1 العراق يشكو الكويت
عادل نايف المزعل
الأنباء
ليس مستغربا توجه العراق في السابع من شهر أغسطس الماضي برسالة إلى مجلس الأمن يتهم فيها الكويت بإحداث تغييرات جغرافية في الحدود البحرية بين البلدين وأن المندوب العراقي لدى المنظمة السفير محمد بحر العلوم سلم رسالة إلى رئيس مجلس الأمن طالبا تعميمها وإصدارها كوثيقة رسمية من وثائق المجلس واحتجاج العراق من أن حكومة الكويت قامت بإحداث تغييرات جغرافية في المنطقة البحرية بعد العلامة 162 في خور عبدالله وإقامة منشأ مرفئي من طرف واحد دون علم العراق.
واستغرب المسؤول الكويتي شكوى العراق وأن الخلافات الحدودية في العادة تكون مناقشتها بين البلدين وبلجان مشتركة، فضلا عن أن ترسيم الحدود بين الكويت والعراق جاء وفق للقرار 833 الصادر من مجلس الأمن سنه 1993 علما أن منشأة (فشت العيج) تقع ضمن المياه الإقليمية الكويتية وهذا موثق تاريخيا وقانونيا، ويعلم العراق ان الكويت قدمت الغالي والرخيص من أجل أن يتحرر العراق من نظامه السابق الفاسد، ويعلم العراق أننا فتحنا سماءنا وأرضنا ومواردنا لتحرير العراق وأهل العراق الذين ما كان لهم أن يتحرروا لولا إرادة الله، ثم وقفة الكويت الشجاعة، وسخرنا مواردنا ومستشفياتنا من أجل العراقيين، وقوافل الخير تحمل عطاء الكويتيين لإخوانهم في العراق لتمسح عناء دمعة وتسقي عطش العراقيين من حمل الماء الى العراق! ولا تزال الكويت تساعد العراق في كل شيء وتغدق عليه بالأموال والملايين، متى يصبح لنا قلب ونتريث ولا نهرول كثيرا بهذه السرعة وننكب على العراق؟
أولادنا وشعبنا أولى بهذه الخدمات وبهذه الملايين، لا حمد ولا شكر، والله لو جلس العالم أجمع وتذكروا ما قدمته الكويت للعراقيين لأشرق وجه الكويت لما قدمته لأهل العراق، لكن إعلامنا الذي لم يستطع إبراز دورنا الفاعل في العراق، ونقول للمسؤولين العراقيين الكويت لا تستحق منكم هذا النكران، ولابد للكويت أن تعيد أولوياتها، وعلينا أن نكف عن هذه الهرولة إلى العراق وأن نفعل الخير في أهله.
قال الشاعر:
ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذما عليه ويندم
– اللهم احفظ الكويت وأميرها وشعبها وبلاد المسلمين من كل مكروه، اللهم آمين.
2 الاحتجاج العراقي بين الادعاء والحقيقة! خالد الطراح
القبس الكويتية
تأكيداً لحقائق وثائقية حول ما أثاره الاحتجاج العراقي المفاجئ الذي نشرته «الراي» 3 سبتمبر 2019 لمصلحة دولتين شقيقتين، وهما العراق والكويت، أنشر بعض التوضيح لعله يساعد على إبراز حقيقة الحدود البحرية الكويتية والملابسات المتعلّقة بالمنافذ البحرية العراقية. ثمة الكثير من الوثائق والمراجع العلمية التي تشهد على النشاط الكويتي البحري في الخليج العربي والمحيط الهندي وساحل أفريقيا، منها ما وثقه رحالة منذ القرن الثامن عشر عن كثافة هذا النشاط. فقد أُطلق اسم خور عبدالله نسبة إلى الشيخ عبدالله بن صباح، الحاكم الثاني للكويت، في القرن الثامن عشر الميلادي، ففي عام 1756 أكد الرحالة كنبهاوزن Kniphausen أن الكويت كانت «تملك 300 سفينة يعمل عليها أربعة آلاف رجل في صيد اللؤلؤ بخلاف سفن الصيد والتجارة»، في حين أكد، بعد تسع سنوات، الرحالة كارستن نيبور Carsten Neibur «أن الكويت تمتلك 800 سفينة صيد للؤلؤ». وكتب أيضاً الرحالة بكنغهام Buckingham عن رحلته في عام 1816 أن لمدينة الكويت ميناء عظيماً إلى جانب ما وثقه الكابتن بروكس Captain Brucks عن «أسطول الكويت التجاري» (1829) ولوريمر Lorimer مؤلف كتاب «دليل الخليج»، الذي قال «إن الكويت في عام 1904 تعيش على الأعمال البحرية، وكذلك ما ورد في كتاب «أبناء السندباد» للكاتب آلان فالياس Alan Villers( 1939) عن شهرة الكويت البحرية. من المهم الإشارة أيضا إلى أن الحدود البحرية للكويت «جزءا لا يتجزّأ من الحدود الدولية»، التي وثقتها لجنة تابعة للأمم المتحدة، وقد وقع العراق على احترامها في رسالة من رئيس الوزراء نوري السعيد (1932)، وهي تشمل جزر الكويت وحدودها. وقد جرى ترسيم الحدود في خور عبدالله على «الخط الوسط» كخط بين العراق والكويت بناء على أسس دولية كاتفاقية البحار الموقّعة من العراق في 1982. وردّا على «قول العراق إن خور عبدالله ليس بحرا إقليميا هو حجة على العراق، وليس حجة له»، لأنه إذا لم يعتبر بحرا إقليميا، فهو إذن بمنزلة جزء من المياه الداخلية بين الدولتين». لدى العراق «واجهة بحرية على الخليج العربي يبلغ طولها حوالي 70 كيلو مترا، ويزداد الطول مع إضافة طول خور الزبير والمسافة بين مدخل شط العرب وميناء البصرة»، وتؤكد الخريطة المعروفة بخريطة كوشيرون.آموت النرويجي 1959 تحديد المياه الإقليمية، علما بأنه جرى «إعداد الخريطة بناء على طلب وزارة النفط العراقية ومختومة بختم جمهوري، وقدمها العراق في 1960 كوثيقة رسمية إلى السفارة الدنماركية، بناء على طلب السفارة لتقديم دعوى إلى محكمة العدل الدولية (المجلد الاول ــــ المرافعات 168 قضايا الجرف القاري). وللعراق أيضا ثلاثة موانئ تجارية (البصرة «المعقل» وأم قصر، وخور الزبير)، إضافة إلى ثلاثة موانئ نفطية (الفاو وخور العمية، والبكر «القفقة»). وتؤكد أيضا خرائط ستلايت لشركة سبوت إيمج الفرنسية Spot Image كل المعلومات السالفة الذكر، التي جرى تقديمها للجهات الدولية المعنية. من واقع علمي محايد مدعم بالصور والخرائط والوثائق والبيانات الإحصائية، يتأكد عدم صحة الادعاء العراقي وحقيقة الحدود البحرية للكويت والعراق ومنافذ العراق البحرية مجهّزة بآليات متطورة، وهي تشكّل «ما نسبة %17 من مجموع أعداد الموانئ الخليجية». ختاماً، نأمل من الأشقاء في العراق على المستويين الرسمي والعلمي (الأكاديمي)، مراجعة جميع الوثائق والمراجع العلمية، حتى بعد الاحتجاج الدولي، فثمة جهات تتربّص بالعراق والكويت وتستفيد من هذه الإثارة، في وقت يتعاظم الضرر على الدولتين، وهو ما لا نتمناه من أجل مستقبل زاهر بين البلدين، فليس من مصلحة حاضر ومستقبل البلدين الشقيقين، إفساح المجال لأبواق إعلامية للعبث بعلاقات حسن الجوار المنشودة على المستويين الرسمي والشعبي.
