5 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الاثنين

1 فلسفتنا السياسية لمعالجة الأزمة الرئاسية في العراق

أسعد تركي سواري
راي اليوم
الـــمـــقـــدمـــة :
تُعَدُّ السوابق القضائية مَنهجاً معتمداً في الفقه الدستوري يسير بموازاة منهجيَّة التعديل الدستوري لترميم النواقص الدستورية التي تغيب عن المشرّع الدستوري لحظة التأسيس ، الذي يشوبه عادةً التعجّل والارتجال والأدلجة من قادة النظام السياسي ، خشيةً من الثورة المضادة لأنصار النظام السياسي الذي أطيح به ، فتظهر الحاجة إلى تلك السوابق القضائية والتعديلات الدستورية عند السلوك السياسي والممارسة العملية في الحياة السياسية ، وبروز المتطلبات الجديدة للمجتمع وأجياله المتجددة عبر مرور الزمن ، ولكي يؤتي المنهجان الثمار المأمولة من اعتمادهما ، لابد أنْ يُحدّد الفقه الدستوري بوضوح الجهة المخوّلة القائمة على كلا من المنهجَين ، سواء السوابق القضائية أم التعديلات الدستورية ، لضمان عدم تداخل الصلاحيات وتجنّبا للارتباك الدستوري الذي ينجم عنه اهتزاز أركان النظام السياسي ، فالمرجعية العليا لكل مؤسسة سياسية ، فضلاً عن عدم تداخل الاختصاصات يُعَدَّان من أهم عوامل استقرار الأنظمة السياسية .
التأويل الدستوري والتكليف الجمهوري :
يعاني النظام السياسي العراقي عند كل عملية مخاض حكومي من أزمة التأويل المتباين للنصوص الدستورية ، ممّا يعيق عملية انبثاق الحكومة التي لا تولد إلاّ بعد تدخّل جراحي داخلي و خارجي ، فبعدما تم إجهاض التكليف الثاني الذي جاء بعد استقالة رئيس مجلس الوزراء العراقي ، بعث رئيس جمهورية العراق كتابه ذي العدد ( ٧٩٩ ) في ١٦ / ٣ / ٢٠٢٠ بعنوان ( صلاحية تكليف ) إلى السيد رئيس المحكمة الاتحادية ، يستفتيه حول صلاحية التكليف الواردة في الفقرة ( ثالثا ) من المادة ( ٧٦ ) من الدستور العراقي الدائم لعام ٢٠٠٥ ، المتعلقة بعملية التكليف الثالث لرئاسة مجلس وزراء العراق ، بعد استقالة رئيس مجلس الوزراء و فشل عملية التكليف الثاني ، وجاء جواب المحكمة الاتحادية بقرارها ذي العدد ( ٢٩ / اتحادية / ٢٠٢٠ ) الصادر في ١٦ / ٣ / ٢٠٢٠ الذي قضى بمنح رئيس الجمهورية الصلاحية الحصرية بتكليف مُرشَّح جديد لرئاسة مجلس الوزراء ، خلال خمسة عشر يوما من تاريخ فشل التكليف السابق ، ليعرض حكومته على مجلس النواب خلال مدة أقصاها ثلاثون يوما ، على وفق الفقرة ( ثالثا ) من المادة ( ٧٦ ) من الدستور ، مما دّفع بالسيد رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي إلى أنْ يدلي برأيه لتفسير نصّ المادة (٧٦) من الدستور بتاريخ 18 / 3 / 2020 ، الذي أشار فيه ما نَصّه أنَّ (( المادة ( ٧٦ ) من الدستور تضع نَصَّا حاكماً بعنوان مُرشّح الكتلة النيابية الأكثر عدداً التي نرى أنَّها الكتلة الفائزة في الانتخابات ، وليست التي تتشكل فيما بعد ، حسب رأي المحكمة الاتحادية الذي لا نتّفق معه بخصوص تفسير مفهوم الكتلة النيابية الأكثر عدداً ، …… ، وحقّ تكليف المرشّح ، بدون موافقة الكتلة التي رشّحته ، لا ينتقل لرئيس الجمهورية مُطلقاً ، لأنّ هذا التفسير خاطئ خاصّةً وأنَّه صَدَر عن محكمة ناقصة النِصاب قانوناً )) ، فَمَن هو صاحب الاختصاص المخوّل بتفسير النصّ الدستوري الذي ستكون له الكلمة الفصل ؟ .
الاختصاص القضائي لتفسير النص الدستوري :
تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى ، والمحكمة الاتحادية العليا ، ومحكمة التمييز الاتحادية ، وجهاز الادعاء العام ، وهيئة الإشراف القضائي ، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون ، على وفق المادة ( ٨٩ ) من الدستور ، إلا إنَّ الفقرة ( ثانيا ) من المادة ( ٩٣ ) نَصَّت على إنَّ المحكمة الاتحادية العليا هي التي تختصّ بتفسير النصوص الدستورية ، كما أنَّ المادة ( ٩٤ ) نَصَّت على إنَّ قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتَّة ومُلزِمة للسلطات كافَّة ، وبذلك لا يبقي أيّ أثرِ قانوني لتصريح السيد رئيس مجلس القضاء الأعلى ، فضلاً عما دونَه مِن المؤسسات والهيئات القضائية فيما يتعلّق بتفسير النصوص الدستورية كافَّة ، ومن بينها تفسير المادة ( ٧٦ ) محلّ النِزاع ، المتعلّقة بموضوع تكليف رئاسة مجلس الوزراء .
