بلا تعليق !هوشيار زيباري: التصرفات الطائفية وممارسات الجيش والأمن هي التي فجرت التظاهرات السنية في العراق (3-3)

في الحلقة الثانية وصف وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري شعوره لحظة عودته إلى الموصل، والموكب المهيب من القادة الكرد عند دخولهم إلى كركوك للمرة الأولى بعد سقوط صدام حسين. كذلك تحدث عن دور المرجع الشيعي السيستاني في إقرار دستور العراق الجديد، وتمسك الكرد بالفيدرالية، والدور الذي لعبه النظام السوري في دعم الجماعات المسلحة المتطرفة. واعترف زيباري بأن حل الجيش العراقي كان خطأ مشتركاً تتحمله قوى في المعارضة والأميركيون.

وفي الحلقة الثالثة والأخيرة، يستحضر الوزير من ذاكرته أولى زياراته الخارجية. وزيباري كان أول كُردي يُصبح وزيراً لخارجية العراق، وأصبح يمثل دولة بقي أكثر من أربعة عقود يناهض نظامها الحاكم. ويروي “في سبتمبر (أيلول) 2003، خلال فترة مجلس الحكم، مهمتي الأولى كانت حضور الاجتماع الوزاري لمجلس وزراء الدول العربية في القاهرة، وقبل ذهابنا كانت هناك أصوات عديدة في الإعلام وفي التسريبات بأن الجامعة لن تقبل بعضوية العراق الحالية، كذلك قيل إن الممثل الجديد أو الوزير الجديد لن يكون بمقدوره أن يحصل على مقعد العراق، من باب شرعية النظام، مع الكثير من الأقاويل الأخرى، لكن كان القرار أن نحضر، وأيضاً لأن جامعة الدول العربية هي مرجعية كل الدول الأعضاء، والعراق من مؤسسي هذه الجامعة، حيث أكدنا أنه ليس من حق أحد أن يمنع ويحرم العراق من موقعه”.

المخاض في الجامعة العربية

يدخل الوزير زيباري في وصفه تفاصيل ما جرى: “وصلنا إلى القاهرة، إلى فندق سميراميس، على النيل، وطلبت من البعثة العراقية أن أعقد مؤتمراً صحافياً قبل البدء بأي اتصال. وهناك أعلنت موقف العراق وموقف النظام الجديد، من أحقية دولة العراق في الحصول على مقعده، وإننا جئنا لنحضر هذا اللقاء، فأجرينا اتصالات مع الخارجية المصرية والجامعة العربية، وقلنا إننا غداً سنحضر إلى مقر الجامعة. الدعوة كانت موجودة، والاجتماع كان دورياً. في الليل وصلتني معلومات عن اجتماعات مطولة بين وزراء الخارجية العرب، ولكنهم لم يتخذوا قراراً بعد، وكان ثمة رأي تقوده الكويت والمغرب وقطر، بتوجيه دعوة الحضور إلينا. انتظرنا طوال الليل، لنعرف ما هو القرار؟ أنا بلّغت الأمانة العامة للجامعة، بأنني سأحضر. في الليل، اتصل وزير خارجية الولايات المُتحدة، كولن باول، وقال لي “لن يتم إحراجك، قلت: لا هذا حقنا وسنحضر الاجتماع، وسنجلس بمقعدنا، وهي ليست مكرمة، ونحن دولة مؤسسة للجامعة، فقال هل هناك شيء مطلوب منّا، نحن تواصلنا مع الكل، وخصوصاً الطرف المصري، وأتصور غداً سيكون لديك مواعيد، وسترى وزير خارجية مصر. في الليل، تواصل المصريون معنا، وقالوا قبل الاجتماع سيكون لديك اجتماع مع أحمد ماهر، وزير خارجية مصر. في اليوم التالي، اجتمعت صباحاً مع وزير خارجية الكويت، وكذلك مع وزير خارجية المغرب، اللذين كانا طلبا لقائي، وقاما بنقل الصورة، عن حجم الاعتراض، والتريث على الأقل. استمعنا إليهم، لكنني قلت: أنتم أحرار في قراركم، لكن سأجلس، ولن أطلب إذناً من أحد؟ ذهبنا إلى الخارجية المصرية، والإعلام العربي كان موجوداً. جلسنا مع أحمد ماهر، وتحدثنا، ورحب. أثناء الحديث جاءه اتصال، قال هذا الرئيس حسني مبارك يسلم عليك، ومسألة مشاركتكم جيدة وطيبة، ومصر داعمة للعراق، فقلت جيد. لكن ربما هناك إشكالية معينة، ونصحني بعدم الدخول فوراً، فقال يجب أن يجتمعوا ويقرروا، ومن ثم تدخل”.

يصف الوزير زيباري الجو ضمن ذلك الاجتماع “كان ثمة دول رافضة، على رأسها سوريا والجزائر وفلسطين. لكن وزير خارجية الكويت، كان سعيداً بلقائنا، وقال نذهب إلى الاجتماع معاً. دخلنا إلى مقر الجامعة، وذهبنا إلى لقاء (أمين عام جامعة الدول العربية) عمرو موسى. رحب بنا وقال لدينا بيان سنقرأه، قلت يجب أن أقرأ البيان، ويجب أن أوافق عليه، يجب أن يكون لدي رأي. كان بيان شديد اللهجة، فقلت هذا مرفوض، العراق ليس فقط بلد عربي وعدّلت بعض الأمور. البيان كان فيه لهجة سورية بكل تأكيد. وافق موسى على التعديلات، وقال هناك مسألة شكلية، سندخل إلى الاجتماع، وتنتظر وبعد المراسيم سيتم إدخالك إلى الاجتماع. سلمت على الجميع، وجلست في موقعي، بعض الأعضاء صفّقوا أثناء دخولي. لما جلست على مقعد العراق”.

يُكمل الوزير زيباري واصفاً سلوك العراق الجديد بأنه كان سلوك دولة وليس نظام حُكم مثلما كان في زمن صدام حُسين، قائلاً إن ذلك الأمر بدأ مُنذ أن تعاملوا مع موظفي السفارة العراقية في القاهرة وأعضاء البعثة العراقية إلى جامعة الدول العربية “تعاملنا معهم كموظفي دولة، ولم يتم اعتراض أحد. دخلنا ورحب الأمين العام بنا جميعاً، وبعودة العراق، ثم منحني الحديث. تكلمت بلغة عربية سليمة وفصيحة، في رسالة مطمئنة للعرب، قلت إن العراق ملتزم ميثاق الجامعة، وحريص على التزاماته العربية، ويجب أن يعترف العرب بما حدث في العراق، وستتبلور الحياة السياسية، وحديثي عن فلسطين كان مبعث احترام، وصفّق الجميع”.

الغضب من فاروق الشرع

يتذكر الوزير زيباري عن دعوة الغداء التي تمت في ذلك اليوم، والتي حضرها وزير الخارجية السعودية السابق الأمير سعود الفيصل، ونظيره المصري أحمد ماهر، ويتذكر كيف أن وزير الخارجية السوري فاروق الشرع قال للحاضرين” إذا قتل عشرة من الأميركيين، فإنهم سيهربون. ما أشعل غضبي، وقلت له: أميركا الآن، ليست أميركا عام 1982، لو قتلت منهم 2000، سيبقون في العراق. بعد أشهر عدة، بدأ السوريون يقدمون تسهيلات للعنف، لبقايا البعثيين بالذات، بدأوا بإعادة تنظيماتهم، من المقاتلين الأجانب، عبر مطار دمشق من دون فيزا، بحجة السياحة. تشجع السوريون، لأن الولايات المُتحدة أرسلت إليهم رسائل مخطئة بحسب تقديري، لذلك استعجلوا فتح دعم المناهضين للوضع العراقي الجديد. بعد ذلك بسنوات عرفنا أن اللواء آصف شوكت، هو من كان يقف خلف ذلك القرار. لكن التخطيط والتنفيذ كانا من شخصيات وأجهزة النِظام السوري كافة، فالنظام مركزي، والكل مشترك في القرار”.

على أن هوية الوزير زيباري القومية، ككردي، كانت أكثر حساسية في علاقاته وتواصله مع تُركيا “كانت لدينا علاقات واتصالات مع الأتراك، حين كُنا في المعارضة، وخلال فترة تأسيس الإقليم، طوال تلك الفترة كنت أحد المفاوضين والمنسقين معهم، على كل المستويات، ومع الحكومة ووزارة الخارجية تحديداً، طبعاً إلى جانب اللقاء مع المخابرات ورئاسة الأركان. كان الطرف التُركي يعلم من أنا، ولست طارئاً وجديداً. لأجل ذلك كان استقبالاً عادياً خلال الزيارة الأولى، ولم تكن ثمة حساسية”. يستعيد الوزير زيباري تفاصيل الزيارة الأولى لتُركيا، وما تضمنته من إيقاع على الحساسية الكُردية – التُركية “حاولوا وطلبوا أن أقوم بزيارة ضريح أتاتورك، ضمن برنامج الزيارة، قلت لهم “أنا أمثل الدولة العراقية”. كان يهمهم أنني لست قومياً كردياً، وبكل رحابة صدر ذهبت، وكتبت كلمة، بمعنى أني زُرت ضريح مؤسس تركيا، كمال أتاتورك، كوزير خارجية العراق”.