3 العراق: ارتباطات «الحشد» ومرجعية الدولة
مصطفى فحص
الشرق الاوسط
ليس صدفة أن يختار الرئيس العراقي الدكتور برهم صالح، مقر قيادة جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، ليؤكد التزام الرئاسات الثلاث والقوى السياسية الكبرى بمرجعية الدولة وسيادة القانون في معالجة التحديات التي يواجهها العراق، في هذه المرحلة الحساسة. موقف الرئيس صالح اللافت للانتباه يكشف مدى حرص هذه القيادات على استقرار العراق وضرورة إبعاده عن أزمات المنطقة. فمن على منبر جهاز مكافحة الإرهاب، وفي المكان الذي يُجمع غالبية العراقيين على رمزيته الوطنية الجامعة، أعلن الرئيس صالح «أن في هذه الظروف الحساسة بالغة التعقيد في المنطقة، واجبنا أن ننأى ببلدنا عن التورط في صراعات، العراقيون في غنى عنها، وكفى بالعراق أن يكون ساحة لحروب الآخرين، ولن نحارب بالوكالة عن الآخرين». فأمام جنرالات أقوى وحدة قتالية في القوات المسلحة العراقية، وضع برهم صالح يده على الجرح العراقي النازف منذ أن تحول العراق ما بعد 2003 إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية، أدت إلى تحطيم مشروع إعادة بناء الدولة التي استغلتها أحزاب السلطة لصالح مشروعاتها الضيقة، فأوصلت العراق إلى حافة الدول الفاشلة، ما تسبب بردة فعل شعبية غاضبة، خصوصاً في الشارع الشيعي الذي بات أكثر وعياً لموقعه ودوره، وأهمية تمسكه بالمؤسسات الشرعية، وأعاد ترتيب أولوياته الوطنية، بعدما دفع وبقية المكونات العراقية ثمن التجربة الفاشلة للأحزاب الدينية وارتباطاتها الخارجية على حساب المصالح الوطنية. فمما لا شك فيه أن الأزمة الأخيرة بين الحكومة العراقية و«الحشد الشعبي» نشأت نتيجة تعرضه لضغوط داخلية تطالبه بضرورة الاندماج في المؤسسات الرسمية والالتزام الكامل بالقرار السيادي العراقي، والابتعاد عن الاصطفافات العقائدية العابرة للحدود، وعدم ربط مصير العراق بمصير الصراعات الإقليمية، وفي هذا الصدد يقول رئيس المجلس الاستشاري العراقي دكتور فرهاد علم الدين، «العراق في وضعه الحالي ليس بإمكانه أن يصبح طرفاً، وهذا ما أدركته المرجعية العليا في النجف والرئاسات الثلاث والحكومة، إذ فضل هؤلاء جميعاً أن يكون (العراق أولاً) في سياستهم المتبعة، وعليهم أن يستمروا بهذه السياسة، لأن الشعب العراقي بكامل مكوناته لا يتحمل المزيد من الحروب والمآسي والدمار التي شهدها خلال الأعوام الخمسين الماضية، وليس عليهم أن يعيشوا حالة الحرب لعقود أخرى».
حالة الحرب التي يعيشها العراق، والتي تتصاعد حدتها في هذه المرحلة، نتيجة محاولات أطراف من «الحشد الشعبي» زجه فيها بسبب عمق ارتباطه الخارجي، كانت أيضاً في صلب خطاب زعيم «تيار الحكمة الوطني» السيد عمار الحكيم الذي اختار الانتقال إلى صفوف المعارضة مكملاً مشروع تمرده على نظام 2003 الذي حكم العراق، بصيغة توافقية مكنته من تعطيل مسار الديمقراطية واختزال الحياة السياسية بمنظومة توافقات مصلحية، حولت الدولة وإمكاناتها إلى غنيمة تتقاسمها القوى النافذة التي وصلت إلى السلطة نتيجة تسوية أميركية إيرانية لم تزل مستمرة، رغم أساساتها غير السليمة، أعاقت قيام أغلبية حاكمة وأقلية معارضة تحت سقف الدولة.
ففي خطابه أمام حشد من جمهور «تيار الحكمة» بمناسبة الأول من شهر محرم، أعلن الحكيم رفضه أن يكون العراق مخزناً للسلاح، داعياً إلى الحفاظ على الدولة العراقية، وعدم السماح لأي انتهاك من شأنه المساس بالدولة، فالحكيم الذي رفع مبكراً شعار حصر السلاح بيد الدولة غمز من قناة «الحشد الشعبي»، وتماسكه، ووحدة قراره، وقيادته، والتزامه بالقانون، مطالباً الجميع بالالتزام بمرجعية الدولة، حيث قال: «ندرك بوضوح وعمق المحاولات التي تريد جرّ العراق ليكون ساحة حرب لا مركز استقرار، ونقول لكل تلك المحاولات إن العراق سيندفع باتجاه الخطوات التي تحقق مصالحه الوطنية، وسيادته، وقوته، وعزة شعبه، ولن يخوض حروباً بالوكالة، فقد أفنى العراقيون أعمارهم في تلك الحروب العبثية».
وعليه، فإن المشهد العراقي ينبئ بتبلور مرحلة أشبه بالانقلابية على المسارات السابقة، حيث رسم الرئيس صالح أول ملامحها عندما ربط قوة موقف الدولة ورئاساتها الثلاث برمزية المكان الذي أُطلق منه، فيما اختار عمار الحكيم اللجوء هذه المرة إلى قوة الشارع من أجل تثبيت موقعه الجديد في المعارضة التي يمكن أن تتوسع لتصبح جبهة معارضة وطنية وحكومة ظل بوجه حكومة قوى الموالاة، ففي العراق الذي يحاول اجتياز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة تعرف الأطراف كافة ارتفاع تكلفة الفشل، وحجم التهديدات التي ستنتج عن سقوط مشروع الدولة، أو نتيجة فراغ قد لا تستطيع المعارضة ملأه لحظة سقوط التسوية.
