باسم (بخترشاه) أو (بختنصر) أي نبوخذنصر، وقال بأنه كان ملك من أصل فارسي من سلالة جدهارز وذكر أن هناك من آمن بأنه عاش مدة 300 سنة،[42] وتوجد هناك مصادر تاريخية تذكر بأنه كان ملك عديم الرحمة، وهناك مصادر أخرى صورته بأنه حاكم عادل ويعبد الله.[43] وقد تكلم المؤرخ الطبري عن بعض من حروب نبوخذنصر مع بني إسرائيل ومع العرب، حيث قال: (فأقبل برخيا بن نجران حتى قدم على بختنصر ببابل، وهو نبوخذ نصر، فعربته العرب، وأخبره بما أوحى الله إليه، وقص عليه ما أمره به، وذلك في زمان معد بن عدنان، قَالَ: فوثب بختنصر على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها. فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك، وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: (إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه، فاقبل منهم، وأحسن إليهم). قَالَ: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد، فسموه: الأنبار، قَالَ: وخلى عن أهل الحيرة، فاتخذوها منزلا في حياة بختنصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابا).[44] بينما ذكرته البهائية في كتاب الإيقان كونه الملك الذي حول مدينة القدس إلى نيران.[45]
عائلته[عدل المصدر]
ولد نبوخذنصر في عقد 630 ق م في بلاد بابل وقد كان الابن الأكبر لنبوبولاسر مؤسس السلالة البابلية الحادية عشر،[46] وألتي يعتقد أنها من قبيلة بيث ياقين،[47] إلا أن أمه لم تعرف، بينما زوجته المعروفة كانت أميديا (والتي عرفت باسم سميراميس عند المؤرخ اليوناني هيرودوت) ابنة الملك سياخريس ملك ميديا وشقيقة خليفته أستياجيس وقد كان زواجه منها لتعزيز تحالف الدولتين البابلية والميدية بعد أن هزموا دولة آشور، وقد عرفت بالمرأة التي بنى نبوخذنصر الجنائن المعلقة لها لأنها كانت تشتاق لبلادها ذات الجبال الخضراء،[48] أما أولاده فقد عرف عن أميل مردوخ بأنه أول أبنائه ولكن هناك من شك بأنه لم يكن إبنه الشرعي كما ذكر بيروسوس ويوسيفوس فلافيوس[49] فأطيح به من قبل نرغل شراصر والذي شك المؤرخين به أيضاً فيما إذا كان الابن الآخر لنبوخذنصر أو صهره،[50] ونيكتوريس البابلية أيضاً والتي تمت تسمية إحدى قنوات بابل المائية بإسمها فهناك شكوك بانها ابنة نبوخذنصر أو إحدى قريناته، لكن على الأرجح هي إبنته، إذ يرجح الأكاديميين أن نبو نيد تمكن من أن يصبح ملكاً على بابل بعد زواجه منها، حيث إمتلك تلك الشرعية بعد إنجابه منها بلشاصر ونبوخذ نصر الثالث حفيدي نبوخذنصر.
نص الجواب
لم يأت نص من الوحي يبين زمن بختنصر هذا، وإنّما تطرّق أهل العلم إلى خبره في عدد من المناسبات، أشهرها في مناسبة تفسيرهم لقوله تعالى:
( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ، إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) الإسراء (4 – 7).
حيث ذكروا أن المرة الثانية كانت بعد موت يحيى ورفع عيسى عليهما السلام، وذكر بعض المفسرين؛ أن المَلِك الذي هاجم بني إسرائيل فدمر بيت المقدس في هذه المرة، هو “بختنصر”، وقيل غيره.
قال ابن أبي زمنين رحمه الله تعالى:
” ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ) يعني: آخر العقوبتين ( لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ) وهي تقرأ (ليَسُوءَ) أي: ليسوء الله وجوهكم ( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ) يعني: بيت المقدس ( كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) أي: وليفسدوا ما غلبوا عليه إفسادا؛ يقال: إن إفسادهم الثاني: قتل يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بختنصر، عدا به عليهم؛ فخرب بيت المقدس، وسبى وقتل منهم سبعين ألفا ” انتهى، من “تفسير ابن أبي زمنين” (3 / 13).
ومن الروايات الواردة في هذا ما رواه الطبري في “تفسيره” (14 / 503)؛ حيث قال: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ( بَعَثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ. قَالَ: فَكَانَ فِيمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، نِكَاحُ ابْنَةِ الْأَخِ. قَالَ: وَكَانَتْ لِمَلِكِهِمُ ابْنَةُ أَخٍ تُعْجِبُهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجُهَا، وَكَانَتْ لَهَا كُلُّ يَوْمٍ حَاجَةً يَقْضِيهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا، قَالَتْ لَهَا: إِذَا دَخَلْتِ عَلَى الْمَلِكِ فَسَأَلَكِ حَاجَتَكِ، فَقُولِي: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ لِي يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَأَلَهَا حَاجَتَهَا، فَقَالَتْ: حَاجَتِي أَنْ تَذْبَحَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: سَلِي غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ: مَا أَسْأَلُكَ إِلَّا هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ دَعَا يَحْيَى وَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ، فَبَدَرَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَتْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَلَّتْهُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ. قَالَ: فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ مِنْ سِنٍّ وَاحِدٍ، فَسَكَنَ ) وهذا الأثر إسناده ظاهره الحسن، وقد صححه الحاكم في “المستدرك” (2 / 290) فقال: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ”، ووافقه الذهبي.
