1 العِراق.. «عاصوف» الصحوة الدينية
رشيد الخيّون الاتحاد الاماراتية
عرضت فضائية (إم. بي. سي)، مسلسل «العاصوف»، بجزئين، الأول ما يخص الحياة قُبيل الصَّحوة الدِّينية بالمملكة العربية السعودية، والثّاني ما يخص زمن «الصَّحوة الدِّينية»، التي محت العلاقات الاجتماعية الطَّبيعية النَّامية آنذاك، لتحولها إلى تشدد أخذ يطغى على أجواء المدرسة والشَّارع، عبر الوعد بنظام ديني والوعيد بعذاب الآخرة.
كان الممثل ناصر القصبي، يُفكر منذ فترة بمثل هذا العمل، الذي يُسجل لتلك الحقبة، حتى سنح الظَّرف بتحقيق عمله، ولشدة أثر الصَّحوة سمَّي العمل بـ«العاصوف»، ومعناه الرِّيح الشَّديدة. فكانت الأفكار الصَّحوية تعصف في العقول، «عاصوف» شمل المنطقة ككلِّ، اعتمد على حوادث كبرى في(1979): الثَّورة الإيرانية التي بثت الرُّوح في الإسلام السِّياسي صاحب الصَّحوة، وحادثة جهيمان العتيبي(أعدم 1980)، بتلفيق مهدي منتظر تمت مبايعته داخل الحرم، ثم ختمت تلك السَّنة بالحرب الدِّينية الأفغانية، التي منها تفرعت الجماعات المتطرفة شرقاً وغرباً.
كان شيوخ وشباب الصَّحوة يُحددون نوع الملابس، ويفرضون ما يُسمع في الكاسيت والرَّاديو وما يُشاهد في التلفزيون، والثّقل الأكبر وقع على المرأة. مَن يُشاهد المسلسل المذكور بجزئيه خلال رمضان(2018) و(2019)، يدرك شدة انفلات القوى الدِّينية على المجتمع. كانت الظَّروف لا تسمح بالمجابهة، ومَن واجهه الصَّحوة عرض نفسه للمخاطر، فالزَّمن زمنهم، وهذا ما عبر عنه المتصدي ضدهم آنذاك غازي القُصيبي(ت2010) في بيت أسمعه لأحد أزلامها: «يا أَيُّها الرَجُلُ المُرخي عِمامَتَهُ/هَذا زَمانُكَ إِنّي قَد مَضى زَمَني»(البيت لجرير)، وهو أبلغ تعبير عن المرحلة واحتكارها مِن قِبل الصَّحويين.
كان الوضع بالمنطقة، يسير لصالح ثقافة الإسلام السِّياسي، فحدث تغيير كبير على أفكار وممارسات النَّاس. أخذت الثّقة تنعدم داخل الأسر، والعلاقات بين الأخوات والإخوان تُحدد بالفتاوى والوصايا. هذا ما بدأ يدب بالعراق من أواسط السبعينيات، حتى توج بالحملة الإيمانية في السنوات الأولى مِن عَقد التسعينيات، فحصل «الصَّحويون» عبرها على شرعيتهم، وأخذ رموزهم يشتمون الفلسفة والفلاسفة ورجال التَّنوير علانية مِن على المنابر، ويفتون بجواز الغش في الامتحانات المدرسية غير الدينية، ويهاجمون غير المحجبات مِن النِّساء، بعد أن بدأ «الإخوان» ومعممو الدَّعوة بالإفتاء لحجاب طالبات الجامعة، كأبرز مظهر مِن مظاهر الصَّحوة.
بدأت الصحوة الدينية داخل العراق، بنشاط «الإخوان المسلمين» (تأسسوا بالأربعينيات) و«الدعوة الإسلامية» (تأسست1959)، في الجامعات والمدارس والمحلات العامة، بشكل سري حينها، فما أن يُكسب «إخواني» أو دعوي مِن داخل الأُسرة إلا ويضع شروطه على أسرته، معتبراً التدين المعتاد جاهلية، على هدي سيد قطب (أعدم1966)، الذي تثقف بكتبه الشِّيعة والسُّنة مِن الأحزاب الدِّينية. مع الإلحاح في فرض الحِجاب على الزَّوجات والأخوات وبنات العم، وزواجهنَّ مِن «صحويين»، إلى منع جهاز التلفزيون في الدَّار، كذلك لا يُسمع في السيارة غير المواعظ وأدبيات عاشوراء.