4 قراءة معاصرة في العالم المعاصر
عبد المنعم سعيد
الشرق الاوسط
أين يبدأ العالم المعاصر؟ ومتى انتهى العالم الحديث؟ سؤالان يسألهما المؤرخون قبل الشروع في البحث. وفي العموم هم مترددون إزاءه، وعما إذا كان يمكن بحث أي أمر قبل مرور ربع قرن على حدوثه. وأكثرهم يرى أن نصف قرن يتيح بعضاً من الوثائق والأسانيد التي يمكن الاعتماد عليها. بالنسبة للكتّاب فإنهم لا يستطيعون الانتظار، ومهمتهم الحالية هي تسجيل ما يحدث، باعتبارهم الجالسين على مقاعد الصف الأول المشاهد للتاريخ يمشي على قدميه، وتسجله أدواتٌ مسموعة ومرئية، وتنقل أسراره تسجيلاتٌ من كل نوع، ولا أعرف عصراً عرف أدوات للتواصل الاجتماعي، تنشر كما ينشر الآن، بكل ما يعني «الآن» من فجاجة وتراجيديا. المحاولة التي سوف تجري هنا ترى أن العالم المعاصر ربما بدأ في عام 2011، ليس فقط لأنه العام الذي تساقطت فيه أوراق «الخريف العربي» نتيجة الزلازل التي جرت في دول عربية كثيرة؛ وإنما لأنه العام الذي بدأت فيه نذر مولد مرحلة تاريخية جديدة في العالم. هذا العالم الذي بدأ مرة أخرى. كانت بدايته عام 1989 عندما انتهت الحرب الباردة، ودخلت الدنيا ما عرف بفترة «العولمة» وغلبة النظام الليبرالي الديمقراطي الغربي، وسيطرة القطب الواحد، الولايات المتحدة. ولعل ذلك كان أقصر مرحلة تاريخية عرفها التاريخ. وعندما يصل إليها المؤرخون على الأغلب سوف يختلفون عما إذا كان ممكناً اعتبارها «مرحلة تاريخية» على الإطلاق. فما أن بدأت الألفية الثالثة بعد الميلاد في 2001 جرى أغرب حادث يمكن تخيله، عندما قامت طائرات بالتفجير في مركز التجارة العالمي في نيويورك، لكي تعقبها سلسلة من الأفعال الأميركية لغزو أفغانستان، ثم غزو العراق في 2003. الآن نعرف المصير الذي آلت إليه هذه الحروب، وكيف تعاني واشنطن من معضلات الخروج منها، وهي تترك الأمور في أوضاع أكثر سوءاً من تلك التي أقبلت عليها.
ولكننا ما زلنا نستكشف الطريق إلى عام 2011، وسوف نجد أن المحطة الجوهرية قبله كانت عام 2008 التي شهدت أمرين لهما قيمة تاريخية كبرى، أولهما الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي كانت الأسوأ في التاريخ الاقتصادي منذ الكساد العظيم عام 1929. وثانيهما كان انتخاب باراك أوباما كأول رئيس من أصول أفريقية في تاريخ أميركا. الأول أشهر أن «العولمة» ليست فضيلة عالمية دون ثمن أو نقيض، وإنما هي مولد لعولمة «الإرهاب» والأزمات الاقتصادية. والثاني كان آخر الموجات الباقية من الموجة الليبرالية على العالم، والتي دفعت أميركا إلى انتخاب أوباما للإيحاء بتغيير نفسها والتخلص من «العنصرية» وداء العبودية. تلاقت الموجتان كما تتلاقى الأمواج العالية في العام الذي كان فيه أوباما يسعى إلى فترته الثانية، ورغم فوزه فإنه لم ينجح في تمرير أي من تشريعاته إلا بقرارات رئاسية، سهلت بعد ذلك لدونالد ترمب، الرئيس النقيض، أن يزيلها بقرارات رئاسية أخرى. والواقع هو أن ترمب بدأ الاستعداد الجدي لحملته الرئاسية في ذلك العام، ولم يكن وحده الذي بدأ، وإنما كانت البذور الأولى للحملة ضد الاتحاد الأوروبي قد بدأت في بريطانيا، ومعها كانت «القومية البيضاء» تشدّ أذرع اليمين الأوروبي والأميركي والغرب والعالم. وما أن انتصف العقد حتى وصلت جماعات يمينية متشددة بأفكار جديدة إلى قمة السلطة، وقبل أن ينتهي العقد الثاني من القرن العشرين حتى كانت «السلطوية» قد وصلت إلى البرازيل في غرب العالم، والهند في شرقه. «بيت الحرية Freedom House» الأميركي توصل هذا العام إلى «أن العالم يمر بالعام الثالث عشر من الانكماش الديمقراطي». الديمقراطيات انهارت في كل إقليم، من بوروندي إلى المجر، ومن تايلاند إلى فنزويلا. ما هو مزعج تماماً أن المؤسسات الديمقراطية أثبتت بشكل مدهش رخاوتها في بلاد بدت فيه مستقرة وآمنة.
ما حدث في المنطقة العربية خلال عام 2011، وما ترتب عليه من تطورات في السنوات التالية أدى إلى سلسلة من الحروب الأهلية، وازدهار الإرهاب الذي تمكن لأول مرة في التاريخ الحديث من إقامة «دولة الخلافة» حتى سقوطها، دفع بموجات هائلة من المهاجرين واللاجئين والنازحين. ولكن هذه الموجات لم تكن وحدها القائمة في العالم، وإنما بدأت قبلها وبعدها موجات مماثلة من أفريقيا وأميركا الجنوبية، وفي آسيا كانت هذه الموجات قديمة، قدم الحرب الفيتنامية والحروب الشاملة في كمبوديا ولاوس، وبعدها في بورما. هذه الموجات الديمغرافية ذات الطبيعة العالمية استفادت كثيراً مما بدا كما لو كان عالماً موحداً لا يكون فقط لرؤوس الأموال والتكنولوجيا والقيم المختلفة، وإنما أيضاً للعمل والعمالة. وعندما تحول الاتحاد الأوروبي من تجمع أساسي لدول أوروبا الغربية إلى تجمع يشمل أوروبا كلها، بضمّ دول أوروبا الشرقية أيضاً، وبات للأكثرية فيها «فيزا» خاصة، وعملة موحدة، فإن حركة السكان سرعان ما استفادت من «السوق» الواحدة، وكانت في ذلك ضغوط كبيرة على العمل والتوظف في البلدان المؤسسة للاتحاد، والأكثر تقدماً. كانت «العولمة» تقرب العالم بعضه من بعض، وفي الوقت نفسه، تجعله أكثر ازدحاماً، وكان هذا الازدحام هو ما أنتج موجة جديدة متعصبة نحو اليمين، لها حركات سياسية لا تميل للعمل من خلال المؤسسات، والتقاليد المرعية، وإنما من خلال التواصل المباشر مع الأفراد، وباختصار أصبحت «الشعبوية» سيدة الموقف.