دور النظام السوري في التفجيرات

يشرح الوزير زيباري الفوارق بين التطلعين التُركي والإيراني في التعامل مع العراق الجديد، حينما كان هو في أوائل أشهر عمله كوزير للخارجية “بدأت الوفود الإيرانية تتوافد مُنذ تشكل مجلس الحكم، لم يكن بينهم قاسم سليماني، كان هناك فقط موظفون ودبلوماسيون. النظام في إيران مختلف ومعقد. إيران لم تُصدق ما جرى، كانت محاصرة من نظام سني في أفغانستان، ونظام صدام حسين في العراق، الذي دخل معهم في حرب مدة 8 سنوات. جاءت أميركا، وأزالت الاثنين، فكانت هدية من السماء”.

جرت تحولات طفيفة على تجربة العراق الجديد مع دول الجوار، لكن سوريا وحدها بقيت مُصرة على عدم الاعتراف بوضع العراق الجديد. حدثت سلسلة تفجيرات هزت العاصمة بغداد في أيلول العام 2009، استهدفت واحدة منها مقر وزارة الخارجية العراقية، حيث مكتب الوزير زيباري. الحكومة العراقية مارست وقتها أقصى درجات التصعيد مع سوريا، لأنها اتهمت سوريا بالوقوف المباشر وراء تلك التفجيرات، ويشرح الوزير زيباري تفاصيل قرارات الحكومة العراقية حينذاك “كان قرار الحكومة هو قطع العلاقات مع سوريا والذهاب إلى مجلس الأمن، كُنا بزمن حكومة نوري المالكي الأولى، هو كان يعيش في سوريا، ونحن عشنا في سوريا، والكثير من أقطاب النظام الجديد كانوا يعيشون في سوريا، لذا كُنا نعلم أسلوب وعمل الأجهزة الأمنية السورية. رئيس الوزراء أكد أن هذه التفجيرات، التفجيرين الرهيبين بالذات، هُما من فعل الأجهزة السورية. كنت عضواً في مجلس الأمن الوطني، عقدنا اجتماعاً، وأكدوا بأن لدينا معلومات كاملة، بأن الأجهزة الأمنية السورية تقف خلف التفجيرات، هذا الاستهداف مخطط من قبل السوريين. قرر المجلس سحب السفير، كخطوة أولى”.

يسرد الوزير زيباري تفاصيل الاتصال الهاتفي الذي جرى بينه وبين وزير خارجية سوريا وقتها، عقب ذلك القرار العراقي “تواصلت مع وليد المعلم، وقلت له: “أبو طارق، لدي خبر غير سار، أنا مكلف بأن أستدعي السفير العراقي إلى بغداد، بسبب التفجير الذي نعتقد أن مصدره من عندكم”، قال هل وصل الأمر إلى هذا الحد، قلت هذا قرار الحكومة، وأنا أتصل بك، من باب المعرفة والعلاقة، قال سنرد بالمثل، لكن لن نعيد سفيرنا مرة أخرى إلى أن يتغير النظام في العراق، قلت له “النظام تغير، ولا توجد قوة يمكن أن تغير النظام مرة أخرى”.

أما عن الخطوات الأخرى التي اتخذتها الحكومة العراقية وقتئذ، يقول الوزير زيباري “أصدرنا قراراً لإدانة الإرهاب، وقررنا أن أي دولة تدعم الإرهاب يجب أن تحاسب. ثم ذهبنا إلى مجلس الأمن، الذي أصدر قراراً دان الإرهاب الذي يتعرض له العراق، فقلنا نعتمد على هذا، ونطالب مجلس الأمن، وطلبنا من الأميركيين مساعدتنا من أجل ذلك، وتشكيل محكمة”.

يستعيد الوزير الخطوط المضادة، التي فترت من همة العراق لإكمال ذلك التوجه “لم يكن الجو العام مشجعاً، الولايات المُتحدة في فترة أوباما قالت إن الأدلة ليست قوية، هي تخمينات، قلت أنتم أيضاً تعرفون أن معظمهم يأتون من هناك، استمرينا وضغطنا، كان في بالهم، ألا يتم دفع سوريا أكثر من لازم. بعد ذلك، ضغطنا مع الأمين العام ومجلس الأمن، الذين وافقوا في ما بعد على مطالبنا، وأرسلوا لنا المُحقق أوسكار فرنانديز. قاموا بتكليفه، لإعداد تقرير، أحضرنا كل مسؤولي الأجهزة الأمنية ليكونوا معه، وعرضنا عليه الأدلة والتحقيقات كافة. المصدر والشبكة ومن أين جاءت وكيف حصل ما حصل. كان متعاطفاً، كتب التقرير، لكن لم يعلن عنه، ولم يحدد الجهة مطلقاً. كان يجب أن يعرضه على مجلس الأمن، لكن لم يحدث ذلك”!

يذكر الوزير زيباري دور القيادات الوطنية العراقية في فرملة الجهود العراقية لمواجهة ما كان يتعرض له من قِبل سوريا “عدد من القيادات العراق كان له دور في كبح الاستمرار في الموضوع، بسبب علاقات قديمة تاريخية تجمعهم بسوريا، وكان هناك صراع داخلي بين المالكي والرئاسة، الرئيس جلال الطالباني عبّر عن اعتراضه، وعادل عبد المهدي. خفّت الهجمات السورية بعد ذلك، وحصل تدخل إيراني وتركي مباشران، والذين بدأوا بالوساطة هم الإيرانيون.

الوساطة

ذهبت إلى أحد المؤتمرات في طهران، كان وزير خارجية إيران قد دعاني إلى مأدبة الغداء، ووليد المعلم كان موجوداً، تحدثنا عما حدث، وعن إعادة العلاقات، وشيء من هذا الحديث. بعد ذلك، عرض أحمد داوود أوغلو (وزير خارجية تركيا) الوساطة، على أن تتبنى تركيا الحل، فقلت لا، نحن أعضاء في الجامعة العربية، الجامعة العربية يجب أن تكون موجودة، الجامعة العربية كانت سعيدة بذلك، وأول اجتماع كان في مكتب الجامعة، والاجتماع الثاني في إسطنبول. وكان هناك حديث قوي بيني وبين وليد المعلم. بعد ذلك، صارت هناك موافقة، بأن يتم إعادة السفراء، والبدء بتطبيع العلاقات، ووعدوا بتكثيف الضغوط على الأجانب. الأميركيون ضغطوا والاتحاد الأوروبي ضغط، لمراقبة المطارات والحدود. ولكن على الرغم من كُل ذلك لم تتوقف الهجمات”.

يعود الوزير زيباري لذكر تفاصيل تحولات العلاقات العراقية السورية، خصوصاً بعد بدء الثورة السورية “ذهبت في زيارة إلى الولايات المُتحدة مع نوري المالكي (رئيس الحكومة)، والثورة السورية كانت قد بدأت. كُنا في الجامعة العربية الدولة الوحيدة التي اعترضت على تجميد عضوية سوريا، ليس حباً بسوريا، لكنها الآلية الوحيدة التي نملكها للضغط على سوريا. نحن كان لدينا دور كبير جداً في قوات حفظ السلام العربية المرسلة إلى سوريا، من السيارات ومن الضباط، مشاركتنا كانت أعلى من كُل الدول، في ما بعد فشلت هذه الخطة. في الولايات المُتحدة قلنا إن النظام السوري لن يسقط، تركيبته تختلف، نحن نعرفهم وتعاشينا معهم.

خطأ التحليل الأميركي في سوريا

الأميركيون كانوا يتصورون أن النظام سينهار بسبب مؤشرات الاقتصاد الخاصة بهم. قلنا لهم هذه دولة تعيش على التهريب، وتعيش على دفن النفايات النووية، على تجارة الممنوعات، هذه التقديرات الخاصة بالاقتصاد والأرقام المُجردة مخطئة. أخوتنا الخليجيون كانوا متلهفين، قلنا لهم إن النظام شرس ولديه قدرة على المقاومة. لذلك، هذه التنظيمات المتطرفة ستستفيد من الصراع، وستتحول سوريا قاعدة جيدة لهم، لكنهم لم يصدقوا. في واشنطن، أتذكر جاءنا ديفيد باتريوس (مدير وكالة المخابرات المركزية) وهيلاري كلينتون (وزيرة الخارجية)، الموضوع الأساسي كان سوريا. قالوا للمالكي التحقوا، النظام السوري سيسقط. قال المالكي لا، لن يسقط. الجيش قائم، هناك مسيطرون علويون، ومسيحيون، وسنة ودروز وأقليات، متماسكون. والمعارضة معارضة إسلامية وغير جذابة، المعارضة القومية العلمانية الديمقراطية ضعيفة، ولا تملك دعماً. فصار نقاش، صديقي باتريوس كان موجوداً سابقاً في العراق، قال إن النظام السوري سيسقط، قلت له، سيادة الجنرال، أختلف مع تقييمك، قال هوشيار أنا رئيس وكالة المخابرات الأميركية، ونحن نعلم أكثر، قلت مثلما كنت تعرف أكثر عن بلدي العراق، فضحك!”.