أخذ النَّاس يضطربون في علاقاتهم، حتى أخذ التدين «الصَّحوي» يغرس الكراهية عبر الطَّعام والمعاشرة، مثل القول بـ«نجاسة» الإنسان، وعدم الترحيب بغير المسلم، والنَّظر إلى بناء الكنيسة بأنه ضد الإسلام. أخذ النَّاس يلتفتون إلى التمييز طائفياً بينهم البين. ظهر في بدايات الصَّحوة التعامل بالبنك الإسلامي، فشاع كتاب «البنك اللاربوي»، الذي مجرد تغيير في أسماء الفائدة لتصبح حلالاً، على اعتبار أن البنوك الرَّسمية ربوية.
أخذت تطغى الأسماء والكُنى الدِّينية على الآباء والمواليد. تحولت الأعراس، بين أُسر القوى الدِّينية، إلى جلسات صامتة، لا فرق فيها بين تقاليد العرس والمآتم. جاء التفكير بالمواكب الحُسينية الجامعية، كدعوة مظهرها تنقية طقوس عاشوراء، وباطنها أجواء لممارسة العمل الحزبي. كذلك نشطت الزيارات المشتركة إلى الأضرحة، خارج المعتاد، والسَّفرات الدينية، على شكل معسكرات، مع إعفاء اللحُى للشباب والحِجاب للشابات. كانت السُّلطة السَّابقة توجت تلك الصَّحوة بحملتها الإيمانية، وأما اللاحقة فجعلتها رسمية، وصار للفساد في ظلها ألف وجه.
كانت القوى الدِّينية تضغط اجتماعياً، ويُكلف كلّ منتمٍ القيام بدوره في أسرته، وبين أصدقائه، والبداية بالدَّعوة إلى التَّدين، ثم التوجه إلى الكسب الحزبي. انتقاد كلّ شيء اجتماعي ليس على أسلوبهم. أخذ المجتمع يُصبغ بصبغة العسكرة الدِّينية، كنوع الحِجاب الواحد، غير الحجاب التقليدي مثل العباءة العراقية المعروفة، والتَّركيز على عبارة التَّحية، ومنها يميزون بين المتدين وغير المتدين.
أما أهم ما وصلت القوى الدِّينية بصحوتها، فهو رخص الحياة، «في سبيل الله والدِّين»، والحقيقة كانت في سبيل الجماعة، بعد إغراء الشَّباب بنيل «الشَّهادة». كم مِن ضحية صحوتهم وضحية النِّظام سمي بـ«الشَّهيد السّعيد»!
للجواهري(ت1997)، ما يُغني عن التصريح بالأماني، في الخلاص مِن عبث هذه الصَّحوة على الدِّين والوطن: «لنا فِيك يا نشء العراق رغائبُ/ أيسعفُ فيها دهرُنا أم يمانعُ»(الثورة العراقية). غير أن النشء الذي نخاطبه تبدأ معه ثقافة الصَّحوة أو تشويه العقل مِن الطُّفولة، فأي رغائب لنَّا فيه؟!
أقول مَن مِن الفنانين سيُبادر إلى عمل لـ«عاصوف» عراقي، فإذا كانت الصَّحوة التي كشف عنها «عاصوف» الفنان السعودي القصبي بدأت بالزَّوال، إلا أن «عاصوف» الصَّحوة الدِّينية ببلاد الرافدين، جنوباً وشمالاً، مازال يهب بشدة، بقوة شرسة لديها المال والسلاح والسلطة أيضاً، يصعبُ ترقيع فتوقها في الثَّقافة الدِّينية والدُّنيوية، وكل جماعة تنفث سمومها، عبر فضائيات وصحف وأمكنة عبادة!