في هذه اللحظة، ولد كثير من الحكام من أمثال بوتين في روسيا، وشي في الصين، ومودي في الهند، وترمب في الولايات المتحدة، وجونسون مؤخراً في بريطانيا، وبولسونارو في البرازيل، ودوارتيه في الفلبين، وإردوغان في تركيا، وأوروبان في المجر، ودودا في بولندا، ومادورو في فنزويلا. انقلب العالم رأساً على عقب، وبعد أن كانت الكلمات الشائعة هي «الديمقراطية» و«الليبرالية»، فإن الكلمات الذائعة باتت «السلطوية» و«المركزية» و«الديكتاتورية» و«الأوتوقراطية» و«الشعبوية». ما كان عجباً في الأمر أن هؤلاء الرجال جاءوا إلى الحكم من خلال الانتخابات الديمقراطية، ولكن رؤيتهم لبلادهم وللعالم كانت مختلفة عما كان سائداً من رؤية عالمية للعالم، في هذا العصر أصبحت الرؤية «وطنية» و«قومية»، وفي كثير من الأحيان إثنية وعرقية. أصبح فصل «الهوية» أهم الفصول في كتاب الأمم، وتسابق كتّاب وفلاسفة مثل «فوكوياما» و«فريد زكريا» على تأليف كتب عن الموضوع، وظهر أن التقدم التكنولوجي والثورات الصناعية الجديدة التي كانت المراهنة عليها في إعطاء الأفراد قوة العمل والمشاركة في القرار السياسي قد باتت بقدرات كبيرة تعطي طاقات هائلة لهؤلاء الرجال الأقوياء لقيادة العالم في مرحلة «معاصرة» تختلف عن تلك السابقة عليها. إلى متى سوف تستمر هذه الفترة «المعاصرة»؟ وهل تمتد أم أنها لن تكون أكثر عمراً من «المعاصرة» السابقة عليها؟ هي أمور لا يمكن الحكم عليها الآن، فالمؤشر والبوصلة سوف يكونان دوماً في يد القادة والتكنولوجيا، ولكن القاعدة العامة ربما تكون أن الأزمان سوف تكون أقصر عمراً، حتى لو كان عمر الإنسان أطول من أي وقت مضي. ومن عاش سوف يرى كثيراً.
5 واشنطن تبحث عن بدائل لداعش وأخواتها من كابول الى بغداد…!
محمد صادق الحسيني البناء اللبنانية
تحاول واشنطن عبثاً تأخير إعلان هزيمتها التاريخية المدوية امام مشروع المقاومة…! وذلك من خلال تبديل أسماء ميليشياتها، بعد توالي الهزائم عليها في أكثر من عاصمة عربية وإسلامية، ظناً منها انّ تبديل الجلد كفيل بإطالة عمرها الاستعماري.
وكما بدأت غزوها الحديث لبلادنا عبر الحرب بالوكالة من أفغانستان ها هي تحاول الهروب المنظم من أفغانستان…
1 ـ يعود تاريخ العمل السري للمخابرات المركزية الأميركية في أفغانستان الى حقبة الوجود العسكري السوفياتي في هذا البلد، خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، حيث كانت سي أي آي هي الجهة التي تقدّم الدعم اللوجستي فيما تقدّم السعودية الدعم المالي للمجموعات الجهاهدية الأفغانية آنذاك. وكان أسامة بن لادن هو المنسّق الرسمي لنشاطات المجموعات الأفغانية التي تقاتل القوات السوفياتية.
2 ـ بدأت وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية الباكستانية وبتمويل سعودي أيضاً. بإنشاء ميليشيا مسلحة جديدة، تحت قيادتها وإدارتها المباشرة، وذلك مع بدء انسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان سنة 1989.
تلك الميليشيا التي كانت قد أعدّت مسبقاً، أيّ قبل الانسحاب السوفياتي، في مدارس باكستان الدينية المموّلة من آل سعود، وهي حركة طالبان، التي كانت تدعو لـ الجهاد العالمي مما أدخلها في نزاع مسلح مع المجاهدين الأفغان انتهى باستيلاء حركة طالبان على الحكم في أواسط تسعينيات القرن الماضي.
أيّ انّ الولايات المتحدة، بالتعاون مع آل سعود، قد زرعت بذور الفوضى الشاملة الحروب الأهلية والإرهاب في أفغانستان منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، خاصة أنها أفشلت محاولة دبلوماسية، قامت بها منظمة التحرير الفلسطينية على سبيل المثال، وهدفت الى إقامة حكومة متفق عليها بين الاتحاد السوفياتي والمجاهدين وملك أفغانستان السابق، الملك محمد ظاهر شاه، ورئيسة الوزراء الباكستانية آنذاك، بنظير بوتو.
فالولايات المتحدة، عبر المخابرات المركزية الأميركية، كانت هي من أفشلت هذا الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه بعد اتصالات وجهود مضنية مع الأطراف المعنية وفي ثلاث قارات من قارات العالم.
3 ـ والآن ومع قرب التوصل الى اتفاقية وقف لإطلاق النار، بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، تمهّد لانسحاب القوات الأميركية وقوات حلف الناتو من أفغانستان، فإنّ من الضروري الإضاءة على السياسة الميليشياوية، التي تواصل الولايات المتحدة تنفيذها في هذا البلد، من خلال إنشائها لتنظيمات مسلحة جديدة ميليشيات منذ احتلالها لأفغانستان في شهر تشرين الأول 2001.
4 ـ وأشهر هذه التنظيمات وأكثرها قوة وتسليحاً هو تنظيم: قوات حماية خوست Khost Protection Force والتي تدار عبر غرفة عمليات لها في قاعدة المخابرات المركزية الأميركية التي تسمّى: قاعدة شابمان CIA s Camp Chapman والموجودة في مقاطعة خوست الأفغانية، جنوب شرق العاصمه كابل.
علماً انّ إجمالي تعداد هذه الميليشيات، التي تموَّل وتدار بالكامل من قبل المخابرات الأميركية، قد وصل الى ثلاثة عشر ألف رجل منتشرين في معظم أنحاء أفغانستان.
5 ـ أما عن علاقتهم بالاتفاق، المزمع إعلانه قريباً بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، فهو طرح موضوعهم، من قبل المفاوض الأميركي سلمان خليل زاد، على طاولة البحث مع طالبان، حيث طلب خليل زاد ضمانات من طالبان لأمنهم بعد انسحاب القوات الأميركية. وهو الأمر الذي ترفضه طالبان، حتى الآن، مما يؤخر الإعلان عن الاتفاق، أملاً من الطرف الأميركي في التوصل الى صيغة ما، تحافظ على عنصر التفجير هذا الميليشيات لاستخدامه مستقبلاً، الى جانب فلول داعش، التي نقلتها طائرات سلاح الجو الأميركي من سورية والعراق ونشرتها على حدود أفغانستان مع إيران وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة شمالاً.