الكتلة البرلمانية الأكبر ورئيس الجمهورية في مفترق التكليف الثاني :
انبثق اتجاهان بشأن الصلاحيَّة الدستورية المتعلّقة بالتكليف الثاني لرئيس مجلس الوزراء، فالاتجاه الأول يدعم الكتلة البرلمانية الأكبر التي تمَّ إعلانها في الجلسة البرلمانية الأولى بعد المصادقة على نتائج الانتخابات وبقاء صلاحيّتها الدستورية بتقديم مرشّح لرئاسة مجلس الوزراء إلى رئيس الجمهورية الذي يتوجّب عليه تكليفه دستوريّاً ، والاتجاه الثاني يدعم انتقال الصلاحيَّة الدستورية من الكتلة البرلمانية الأكبر إلى رئيس الجمهورية ، عند التكليف الثاني وما بعده ، وكلّ اتجاه يسوق أدلّته وعلى النحو الآتي :
أولاً : أدلَّة الاتجاه الداعم للكتلة البرلمانية الأكبر التي أعلنت في الجلسة البرلمانية الأولى :
يَستدلُّ أنصار الكتلة البرلمانية الأكبر على بقاء صلاحيَّتها الدستورية بالترشيح عند كل عمليَّة تكليف لرئاسة مجلس الوزراء بأنَّ نَصّ الفقرة ( ثالثا ) من المادة ( 76 ) من الدستور العراقي الدائم ، مُقيَّدٌ بأنْ يكون المرشّح من الكتلة النيابية الأكثر عدداً لأنَّ الفقرة ( ثالثا ) تقول يُكَلِّفُ مُرشَّحا جديداً ، والمرشّحُ لا يكون مرشَّحاً إلا بترشيحٍ مِن جهة ما ، وليس في المادة ( ٧٦ ) سوى جهة ترشيح واحدة هي الكتلة النيابية الأكثر عددا ، وبالتالي فعلى رئيس الجمهورية تكليف مُرشَّح الكتلة الأكثر عدداً ، ولا ينتقل الخيار له لوحده مطلَقاً .
إشكالاتٌ على الدليل :
يمكن الردُّ على الاستدلال أعلاه بوجهين :
1 – الوجه الأول : يمكن القول بأنَّ القصد من كلمة ( مُرَشَّح ) تشير إلى معنى أنَّ الُمرَشّح لحظة التكليف سيبقى مُجرَّد مرشح لتولّي رئاسة مجلس الوزراء ولن يتولاها دون حصوله على ثقة البرلمان ، بقطع النظر عن الجهة التي رشَّحته ، ببيان آخر ، إنَّ توصيفه بوصف ( مُرشَّح ) يشير إلى أنَّه لم يُحسَم تولّيه منصب رئاسة مجلس الوزراء ، وإنَّما سيبقى مُرشَّحاً لتولّيته ، ومَنْ يحسم تمرير الترشيح وإتمامه مِن عَدَمه هو نَيْل ثقة البرلمان لاحقاً ، وبذلك لا تعني بالضرورة أنْ يكون مُرشًّحاً من جهةٍ محدّدة .
2 – الوجه الثاني : إنَّ الفقرة ( ثالثاً ) ، والفقرة ( خامساً ) من المادة ( 76 ) من الدستور المختصّتان بالتكليف الثاني وما بعده ، لم تذكرا الكتلة البرلمانية الأكبر ، كما فعلت في الفقرة ( أولاً ) من المادة ذاتها ، وبذلك يمكن القول بأنَّ كلمة ( مُرّشَّح ) تشير إلى أيّ مُرَشَّحٍ يُكَلّفهُ رئيس الجمهورية ، بقطع النظر عن جهة ترشيحه ، فوصف المرشَّح لا يتوقف إضفائه على وجوب أنْ يكون مُرشَّح الكتلة الأكبر .
ثانياً : أدلَّة الاتجاه الداعم لرئيس الجمهورية :
يَستدلُّ أنصار الاتجاه الداعم لرئيس الجمهورية الذين يرون انتقال الصلاحيَّة الدستورية من الكتلة البرلمانية الأكبر إلى رئيس الجمهورية ، عند التكليف الثاني وما بعده ، بالأدلَّة الآتية :
1 – الدليل الأول :
إنَّ رئيس الجمهورية يلتزم بتكليف مُرشحَّ الكتلة الأكبر فقط عند التكليف الأول على وفق الفقرة ( أولا ) من المادة ( 76 ) من الدستور ، التي أشارت إلى الكتلة البرلمانية الأكبر ، أما في حالة التكليف الثاني وما بعده ، فيكون الخيار لرئيس الجمهورية على وفق الفقرتين ( ثالثا ) و ( خامسا ) اللتان لم تشترطا أنْ يكون الترشيح من الكتلة البرلمانية الأكبر ، وهذا يَدلُّ على أنَّ المشرّع الدستوري قد تخلّى عن الكتلة البرلمانية الأكبر في التكليف الثاني وما بعده .
إشكالاتٌ على الدليل الأول :
ويُشكَل على الدليل الأول بوجهين :
1 – الوجه الأوّل : تسالَم الفقه الدستوري على أنْ تكون اللغة الدستورية شديدة الاقتضاب والاختصار والتركيز ، ولذا اكتفى المُشرّع الدستوري بالإشارة إلى الكتلة البرلمانية الأكبر في الفقرة ( أولا ) من المادة ( 76 ) ، وإعادة ذكرها في الفقرات اللاحقة للمادة الدستورية ذاتها ، التي تعالج موضوعاً واحداً ، وهو موضوع تكليف رئيس مجلس الوزراء ، يُعَدُّ تطويل بلا طائل ، وهو خلاف اللغة الدستورية .
2 – الوجه الثاني : باتَ مِنَ البديهيات المطويَّة في الفقه الدستوري أنْ تُعّدُّ المواد الدستورية السابقة حاكمةٌ على المواد الدستورية اللاحقة في الدستور الواحد ، والفقرات السابقة تكون حاكمة على الفقرات اللاحقة للمادة الدستورية ذاتها ، ما لم تَرِدُ قرينة دالَّة على خلاف ذلك في الفقرة الدستورية اللاحقة ، ولذلك اقتصرَ المشرّع الدستوري على الإشارة إلى الكتلة البرلمانية الأكبر في الفقرة ( أولا ) من المادة ( 76 ) من الدستور ، بوصفها الجهة الوحيدة التي تمتلك الصلاحيَّة الدستوريَّة لترشيح رئيس مجلس الوزراء ليُكَلِّفَه رئيس الجمهورية ، ولم يُكَرّر الإشارة إلى الكتلة البرلمانية الأكبر في الفقرتين ( ثالثا ) و ( خامسا ) من المادة ( 76 ) ، لأنَّ الفقرة ( أولا ) حاكمة على كلتا الفقرتين .