2 جدل حول قرار حل الحشد الشعبي عبدالمحسن حمادة
الجريدة الكويتية
أثار قرار الحكومة العراقية القاضي بحل فصائل الحشد الشعبي ودمجها مع مؤسسات الدولة جدلا واسعا في الشارع العراقي بين مؤيد ومعارض لذلك القرار، وقد يكون ظهور الحشد الشعبي في البداية ضروريا وملحا على الساحة العراقية، وذلك بعد ظهور إرهاب “داعش” وتمكنه من اجتياح الموصل، وهزيمته للجيش العراقي الذي بدا مفككا وضعيفا ومنهارا، وكان ذلك عام 2014.
ظهر الحشد الشعبي والعشائري في تلك الظروف وبدعم من المرجعية الدينية، فكان له دور فعال في محاربة الإرهاب، وكانت له تضحيات كبيرة، ولما تولى الرئيس العبادي رئاسة الوزارة، وأصبح القائد الأعلى للجيش العراقي جعل مهمته الرئيسة بناء الجيش العراقي والقضاء على الإرهاب والانتصار عليه، وبالفعل أعاد بناء الجيش وتمكن من هزيمة الإرهاب، واحتفل بعيد النصر، ومن ثم أصدر قرارا بحل الحشد الشعبي إيمانا منه بضرورة حصر السلاح في يد الدولة، وأن يكون للدولة جيشٌ وطني هو الوحيد المسؤول عن الدفاع عنها.
ونظرا لعدم تمكن العبادي من الفوز برئاسة الوزارة مرة أخرى جُمد قرار الحل، إلا أن حكومة د. عادل عبدالمهدي أصدرت قراراً الأسبوع الماضي يقضي بحل فصائل الحشد الشعبي؛ مما يعني أن هذه المشكلة أصبحت مطلبا عراقيا. ويُعتقد أن فصائل الحشد الشعبي قد تكونت في 18/ 6/ 2014 استجابة لدعوة المرجع الديني علي السيستاني للشعب العراقي إلى حمل السلاح لمواجهة تنظيم “داعش” الذي سيطر على ثلث أراضي العراق حينها، ووصفت فتوى السيستاني فقهيا بالجهاد الكفائي، إذ دعا كل من يستطيع حمل السلاح للتطوع لقتال “داعش” ونادى بالتعبئة الشعبية لدرء خطر التنظيم الإرهابي.
ولم ينضوِ من لبى دعوة السيستاني للقوات الرسمية، بل وجدوا في ميليشيات مسلحة كانت قائمة بالفعل مثل عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، ومنظمة بدر، وسرايا السلام، والنجباء، وكتائب سيد الشهداء، ويعتقد أن هناك أكثر من أربعين فصيلا منضوية تحت ما يسمى الحشد الشعبي، وتوحدت تلك الميليشيات تحت مسمى الحشد الشعبي، ومن ثم شكلت نواته، وحظيت تلك الميليشيات بدعم وتدريب وتمويل من نظام طهران، وكان قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني هو من يتولى الاتصال والتنسيق مع تلك الميليشيات.
وأصبح لتلك الفصائل صحافتها وقنواتها التلفزيونية الخاصة بها وميزانيتها، وادعى بعضها أنه يملك سلاحا أقوى من سلاح الجيش، وأعلن بعضهم أنه لن يستطيع أحد حل الحشد، وأنه سيقطع اليد التي تمتد لحله. وادعى أن قرار الحل جاء نتيجة لضغوط أميركية ومن دول الخليج التي أخافها نمو قوة الحشد وتطوره، خصوصاً بعد إسقاط الطائرة الأميركية المتطورة التي أسقطت بنيران الحشد وليست من إيران كما ادعت أميركا.