6 ـ إذن فالولايات المتحدة الأميركية، وكما يتضح من المشار إليه أعلاه، تقوم بإنشاء تشكيلات مسلحة وزرع بذور الفوضى والحروب قبل ان تنسحب من أيّ مكان. فما يعيق انسحابها من سورية والعراق، هو استكمال تدريب وتسليح القوات العميلة، سواء في شمال شرق سورية أو في مناطق أخرى، والتي يجري تدريبها وإمدادها بالسلاح في قاعدة التنف في سورية وفي قواعد أميركية أخرى في الأردن، كما في قاعدة عين الأسد غرب بغداد وفِي قواعد ميليشيا البرزاني الكردية والتي يشرف على تشغيلها وتحريكها ضباط من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
7 ـ وهذا بالضبط هو العامل الذي يحدّد موقف المراوغ الأطلسي، أردوغان، في ما يتعلق بمحافظة إدلب وغيرها من المحافظات السورية المحتلة أميركياً أو تركياً. انه أمر عمليات القيادة المركزية الأميركية للمنطقة الوسطى، ومقرّها قاعدة العيديد في قطر، الذي يقضي بإيجاد الترتيبات الضرورية، للحفاظ على المجموعات المسلحة، في سورية والعراق كقوات احتياط، يمكن للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ان يناوروا بها، في الزمان والمكان الذي يقرّرونه مستقبلاً.
وبكلمات أكثر وضوحاً فإنّ ذلك يعني: الحفاظ على هذه العصابات المسلحة، سواءً في العراق، حيث يقوم الجيش الأميركي بهذا الدور، أو في سورية حيث يتشارك الأميركي والتركي تنفيذ مؤامرة إطالة عمر العدوان على سورية، من خلال تغليف ذلك بغلاف ما يطلقون عليه الحلّ السياسي، أو في العراق من خلال ما يسمّونه استكمال محاربة داعش ومواجهة تعاظم النفوذ الإيراني في هذا البلد.
8 ـ أما ما يغيب عن بال المخططين الاستراتيجيين الأميركيين فهو عامل الانقلاب الذي شهدته موازين القوى، في المنطقة والعالم، والتي لم تعد تسمح لهم بفرض إرادتهم وهيمنتهم على الشعوب كما كان الأمر في العقدين الماضيين. الأمر الذي يجعل تكتيكاتهم تلك، ايّ المناورة بالعصابات الإرهابية المسلحة هنا وهناك، عاجزة عن تحقيق أهدافهم، وبالتالي فإنّ عليهم البحث عن استراتيجيات تنطلق من موازين القوى الدولية المستجدة والاعتراف بهزيمة مشاريعهم وفتح مسار جديد في سياساتهم، بالعودة الى الأسس والقوانين الدوليهة، التي يجب ان تحكم علاقات الدول بين بعضها البعض، ما يخلق الأرضية لعلاقات متوازنة بين الدول ولاستقرار سياسي على الصعيد الدولي سيمثل القاعدة الصلبة لمسار اقتصادي اجتماعي دولي يمنع إشعال الحروب ويبعد الأزمات الاقتصادية والمالية عن دول وشعوب العالم أجمع. كلّ هذا شرطه استخدام واشنطن لعقلها وهو ما بات مشكوكاً فيه كثيراً في عهد إدارة ترامب المتخبّطة في استراتيجيتها والغارقة في التيه الإسرائيلي .
بعدنا طيّبين قولوا الله…
6 من يحمي العراقيين من هجمات الطائرات المسيرة
د. سعد ناجي جواد
راي اليوم بريطانيا
من الأحاديث التي تشغل بال العراق والعراقيون اليوم، بالاضافة الى الفساد الكبير والفشل الحكومي، هو الهجمات الاسرائيلية بطائرات مسيرة على مناطق في العمق العراقي، و كيف يكون الرد العراقي المناسب عليها، إن وجد. وهذا الحديث جر العراقيين الى تذكر كيف كان حال بلدهم قبل عام 2003، وكيف استبيح بعده بفضل الاحتلال الامريكي-البريطاني-الاسرائيلي، وكيف دمر جيشهم و قواتهم المسلحة ودفاعاتها الجوية وطائراتهم الحربي، وكيف بيعت أسلحة هذا الجيش المتطورة في أسواق الخردة او هُربَِت الى خارج الوطن وبأثمان بخسة وقبض ثمنها السياسيون الفاسدون الذين أتوا مع الاحتلال، وكيف تمت تصفية القيادات العسكرية الكفوءة والمقتدرة اما جسديا او بالسجن المؤبد او بالإجبار على الهرب من العراق. وهذا القرار الذي اتخذه سيء الصيت بريمر لم يكن قرارا فرديا او اعتباطيا وإنما كان قرارا اتخذ مسبقا في واشنطن وقبل الاحتلال و بطلب وإلحاح اسرائيلي، و باركه كل الأحزاب التي جاءت مع الاحتلال وتعاونت معه، كما يذكر ذلك صراحة بريمر بنفسه. ثم كيف ترك الاحتلال، وعن قصد ايضا، أبواب البلاد مشرعة لكل من هب ودب لكي يتغلغل في العراق ويعمل فيه تدميرا وتخريبا وأيضا بمساعدة الأحزاب التي أتت بعد الاحتلال ومن يقف على رأسها او يعمل فيها.