 يسترجع الوزير زيباري صفحات من ذاكرته مع بعض الشخصيات الإقليمية التي شاركها العمل السياسي، فيقول عن الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز “أول مرة التقينا، كان ولياً للعهد، كُنا في كوالالمبور، في مؤتمر منظمة الدول الإسلامية، وكنا ضمن وفد كبير من مجلس الحكم، أياد علاوي وأنا والدكتور محمود عُثمان وعز الدين سليم، وقيادات من مجلس الحكم، أتصور في أكتوبر (تشرين أول) أو نوفمبر (تشرين ثاني) من عام 2003. أنا طلبت موعداً لنلتقي مع ولي العهد، فوافق، فزرناه، رحب بنا، وقال بما معناه، أنتم قراركم ليس بيدكم. قلت من هو السبب، أليس صدام حسين؟ وأنتم أهملتم العراق، هل ظل شيء ولم نفعله؟ وأنتم تخليتم عنا، وحدث نقاش طويل في ما بيننا. بعد ذلك، في كل مرة كنت أذهب إلى السعودية، وأطلب مقابلته كان يوافق، ويتحدث ويقول إنه يريد أن يتقدم العراق، ويجب أن نكون موحدين. كان طلبنا الرئيس، أن تُفتح السفارة، حتى يشعر شيعة العراق بعروبتهم، كُنت أُخبر الملك عبد الله إذا قمتم باحتوائهم، فإنهم لن يتجهوا نحو إيران”.

بداية الثورات

بعد اندلاع الربيع العربي، حدثت تحولات حادة في علاقات العراق الإقليمية، التي يتذكرها الوزير زيباري “عندما حدثت ثورة الياسمين في تونس، كُنت أول مسؤول من دولة عربية يزور تونس، ويهنئهم، وقدمنا لهم مساعدة مالية، لهيئة الانتخابات المستقلة، بمليوني دولار. كان هناك جدل، هل ثورات الربيع العربي كانت ستحصل لو لم يسقط صدام حسين؟ هذا كان أحد الأسئلة لدى النخب السياسية العراقية. كذلك كنا متعاطفين مع المعارضة السورية، عُقد مرة اجتماع، وتحدثت كمعارض وليس كمسؤول، وحدث زعل مع نوري المالكي وآخرين، فقلت أنا أتحدث بناء على تجربتي، كنا متعاطفين مع ليبيا مثلاً، العراق كان من الدول المشاركة في الاجتماع الذي حدث في فرنسا، لمنع الهجوم على بنغازي”.

لكن موجة الربيع العربي لم تقفز فوق العراق، الذي كان ذا وضع خاص، يقول الوزير زيباري “حدثت لدينا أيضاً تظاهرات ضمن موجة ثورات الربيع العربي، في ساحة التحرير. وجرى ضرب واعتقالات ومنعوهم من عبور الجسر، وألقت الأجهزة الأمنية قنابل غازية على المتظاهرين. رأيت ذلك وأنا ذاهب إلى اجتماع مجلس الوزراء، الكل كان خائفاً، بالذات رئيس الوزراء نوري المالكي. قلت لهم ما هو سبب خوفكم، كل هذه المطالب التي يطالبون بها، نحن قمنا بها، نحن نملك تداولاً سلمياً للسلطة، توجد انتخابات، هناك دستور، فلماذا الخوف؟ لدينا الحريات، كل هذه الأمور موجودة، فليتظاهروا يومياً، لماذا هذا الاستفزاز والعنف، أخمدوا قليلاً واهدأوا”.

يعود الوزير زيباري للتذكير بأن التظاهرات التي حدثت في المناطق السُنية العراقية في ما بعد، لم تكن ضمن موجة الربيع العربي، بل رد فعل على سلوكيات السُلطة العراقية “بدأت بمنحى آخر. التظاهرات السنية لم تكن مع ثورات الربيع العربي. كانت حالة خاصة بعد الاعتقالات، مع استبعاد طارق الهاشمي وغيره، وبدأت في المدن السنية أكثر. العنف المفرط المستخدم، التصرّفات الطائفية من الحكومة ومن الجيش ومن القوات الأمنية والقتل في كركوك والحويجة والرمادية، كان أمراً مرفوضاً، وفق الدستور، الذي يحوي مادة ترفض استخدام القوات العسكرية لفض الخلافات السياسية، لذلك كنت معارضاً هذه التصرفات”.

الحلقة الاولى

في بيته “العادي” في أعالي سفح جبل مصيف، التقت “اندبندنت عربية” القيادي الكُردي ووزير خارجية العراق الأسبق هوشيار زيباري، لتفتح معه العديد من دفاتر ذاكرته. مُنذ يفاعته الأولى كناشط وفاعل ومن ثُم قيادي في الحزب الديمقراطي الكُردستاني، مروراً بالسنوات الطويلة التي كان زيباري فيها أحد “مُهندسي” العلاقات بين قوى المُعارضة العراقية، طوال عقد التسعينيات بالذات، وختاماً بتجربته كوزير لخارجية العراق، مُنذ تشكيل عراق ما بعد صدام حسين بعد العام 2003 وحتى العام 2014. على الرُغم من كُل تلك التحولات، يبدو الوزير زيباري محافظاً على حيوية فاعليته السياسية. فالانتظار لوقت قصير في بهو منزله الجبلي، يدفع المُتابع إلى مُلاحظة كم الاجتماعات واللقاءات والاتصالات والمُراسلات التي يُجريها يومياً وتمتد إلى طيف واسع من الملفات التي ينشط بها. ملفات تبدأ من كونه وجيهاً اجتماعياً كُردياً بارزاً، يتابع أمور عائلته ومنطقته، وتمر بعمله كعضو بارز في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكُردستاني، وبعلاقات حزبه مع بقية الأحزاب والقوى الكُردية والعراقية، ولا تنتهي بشبكة العلاقات الدبلوماسية، الإقليمية والدولية، التي ما زال زيباري يحتفظ بها.

الصدمة الأولى

سألته “اندبندنت عربية” عن اللحظة التأسيسية لوجدانه وخياره السياسي، حينما انهارت الثورة الكُردية المُسلحة في العراق، عقب اتفاقية الجزائر الشهيرة عام 1975، بين نائب الرئيس العراقي وقتئذ صدام حُسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي، والتي أدت إلى وقف إيران دعمها للثوار الكرد، وإعلان المُلا مُصطفى البارزاني في إثرها إنهاء الكفاح المُسلح، وتعرض الكُرد لمؤامرة دولية.

يقول الوزير زيباري عن تلك الأوقات “في مارس (آذار) من ذلك العام، كُنت طالباً في الجامعة الأردنية في عمان، كُنت واحداً من ثلاثة طُلاب حصلوا على منحة دراسية مُقدمة من الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال، مُكلفين من قبل المُلا مُصطفى البارزاني. صُعقنا حينما سمعنا عن اتفاقية الجزائر المشؤومة، التي جرت بالتحديد يوم 6 مارس عام 1975، وانهارت ثورة سبتمبر (أيلول) العظيمة. لن أنسى أنني بكيت من هول الصدمة. فمن جانب أحسست بأن ثورتنا تعرضت لخيانة من شاه إيران والولايات المُتحدة والدول التي كانت تدعي دعم الشعب الكُردي في العراق، ومن جانب آخر لأن قرار الانسحاب ومنح مُقاتلي البيشمركة حُرية الخيار بين اللجوء إلى إيران أو تسليم أنفسهم للحكومة العراقية، كان شديد التأثير بدوره”.

يستعيد الوزير زيباري صورة المُلا مُصطفى البارزاني في ذاكرته، التي هي جزء من صورة البارزاني في كامل الذاكرة الجمعية للكُرد. فيصفه بأنه كان رجلاً “صلباً وصامداً ومؤمناً بقضية شعبه”. حتى في المحادثات الهاتفية التي جرت بينه وبين المُلا مُصطفى خلال تلك الفترة وما تلتها، باعتبار أن علاقة قرابة اجتماعية تجمع الوزير زيباري بالبارزاني، فإن هذا الأخير بحسب وصف زيباري كان مؤمناً بعودة الحركة والمقاومة والثورة، وأن ما جرى بالنسبة إلى البارزاني كان مُجرد “غدر تاريخي وطعنة في الظهر، وأنها مُجرد كبوة، والشعب الكُردي لن يقبل بالاستسلام والرضوخ”.

يتابع الوزير زيباري سرده عما علق في ما بعد في الذاكرة الجمعية الكُردية عن تلك المرحلة، فيقول: “كُل الذين تآمروا على الثورة الكُردية وقتئذ انتهى بهم المطاف بأقدار تراجيدية. إذ ذهب شاه إيران نتيجة ثورة شعبية، وكان ذلك مبعث بهجة للوجدان الجمعي الكُردي، وكذلك هوراي بومدين وصدام حُسين، اللذين كانت مصائرهما شنيعة”.