2 – الدليل الثاني :
يستدلُّ بعض أنصار الاتجاه الداعم لرئيس الجمهورية بأنَّ الفعل ( يُكَلِّف ) يفيد التقييد والفعل ( يتولّى ) يفيد الإطلاق ، اللذان وردا في المادة ( ٧٦ ) من الدستور ، ، فقد ورد الفعل ( يُكَلِّف ) مرتان ، عند التكليف الأول في الفقرة ( أولاً ) ونصّها : (( يُكَلِّف رئيس الجمهورية ، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً … )) ، وعند التكليف الثاني كرّر المشرّع الدستوري الفعل ( يُكَلِّف ) في الفقرة ( ثالثاً ) ونَصّها (( يُكَلِّف رئيس الجمهورية ، مرشحاً جديداً لرئاسة مجلس الوزراء … )) ولكنَّه لم يذكر الكتلة البرلمانية الأكبر ،
أما الفعل ( يتولّى ) فَيُفهَم منه الإطلاق ففي الفقرة ( ثانياً ) أطلَقَ صلاحيَّة رئيس مجلس الوزراء المًكَلَّف ، ونصّها (( يتولّى رئيس مجلس الوزراء المُكلَّف تسمية أعضاء وزارته …) ، فلم يشترط عليه أنْ يكون أعضاء وزارته من أيّ جهة ، وكرّر المشرّع الدستوري الفعل ( يتولّى ) الذي يُفهَم منه إطلاق صلاحيَّة رئيس الجمهورية عند التكليف الثالث في الفقرة ( خامساً ) من المادة ( ٧٦ ) التي تنصّ على أنْ (( يتولّى رئيس الجمهورية تكليف مرشحٍ آخر بتشكيل الوزارة … )) ، ولم يشترط على رئيس الجمهورية أنْ يكون ذلك المرشّح من جهة معيّنة ، وبذلك تنتقل الصلاحية الدستورية في ترشيح المكلَّف لرئاسة مجلس الوزراء ، عند التكليف الثالث على أضعف استدلال ، الوارد في الفقرة ( خامساً ) ، من الكتلة البرلمانية الأكبر إلى رئيس الجمهورية .
إشكالاتٌ على الدليل الثاني :
يُشكَلُ على الدليل الثاني بوجهين :
1 – الوجه الأول ( الوجه اللفظي ) : تجيب المعاجم اللغوية على هذا الاستدلال ، إذْ أبان المعجم الوسيط معنى كلمة ( يتولّى ) الأمر بأنّها تعني ، يتقلَّده ويقوم به ، أما معجم المعاني فقد أوضح بأن كلمة ( يُكَلِّف ) أمراً ، فتعني يُوجب ويَفرض ويُوكل ويعهد به لإنجازه ، وممّا تقدّم يتّضح بأنَّه لا إشارة للإطلاق والتقييد اللذان استدل بهما لغويا لتدعيم اتجاه منح الصلاحية الحصرية لرئيس الجمهورية لتكليف مُرشَّح جديد بعد الإخفاق الأول لعملية التكليف .
2 – الوجه ( الوجه الدلالي ) : إنَّ كلمة ( يُكَلِّف ) وردت مرتان ، المرة الأولى في الفقرة ( أولا ) قَيَّدت الترشيح في الكتلة النيابية الأكبر ، أمّا المرة الثانية في الفقرة ( ثالثا ) من دون ذكر الكتلة النيابية الأكبر ، بمعنى أنّها أطلَقَت الترشيح ، لعدم ذكر أيّ جهة مسؤولة عن الترشيح ، وذلك يعني أن كلمة ( يُكَلِّف ) بدايةً أفادت التقييد وثانياً أفادت الإطلاق ، بمعنى يُحتَمَلُ فيها الإطلاق والتقييد كلاهما ، وإذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال ، كما يُعَبّرون في علم المنطق .
فـــلـــســـفـــتـــنــا الـسـيـاسـية لمعالجة الأزمة الرئاسية :
تنطلقُ فلسفتي السياسية في معالجة الأزمة الرئاسية من الفلسفة التي ابتغاها الفقه الدستوري في إقامة الكتلة البرلمانية الأكبر في الأنظمة السياسية البرلمانية ومنها النظام السياسي العراقي ، فقد أوجبت المادة الدستورية ( ٧٦ ) على رئيس الجمهورية تكليف مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر ، إذ تنصّ في الفقرة ( أولا ) على أنه (( يُكَلِّف رئيس الجمهورية ، مرشَّح الكتلة النيابية الأكثر عددا ، بتشكيل مجلس الوزراء ، خلال خمسة عشر يوماً ، من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية )) ، ومع أن الفقرة ( ثالثا ) ، و الفقرة ( خامسا ) من المادة ( ٧٦ ) ذاتها ، قد أوجبا على رئيس الجمهورية ، تكليف مُرشَّحٍ جديد ، في حالة إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة ، وحالة عدم نيل الوزارة ثقة البرلمان ، دون أنْ يشترط النصّ الدستوري في الفقرتين ( ثالثا ) و( خامسا ) على رئيس الجمهورية في أنْ يكون المُكلَّف الجديد مُرَشَّحاً مِن الكتلة النيابية الأكبر ، إلا أنَّه تُعّدُّ من البديهيات المطوية في الفقه الدستوري ، أنْ تكون المادة الدستورية السابقة حاكمة على المادة الدستورية اللاحقة ، مالَمْ يَرِد نَصَّاً صريحاً خلاف ذلك ، وبذلك ستكون الفقرة ( أولا ) حاكمة على الفقرتين ( ثالثا ) و ( خامسا ) قولاً واحداً، بما يُوجب على رئيس الجمهورية تكليف مُرشّح الكتلة النيابية الأكبر ،
وفلسفتي في المعالجة تكمن بأنَّ مِصداق الكتلة البرلمانية الأكبر يتجدّد عند كلّ تكليف جديد ، فمصداقها متعدّد بتعدّد التكليف ، لأنَّ فلسفة الفقه الدستوري بأنْ يكون رئيس مجلس الوزراء مُرشَّحا من الكتلة البرلمانية الأكبر ، تهدف بدايةً إلى تمرير كابينته الوزارية عند عملية التصويت عليها لنيل ثقة البرلمان ، ولاحقاً لتمرير مشاريعه الحكومية بعد تولّيه منصب رئاسة مجلس الوزراء ، بما يحقّق البرنامج الحكومي خدمةً وتحقيقاً لمصالح المجتمع ،ولذلك أطرح رأياً ثالثاً مخالفاً لرأي المحكمة الاتحادية القاضي بمنح الصلاحية الحصرية للسيد رئيس الجمهورية بتكليف مرشح لرئاسة مجلس الوزراء بعد فشل التكليف السابق ، من جهة ، ومخالف لرأي السيد رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي يرى بأن الكتلة الأكبر هي الكتلة النيابية التي أعلنت بعد الانتخابات في الجلسة الأولى وهو ما كان سائدا طيلة الدورات البرلمانية السابقة عند تشكيل الحكومة ،
والرأي الذي أطرحه هو أنَّ الترشيح يبقى مٍنْ صلاحية الكتلة البرلمانية الأكبر ، ولكنّها ليست تلك الكتلة التي تمَّ إعلانها في الجلسة البرلمانية الأولى وحسب ، وإنّما الكتلة البرلمانية التي تُعلَن عند كل عملية تكليف مرشَّح جديد لرئاسة مجلس الوزراء ، وذلك تحقيقاً لفلسفة إقامة الكتلة البرلمانية الأكبر التي تقوم على مُبّرِرَيْن هما :
المبرّر الأول : هو لحيازتها على أكبر نسبة من احتمالية حصولها على ثقة البرلمان من باقي الكتل البرلمانية الأخرى ، بما يُسهّل عملية ولادة الحكومة بأسرع وقت .