في العودة الى الموضوع فان كل دولة ليس لديها سوى جيشها وقواتها المسلحة لكي تحمي أراضيها و سماءها ومياهها. وبعد احتلال تنظيم داعش الإرهابي لثلث الأراضي العراقية في عام 2014، اكتشفت الولايات المتحدة (الخطأ) الكبير الذي ارتكبته بحل الجيش العراقي واستبداله (بجيش) من المرتزقة وأفراد من مليشيات الأحزاب التي جاءت مع الاحتلال، هذا ( الجيش) الذي لم يصمد امام إرهابيي داعش ساعات قليلة، وهرب من ساحة المعركة بعد ان سبقه قادته الكبار الذين تركوا بزاتهم العسكرية برتبها الكبيرة على الأرض. في حين ان تنظيما مدنيا بسيطا شُكِلَ على عجل وبأسلحة خفيفة اطلق عليه اسم (الحشد الشعبي)، وبدون تدريب و إعداد مسبق استطاع ان يقف امام هذا التنظيم الإرهابي و يمنعه من الوصول الى قلب بغداد، بعد ان كان قد وصل الى اطرافها، وان يعيده بعيدا عنها. منذ ذلك الحين بدأت مرحلة اعادة تأهيل الجيش العراقي مرة ثانية، وفي ذلك التاريخ فقط (تكرمت) الولايات المتحدة بتسليم العراق خمسة طائرات فانتوم لدعم القوة الجوية العراقية، التي كانت تمتلك وقت الاحتلال فقط من الطائرة الحربية و المتطورة اربعمائة مقاتلة، كلها تبخرت بين ليلة و ضحاها. كما بدأت الولايات المتحدة مع تحالف من دول أوربية بشن غارات جوية على تنظيم داعش الذي استقر في محافظات ثلاث، صلاح الدين والأنبار والموصل، يعمل في رجالها ذبحا وتقتيلا وفي نسائها سبيا واغتصابا وبيعا في سوق النخاسة. وفي فترة وجيزة استطاع الجيش العراقي بقادته الاكفاء ورجاله وعزيمتهم ان يعيد ترتيب بعض من صفوفه وان يسترجع المحافظات المحتلة الواحدة بعد الاخرى حتى انجز المهمة في عام 2018. وكان من شدة فرح ابناء الموصل بتحريرهم من عصابات داعش، على الرغم من التدمير الهائل الذي حل بمحافظتهم، وبالأخص قلبها التاريخي، وكثرة الأبرياء الذي ذهبوا ضحية القتال العنيف مع عصابات داعش التي كانت قد تلقت دعما داخليا واقليميا ودوليا، انهم قاموا بعمل نصب للقائد العسكري العراقي الذي قاد معارك التحرير تخليدا لجهده واعترافا بدوره البطولي والمتفاني في تحرير مدينتهم. (لا يزال هذا النصب مغطى ولم يتم رفع الغطاء عنه لحد اللحظة، وربما ستتم ازالته لكي لا يبق اثر لدور الجيش العراقي). ان هذا النجاح الذي حققه الجيش بقياداته وتنظيمه الجديدين ارعب أطرافا كثيرة داخلية وخارجية. أطرافا وجدت في هذا الاداء والتنظيم تهديدا لمصالحها بل ولوجودها ونفوذها. وبدلا من تنصيب القائد الذي حرر الموصل محافظا لها لكي يبدا عملية بناءها، سلمت الموصل الى محافظ فاسد (وهذا ليس اتهاما اعتباطيا وإنما استنادا الى قرارات قضائية صدرت بحقه مما حدا به الى الهرب مع ما سرقه من السحت الحرام ولا يزال هاربا لحد اللحظة)، وعندما استُبدِل جيء بمحافظ اخر بنفس الأسلوب السابق، ولم تنفع كل اعتراضات ابناء الموصل وعدد كبير من نوابها على هذا الاختيار. وتعثرت عمليات إعمار المحافظة بعد ان بدا الفساد يتحكم في عمليات البناء. والأخطر ان المحافظات المحررة سلمت لفصائل الحشد الشعبي التي اعادت التعامل مع ابنائها بالأساليب الطائفية والاعتقال العشوائي والتغييب لآلاف الشباب الذين لايزال مصيرهم مجهول لحد هذه اللحظة. الأخطر في الامر ان سياسة جديدة اتبعت بعد ذلك تمثلت في تهميش الجيش وقادته ودوره وتفضيل فصائل الحشد الشعبي عليه، وتمكين هذه الفصائل من التسلط على رقاب و مصائر الناس في المحافظات المحررة. كما جرى تضخيم الحشد وبدعم من إيران بصورة كبيرة، وأصبح يضم مجاميع لم يكن لها اي دور في تحرير المحافظات من أيدي تنظيم داعش الإرهابي، وتم تخصيص ميزانية له قيل انها تفوق ما مخصص للجيش. الأهم من ذلك ان هذه الفصائل بدأت تعمل بصورة رسمية بعد ان تم تشريع قانونا خاصا بها جعل منها مؤسسة عسكرية رسمية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء، وتم الاعتراف باكثر من ستين فصيل بالحشد رسميا من قبل البرلمان العراقي (٦٧ فصيلا). واستنادا على هذه الصفة الرسمية قامت العديد من هذه الفصائل، خاصة المتنفذة منها، بالاضافة الى الاعتقالات الواسعة، الى منع عدد كبير من الذين اجبروا على النزوح من مدنهم وقراهم من العودة اليها، ثم قامت قيادات هذه الفصائل بالدخول باستثمارات اقتصادية بالتعاون مع مجالس محافظات المدن المحررة والتي اشتهرت بالفساد الكبير، والتجاوزات غير القانونية. اما القائد العام للقوات المسلحة فلقد وقف، كعادته، متفرجا على ما يجري، ولم يتخذ اي اجراء رادع على التجاوزات المرتكبة من قبل اغلب فصائل الحشد، ومن الشكاوى الكثيرة على تجاوزاته. ولم تهتز كرامته الشخصية ولا الوطنية ولا الرسمية عندما كان هو ومعه كل المسؤولين الكبار في الدولة، يسمعون الغالبية العظمى من قادة هذه الفصائل يصرحون الواحد تلو الاخر بان مرجعيتهم هو (الولي الفقيه في إيران). هناك من يقول ان عجز القائد العام مرده النفوذ المسلح الكبير الذي يتمتع به قادة الحشد والذين يحيطون به من كل جانب، اولا، والى الدعم الكبير الذي يحظى به هذا التنظيم من إيران وفيلق القدس وقائده واللذين يمتلكان نفوذا كبيرا جدا داخل العراق وحتى في المنطقة الخضراء ثانيا. وبالتالي فان خوفه على حياته يمنعه ويمنع الآخرين من إتخاذ الإجراء الرادع المناسب. ولو انه قال عن نفسه بانه سيقدم استقالته اذا لم تترك له حرية إدارة الأمور بالطريقة التي يراها مناسبة.
المهم ان السيد رئيس الوزراء لم يكتف بالسكوت وإنما ساهم ويساهم في أضعاف المؤسسة العسكرية، وبالذات الجيش، وخير دليل هو تردده في تعيين وزيرا كفوءا للدفاع لمدة طويلة وانتظار الترشيح لهذا المنصب لكي يأتي من روؤساء الكتل، هذا الأسلوب الذي لم ينتج عنه سوى ترشيح الفاسدين في السابق او غير المؤهلين في الوقت الذي كان يمكنه ان يسمي مرشحا مقتدرا من داخل المؤسسة العسكرية نفسها و من اللذين ابلوا بلاءا حسنا في معارك دحر تنظيم داعش الإرهابي. مقابل ذلك اصرت وتصر إيران في ظل تصاعد التوتر بينها وبين الولايات المتحدة على دعم الغالبية العظمى من فصائل الحشد وزودتها باسلحة وصواريخ متطورة، لكي تستخدمها ضد الوجود الامريكي في العراق. في حين ان هذه الفصائل اخذت تستخدم هذا الدعم المباشر سياسيا، كما انها تستفيد من الدعم الحكومي غير المباشر في التسلط على رقاب الناس والدخول في مشاريع اقتصادية لإشباع الفساد المستشري بين الكثير من قياداتها.