يتذكر الوزير كيف أن القيادي في الحزب الديمقراطي الكُردستاني وقتئذ مسعود بارزاني طلب منه بعد عامٍ واحد من ذلك الوقت، بعدما أنهى دراسته الجامعية في الأردن، المُغادرة إلى أوروبا، لتنظيم أحوال الحزب في الخارج، لتكون تنظيمات الحزب في الخارج وعلاقاته جزءاً من إعادة التجهيز للعودة إلى الكفاح المُسلح.

الوزير زيباري بقي سنوات ناشطاً في صفوف حزبه في الخارج، ويذكر كيف أن العمل السياسي الكُردي لم يكن قادراً على النشاط العلني والمباشر وقتذاك حتى في الدول الأوروبية، لذا فإنهم كانوا يمارسون نشاطاتهم عبر جمعية الطلبة الكرد في أوروبا، التي كانت مظلة لمُختلف التنظيمات السياسية الكُردية.

بداية الكفاح المسلح

مُنذ أواخر السبعينيات، اشترك الوزير زيباري في الكفاح المُسلح ضمن صفوف قوات البيشمركة، بعد أن حصل على شهادة الماجستير في علم الاجتماع التنموي، وغدا عضواً في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكُردستاني في المؤتمر التاسع للحزب عام 1979، وكان في السادسة والعشرين، وأصغر عضو في المكتب السياسي للحزب.

يتحدث الوزير زيباري عن تجربته في تلك السنوات: “عدت بشكل نهائي إلى كردستان، وبقيت قُرابة الشهرين، ثم كُلفت بمهمة صعبة. فبعض الأخوة في القيادة كانوا يسعون إلى امتحاني، لإثبات الجدارة. كُلفت بمهمة نقل قواعد قوات البيشمركة من النقاط الحدودية إلى الداخل العراقي. كانت ثمة لجنة اسمها “لجنة التفتيش والمراقبة”، مُختصة بمراقبة مقرات الحزب وقواعده كافة على طول الحدود العراقية والتركية، وأعطونا صلاحيات الإقالة والمحاسبة وتأكيد الانضباط، إلى جانب مكافحة العشائرية والمحليات، حتى نكون بمستوى هذا الحدث. بقيت كمقاتل في البيشمركة وتولّيت مواقع قيادية. نزلت بهذه المقرات إلى سبعين كيلومتراً، داخل العمق الكردستاني في العراق، في “جبل كارى”. السبب وراء تلك ذلك كان أن قدراتنا اتسعت وقواتنا ازدادت، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، فقد اضطرت الحكومة العراقية إلى سحب العديد من قطعاتها من كردستان إلى الجبهات الجنوبية. لذا بات المجال أكبر للتحرك وللقيام بمواجهات كبيرة مع القوات العراقية آنذاك، التي بقيت بتلك الوتيرة إلى العام 1988″.

مأساة حلبجة تُشكل حجر زاوية في ذاكرة الوزير زيباري. حيث يسرد كيف أنه في ربيع العام 1988 كان في جولة في الدول الأوربية، للتحذير مما قد تُجلبه نهاية الحرب الإيرانية العراقية من إبادة متوقعة للشعب الكُردي: “كُنا نتلمس عدداً من البوادر والتغيرات الميدانية التي تؤشر إلى قُرب نهاية تلك الحرب. وحينما حصل القصف الكيماوي لتلك البلدة، كنت مع رئيس العراق السابق في ما بعد جلال الطالباني نقود حملة إعلامية وسياسية من مدينة لندن، لتنبيه العالم إلى فداحة ما يواجه الكُرد العراقيون”. يركز الوزير زيباري على تلك اللحظة المفصلية في تاريخ علاقة المُجتمعات والقوى السياسية الأوروبية مع المسألة الكُردية. فمع انتشار خبر مأساة حلبجة، انهال تعاطف أوروبي هائل على المسألة الكُردية، سواء من القوى السياسية أو من الإعلام أو المنظمات المدنية، ونُظمت حملات شعبية متضامنة. فما جرى في حلبجة ذكّرت المُجتمعات الأوروبية بمآسي الحرب العالمية الثانية، حينما كانت الأسلحة الكيماوية والجرثومية تُستخدم ضد المُجتمعات المدنية، بحسب شرح الوزير زيباري.

مأساة حلبجة

يصف الوزير زيباري التغيرات التي أصابت تكتيكات البيشمركة عقب هجمة حلبجة الكيماوية: “آنذاك، غدا لدينا انطباع بأنه طالما دخل السلاح الكيماوي في مكافحة حرب العصابات وفي القضاء على البيشمركة والمقاومة، فيجب أن نعيد النظر في استراتيجيتنا، استراتيجية حرب العصابات، ونلجأ إلى أساليب أخرى للمقاومة، والتركيز على الداخل وعلى المدن وعلى التجمعات السكانية، وأن نبقّي قدراً محدوداً من فصائل البيشمركة لأغراض معنوية، لكن التركيز يجب أن يكون أكثر للعمل على تنشيط تنظيماتنا وقواعدنا في المدن الكردستانية والتجمعات السكنية”.

السنوات الثلاث التالية، بين عامي 1988-1991، كانت الأقسى على المُجتمع والقوى السياسية الكُردية العراقية. فالحرب العراقية الإيرانية انتهت، وتفرّغ الجيش العراقي بشكل شبه نهائي لتحطيم الحركة القومية والمُجتمع الكُردي، فمارس حملات الأنفال السيئة الصيت، والتي راح ضحيتها أكثر من 180 ألف مدني كُردي بحسب المصادر الإحصائية الكُردية، منهم خمسة آلاف ضحية من مدينة حلبجة التي قُصفت بالأسلحة الكيماوية في مارس من العام 1988.

في ربيع عام 1991، حدثت الانتفاضة الشعبية الكُردية، وتمكنت قوات البيشمركة الكُردية من السيطرة على غالبية المناطق الكُردية، حيث عاد الوزير زيباري من لندن مُباشرة: “رجعت واستقبلتني قوات البيشمركة في منطقة حاجي عمران، كان ثمة شعور غريب حينما دخلت إلى كردستان. فمن هناك غادرت إلى منطقة رواندوز، ومنها إلى مدينة آكري/عقرة، مدينة طفولتي وصباي… صدام حُسين كان قد أعدم ثلاثة من إخوتي، واحداً قتله بالسم، واثنين بحادثة مرورية مُدبرة من المخابرات بين مدينتَي أربيل والموصل، والدتي كانت قد توفيت في فترة غيابي، وعوائل أخواني شُرّدوا، وقالت الاستخبارات العراقية لهم “روحوا التحقوا بأبنائكم”. هذه كانت سياسة صدام، سياسة العقاب الجماعي، لعائلة كاملة، بسبب نشاط واحد من أبنائها”.

الضابط البريطاني المستعمر

 استمرت المناوشات بين قوات البيشمركة والجيش العراقي النظامي طوال شهور تلت اندلاع الانتفاضة، إلى أن أقرّ مجلس الأمن الدولي منطقة حظر الطيران على “الخط 36″، والتي كانت الفاعل الأهم لأن يستحصل الكُرد منطقة للحُكم الذاتي، يتذكر الوزير زيباري: “بالمناسبة، بعد سنوات من ذلك القرار، أصبحت وزيراً لخارجية العراق، وقتها كان “كولن باول” وزير خارجية للولايات المُتحدة، وفي إحدى زياراته إلى بغداد سألته: معالي الوزير ثمة سؤال شخصي وليس سياسياً: هل يُمكن أن تُخبرني عن الأمر الذي جرى حتى تم إقرار منطقة حظر الطيران لحماية الكُرد العراقيين؟ فأخبرني الوزير باول: “الرئيس بوش أتخذ قراراً بضرورة فعل شيء ما لحماية الكُرد العراقيين، وقد كنت وقتها رئيساً لهيئة أركان الجيوش الأميركية، وبعد لقاء مع الرئيس بوش، الذي طلب خطة مستعجلة لإنقاذ الأرواح، وبعد النظر إلى الخرائط، كانت الفكرة المباشرة هي منع الطيران العراقي من قصف تلك المناطق، فحملت المسطرة، ورسمت خطاً مُستقيماً على كامل الخط 36 الجُغرافي وقلت إن المنطقة شمال هذا الخط يجب أن تحظّر على طيران الجيش العراقي، كُنت أتصرف كضابط استعماري بريطاني، بجر حدود دولة ما على الخريطة، هذه الحدود التي رسمتها، كانت حدود الدولة الكردية”.

يصف الوزير زيباري بداية التواصل بين القوى السياسية الكُردية والولايات المُتحدة بأنها كانت صعبة للغاية، فالاجتماع الأول بين الطرفين حضره إلى جانب الوزير زيباري كُل من الدكتور محمود عثمان والدكتور برهم صالح، كممثلين عن الجبهة الكُردستانية، حيث التقوا بمساعد نائب وزير خارجية الولايات المُتحدة مايك ديفيد ماك. يذكر الوزير زيباري كيف أنهم عرضوا تواصلاً وتنسيقاً وتعاوناً سياسياً من قِبلهم مع الولايات المُتحدة، التي أسست منطقة آمنة للكُرد العراقيين، وكيف أن المسؤول الأميركي بعد سماع كامل الأحاديث من الحاضرين علق باقتضاب: ” مهمتنا في شمال العراق، هي مهمة إنسانية بحتة، لإنقاذ أرواح الذين فروا من الحروب، وسنتعامل مع القيادات المحلية الموجودة على الأرض، وسوف نُدخل الأمم المتحدة في المشاريع التنموية”. بمعنى ما، فإن المسؤول الأميركي طلب من القيادات الكُردية استبعاد أي اعتقاد عن إمكان تعامل الولايات المُتحدة معهم كممثلين سياسيين لمنطقة ما، بحسب وصف الزيباري.