المبرّر الثاني : هو لتمرير مشاريع الحكومة بعد انبثاقها بحكم توافر الثقل التصويتي الأكبر الداعم للمشاريع ، الذي يتمثّل بتصويت أعضاء الكتلة البرلمانية الأكبر .
إذْ إنّ بقاء الرأيَيْن الأولَيْن ، سيحول دون ولادة الحكومة فضلاً عن إمكانية تحقيق برنامجها الحكومي وتمرير مشاريعها لاحقاً ، وبالتالي يتم إفراغ الكتلة البرلمانية الأكبر من فلسفتها ، فتغدو سالبةً بانتفاء المحمول ، كما يُعبّرون في علم المنطق ، وكل ذلك سيؤثر على المصالح العامة للمجتمع بما ينعكس سلباً على استقرار النظام السياسي .
الصياغة المقترحة لمعالجة الأزمة الرئاسية بقرار جديد من المحكمة الاتحادية :
ينطلق الفقه الدستوري والقانوني في تشريعاته من مبدأ تحقيق المصالح العامة للمجتمع ودرء المفاسد عنه ، ولذا نرى الدساتير تُعدل على الرغم من سموّها ، بل إنَّ القرآن الكريم وهو النصّ الإلهيّ المُقَدّس ، قد تَضَمَّنَ آيات قرآنية نَسَخَت آيات سبقتها ، بمعنى عَدَّلتْ أو عَطَّلَت أحكام الآيات التي سبقتها ، لِحكمة إلهيَّة استهدفت التدرّج في تربية وتكامل المجتمع الإنساني ، وبذلك يمكن القول بنسخ وإلغاء أيّ قرار صادر عن أيّ مؤسسة مهما بلغ سموّها ، طالما كان ذلك يُحقّق المصالح العامة للمجتمع ، ولذا أقترح النصّ الآتي لمعالجة قرار المحكمة الاتحادية الذي قضى بانتقال الصلاحية الحصرية إلى رئيس الجمهورية في التكليف الثالث لرئيس مجلس الوزراء ،
والنصّ المقترح هو :
(( نظرا لمقتضيات المصالح العامة للمجتمع وتجنّبا لأزمة الجمود السياسي المحتملة عند كل عملية تكليف لرئاسة مجلس الوزراء ، تقرَّر إلغاء قرارنا السابق ذي العدد ( ٢٩ / اتحادية / ٢٠٢٠ ) الصادر في ١٦ / ٣ / ٢٠٢٠ الذي قضى بمنح رئيس الجمهورية الصلاحية الحصرية بتكليف مُرشَّح جديد لرئاسة مجلس الوزراء ، خلال خمسة عشر يوما من تاريخ فشل التكليف السابق ، ويحلُّ َمَحلَّه القرار الآتي :
يُكَلِّفُ رئيس الجمهورية مُرشَّحَ الكتلة النيابية الأكثر عدداَ التي يتم إعلانها عند كل عملية تكليف لرئاسة مجلس الوزراء ، وليست التي تُعلن في الجلسة البرلمانية الأولى بعد إعلان نتائج الانتخابات وحسب ، وذلك بهدف زيادة فرص انبثاق الحكومة ، وتحقيق برنامجها الحكومي لوجود كتلة برلمانية أكبر داعمة لها خدمةً للمجتمع وتحقيقاً لمصالحه العامة ، على وفق الفقرة ( أولا ) ، و( ثالثا ) ، و( خامسا ) من المادة ( ٧٦ ) ، خلال خمسة عشر يوماً ، من انتخاب رئيس الجمهورية ، وعند كل عملية تكليف لرئاسة مجلس الوزراء )) .
الــخــاتــمــة :
تبيّن فيما تقدَّم وجود تباين حادّ داخل السلطة القضائية ، يُنذرُ بخطر جسيم ، سيدخل النظام القضائي ومن خلفه النظام السياسي بمنزلق خطر جديد ، كما يُعبّر بوضوح عن غياب المرجعية المؤسسية في النظام السياسي القائم ،
وإذا كانت السلطة القضائية هي الملاذ المرتجى لفض نزاع السلطتين التشريعية والتنفيذية ، فبمن تلوذ السلطة القضائية عند تنازع أجنحتها المؤسسية ؟! ،…
وهي بذلك مصداقٌ لقول الشاعر : إلى الماء يَسعى من يَغُصُّ بِلُقمَةٍ – إلى أين يَسعى مَنْ يَغُصُّ بماءِ ؟! .