وتقول الرواية أنّ الملك هيردوس كان متزوجاً من امرأة كبرت وغاب جمالها، وكانت لها ابنة رائعة الجمال اسمها هيروديا، وكانت ربيبة هذا الملك، وليست ابنته من صلبه، ثمّ وقع هيردوس في حبّ هيروديا، وطلبت منه زوجته أن يتزوجها كي لا تكون بعيدة عن النعمة، فقال لها هيردوس أنّه لن يفعل قبل أن يستفتي يحيى إن كان يصحّ أم لا، فلما استفتى يحيى نهاه عن الزواج منها، وأخبره أنّ هذا الأمر حرام في الشريعة، فلما عرفت أم الفتاة بذلك كرهت يحيى ودبّرت له خطة لقتله. زيّنت الأم ابنتها هيروديا بأفضل زينة، وألبستها أجمل الملابس وأدخلتها على هيردوس، وعندما تملكت عليه مشاعره تعرّضت له فأرادها على نفسه فأبت حتّى يُعطيها ما سألت، وسألته بأن يأتي برأس يحيى في طست، فرفض الملك بدايةً، ثمّ كررت ذلك عليه حتّى قبل وأمر بقتله؛ فقتل يحيى عليه السلام وهو في الصلاة، وقدّم رأسه إلى الملك في الطست والدم ينزف منه. انتقم الله تعالى لنبيه يحيى عندما صعدت زوجة الملك على سطح القصر وسقطت منه أرضاً، وبدأ الكلاب بالوثوب عليها وأكلها وهي تنظر إليهم، وكانت عينيها آخر ما أُكل منها.
وهذا الخبر غالب الظن أنه مما نقله ابن عباس رضي الله عنه عمن أسلم من أهل الكتاب، فهو رضي الله عنه ينقل أحيانا من أخبارهم و قصصهم؛ خاصة ما ورد عنه من طريق سعيد بن جبير.
وقال صاحب كتاب “التقرير في أسانيد التفسير” (ص 51):
” من أصح الروايات عن عبد الله بن عباس: رواية سعيد بن جبير وكان مكيّا مقدما، فهذا علي بن المديني يقدمه على سائر أصحاب عبد الله بن عباس، وهو أكثر الرواة عنه رواية، وأكثر التابعين من المكيين عناية بالإسرائيليات، وما يروى عن ابن عباس من هذا النوع ، فأكثره من طريقه .
ويروي عن ابن عباس في أمور الغيبيات من أخبار السابقين وأحوال القيامة مما يحتمل أخذه من بني إسرائيل” انتهى.
وروى الطبري في تاريخه (1 / 586 – 587) من طريق السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس- وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود- وعن ناس من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قصة طويلة عن بختنصر توافق خبر ابن عباس السابق.
لكن يغلب الظن أنهم أخذوها عمن أسلم من أهل الكتاب.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) رواه البخاري عن عبد الله ” انتهى، من “تفسير ابن كثير” (1 / 8).
ثانيا:
المحققون من أهل العلم غلّطوا من ذكر أن بختنصر هو الذي نكّل ببني إسرائيل في المرة الثانية بعد زمن عيسى عليه السلام؛ لأنه قول مخالف للمعتمد في التاريخ أن بختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل جدا .
وممن نصّ على ذلك الطبري رحمه الله تعالى في “تاريخه” (1 / 589)؛ حيث قال:
” وهذا القول- الذي روي عمن ذكرت في هذه الأخبار التي رويت ، وعمن لم يذكر في هذا الكتاب، من أن بختنصر، هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكرياء- عند أهل السير والأخبار والعلم بأمور الماضين في الجاهلية، وعند غيرهم من أهل الملل = غلط، وذلك أنهم بأجمعهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعيا ، في عهد إرميا بن حلقيا، وبين عهد إرميا وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكرياء أربعمائة سنة ، وإحدى وستون سنة في قول اليهود والنصارى، ويذكرون أن ذلك عندهم في كتبهم وأسفارهم مُبَيَّن … ” انتهى.
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
” قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بختنصر على بني إسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبي، ودانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشائيل. وقيل: إنما أرسله الله على بني إسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكريا. والأول أكثر ” انتهى. “الكامل” (1 / 228).
ويحتمل جدا؛ أن يكون هناك تشابه في الألقاب، فيحتمل أن الملك الذي دمر بيت المقدس بعد زمن يحيى عليه السلام كان يلقب بـ “بختنصر” ، لمشابهته لبختنصر الأول في القسوة والشدة والتخريب.
قال محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى:
” ومن الغريب: أن ابن جرير الطبري قال في تفسيره: إن الآية – قوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) – في اتحاد المسيحيين مع “بختنصر البابلي” على تخريب بيت المقدس ، مع أن حادثة بختنصر كانت قبل وجود المسيح والمسيحية بستمائة وثلاث وثلاثين سنة.
ولو لم يكن مؤرخا من أكبر المؤرخين لالتمس له العذر بحمل قوله على حادثة “أدرينال الروماني” الذي جاء بعد المسيح بمائة وثلاثين سنة، وبنى مدينة على أطلال أورشليم وزينها وجعل فيها الحمامات، وبنى هيكلا للمشترى على أطلال هيكل سليمان، وحرم على اليهود دخول هذه المدينة، وجعل جزاء من يدخلها القتل؛ فلذلك كان اليهود يسمونه “بختنصر الثاني” لشدة ما قاسوا من ظلمه واضطهاده ” انتهى، من “تفسير المنار” (1 / 431).
والخلاصة؛ أنه لا يعرف في نصوص الوحي الثابتة ما ينص على زمن بختنصر؛ وما ورد عن السلف في كونه بعد عيسى عليه السلام، فغالب الظن أنها أخبار مأخوذة عن أهل الكتاب، فيرجع الخلاف إلى روايات أهل الكتاب، وأهل التاريخ يرجحون الروايات القائلة بأنه كان قبل زمن عيسى عليه السلام.