المؤتمر الوطني العراقي

 بعد لقاء المسؤول الأميركي وبقاء الأبواب الحكومية الأميركية مُغلقة، التقى الوزير زيباري بالدكتور أحمد الجلبي، الذي كان برفقته الشيخ محمد بحر العلوم. الجلبي كان أخبر زيباري بصعوبة التواصل مع الحكومة مباشرة، وأن أبواب الكونغرس ومراكز القرار والأبحاث والمُستشارين والخبراء الأميركيين يجب أن تُدق، وحدثت تلك اللقاءات بالفعل، حيث كانت مُقدمة لتبلور المؤتمر الوطني العراقي، “كانت الفكرة ضرورة العمل على “بلات فورم” عراقي وطني، وحدث أول اجتماع للمؤتمر الوطني في فيينا، كان تشاوريّ الطابع. اشترك به الرئيس جلال الطالباني والكثير من القيادات الكُردية، حيث اعترضتنا من جديد مسألة حقوق الكُرد في العراق، إلى أن توصلنا إلى صيغة فضفاضة (حق تقرير المصير للشعب الكُردي ضمن العراق الواحد)، وهو ما كان مُقدمة لعقد مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية، في أكتوبر (تشرين أول) من العام 1992″.

يُضيف الوزير زيباري متحدثاً عن مؤتمر صلاح الدين لقوى المُعارضة العراقية في أواخر العام 1992 “الفكرة أنه لا بد من تأسيس هيكلية للمعارضة، لم تعد تنفع البيانات والشعارات. كذلك تلقينا وعداً أميركياً بالدعم إذا شكلنا تنظيماً عراقياً موحداً. في ذلك المؤتمر تبلورت القيادة الثلاثية، الشيعية والسنية والكردية. هنا لا بُد من الإشارة إلى أن اتهام الولايات المتحدة أو الدكتور أحمد الجلبي بخلق هذا التقاسم إنما هو أمر غير دقيق. إذ بالعودة إلى تاريخ العراق، فإن أول مجلس للسيادة تأسس في الزمن الجمهوري، زمن عبد الكريم قاسم، كان فيه ثلاث شخصيات، سني وشيعي وكردي، هُم الفريق نجيب الربيعي ممثلاً للعرب السُنة، والشيخ محمد مهدي كُبة ممثلاً للشيعة، والعقيد الركن خالد النقشبندي ممثلاً للكُرد، المجلس الذي كان برئاسة عبد الكريم قاسم”. يُكمل الوزير زيباري متحدثاً عن تجدد الخلاف بشأن المسألة الكُردية في ذلك المؤتمر نفسه: “اتفقنا حول الديمقراطية والنظام السياسي وإسقاط النظام، لكن أيضاً توقفنا عند موقع الكرد في العراق الجديد، حدث خلاف شديد جداً، بين العرب والكرد، أنقذتُ الموقف، حتى من دون رضا تام من الرئيس مسعود والرئيس “مام جلال”، خرجت بمقترح بديل ووسط، يقول (المؤتمر الوطني يحترم إرادة الشعب الكردي، في الفيدرالية). وقتها كانت أولى المرات التي تداولت كلمة الفيدرالية. فالكُرد كانوا يريدون الإقرار بالنظام الفيدرالي، والطرف العربي كان يرفض”.

يصف الوزير زيباري السنوات الصعبة التي سعى فيها العراقيون إلى إسقاط نظام صدام حُسين، العراقيون الذين “جربوا كُل شيء في سبيل ذلك، لكن الأحوال الإقليمية والدولية لم تكن مُساعدة لتحقيق ذلك، إلى أن جرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من العام 2001″، التي يعدّها الوزير زيباري بالمفصلية، مُضيفاً “كنت من الزوار الدائمين لواشنطن، والعواصم الأوروبية. لكن بعد ضربة 11 سبتمبر 2001 استشعرنا بأن تحولاً كبيراً جداً سيجري في المنطقة، هذا الحدث غيّر تاريخ العالم، لذا كُنا متيقنين أن العقاب بالنتيجة سيطاول صدام حسين، هذا نظام يتحدى ويرفض كل القرارات، ويستخدم أسلحة محرمة سابقاً. كنا نتحسس أن ثمة إعادة نظر للسياسة الأميركية تجاه العراق”.

اقتربت نهاية صدام

يتحدث الوزير زيباري تفصيلاً “في ربيع العام 2002، ذهبنا في زيارة سرية إلى واشنطن، إلى مكان يسمونه المزرعة، كانت زيارة للقيادات الكردية، الرئيسين بارزاني والطالباني، والدكتور برهم صالح وأنا. هناك تبلورت فكرة واضحة جداً وعملية عما جرى في ما بعد. أسّسنا من طرفنا مجموعة الأربعة، وهي بمثابة نواة لقيادة المعارضة العراقية، مؤلفة من الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني والمجلس الإسلامي الأعلى وحزب الوفاق. في تلك النواة أدركنا أن الولايات المُتحدة مُقدمة على الحرب، وأنها رُبما تُهمل دور المعارضين العراقيين، وكُنا نعتقد أنه علينا توجيه رسالة واضحة إلى القيادة الأميركية، مفادها استحالة إسقاط نظام صدام حُسين وبناء عراق جديد من دون الاستناد إلى القوى السياسية العراقية، وبالذات نواة الأربعة. لأجل ذلك أخبرت المجموعة بضرورة عقد مؤتمر وطني شامل لقوى المعارضة العراقية، ليكون صوت الشعب العراقي. وهو ما جرى في لندن بعد شهور قليلة، وكان المؤتمر بالكامل من تمويل العراقيين أنفسهم. بعدما كُنا قد التقينا كوفد من المؤتمر الوطني العراقي بوزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، في أغسطس (آب) من العام 2002، حيث كان قد وجه إلينا إشارات واضحة بأن الحرب ستقع، من دون تحديد تاريخ حدوثها”.

بعد اللقاءات الأولى التي جرت في واشنطن، يذكر الوزير زيباري أنهم كقيادة كُردية قرروا التواصل مع محيطهم الجيوسياسي، آخذين في الاعتبار إشارة أحد المسؤولين الأميركيين إلى قدرة دول الجوار على تخريب المشروع الأميركي للعراق.

يذكر الوزير زيباري أن القيادات الكُردية اجتمعت في مدينة فرانكفورت الألمانية بعد لقاءات واشنطن، وأنه طرح على الرئيس جلال الطالباني ضرورة التواصل مع سوريا وإيران، الدولتين اللتين رعتا واستضافتا قوى المُعارضة العراقية. ومن هُناك توزعت المهام بأن يذهب الرئيس مسعود البارزاني للتوافق مع دمشق، والرئيس جلال الطالباني ليفعل الأمر ذاته مع طهران.

يُضيف الوزير زيباري متحدثاً عن لقاء البارزاني مع بشار الأسد “في دمشق التقينا بالرئيس بشار الأسد، وأنا كنت حاضراً، الرئيس مسعود قال له إننا كُنا في أميركا في زيارة خاصة، وإن الحرب مقبلة لا محال وحتمية. شكك الأسد في الأمر، قائلاً (أميركا تستخدمكم مثل تحالف الشمال في أفغانستان)، فهو لم يكن يتوقع أن تقع حرب شاملة أبداً”.

موقف النظام السوري  

يتحدث الوزير زيباري عن انطباعه خلال زيارة العاصمة دمشق وقتها، وكيف أن بعض الفروق كانت تظهر بين أركان النِظام السوري “اللواء محمد ناصيف، الشخصية الأمنية التي كانت مكلفة بمتابعة الملفات العراقية في النِظام السوري، كان موقفه شديداً تجاه التطورات، وكذلك كان وزير الخارجية فاروق الشرع، بينما كان نائب الرئيس عبد الحليم خدام غير مُصدق بأن الحرب ستقع. لكن أولاً ثمة مسألة المنافع الاقتصادية التي كان يجنيها النِظام السوري من نظيره العراقي، فانفتاح الطرفين بعد العام 1997 خلق نافذة اقتصادية استثنائية للسوريين، الذين كانوا يعتقدون بأن الحرب سوف تُطيحها. إضافة إلى مخاوفهم الشديدة من أن يكونوا البلد التالي بعد العراق”.

 يُضيف الوزير زيباري واصفاً ما جرى على الدفة الإيرانية بأنه كان أكثر سلاسة، حيث وإن لم يكن ثمة تنسيق إيراني أميركي مُباشر، لكن تناغم الطرفين كان واضحاً، والكثير من القوى العراقية التي كانت تُنسق مع الولايات المُتحدة كانت شديدة الارتباط بإيران.