إسرائيل من ناحيتها، ولكي تثبت لإيران بانها قادرة على ضرب نفوذها في أية دولة في المنطقة، وخاصة في العراق و سوريا ولبنان، قامت بقصف معسكرات الحشد في العراق بطائرات مسيرة. وطبعا فان هذه الفصائل التي تفتقد التدريب الصحيح والمؤسسات المهنية والكفاءة على مواجهة مثل هذه الهجمات تلقت الضربات الواحدة تلو الاخرى وبدون اي رد، باستثناء التصريحات العنجهية. من ناحية اخرى اثبتت هذه الهجمات، عدا ما تسببت به من اخطار على حياة الناس، حيث ان اغلب معسكرات ومخازن أسلحة الحشد تقع قرب مناطق سكنية ماهولة ناهيك عن طريقة الخزن البدائية، اثبتت عدم وجود اي دفاعات جوية في العراق، وان الدولة المسؤولة عن حماية اجواء العراق من الاحتلال، الولايات المتحدة، ظلت متفرجة ولم تفعل شيئا لحماية سماء البلاد. كل هذه الأمور لابد وان تستدعي إناطة هذه المهمة بالجيش العراقي، المؤسسة الوحيدة القادرة على حماية البلاد. وتسخير و توفير كافة الإمكانيات لها لكي تقوم بهذه المهمة بكفاءة عالية. ولكن هل سيتم اللجوء الى هذا الحل؟ ان كل الشواهد تدلل على عدم ذلك لعدة أسباب، اولها ان إسرائيل التي ابدت قلقا كبيرا وصريحا من الدور الجديد الذي لعبه الجيش العراقي في تحرير المحافظات التي احتلت من قبل تنظيم داعش الإرهابي، سوف تعمل كل ما في وسعها لمنع ذلك، واهم ما في وسعها هو تحريض الولايات المتحدة على عدم دعم الجيش وتزويده بالأسلحة المطلوبة، وهو ما فعلته الولايات المتحدة منذ عام 2003، وثانياً فان إيران ومن يمثلها صرحوا في اكثر من مناسبة بان الحشد الشعبي يجب ان يحل محل الجيش العراقي، ووصل الامر ببعض قادة هذا الحشد الى المطالبة علنا بحل الجيش العراقي مرة اخرى وبدون خوف او خجل. ثالثا ان اغلب الأحزاب المتنفذة في العملية السياسية العراقي اليوم تقف ضد اعلاء مكانة القوات المسلحة، ويشترك في ذلك الأحزاب العربية والكردية. وما قامت به الحكومة وما صرح به بعض قادة الأحزاب الكرية علنا خير دليل على ذلك. رابعا ان اغلب دول الجوار لا تريد ان تشاهد العراق دولة قوية تستند الى جيش مقتدر، لانها تعتقد، خطاءا، ان مثل هذا الجيش سيجعل من العراق قوة إقليمية تهددهم.
هناك من يعتقد بانه لن يحل كل هذه الإشكالات الا ان ياخذ الجيش نفسه زمام المبادرة ويعيد مكانته بنفسه، وهذا الحل يبقى ايضا محفوفا بمخاطر كبيرة أهمها التدخل الخارجي، سواء الإقليمي او الدولي، لإجهاض مثل هذه المحاولة. وهكذا فان قدر العراقيين ان يبقوا مهددين بالاختراقات الخارجية والطائرات المسيرة والقوات الأجنبية والأسلحة المنفلتة التي تحملها تنظيمات غير رسمية، الى ان يقيض لهم من ابناءهم من يقود ثورة اصلاحية شعبية تعيد الأمور الى مسارها الصحيح، وتعيد البلاد الى المكانة التي تستحقها، وهذا ليس بالأمر المستحيل على ابناء العراق الذين اثبتوا بانهم كالعنقاء يستطيعون ان يخرجوا من الرماد ومن تحت الأنقاض ليعيدوا الكرامة لبلدهم.
7 خيار المعارضة في العراق… ديمقراطيتنا العرجاء
صادق الطائي
القدس العربي
ما أن تفشل صفقة سياسي عراقي في الحصول على مآربه لسبب ما، حتى يشهر سلاحه الأمضى، التهديد، لكن بماذا سيهدد؟ والكل في الهوى سوا كما يقال؟ إنه التهديد بالتحول إلى المعارضة الدستورية. وعندما نسمع أو نقرأ هذه الأيام اسماء من تحولوا، أو سيتحولون إلى معارضة برلمانية من الكتل السياسية العراقية عندها لا يمكن أن نصف الأمر إلا بأنه المضحك المبكي.
لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن المعارض الجديد الذي يريد أن يمارس معارضته داخل قبة البرلمان، لا يمكن أن يتخلى عن مكتسباته التي يتمسك بها في السلطة التنفيذية، وبالتالي نكون إزاء حالة نادرة الحدوث في عالم السياسة، بل ربما لا تمارس إلا في العراق، وهي حالة الوقوف بقدم في الحكومة وقدم في المعارضة، وبنظرة سريعة لنتائج ما حصل في الدورات البرلمانية الأربع السابقة يمكن أن نقول بقناعة كبيرة، إن الامر اولا واخيرا هو ضحك على الذقون، وبيع كلام، وكما يقال في العراق طبخ حصى، إنها احدى سمات رثاثة الوضع السياسي العراقي الذي نعيشه.
المعروف في النظم الديمقراطية البرلمانية، أن المعارضة والحكومة هما جناحا العملية السياسية المتوازنة، التي تتقدم بها العملية الديمقراطية، فاذا اختفى أو انكسر احدهما باتت الديمقراطية عرجاء لا يمكنها أن تقدم الخدمة لمجتمعاتها، وهذا أمر بات مفروغا منه منذ أن أقرت النظم الليبرالية هذا النموذج من اللعبة السياسية، وأن تنظيم اللعبة فرض تشكل السلطة التنفيذية، بناءً على فوز الكتلة السياسية، أو الحزب السياسي في الانتخابات، عبر استخدام آلية صناديق الاقتراع بالأغلبية البرلمانية، لكن في الوقت نفسه فإن البرلمان يضم جناحين على الأقل، جناح الحكومة التي ستنفذ ما يقره حزبها في البرلمان من قوانين، وحزب المعارضة الذي لم يفز بالاغلبية ليشكل الحكومة، والذي يتحول دوره إلى مراقبة أداء الحكومة، هكذا توزع المهام في ظل النظم الديمقراطية الحقيقية.
إذن الحكومة تقوم بتنفيذ البرنامج السياسي لحزب الأغلبية السياسية، وهذه الأغلبية أفرزها خيار المواطن الذي ذهب إلى صندوق الاقتراع واختار من يمثله، في المقابل، الخاسر يمثل الكفة الاخرى من موازنة العملية السياسية، وهي كفة ذات أهمية كبيرة، إذ تشكل الاقلية البرلمانية في الديمقراطيات البرلمانية، ما يعرف بحكومة الظل التي تمارس مهام الحكومة التنفيذية، لكن من الجانب الرقابي، وهي بكل وضوح وشفافية لا تسعى لإفشال عمل الحكومة أو الإطاحة بها، وإنما تسعى إلى خدمة المواطن وتعريفه بالمشاكل التي قد تحدث نتيجة انحراف حكومة الأغلبية عن برنامجها الانتخابي، الذي حقق الفوز لحزب الحكومة. كما أن التبادل السلمي للسلطات، يتم نتيجة وعي المواطن بما يقدم له، ومقارنته بما وعد به في الدعايات الانتخابية، فإذا اقتنع بأداء الحكومة فإنه سيعاود انتخاب ممثلي حزب الحكومة لدورة ثانية، لكن إذا شعر بتلكؤ السلطة التنفيذية، وعدم تنفيذها ما وعدت به، فإن المواطن سيعاقبها حينئذ ويحرمها من الفوز، ولا يعطيها صوته الانتخابي، ليأتي دور المعارضة البرلمانية للفوز بدور الحكومة وتنفيذ برنامجها الانتخابي البديل، وهكذا تتم اللعبة الديمقراطية في ظل أعراف دستورية محددة وواضحة للجميع.