كما يصدق عليها ما قاله المتنبي : … فيك الخِصامُ وأنت الخصم والحَكَم ،
، لا شَكَّ أنَّ ما يمرّ به العراق الجديد يُعد بمثابة الإرهاصات التي تقتضيها حداثة التجربة لكل نظام سياسي ناشئ يخوض تجربة ومخاض التحوّل الديمقراطي ، والمدى الزمني اللازم لنضوج التجربة ، ومقدار التضحيات الكفيلة بتحقيق الاستقرار للنظام السياسي والمجتمع ، مرهونة بدرجة الوعي السياسي للقوى الفاعلة في المجتمع ، وبمستوى النزاهة والوطنية لدى القوى السياسية المتصدّية لقيادة النظام السياسي ،
حفظ الله تعالى العراق العظيم وشعبه الكريم .

2 هل الدجاجة الفاسدة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟!

صباح علي الشاهر
راي اليوم

هل السياسيون الإسلاميون أو من زعموا تحولهم من دعاة إلى ساسة، و من جلوس القرفصاء في الجامع إلى كراسي السلطة الوفيرة ، سنة وشيعة هم لوحدهم الفاسدون فقط ، أم الفساد يشمل طيفاً واسعاً من الفاسدين المفسدين ، ممن جاؤا مع المحتل أو إلتحقوا به فيما بعد ؟
خروج رجل الدين ، أي دين ، من المعبد أو الكنيسة أو الجامع والدخول في دهاليز السياسة ، يستوجب خروجه من مفهوم الداعية ، وما يتطلبه هذا من هداية وإرشاد ونصح ، إلى مفهوم رجل السلطة ، بكل ما في السلطة من متطلبات أغلبها يتنافى مع روح أي دين سماوي أم غير سماوي ، هذا الإنتقال من رحاب الدين إلى رحاب السياسة يُسيء للدين ، ولا يضيف للسياسة شيئاً ، سوى مزيد من الفساد المتلفع بعباءة المقدس ، وهو كتحصيل حاصل سيسيء للمقدس ، وبالضرورة سيجعل (رجال الدين) مثار سخرية المسحوقين والمهمشين ، وهم عماد وإحتياطي أي دين أو حركة دينية ، أما بالنسبة للمثقفين فسيكون (رجال الدين) مادة للتندر والإستهزاء ، وكما هو حاصل الآن .
من المؤكد أن الساسة المتلفعين برداء الدين بعد الإحتلال تفوقوا على سواهم من الحكام السابقين في الفساد والنهب والإحتيال ، وبذا حكموا على تجربتهم بالفشل الآن وفي الغد، ولكن هل هذا الذي يزعق ضد الفاسدين الشيعة والسنة ، يجهل بيئة الفساد ، ومُسببيه أم يتجاهل السبب الحقيقي لأمر في نفس يعقوب؟
يخيل لي أن المنتمين للأحزاب الفاشلة بعد أن تجاوزتهم الأحداث ، وجدوا في رفع شعار معاداة الإسلام الشيعي والسني تعويضا عن النضال الطبقي أو القومي ، متصورين أن هذا الموقف اللفظي من فساد الأحزاب الإسلامية يعفيهم من مراجعة تأريخهم القديم والجديد وإصلاح الأخطاء الكارثيه التي وقعوا بها، والتي تسببت في دمار الوطن .
هل حشدت أمريكا المعارضة الإسلامية ، أم أنها حشدت المعارضة العلمانية ، واليسارية تحديداً ، قبل أن تفلح في إلحاق الإسلاميين ، سنة وشيعة بركابها؟
هل كان مجلس الحكم إسلاميا ، وهل كانت حكومة إبريمر إسلامية ؟
من هو أول رئيس وزراء في ظل الإحتلال ، ألم يكن علمانياً ، معاديا للإسلاميين ، ومتأمركاً حتى العظم ؟
من هو أول رئيس جمهورية ؟ أولم يكن أمريكيا ، عشائريا ، سعودياً ، لا علاقة له بالحركات الإسلامية ، ورئيس الجمهورية الثاني أولم يكن من الإشتراكية الدولية ، وتقلد المنصب من بعده (كادر) من كوادر حزبه ، ثم آل المآل أخيراً إلى الرئيس البريطاني الحالي الذي لايمكن بأي حال وصفه بصفة الإسلاموي ؟
وبإستثناء شخصان تقلدا رئاسة البرلمان وهما محسوبان على الإسلام السني ، فإن من تقلد هذا المنصب فيما بعد شخصيات تعلن جهاراً عدائها للحركات الإسلامية، وتعتمد المال والعشيرة ، والأحزاب المدنية في تبوئها لهذا المنصب .
لقد تحول منصب رئاسة الوزراء لأول مرة إلى الأحزاب الشيعية منذ تسلم الجعفري رئاسة الوزراء ، ومن ثم المالكي ، والعبادي ، وعبد المهدي، الذي من المحتمل أن يكون آخر رئيساً للوزراء من الأحزاب الإسلامية الشيعية .
هل كان فساد وزراء المرحلة ما بعد الإحتلال هم وزراء الإسلام الشيعي أو السني ؟ ، أين نضع فساد وزير الدفاع حازم الشعلان الذي هرب بأكثر من مليار دولار ، وأين نضع فساد أيهم السامرائي الذي حكم بالفساد وأخرجته القوات الأمريكية عنوة من السجن بإعتباره مواطناً أمريكيا ؟، وماذا عن فساد القوات الأمنية التي إختارها المحتل وفرضها على السلطات الصورية ، وفساد الشرطة والقضاء ، وفضائح التعليم ، والإدارات المحلية في كامل العراق ؟، والوزارات التي تقلدها غير الإسلاميين ، وفساد الأحزاب الكردية ، والحكم العائلي في جمهوريتي كردستان شبه المستقلتين ؟
أهو من قلة الوعي ، أم أمراً مقصوداً رفع شعارات تحمل في طياتها مواصلة الإحتراب ، بحجة فساد الشيعة أو السنة ؟ ، وكل نهج طائفي هو فاسد بداهة، ولكن الأفسد لا يشار له ، ولا حتى إشارة خجولة ، والأفسد ، والذي هو الشر كله، الإحتلال الذي منح البلد ومقدراته لوكلاء إختارهم ، لا هم لهم سوى النهب .