والحقيقة التي نتمنى أن يتفهمها ويدرك كنهها كل عراقي محب للعراق ومستقبله أن عليه أن يدرك أن قرار الحكومة العراقية بحل الميليشيات وحصر السلاح في يد الدولة قرارٌ حكيمٌ لمصلحة العراق الذي أنهكته الحروب والنزاعات، فعلى الشعب العراقي أن يدعم ذلك القرار، خصوصا إذا علمنا أن بعض تلك الميليشيات تأسست في إيران وموالية لنظام طهران أكثر من ولائها للدولة العراقية.
3 ثلاثة عوامل قد تؤجج الاضطرابات في العراق
فالح الحمراني القدس العربي
بسبب الوضع السياسي المضطرب الآن في العراق، من المتحمل أن تشهد البلاد موجة من الاحتجاجات الشعبية. ويعتبر العديد من علماء الاجتماع، أن المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ثلاثة عوامل رئيسية تقف وراء الثورات، والعراق معرض لخطر كبير على الجبهات الثلاث. ويبدو أن الاضطرابات الاجتماعية أمر لا مفر منه مع معدل بطالة يقدر بنحو 40% بين الشباب العراقيين الذين يواجهون مستقبلاً غامضاً.
ولا تزال الدولة غير قادرة على استحداث وظائف، وخلق بيئة تسمح للقطاع الخاص بالازدهار، وخلق الفرص لجميع العراقيين، وهذا يمثل مشكلة كبيرة. إن التمرد لا يهدف بالضرورة إلى تغيير كلي في النظام: يتفق العراقيون على أن الديمقراطية تناسب احتياجاتهم، لكن العديد من الأصوات في العراق، بمن في ذلك بعض القادة المؤثرين مثل السيد مقتدى الصدر، طالبوا بانتفاضة سلمية، لاستئصال أسباب الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإعادة تشكيل الحكومة العراقية بطريقة من شأنها أن تنال ثقة الجمهور. ورغم سباق مضن استمر ثمانية أشهر تقريبًا لتشكيل الحكومة الجديدة في العراق.. إلا أن الحكومة لم تكتمل بعد، الصعوبات في تشكيل الحكومات في واقع الشرق الأوسط، ظاهرة في الجمهوريات ذات الحكم البرلماني، ولكن أخيرًا في 23 يونيو/حزيران الماضي، ، تم اتخاذ خطوة مهمة في العراق، إذ تم تعيين نجاح حسن الشمري وزيرا للدفاع، وياسين الياسري وزيرا للداخلية، وفاروق أمين وزيرا للعدل، ولكن المجلس لم يصدّق على تعيين المرشحة لشغل منصب وزير التربية سفانة الحمداني.
والسؤال المطروح بأي ثمن تم تحقيق ذلك؟ النتيجة الواضحة الأولى كانت خروجا صاخبا لتيار الحكمة من تحالف من «أجل الإصلاح». يبدو أن الوسطيين يشعرون بالغبن في توزيع المناصب، التي أسفرت عنها مفاوضات ما وراء الكواليس، وعلى الفور هاجموا في وسائل الإعلام رئيس الوزراء وزملاءه من كتلتي «سائرون» و»الفتح». وبالتالي، يمكننا أن نعلن نهاية تحالف» الثلاثي البرلماني المنتصر»، الذي تشكل بعد الانتخابات بفترة وجيزة. لقد استخدم ناشطو الفتح المتقدمون في الانتخابات، من «سائرون» تيار الحكمة صمام أمان، في المفاوضات مع أحزاب المعارضة. وسيؤدي ذلك إلى جلب الكثير من الموضوعات الجديدة في الواقع اليومي للبرلمان العراقي، ولكن أقل بكثير من أهمية تعيين وزيري الدفاع والشؤون الداخلية. كان إجراء أداء اليمين روتينياً، «في مناخ عملي» وجرى حسم الموضوع في اجتماع واحد للبرلمانيين، وحتى لم يُترك الوقت لأسئلة أخرى، ولكن سبقت ذلك مساومة غير مسبوقة من وراء الكواليس، بدأت منذ اليوم الأول تمامًا، حين قدم عادل عبد المهدي منذ 8 أشهر 18 مرشحًا من أصل 22، تاركًا إلى «ما بعد» 4 وزارات، اثنتين منها، للشؤون الدفاعية والداخلية، وهما الأكثر أهمية في العراق بعد وزارة النفط، حتى الاتفاق بين الكتل السياسية، الذي استغرق تحقيقه كل هذا الوقت.