يُنهي الوزير زيباري حديثه عن المرحلة التي سبقت إسقاط نِظام صدام حُسين بسرد مشاعره ليلة بدء الحرب في التاسع عشر من مارس عام 2003 “كُنت جالساً إلى مكتبي في مصيف صلاح الدين، والذي كان يعجّ بالصحافيين والإعلاميين، كان ينتابني شعور دفين يقول إن هذه الحرب مشروعة، لأنها تنتصر لمظلوميتنا ككرد وكعراقيين، نحن الذين جربنا كُل شيء ولم نتمكن من إسقاط النظام الديكتاتوري ولم ننجح، لا بحرب العصابات، ولا بالمفاوضات ولا بالتظاهرات. فإذا لم يحدث التدخل الدولي، فإن أحفاد عدي صدام حُسين كانوا سيحكموننا من بعده وبعد أبيه”.

في الحلقة الأولى تحدث وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري عن بداياته في الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعن التطورات التي رافقت تأسيس المؤتمر الوطني العراقي والتنسيق مع الأميركيين قبل غزو العراق. وكيف نشأت المنطقة الآمنة في كردستان العراق بقرار من الرئيس الأسبق جورج بوش. وكشف عن تشكيك بشار الأسد في قرار الأميركيين بشن الحرب على العراق في حين لمس الأكراد سلاسة في تعاطي الإيرانيين مع الحرب التي بدأت تلوح في الأفق.

 بدأ غزو العراق في التاسع عشر من مارس (آذار) من العام 2003، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، في التاسع من أبريل (نيسان) كانت القيادة الكُردية المؤلفة بالأساس من الحزبين الرئيسين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، مشغولة خلال تلك الفترة بالمناطق المحيطة بإقليم كُردستان، وفي محافظتَي نينوى (الموصل) وكركوك تحديداً.

العودة إلى المنزل

هوشيار زيباري، المتحدّر من محافظة الموصل، يصف عملية تحرير مدينة الموصل والخلافات التي وقعت بين الطرف الأميركي والقيادة الكُردية: “بعد انهيار النظام العراقي، ودخول القوات الأميركية إلى الموصل، نشب بيننا وبين قياداتها صراع. واشنطن لم تكن تريد أن ندخل إلى الموصل، على اعتباره خارج الخط الأزرق، وكانت الضغوط كبيرة علينا، حتى لا ندخل إلى الموصل وكركوك، وكل مناطق ما بعد الخط الأزرق الوهمي، الذي لا وجود له، وهو فقط كان ما اُتفق عليه عام 1991 كحدود بين إقليم كُردستان وجيش صدام حُسين. أنا كُنت من الداعمين والضاغطين على القيادة بضرورة الدخول إلى الموصل، فنحن لدينا حصّة في الموصل، وحتى اليوم، نحصل على ثلث أصوات محافظة الموصل في الانتخابات، نحن لدينا مناطق ووحدات إدارية، ومناطق كرديّة، ونملك عيشاً مشتركاً مع سكان الموصل من بقية القوميات”.

أثناء الأحاديث السياسية حول الواقع السياسي في تلك المناطق، الوزير زيباري يروي بعض التفاصيل الاجتماعية والثقافية، التي تشوبها راهناً الكثير من أشكال سوء الفهم، حين تُصور وكأنها مناطق صراع اجتماعي كُردي عربي، يقول الوزير زيباري “أنا ثقافتي “مصلاوية”، درست في الموصل، وأملك منزلاً هناك، وأملك قطعة أرض. هي ليست جزءاً من إقليم كردستان- العراق، لكن نحن نملك حصّة فيها، ولدينا رأي في اختيار المحافظ. أنا قُمت بالضغط حتّى يتم إرسال وحدة من القوات الخاصّة الكرديّة، خلال إبريل (نيسان)، بعد دخول القوات الأميركية إلى العراق. لأنه حدث انهيار كامل في المدينة، وكانت ستحصل فوضى، لأن القوات الأميركية مُنعت من الدخول إليها عبر تركيا، فاضطرت إلى القدوم من جنوب العراق، والمسافة طويلة. بمعنى، إن لم نقرر دخول الموصل وقتها، كانت ستحصل فوضى كبيرة، وفعلاً حصلنا على موافقة لإرسال بعض من قواتنا الخاصة، نسمّيهم “زاويتا”. ذهبت بعد دخول قواتنا الخاصة إلى الموصل بيوم، بعد أن قاموا بتأمين المقرات هناك. كُنت قد تركت الموصل عام 1975، كان شعوراً جميلاً جداً، رأيت مدرستي الإعدادية “الشرقيّة”. ثمّ ذهبت إلى منزلي في حي الزهور، كان دار والدي ومضافته، كان يرافقني صحافي صديق. البيت كان مستولى عليه من قبل النظام العراقي، ويعتبر من الدور المحجوزة، باعتباري كنت من المطلوبين للعدالة حينها. من المفارقات الغريبة، أنه في زمن صدام كانت هناك سباقات ماراثون. أشخاص يقومون بكتابة اسم صدام حسين بالدم، ويركضون، تيمناً بالقائد. فأحد الأشخاص من بغداد، آتى إلى الموصل سيراً على الأقدام، فمنحه النظام الدار، هكذا أخبروني حينما وصلت إلى منزلنا”!

بداية الحكم

يقارن الوزير زيباري أحوال الكُرد المُرحَّلين من مناطقهم في زمن صدام حُسين بأحوال الفلسطينيين الذين هُجروا أيضاً من مناطقهم “بكل تأكيد كان ثمة شعور فلسطيني ما، الحالة ذاتها، والشعور ذاته. يرى أحدنا منزله بعد كل هذه السنوات، المنزل الذي كبر فيه وتربى فيه ونشأ في داخله. الأكثر تراجيدية، أنه وبعد سنوات كثيرة من تلك المأساة، فإن داعش أيضاً قامت بالاستيلاء على منزلنا من جديد، منزلنا الذي كُلما جاءت قوة غاشمة استولت عليه”.

 يسرد الوزير زيباري الأحداث التي جرت في الأشهر الأولى التي تلت احتلال القوات الأميركية للعراق، وتحديداً الدور الكُردي في تلك الأيام “بعد أسابيع قليلة من الاحتلال، زارنا فريق أميركي، مكون من الحاكم المدني وممثلي الدفاع والجيش. كانوا فريقاً كاملاً، وقُمنا باستقبالهم في دار رئيس الإقليم الحالي نيجيرفان بارزاني في أربيل. من هُناك تواصلوا مع وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد والبيت الأبيض، وخلال تلك الاجتماعات أكّدنا للوفد ضرورة تشكيل حكومة انتقالية، وإلا فإن الفوضى ستبدأ في العراق. من طرفنا، كنا نملك مجموعة جيدة، كُنا قد اتفقنا في مؤتمر لندن، ما يقارب 67 شخصية، على أن نقوم بإحضار العراقيين، من الوجوه غير البعثية، لنُعلن في ما بعد الحكومة الانتقالية، إلى حين إجراء الانتخابات. طُرحت الفكرة بين الأميركيين والقيادة الكُردية، وكان ثمة توافق مشترك على الموضوع. في اليوم التالي، وفي موكب مهيب جداً، تحرّكنا بحوالى 40 إلى 50 سيارة مع مُرافقة كاملة، وأيضاً قام “مام جلال” بإحضار عدد مماثل من السليمانية، ومر طريقنا بكركوك، سرنا ضمن كركوك، في كركوك رأينا النار المنبعثة من أبار بابا كوركور، كان شعوراً طيبّاً استثنائياً. فقد صار بإمكاننا دخول كركوك مرة ثانية من دون خوف. دخلنا بغداد بهذا الموكب المهيب، لا يمكن تخيّل الفرحة. ذهبنا إلى فندق برج الحياة، الذي صار مقراً لقوى المعارضة السابقة، ومجلس الحكم، ومركزاً للاتصالات”.

يتوقف الوزير زيباري لثوانٍ قليلة ويقول “مشيت في شوارع بغداد، ملأني التعجب، تعجّبت من صحّة الناس، لم تكن جيدة أبداً، الفقر كان يطفح من كل مكان، كان الحصار المفروض عقاباً مريراً دفع الناس أثمانه، لم تكن بغداد مدينة نظيفة أبداً كما كانت من قبل. صراحة كان هذا خطأنا في المعارضة، الخطأ الذي لم يحسب له حساب. سنوات طويلة من الحصار أثّرت في بنية المجتمع وفككته، حتّى الذهنية والعقلية، حتى الاتجاهات، وحتى التيارات الدينية المتشددة، كانت متنامية، ولم نشعر بها نحن، سواء كانت سنيّة أم شيعية”.