وعندما تكون البلدان ذات مركزية سياسية، بمعنى أن من يسيطر على ساحتها السياسية عدد من الاحزاب يعد على اصابع اليد مثل فرنسا أو المانيا، أو حتى ثلاثة احزاب كبيرة، كما هو الحال في بريطانيا، أو ربما قد يتقلص التنافس لينحصر بين حزبين فقط، كما هو الحال في ديمقراطية الولايات المتحدة، حينها تكون اللعبة الديمقراطية واضحة، وقواعدها بسيطة، والتنافس بين الأجندات الحزبية المختلفة سهل الفهم بالنسبة لرجل الشارع. أما في حالة تشظي الاحزاب وتفتتها إلى أحزاب كثيرة، كما هو الحال في عدد من دول جنوب شرق آسيا، أو بعض دول أمريكا اللاتينية، أو اسرائيل، حينئذ تسعى الاحزاب إلى التكتل في ائتلافات انتخابية، على أسس سياسية وعقائدية، لتخوض عبر كتلها التنافس الانتخابي، لكن المفارقة أن العراق (الديمقراطي) بات يمثل حالة شديدة الخصوصية من ناحية عدد الأحزاب، إذ يعتبر البلد الأول في العالم في عدد الأحزاب التي تتواجد في الساحة السياسية. إذن هل يمكن أن تتم اللعبة الديمقراطية في ظل طوفان الاحزاب العراقية؟
عندما أطاح الاجتياح الامريكي النظام الشمولي في العراق عام 2003، توقع معارضو النظام، أن جنة الديمقراطية ستفتح ابوابها في العراق بشكل آلي، بدون أن يشرح أحد كيفية هذا التحول، أو ماهيته، أو أبعاده، أو سبل تحقيقه، وربما تحدث كثيرون منهم عما يسعى لتحقيقه من واقع تجارب عاشها في مختلف المنافي، يحدوهم أمل بالدعم الامريكي للتحول نحو الديمقراطية الليبرالية بشكلها الغربي تحديدا، لكن الواقع على الأرض ظل مقفرا حتى الان.
لقد ساد التخبط، وغياب الفهم، الحقبة الانتقالية تحت حكم الإدارة المدنية الامريكية برئاسة السفير بول بريمر، التي تبلور إبانها التعاطي الامريكي مع الشأن العراقي على أساس إطروحة الترويكا العراقية (شيعة، سنة، كردا) التي اتخذتها الادارة المدنية في بغداد، ومن خلفها الإدارة الامريكية في واشنطن معيارا لتشكيل مجلس الحكم، النواة الاولى للتشكيلات السياسية التي ستبقى حاضرة في المشهد السياسي العراقي ما بعد 2003. وفي الدورات الانتخابية الاولى كان هنالك اقتراب حقيقي من خلق حياة سياسية تعد بتطور لاحق، وكانت هنالك فرصة ذهبية، لإرساء اسس حقيقية للعبة الديمقراطية في العملية السياسية العراقية، رغم أن الدورة الاولى أفرزت برلمانا وحكومة ذات مواصفات خاصة، تم التساهل في تشكيلها نتيجة التحديات الكبيرة، إذ تم تشكيل الحكومة عبر إشراك جميع الإئتلافات السياسية فيها، والغاية كانت دفع العملية السياسية قدما، وترسيخ أسس التعاطي الديمقراطي، واحتواء التوترات العرقية والطائفية التي ابتدأت تهدد كيان الدولة،
لكن الالتفاف على فوز القائمة العراقية في الانتخابات اللاحقة عام 2010، والتبرير الدستوري المسيس لما جرى من قضاة المحكمة الاتحادية، وخلق كتلة برلمانية تحت قبة البرلمان، ولي الدستور ليتواءم مع ما جرى، ومن ثم محاولة الخروج من حالة الشلل التي استمرت لاشهر عديدة، عبر السعي لإرضاء ائتلاف اياد علاوي بمشاركته بالمناصب الحكومية، كل ذلك شكل بداية ومدخلا واسعا لافساد العملية السياسية، وتربع رئيس الحكومة نوري المالكي على سدة الحكم في ولاية ثانية كانت كارثية النتائج، ليولد من رحم التخادم الفاسد كل الويلات اللاحقة، لان الكل بات يتزاحم على مناصب السلطة التنفيذية، ويستخدم عطاياها لكسب المؤيدين في شارعه، وهذا ما لا تستطيع المعارضة أن تقدمه.
كما أن الاحزاب العريقة من التيارات الماركسية، والقومية العربية، وبعض الاسلاميين السياسيين من غير المشاركين في اللعبة السياسية، لم يستطعوا أن يشكلوا معارضة فاعلة في الشارع والحياة العامة، تمثل ضغطا حقيقيا على الحكومة والبرلمان للتحرك باتجاه إصلاح الخلل، بل غالبا ما كان الأمر يحصل بشكل هبات احتجاجية تطالب بالإصلاحات، لكن سرعان ما يتم احتواؤها بالترهيب تارة والترغيب تارة، وهذا ما حصل في الاحتجاجات العنيفة على حكومة المالكي الثانية في فبراير 2011 ، التي تم إجهاضها بالاغتيالات والاعتقالات، ومن ثم الحراك الكبير الرافض للبرلمان ولحكومة العبادي، على حد سواء في يوليو 2015، لكن سرعان ما ركبت موجته احزاب الحكومة والبرلمان ولعبت اللعبة نفسها التي اشرنا لها في البداية، وهي حالة الوقوف بقدم في ساحة الاعتصام وقدم في البرلمان والسلطة التنفيذية.
واليوم وبعد مرور حوالي شهرين على تحول كتلة تيار الحكمة البرلمانية بقيادة السيد عمار الحكيم المكونة من 20 نائبا في البرلمان إلى كتلة معارضة برلمانية تراقب أداء حكومة عادل عبدالمهدي، وقد تم ذلك بإشعار رسمي وجهه رئيس الكتلة إلى رئيس البرلمان، نشهد اليوم تسريبات حول تحول ائتلاف النصر بقيادة حيدر العبادي بشكل كامل إلى كتلة برلمانية معارضة. فهل سيحقق ذلك نوعا من التصحيح للعملية السياسية العراقية؟ وهل سيعالج ديمقراطيتنا العرجاء من دائها الممتد لستة عشر عاما؟ أنا أشك في ذلك، لأننا ما زلنا أمام كتل متمسكة باقطاعياتها الحزبية في الوزارات التي تحاول أن تحلبها لتصب الأموال في خزائن احزابها، وفي الوقت نفسه تصرخ في البرلمان مطالبة بالإصلاح، إذن النتيجة طبخ حصى.