كل ما جرى يناقض بصورةً لافتة، مصالح بناء الدولة، أو الأداء الطبيعي لجهاز السلطة التنفيذية، حيث تحول إلى مهزلة لا تنتهي، صاحبتها اتهامات متبادلة، ومساومات ومضاربات، وابتزاز وإنذارات. وفي المرحلة الأخيرة من العملية، أرسل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي خطابًا إلى رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، الذي تضمن، بالإضافة إلى وصف مفصل للمشكلة، تلميحًا واضحًا إلى أنه يكفي الانشغال بمشكلة تعيين الوزراء المتبقين من دون نهاية، لأن كل هذا يتجاوز المنطق السليم. وبالطبع، لم يصبح هذا الخطاب في حد ذاته، سببًا لاستكمال مناقشة المرشحين والموافقة عليهم، فقد تم التوصل إلى الاتفاق الأساسي، كما نرى ذلك في نص رسالة عبد المهدي، في وقت سابق.
وعلى هذا النحو، يصبح من الواضح أنه في الفترة ما بين 9 و20 يونيو، تم التوصل إلى اتفاق بشأن المناصب الشاغرة الرئيسية، وكذلك على منصب وزير العدل الاتحادي، وهو أمر سياسي مهم للتكتل الكردي.
لقد مرت ستة عشر عاماً منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، وما زالت البلاد تعاني من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى لم يتم حلها. حتى أكثر الناس تشاؤما في العراق، لم يظنوا أن الوضع سيكون بهذا القدر من السوء، والسياسيون من جميع الخلفيات لا يستجيبون للتحديات التي تواجهها البلاد، وترجع الفوضى السياسية الحالية في العراق إلى حد كبير إلى دستور عام 2005 المكتوب على عجل، وتعاون مختلف السياسيين من ممثلي مكونات المجتمع العراقي، لتأمين فوائد قصيرة الأجل لمصالحهم الخاصة.
ستة عشر عاماً منذ غزو العراق وما زالت البلاد تعاني من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية كبرى لم يتم حلها
والدستور غامض في كثير من النواحي، والقضايا الأكثر حساسية مثل توزيع عائدات النفط، وحدود إقليم كردستان، وأكبر كتلة انتخابية ترشح لرئيس الوزراء، والعديد من القضايا الأخرى، عرضة لتفسيرات مختلفة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى مزيد من الانقسام والصراع وعدم التسامح، ولا يحتاج العراق إلى إعادة كتابة الدستور بأكمله، لكن بعض الأجزاء بحاجة إلى التغيير، لأن الوضع الراهن يغذي الطائفية وينتج سياسيين ومسؤولين حكوميين فاسدين. وكشفت السنوات الأربع عشرة الماضية عن الحاجة الملحة إلى العديد من التعديلات الدستورية، لتوضيح معنى ونطاق الفيدرالية، وإعادة تشكيل المؤسسات الوطنية، ومراجعة النظام الانتخابي، وإعادة النظر في النظام البرلماني نفسه. ومن الناحية الاقتصادية، على الرغم من العائدات النفطية البالغة 1 تريليون دولار، التي تم توليدها منذ عام 2005، فإن مستوى الفقر في العراق مروع. لم يستفد معظم العراقيين من ثروة البلاد النفطية، لكن نسبة صغيرة من السياسيين وعائلاتهم وميليشياتهم استفادت على نطاق واسع. ويظل الاقتصاد العراقي أكثر ريعية، حيث يمثل النفط البعد الوحيد، وتستخدم الحكومة عائدات النفط لدفع رواتب ما يقرب من ثلاثة ملايين موظف في القطاع العام. لا يزال القطاع الخاص متخلفاً.. لا توجد قوانين فعالة لتحفيز الشركات الخاصة، وبالتالي فإن أصحاب المشاريع المحليين والدوليين عرضة للفساد، ومرة أخرى يتم اختزال العراقيين العاديين. من الناحية الاجتماعية، وعلى الرغم من النصر الكبير الذي حققه الجيش العراقي وقوات التعبئة الشعبية – بدعم من تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة ـ ضد ما يسمى بـ»دولة العراق الإسلامية والشام» (داعش) في عام 2017، فالثقة معدومة والخوف لا يزال يسيطر على شرائح المجتمع العراقي المختلفة، وانعدام الثقة في الحكومة المركزية عالية. وما لم تتخذ الحكومة خطوات لتغيير النظرة العامة والتماسك الاجتماعي، فإن الأمن القومي سيكون في خطر. وأدى الافتقار إلى الخدمات الأساسية، مثل المياه النظيفة والكهرباء، في بغداد والمدن الكبرى في الجنوب إلى احتجاجات تلقت تغطية صحافية دولية، لكنها لم تدفع الحكومة إلى اتخاذ خطوات ملموسة لمعالجة القضايا الأساسية.