أولئك الذين إمتهنوا التبعية وبيع عرق الجبين مقابل حفنة من الدولارات تمنح لهم كأفراد وجماعات ، وتنظيمات ، قبل الإحتلال وما بعد الإحتلال صدعوا رؤس الناس بكون العراق سيصبح منارة الشرق الأوسط في الرفاهية والديمقراطية والنمو المستدام بظل المحتل ، أليسوا هم مساهمين في هذا الخراب الذي لا مثيل له ، وهل يكفي يساري تناسى يساريته ، أو قومي تناسى شعاراته القومية ، أو بعثي سابق، تناسى شعاره المثلث القاعدة ، هل يكفي هؤلاء سب الإسلام الشيعي والسني ، وهل يشفع لهم عدم إتخاذ موقف من أس الفساد والإفساد ، والسبب المباشر للكوارث التي أحاقت بالعراق وما تزال؟

3 العراق: تسوية على نار الوباء
سام منسى

الشرق الاوسط
لم يحجب كابوس وباء «كورونا»، شاغل الكرة الأرضية برمّتها، المناوشات الجارية في العراق بين الجيش الأميركي والميليشيات العراقية الشيعية الموالية لـ«الحرس الثوري» الإيراني والتي خلفت مؤخراً ضحايا من الطرفين، ما يدفعنا إلى السؤال عن مسار تصاعد التوتر في بلاد الرافدين. فهذا الكر والفر الدائر يطرح جملة من التساؤلات؛ أولها حول اختيار إيران لهذا التوقيت لتأجيج العنف في العراق عبر أذرعها وهي اليوم في أمسّ الحاجة إلى من ينجدها من وباءين: وباء العقوبات ووباء تفشي فيروس «كورونا المستجد»، وكلاهما في ظل تدهور اقتصادي – اجتماعي ونزاعات سياسية داخلية لم تعد كامنة وانهيار لسعر النفط. وثانيها هو مستوى الرد الأميركي وحجمه والذي قد ينعكس حتماً على مستقبل انخراط واشنطن في هذه المنطقة.
بالنسبة إلى الدوافع الإيرانية، نبدأ بالإشارة إلى أن إيران مقتنعة بأن الرئيس دونالد ترمب لن يخفف الضغوط القصوى عليها في الوقت الراهن، ويبدو أنه لا يفكّر حتى في مساعدتها في هذه الأوقات العصيبة، علماً بأنها طلبت مساعدة صندوق النقد الدولي وهي العارفة سلفاً بعلاقته مع واشنطن. وتعرف إيران أيضاً أن إدارة ترمب تريد مثلها تماماً سحب قواتها من العراق وتستشعر أن المزيد من الضغوط على القوات الأميركية تحت عنوان الانتقام لمقتل قاسم سليماني قد يعجّل الجدول الزمني لهذا الانسحاب، ويمد إدارة ترمب بحجة إضافية للإقدام على هذه الخطوة بدون تداعيات عسكرية كبيرة عليها مع انشغال الولايات المتحدة بالحرب على العدو الفيروسي. ومع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، يصح الافتراض أن إيران لا تريد انسحاباً أميركياً فورياً، بل تريد الاحتفاظ به كورقة تفاوضية رئيسة مع واشنطن تتخطى المعطى العراقي.
وما يعزز هذا الافتراض هو الاتفاق الذي أجرته إدارة ترمب مع حركة «طالبان» في أفغانستان والذي منحها شرعية في بلدها على أن تتنازل عن حلمها بإقامة إمارة إسلامية تكون حاضنة للإرهاب الدولي. ولعل إيران تسعى إلى اتفاق مماثل يعطي نظامها شرعية في الداخل مع استثناء واحد هو الحصول أيضاً على شرعية لوجودها في العراق فيكون ترمب قد سلمها مرة أخرى بلاد الرافدين على طبق من ذهب. وليس من السذاجة القول إن الشوكة العراقية لا تزال حتى اليوم في حلق النظام الإيراني، وبغضّ النظر عن حلم تصدير الثورة والتوسع الشيعي، ما تريده فعلياً هو إحكام السيطرة على هذه الحديقة الخلفية التي لطالما اعتبرتها مهددة لها.
في المقلب الأميركي، لا نستغرب أن يقْدم ترمب على اتفاق مماثل؛ لا سيما أن استراتيجيته الأساسية تقوم على سحب قواته من مناطق النزاع في المنطقة، أو أقله إعادة التموضع بما يرضي إيران عبر تسوية غير مباشرة. وتجدر الملاحظة أن واشنطن غالباً ما لا تستعجل الرد على الهجمات التي تستهدفها، وهي اليوم متريثة أكثر من أي وقت مضى وتضع الأوضاع الداخلية العراقية تحت المجهر. ولعل أكثر ما يهمها اليوم وهي قاب قوسين من الانتخابات الرئاسية، هو تمرير تكليف عدنان الزرفي لتشكيل حكومة خلال شهر، وسط معارضة واضحة من حلفاء إيران في العراق بحجة أن تعيينه مخالف للدستور، أو أنه مؤيد للاحتجاجات الشعبية المنددة بهيمنة طهران على البلاد، أو تحت ذريعة الفساد أو علاقته الوثيقة بأميركا، ووصل الأمر بإحدى الميليشيات إلى التهديد بقلب أي حكومة يشكّلها. أما مقتدى الصدر، فلا يزال موقفه ملتبساً وغير واضح، علماً بأن علاقته باردة مع الزرفي ويتهمه بأنه لم يحرّك ساكناً يوم ضُرب في النجف عام 2004 إبان الدخول الأميركي إلى العراق، وفي المقابل، يتهم الزرفي «القبعات الزرق» التابعة للصدر بقمع المتظاهرين في حركة الاحتجاجات الأخيرة.