الكرد الأقوى على الساحة

سألت “اندبندنت عربية” الوزير زيباري عن توازن القوى بين مختلف الأطراف العراقية التي كانت في المعارضة لتشكيل السُلطة العراقية الجديدة، فأجاب الوزير زيباري “في بادئ الأمر كنا في الريادة، والمبادرة كانت بيدنا، لأننا كُنا الطرف الأقوى. معظم القيادات العراقية، كانت حماياتهم من الجيش الأميركي، وكنت شخصياً أقوم بتوفير هذه الحماية لهم. لذلك، موقفنا ووجهة نظرنا كانت قويّة ومسموعة في العراق داخلياً، ومع الولايات المتحدة والسفارات الأخرى. مقرّنا في برج الحياة كان مقصداً للجميع. الراحل محمد باقر الحكيم مثلاً، كان يرغب في القدوم من إيران إلى العراق، بعد غياب دام 30 عاماً، كان قادماً وبرفقته حماية شخصيّة مسلحة، زارني رئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي، وقال لي: (أرجو مساعدتك، حبذا لو تتحدث مع الأميركيين، وتشرح لهم بأن هذا الرجل شخصية كبيرة، ورجل دين وصديق لنا وحليفنا، للحصول على موافقة ورخصة لبعض المرافقين الشخصيين). ذهبت لرؤية القائد العسكري، وقلت إن الرجل موثوق من قبلنا وحليف وداعم للتغيير، فقال لي القائد العسكري: (إمام وقادم من بغداد وبرفقته أسلحة؟ نحن موجودون وسنقوم بحمايته. قلت له: لا، ورجوته أن يتفهم الأمر، لأن المسألة كانت محرجة في أن يقوم جندي بإيقافه على حاجز عسكري. طلب القائد مُهلة للاستفسار. بعد ذلك، سمح له ومنحوه إجازة للأسلحة الصغيرة أي المسدسات”.

يستطرد الوزير زيباري في وصف تشييد بُنى السُلطة في العراق الجديد بعد صدام حسين، بالذات مجلس الحُكم والانتخابات وتشكيل الحكومة الأولى، “فكرة مجلس الحكم هي فكرة الأمم المتحدة، وليست فكرة الطرف الأميركي”. لكن الوزير زيباري يذكر أن الأمور لم تجرِ بالسلاسة المأمولة، بل كانت ثمة صعوبات جمة “بعد أن استلم بول بريمر الحكم، وأصبح الحاكم الفعلي، وفي أحد الاجتماعات، كنت جالساً بين الرئيسين مسعود بارزاني وجلال الطالباني، وبعد أن رحب بنا، وقال إننا أناس جيدون، لكنه استدرك بشكل مفاجئ وقال: أنا القائد، وأنا من سيقوم بإدارة هذا البلد، وأنتم إذا كان لكم دور فسيكون استشارياً، وأملك قراراً من مجلس الأمن، وسنقوم بالعمل على إدارة سلطة الاحتلال وسنحكم، ومسألتنا شرعية. كان يقصد بمعنى ما “يعطيكم العافية”، لكل أعضاء المعارضة. لم يُصدق “مام جلال” ما سمعه من حديث، وانصدم. بعد أن ترجمت الحديث للرئيس بارزاني، فوراً ردّ على بريمر قائلاً “بما أن دورنا قد انتهى، سنعود إلى أربيل غداً”، “مام جلال” أيضاً قال “كنا نريد أن نكون شركاء، وهذا الموقف محزن للجميع، وإذا كان بإمكانكم إدارة البلد، فنحن سنعود”.

موقف السيستاني

 بعد عودتنا إلى الفندق، طلب الرئيس بارزاني تحضير السيارات للعودة. فقلت له لا، لديك مهمة أخرى، يجب أن يعلم هذا الإنسان أن في هذا البلد قيادات حقيقية، ويجب أن تلتقي مع السيستاني (المرجع الشيعي) في النجف، فقال هل يمكنك ترتيب الموضوع، قلت له اليوم وغداً سأحضّر له. بعد ذلك ذهبنا إلى النجف، وكان برفقتنا صحافيون. في العودة التقينا بريمر، فقال لي “لم تقل إنك ستزور النجف، كانت لدي رسالة أودك أن توصلها إلى السيستاني”، فقلت له نحن ذهبنا إلى هناك لنُعلمك أن هذا البلد يملك قيادات مُهمة، والرسالة وصلت”

يتابع الوزير زيباري وصفه لتناقضات قوى الحُكم الفعلية في العراق، بالذات بين الطرف الأميركي والمرجعيات الدينية الشيعية بشأن الجهة المخولة لكتابة الدستور العراقي الجديد “كان بريمر يملك خطة، عقد مؤتمرات محلية على الطريقة الأميركية، على مستوى المحافظات وعلى مستوى البلد. لكن مجلس الحكم أصدر قانون إدارة الدولة الانتقالية، وهذا كان مقدمة الدستور، بمعنى كانت ورقة استرشادية، ومجلس الحكم مع سلطة الائتلاف هما من قاما بوضعها، لتكون خريطة طريق للدستور. في البداية اعترضت القوى الشيعية، في ما بعد وافق الجميع على قانون الدولة العراقية. السيستاني رفض فكرة بريمر، وقال إن الدستور يجب أن يكتب من قبل أناس منتخبين من الشعب. هو في أول لقاء قال للرئيس بارزاني: بالنسبة إليّ أهم شيء هو الدستور. بدورها كانت القوى السُنية رافضة. يُضيف الوزير زيباري “حتى عندما بدأت تتشكل المؤسسات والجيش والسلطات، رفضت (القوى السنية) المشاركة، حتى إن القيادات السنية حرّمت مشاركة السنة في التشكيلات التي صارت حينها. نحن كنا نؤيد ونشجع السنة، وكانوا ينظمون مؤتمرات في أربيل، وتحدثنا معهم، وقلنا إذا كانت لديهم أحلام بأن يعود العراق كما كان، فهو أمر مستحيل. كان لسوريا دور تخريبي في دفع القوى السُنية إلى ذلك الطريق”.

الفيدرالية والدستور

كما كُلّ جولات الحوار العراقية، فإن موقع الكُرد وحقوقهم وعلاقتهم مع الدولة المركزية عادت موضع جدال بين مختلف القوى العراقية، وخصوصاً في مسألة الفيدرالية، التي يقول عنها الوزير زيباري “نحن فرضنا الفيدرالية، وصارت جزءاً من قانون إدارة الدولة. فريقنا كان قوياً وكفوءاً وقانونياً ومنسجماً، من الكرد والأجانب والخبراء والتقنيين. القوى السياسية لم تأخذ المسألة على محمل الجد، ونحن كان لدينا تصور واضح. كذلك تمكنا من فرض مبدأ حق ثلاث مُحافظات في رفض أي تعديل مُستقبلي لدستور العراق، كي لا تقوم الأغلبية بسحقنا. معظم اللقاءات صارت في مقرنا في المنطقة الخضراء، وفيها صورة الملا مصطفى بارزاني. حقيقة نحن كنا أقوياء في بغداد، ولم نكن مهمشين، كنا أصحاب قرار، وكنا موجودين في بغداد بقوة. فقد كان الرئيس برزاني يأتي إلى بغداد، ويُقصف مقره خمس مرات كُل يوم، ويفقد الحرس حياتهم، ولا يتحرك من مكانه، كذلك كان يفعل الرئيس الطالباني، كان ذلك منبع قوة لنا ولحقوقنا”.

 يُكمل الوزير زيباري واصفاً النجاح السريع للطروحات الكُردية، بالذات في تجربة الفيدرالية، التي يراها اليوم حية وحلاً معقولاً للكثير من مشاكل العراق الراهنة، “الحقيقة تجربة الفيدرالية أو تجربة الإقليم الجغرافي نجحت في العراق، لذلك، صارت محل طلب، وأول طلب لإنشاء إقليم كان في الجنوب من قبل أهالي البصرة، لديهم إدارة والدستور يسمح بذلك، وهناك آليات معينة لتشكيل الأقاليم مثل إقليم كردستان. وبعد أحداث الموصل، وبعد ما حصل بحق الإيزيديين والشيعة خلال فترة وجود داعش. صار هناك استفسار عن كيف يمكن هؤلاء الناس أن يعيشوا معاً مرة ثانية من دون أقاليم مُستقلة نسبياً عن بعضها بعضاً”!

فلول صدام

 خلال تلك الأشهر القليلة، بدأت في بغداد عمليات العنف، وتصاعدت لتشغل كامل المنطقة الوسطى من العراق خلال أقل من سنتين. يتذكر الوزير زيباري الأحداث التي جرت وقتها، والتي أدت إلى انتشار العنف في العراق ” أسباب عديدة كانت تقف وراء العنف وبدء المقاومة، مقاومة المحتل. أريد أن أذكر أمانةً، أن معظمهم كانوا من بقايا النظام العراقي السابق، من الجيش والبعث وفدائيي صدام والمخابرات والأجهزة الأمنية والعشائر الموالية. كان هؤلاء الأساس، بعدها قامت جهات ثانية وبأسماء أخرى، مثل ثورة العشرين والنقشبندية وجيش العراق الحر، وكل فصيل كان يعمل في منطقة. صدام حسين وجماعته، عندما علموا أنهم لا يستطيعون الوقوف أمام القوة الأميركية الهائلة، مثلما كشفت الوثائق في ما بعد، فإنهم قاموا بتشجيع حرب العصابات والمقاومة المسلحة. أيضاً الجهة الثانية التي استفادت من الأمر هي القوة المتطرفة دينياً. الجيش الأميركي كان يحتل بلداً عربياً وإسلامياً، لذلك فإن تنظيمات مثل القاعدة كان الأمر بالنسبة إليها فرصة ذهبية. أيضاً، دول الجوار، وتحديداً سوريا، وبسبب الخوف من أن هذه التجربة يمكن أن تنتقل إليها، قامت بتسهيل عمل هذه الجماعات وساعدت في تكوينها”.