4 الثقافة الجمعية العراقية امام اختبار كوردي حقيقي
انس الشيخ مظهر راي اليوم بريطانيا
لو ان المشاكل العالقة بين بغداد واربيل , مطروحة في اية دولة اخرى ( حتى وان كانت شرق اوسطية ) , كان من الممكن حلها بسهولة وفي وقت قصير , لانها وبشكل عام مشاكل قابلة للحل وغير قاتلة , تحتاج فقط حسن نوايا , لكن …. هل يوجد في بغداد حسن نوايا ؟
مرت العلاقة بين كوردستان والعراق بمنعطفات كثيرة منذ الالفين وثلاثة ولغاية يومنا هذا , كادت ان تصل احيانا كثيرة الى قطيعة كاملة , لولا حكمة صناع القرار في كوردستان , وادراكهم حجم المؤامرات التي تحاك ضد هذه العلاقة , بادوات عراقية , تدفعها جهات اقليمية , كانت وما تزال تعمل على ادامة المشاكل الداخلية في العراق لتمرير اجنداتها . وكانت اخطرها محاولة بغداد القضاء على تجربة اقليم كوردستان في احداث 16 اكتوبر المعروفة وتداعياتها , وشهدنا كيف جابه الاقليم تلك المحاولة بدبلوماسية داخلية ودولية اجهضتها.
وفي الوقت الذي نشهد فيه تشكيل الكابينة التاسعة لحكومة اقليم كوردستان في ايامها الاولى , وتواجد نية حقيقية عندها لتصفير المشاكل مع العراق , بدات اطراف معينة في بغداد اثارة ملفات عالقة , لاجهاض محاولات التقارب بين العاصمتين بغداد واربيل .
يجب علينا في كوردستان ادراك ان ثقافة رفض الاخر هي ثقافة سائدة في الجزء العربي من العراق , وللانصاف فان ثقافة رفض الاخر هذه ليست وليدة الواقع الراهن , ولا هي من بدع الاحزاب الاسلامية الشيعية الحاكمة حاليا , بل هو توجه متجذر في الثقافة العراقية ازاء اي توجه كوردي منذ عهد البعث الذي كان يهيمن اعلاميا على عقل المواطن العراقي ويصور له الثورة الكوردية بانها ( تمرد على الحكومة الوطنية في العراق) , مع المصطلحات التي كان ذلك النظام يسوقه في اعلامه في وصف الثوار الكورد , تارة ينعتهم بالجيب العميل , وتارة بالعصاة , واخرى بالمتمردين , فتربت اجيال عربية عراقية ترى الثائر الكوردي خائنا للعراق وليس مناضلا من اجل حقوق مشروعة تقرها جميع الشرائع الدينية والدنيوية .