هذا الارتباك الذي تتخبط فيه الفصائل العراقية الشيعية لم يغب عن العين الأميركية، كما لم يغب عنها أنه انعكاس لارتباك في الداخل الإيراني. فالضربة الكبرى التي شكّلها مقتل سليماني تزامنت مع ضربة إشهار غالبية العراقيين بطوائفهم كافة رفضهم لوجودها في بلادهم، وتبعها فشل محاولات الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الأدميرال علي شمخاني، في معالجة الصراع على السلطة بين مختلف الميليشيات العراقية الموالية لطهران وما تشهده من تفكك وانشقاقات، إلا مؤشرات على وطأة الضربتين على إيران. يضاف إلى ذلك سبب رئيس في عجز إيران عن تنظيم البيت الشيعي في العراق وهو فشلها الذريع في توسيع نفوذها الديني فيه وسط إصرار حوزة النجف على البقاء مستقلة مالياً وعقائدياً عن نظام الملالي. ولعل تجرؤ الصدر على انتقاد فتوى المرجع الأعلى في العراق علي السيستاني بعدم إقامة صلاة الجماعة درءاً لانتقال عدوى «كورونا»، تدخل في هذا السياق.
أما في الداخل الإيراني، فقد ظهّرت أزمة تفشي فيروس «كورونا» النزاع بين سلطة الدولة ومؤسساتها وبين السلطة الموازية ومنظماتها التي عمل المرجع الأعلى الإيراني علي خامنئي لعقود على إنشائها. فالعسكريون وعلى رأسهم قائد هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الجنرال محمد باقري، يزاحمون الرئيس حسن روحاني في صلاحياته، وما رفضهم تكليف وزارة الصحة لإدارة هذه الأزمة وإسناد هذه المهمة إلى منظمة الدفاع السلبي الذي يشرف عليها باقري سوى خير دليل على ذلك.
وفي ظل هذه المشهدية، يبدو في المحصلة النهائية أن طهران وواشنطن تتلاقيان عند أكثر من تقاطع في العراق. فالعاصمتان تديران قواعد الاشتباك بينهما وتمارسان ضغوطاً متبادلة مدروسة دون تنفيذ ضربات قاتلة، اللهم إلا إذا استثنينا اغتيال سليماني، وذلك على خلفية رغبة مشتركة في انسحاب أميركي من العراق والتوصل إلى اتفاق بينهما، يعطي الطرفين متنفساً هما في أمسّ الحاجة إليه.
يبقى أن المطروح اليوم أمام الجميع هو أيُّ عراق بعد الانسحاب الأميركي؟ وهل إيران قادرة حقاً على ملء هذا الفراغ؟ وهل العراقيون أنفسهم قادرون بمكوناتهم كافة وطوائفهم المختلفة من سنة وشيعة وأكراد أن يملأوا الفراغ بعد الانسحاب، أم أن شبح مقديشو التي نهشتها الأحقاد ولا تزال بعد الانسحاب الأميركي من الصومال عام 1993 جراء مقتل الجنود الأميركيين، يَلوح في أفق مستقبل العراق؟
هذه الأسئلة تحرّكها الخشية من أن يجد الرئيس الأميركي في تسوية أميركية إيرانية حول العراق مساحة وحيدة متاحة قد تعوّض ما قد يخسره جراء تداعيات أزمة «كورونا» على الاقتصاد وأرقام البطالة في أميركا، وكلها كانت أوراقاً رابحة في سباقه مع المرشح الديمقراطي.
لن يغيب عن أحد في السياق نفسه دلالات إطلاق عامر الفاخوري المتعامل مع إسرائيل في لبنان والطريقة إلى هُرّب فيها إلى أميركا. كما الإفراج عن الأميركي المعتقل في إيران مايكل وايت والحديث عن معتقل ثالث في سوريا قد يلحق بهما.

4 حكومة الضرورة في العراق
يونس السيد

الخليج الاماراتية
من حيث المبدأ، لم يعد مفهوماً بقاء دولة بحجم العراق، من دون حكومة تتمتع بصلاحيات كاملة، في ظل التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والصحية الخطرة التي تهدد البلاد، إلى الدرجة التي بات فيها تشكيل حكومة فاعلة أكثر من ضرورة وطنية، بغض النظر عن حسابات القوى السياسية ومصالحها الذاتية.
للمرة الثانية، منذ بداية العام، وبعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي على وقع الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يتم تكليف شخصية سياسية بتشكيل حكومة جديدة، أسندت رئاستها إلى عدنان الزرفي العضو السابق في حزب «الدعوة»، ورئيس الكتلة البرلمانية لائتلاف «النصر»؛ بعد اعتذار محمد توفيق علاوي الذي أخفق في تمرير حكومته أمام البرلمان؛ لكن الزرفي محافظ النجف السابق أيضاً، سرعان ما اصطدم برفض كتل سياسية كبيرة ومؤثرة من المكون «الشيعي» الذي ينتمي إليه، ناهيك عن رفض الحراك الشعبي الذي وضع معايير محددة؛ لاختيار رئيس الوزراء، من بينها ألا ينتمي إلى الطبقة السياسية السائدة بعد عام 2003، وألا يحمل الجنسية المزدوجة، بينما يحمل الزرفي الجنسية الأمريكية إلى جانب العراقية، ويؤخذ عليه تعاونه السابق مع إدارة الاحتلال الأمريكي. لكن لماذا أثار تكليف الزرفي هذا الانقسام الحاد داخل «البيت الشيعي»؟
هناك سببان رئيسيان، بحسب المحللين، الأول هو الطريقة التي تم فيها تكليف الزرفي من قبل الرئيس العراقي برهم صالح حين تجاوز ما يُسمى ب«الكتلة الأكبر» في البرلمان، والتي يناط بها تسمية المرشح لرئاسة الحكومة، بحسب الدستور، وهي هنا كتلة «الفتح» التي يتزعمها هادي العامري، على الرغم من عدم إعلان ذلك رسمياً في الجلسة البرلمانية الأولى التي تلت الانتخابات الأخيرة. والسبب الآخر، وهو الأهم، يتعلق بالتدخلات الخارجية، وانعكاسات الصراع الأمريكي الإيراني على الداخل العراقي؛ إذ إن الكتل السياسية الرافضة للزرفي، والتي يتقدمها تحالف «الفتح» و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، وبعض الكتل الصغيرة، وهي الأكثر موالاة لإيران، باتت تخشى أولاً من تكريس سابقة تجاوز «الكتلة الأكبر» ما قد يؤدي في النهاية إلى ضياع حق «المكون الشيعي» في تشكيل الحكومة.