لكن الوزير زيباري لا ينكر دور الأحوال الداخلية في العراق، فيعتبرها واحداً من أهم العوامل التي أدت إلى انتشار العنف، سارداً شبه سيرة للنظام السابق “ما قام به البعث أو صدام، بحق الكرد والشيعة وحتى السنة لم يكن قليلاً. بمعنى كان هناك كثير من الناس ملطخة أياديهم بالدم، وكانوا مطلوبين، ومعظمهم اعتقلتهم السلطات الأميركية. في الحارة الواحدة كان الناس يعرفون من هو عنصر الجيش أو المخابرات أو الأمن. وهذا الأمر موجود في كل حالة تغيير. الشيء الذي يؤخذ عليه هو قانون حل الجيش، كانت عملية انتقامية من أميركا، وتؤخذ علينا أيضاً لأننا كنا من الداعمين والمؤيدين حل الجيش. لأن هذا الجيش قتلنا وذبحنا وضربنا بالغازات الكيماوية وهجّرنا، وهذا الجيش بُني على أسس عقائدية وشوفينية ولم يكن جيشاً وطنياً. وفي الأساس لم يبق أحد من الجيش، الكل عاد إلى منزله، وترك المعسكرات. النقطة الأخرى، موضوع اجتثاث البعث، حقيقة شوهوا المسعى والهدف الأساسي له. حساباتنا كانت للشريحة القيادية في حزب البعث، والفِرق القُطرية والقومية في المستويات العليا، أما البقية فلا، وهو ما لم يحدث”.

يُكمل الوزير زيباري واصفاً اللوحة الإقليمية التي أحاطت بالعراق خلال السنتين الأوليين لاحتلاله “كان الهدف إرغام الأميركيين على الخروج من العراق، كي لا ينتقل الاحتلال إلى بلد آخر. حقيقةً الإيرانيون كانوا أذكياء، بعكس السوريين. إيران كانت أول الدول التي زارت العراق وهنأت مجلس الحكم، وقالت إنها تدعمه. وفي المقابل كانوا يلتقون مع السوريين في قراءة الموقف في العراق، ويعتبرون الأمر خطراً مشتركاً. الإيرانيون بدأوا بدعم مجموعاتهم الخاصة، لاستهداف الأميركيين، فالتقت مصالحهم طبعاً. هذا ما قاله لي أيضاً الراحل رفيق الحريري، حينما طلب رؤيتي مرة في السعودية، كنت على وشك الخروج منها، فقال لي انتظرني يجب أن أراك. التقينا هناك، ونبهني بأن السوريين والإيرانيين غير متفقين مئة في المئة، لكنهم يلتقون في نقطة إفشال المشروع الأميركي”.

الدور التركي

 يُضيف الوزير زيباري وصفه للمشهد الإقليمي الذي تشكل خلال تلك المرحلة من عمر العراق السياسي، مُحدداً شكل التعامل التُركي مع المشهد العراقي الجديد “بعد تأسيس مجلس الحكم، وتشكيل الحكومة الأولى في زمن حُكم بول بريمر، زارنا وفد تركي كبير. بينهم وكيل وزير الخارجية وسفراء. للمصادفة كان بينهم مترجم عربي- تركي، هو من عرب تركيا، اسمه عبد الرحمن. رحبت بهم في مقر الوزارة، وذكّرتهم بحادثة قبل عام أو عامين تقريباً. قلت لهم، كنت معكم في وزارة الخارجية، ونبهتكم بأن كل الدول تملك سياسة تجاه العراق، إلا تركيا. بمعنى، غداً يمكن أن يموت صدام، حتى ولو لم تحصل الحرب. أنتم كأتراك ما هي سياستكم تجاه العراق؟ إيران تملك سياسة، سوريا تملك سياسة، السعودية تملك سياسة. فقالوا إن سياستهم هي الحفاظ على وحدة العراق، فقلت لهم هذا ليس كافياً، وقلت: ميدانياً لا تملكون أحداً على الأرض، لديكم الجبهة التركمانية، نحن أيضاً حلفاؤكم، اعتبرونا كذلك. سيكون لنا رأي، ليس مستبعداً أنه بعد سقوط صدام حسين، سألتقي بكم. فقال عبد الرحمن، المترجم: أنا أشهد. فبدأوا بتقبل الفكرة، لكنهم كانوا ضد الأميركيين. كان ذلك بحسب تصوري لأنهم دخلوا في خلاف شنيع وعنيف مع الولايات المتحدة، وأضرّوا بالأميركيين. الولايات المتحدة تعتقد بأن سبب المقاومة السنية في مثلث السنة، هو منع مرور الفرقة الرابعة المدرعة من تركيا إلى العراق وقت الحرب، للإمساك (بمحافظتَي) صلاح الدين والموصل وغيرهما”.

الحالة السورية بالنسبة إلى الوزير زيباري كانت خاصة، لأن أغلب الساسة السوريين كانوا أسرى خطاب قومي بعثي، يسعى إلى عدم الاعتراف بالوضع العراقي الجديد عبر المزايدة على القوى العراقية الجديدة. يذكر الوزير زيباري حدثاً مع وزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع، الذي كان ذا دور أساسي في ذلك الإطار “في كل مرة نلتقي به، كان الوزير الشرع يلقي علينا محاضرة، يقول احتلال ومتعاونون مع الاحتلال. في إحدى المرات لم أتمالك نفسي، وقمت بالرد عليه. قلت له (أنت زودتها، نحن نعلم من نكون، وإذا أنت تتحدث عن الاحتلال فسوريا كانت من المصوّتين على قرار احتلال العراق في مجلس الأمن، وأنت الآن تزايد علينا). سوريا لم تكن تعترف بنا، كنا نقول لهم إننا أصدقاؤكم، وعشنا في دمشق، وأغلب قيادات مجلس الحكم يملكون منازل هناك. لماذا كل هذا العناد والتكبّر؟ هل نحن غير مؤهلين، أم لسنا بمستواكم؟ فيما بعد ذهب الأميركان إلى دمشق، ذهب كولن باول، تشجعوا للفكرة، المسؤول الأميركي ذهب كي يطمئنهم، ويؤكد لهم بأنهم غير مستهدفين، كان بإمكان الولايات المتحدة أن تردعهم”.

وزير للخارجية

يُنهي الوزير زيباري حديثه عن المرحلة التأسيسية لنِظام الحُكم العراقي الجديد واصفاً الآلية التي أصبح بموجبها وزيراً لخارجية العراق “عندما كنت في بغداد ونشطاً في المعارضة، كان لدى الأميركيين مجموعة الـ”CA” وهم كانوا مستشارين في الوزارات كافة. مستشارون أميركيون ورومانيون وبولونيون، في وزارات الخارجية والتربية والدفاع والداخلية. فأول مرة جاء موظفون من الخارجية العراقية، لا أعرفهم، وقالوا إن اسمي يتداولونه كثيراً، وإنني سأصبح وزيراً للخارجية. فقلت أنا لم يتم تبليغي بشيء. بعدها ذهبت مرة إلى القصر، جاءني مستشار روماني، كان برتبة سفير، كان يشرف على شؤون وزارة الخارجية، فقال لي إن هناك رغبة كبيرة جداً بأن يتم تعييني في منصب وزير الخارجية في حال تشكيل الحكومة. فقلت إن القرار ليس في يدي، أنا جندي، إن قامت قيادتي بتكليفي سأقبل، وإن لم تكلفني لن أقبل. وحقيقة في اجتماعات مجلس الحكم أكبر الداعمين لي كان الراحل أحمد الجلبي”.

سألت “اندبندنت عربية” الوزير زيباري عن أول عمل فعله حينما أصبح وزيراً لخارجية العراق، بعدما أبدى أعجابه بوزيري خارجية العراق السابقين فاضل الجمالي وعدنان الباجه جي، يُجيب الوزير زيباري “كشخص عراقي شغل منصب وزير الخارجية، افتخر بأني حافظت وصُنت أرشيف وزارة الخارجية، كان موجوداً في سرداب وزارة الخارجية، من فترة تأسيس الدولة العراقية إلى الآن، وقمنا بتحويله إلى أقراص إلكترونية. أول مرة ذهبت فيها إلى وزارة الخارجية، كان هناك سفراء وموظفون كبار، وكانوا متوجسين من وجودي. كردي وقادم إلينا؟ قلت لهم: أنا كنت ضدكم لكن خارج الوزارة هذه أما الآن فأنا موجود بينكم، ونحن فريق واحد”.

موضوع اجتثاث البعث، حقيقة شوهوا المسعى والهدف الأساسي له. حساباتنا كانت للشريحة القيادية في حزب البعث، والفِرق القُطرية والقومية في المستويات العليا، أما البقية فلا، وهو ما لم يحدث”.

وتحديداً سوريا، وبسبب الخوف من أن هذه التجربة يمكن أن تنتقل إليها، قامت بتسهيل عمل هذه الجماعات وساعدت في تكوينها”.