وثانياً، أن الزرفي المعروف بعلاقاته الأمريكية القوية قد يخل بالمعادلة القائمة لمصلحة واشنطن على حساب إيران وحلفائها. وثمة إشارة مهمة جاءت عقب اجتماع كتل «المكون الشيعي» في منزل زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم سعياً لتوحيد موقف هذا المكون برفض تكليف الزرفي؛ حيث لم يخفق الاجتماع في ذلك، فحسب؛ بل فشل أيضاً في الاتفاق على مرشح بديل للزرفي، الذي يبدو أنه رفع راية التحدي وواصل اتصالاته بالقوى السياسية الأخرى؛ حيث قيل إنه يحظى بدعم المكونين «السني والكردي» علاوة على تحالف «سائرون» ائتلاف «النصر» من «المكون الشيعي» واجتمع مع سفيرين عربيين ومع ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة بلاسخرت، كما حظي بدعم أمريكي جاء على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، وهي خطوات اعتبرت «مستفزة» من جانب الرافضين؛ لكن السؤال هل يدفع تفشي فيروس «كورونا» ونذر الانهيار الاقتصادي في البلاد إلى تشكيل حكومة ضرورة على الرغم من كل شيء؟!

5 العراق.. بين كورونا والخرافة
عالشة المري
الاتحاد الاماراتية

يعصف وباء كورونا (كوفيد-19) بدول العالم كلها تقريباً، وقد وجدت الحكومات نفسها في مواجهة وباء يتطلب اتخاذ إجراءات حازمة لاحتوائه ومحاربته، لكن في مجتمعات أَسَّست للخرافة ولم تُؤسِّس للعقل والعلم، تسقط كل الإجراءات الاحترازية والقرارات المفيدة، حيث يتعطل العقل تحت تأثير الخطابات الغيبية. ففي العراق قال أحد المراجع الدينية إن «الفيروس لا يصيب المؤمنين»، رداً على سؤال بشأن غلق بعض المراقد تحسباً لانتشار فيروس كورونا، وأصدر فتوى دعا فيها للاستمرار بزيارة الأماكن الدينية وإقامة صلوات الجماعة والجمعة.
وكانت السلطات العراقية، سعياً لمنع انتشار المرض، قد اتخذت إجراءات احترازية فور تفشي المرض في الجارة الشرقية (إيران) عبر إغلاق المنافذ الحدودية معها، وإيقاف المدارس، وخفض ساعات العمل في المؤسسات الحكومية إلى النصف، وفتح المحال التجارية لثلاث ساعات فقط يومياً، وتعليق صلاة الجمعة في بعض المدن مؤقتاً. كما اتخذت إجراءات مشددة لمنع انتشار الوباء في العتبات المقدسة لدى الشيعة، وفرضت حظر تجول لستة أيام (بدءاً من الثلاثاء الماضي) في أكثر من نصف محافظات البلاد الـ18، وبينها بغداد. كما أعلن السيستاني، المرجع الديني الشيعي الأعلى في العراق، وقف إقامة صلوات الجماعة في المساجد والالتزام بمنع التجمعات، معتبراً أن الحرب على فيروس كورونا «واجب كفائي».
وتخشى الحكومة العراقية انتشار الوباء، خاصة في أماكن الأضرحة والمقامات الشيعية التي يقصدها ملايين الزوار، خصوصاً من إيران التي تعد أحد أكثر البلدان تضرراً بالوباء، مع حقيقة أن العراق يعاني نقصاً مزمناً في المعدات الطبية والأدوية والمستشفيات.
لكن بعض رجال الدين يحرضون على تحدي إجراءات الوقاية الصحية التي لجأت إليها وزارة الصحة العراقية للحد من انتشار كورونا في البلاد، معتبرين أن التزام زوار المراقد بها فيه استهانة بقدرات الأئمة على الشفاء وتشكيك في قيمتهم. وحذّر خطيب شيعي معروف في العراق الزائرين من ارتداء الكمامات عند زيارة مرقد الإمام الحسين في كربلاء، لأن ذلك فعل لا يليق بزيارة الإمام.
ورغم حظر التجول المفروض، يصر البعض على «زيارة الكاظم» وإحياء ذكرى «استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم»، سابع الأئمة المعصومين لدى الشيعة الاثني عشرية، والذي يقع ضريحه في بغداد على ضفاف نهر دجلة، وقد صادفت ذكراه يوم السبت 21 مارس، حيث انطلقت مسيرات من الرجال والنساء في شوارع بغداد، محاولين تجاوز الأسلاك الشائكة التي نصبتها القوات الأمنية لصدهم، وقد ناشدت الزوار عبر مكبرات الصوت العودة إلى منازلهم والالتزام بتعليمات حظر التجول خشية انتشار الوباء.
وتوجه المتحدث باسم وزارة الصحة العراقية، سيف البدر، بخطابه لزوار الضريح: «أرجوكم، نحن في خطر داهم يهدد حياتنا وحياة أطفالنا، يجب أن تلزموا بيوتكم، وأن تلتزموا بتعليمات وزارة الصحة.. الزيارة مستحبة، لكن حفظ الأرواح واجب. إذا لم يتم إيقاف الزيارة الليلة فسوف تكون هناك حالات تفشِّ للوباء قد تصعب السيطرة عليها».
وفي هذه الظروف دعا رجل دين عراقي آخر إلى حرق وتبخير الأعشاب داخل المستشفيات، ورفع رايات فوقها تحمل صور الأئمة، كي لا يُصاب الناس بالمرض.. وقد تجد مقترحات كهذه، تتغذى على الخرافة، صدى لدى فئات كبيرة من المجتمع، ليضاف وباء كورونا لأزمات العراق السياسية المتجددة.