وعقب مجيئ الاحزاب الاسلامية الشيعية وتسلمها للسلطة في بغداد , اخذت هذه الثقافة تتوسع , لتصبح ثقافة رفض مركبة , شملت ليس فقط من يختلف معهم في القومية , وانما حتى في الدين والمذهب . تبنت هذه التوجهات المضادة للكورد اطراف سياسية عراقية بدعم من جهات اقليمية , عبرت عن نفسها من خلال المظاهرات التي خرجت بالالفين واربعة في مدن جنوب العراق , لتندد بمطالبة الكورد بالفدرالية , مع العلم ان اغلبية من تظاهروا لم يكونوا يعرفوا معنى الفدرالية في وقتها .
لم تقف ثقافة الرفض هذه عند هذا الحد بل تجاوزته لتتحول الى ثقافة يمكن تسميتها بثقافة الكره , تبنتها وجوه سياسية جديدة طامحة لتصدر المشهد السياسي بعد الالفين وثلاثة , مستغلة مشاعر الرفض هذه في الشارع العراقي , للظهور بمظهر الابطال في الوقوف بوجه اي مطلب كوردي حتى وان كان مشروعا . ونجح الكثير منهم في الدخول الى عالم السياسة من هذا الباب ولا يزالون مشاركين فيه . وان دل نجاحهم هذا على شيء فانما يدل على النبض الحقيقي للشارع العراقي العربي .
ان ما موجود في العراق يخالف كل القوانين الطبيعية للاشياء … فالمنطق يقول بان الطرف المعتدي هو من يجب ان يظهر حسن نياته للمعتدى عليه , ومد جسور التفاهم والتواصل معه لا العكس . بينما ما مطروح في العراق هو ان الطرف العربي الذي يعتبر هو (المعتدي) لا يزال مصرا على رفض المطالب الكوردية في الوقت الذي يحاول الكورد ( الطرف المعتدى عليه ) تبني ثقافة عفا الله عما سلف , والانفتاح على الاخر العربي .
رغم الاختلاف بين النظام السابق والنظام الحالي في الرؤى والتوجهات , الا انهما يشتركان في عسكرة الشارع العربي العراقي ضد التوجهات الكوردستانية , وان كانت بادوات مختلفة واسباب ودوافع متباينة . ليثبت للكورد شعبا وساسة بان لا فرق بين القومي العربي ( حزب البعث) او الاسلامي السياسي ( كالاحزاب الاسلامية الحالية الحاكمة ) في توجهاته ازاء الشعب الكوردي والنظر الى حقوقه انطلاقا من نفس الزاوية الحادة للاشياء .
والان وبالتزامن مع تشكيل حكومة كوردستان بكابينتها الجديدة , تخرج اصوات من بغداد تحاول وضع الغام سياسية لتعكير المشهد السياسي بين بغداد واربيل , ووئد محاولات كوردستان المخلصة لتصفير مشاكلها مع العراق .
مما لا شك فيه ان هذه الاصوات التي تتعالى من بغداد غير صادرة من فراغ , بل هي استمرار للسياسة التي انتهجتها اطراف اقليمية في دفع دمى بغداد لوضع العصا في عجلة العلاقات بين كوردستان والعراق منذ الالفين وثلاثة .
رغم كل هذا المشهد السياسي والشعبي القاتمين فان هناك اسباب ومعطيات تجعلنا متفائلين من امكانية توصل الطرفان الى حلول فيما بينهما ومن جملة هذه الاسباب : –
1- وجود حكومة في بغداد نستطيع وصفها بالاكثر اعتدال عن سابقاتها , رغم محاولات اسقاطها من قبل جهات معروفة بولائاتها الخارجية .
2- خفوت التاثير السياسي والعسكري لمليشيات عراقية مسلحة , خاصة بعد الضغوطات الامريكية عليها .
3- الضغوطات الدولية والامريكية على الجهات الاقليمية التي كانت تدفع باتجاه توتير العلاقة بين كوردستان والعراق .
4 – ان خفوت تاثير المليشيات المسلحة والاطراف الاقليمية في النقطتين السابقتين قللا من تاثيرها الى حد كبير على الشارع العراقي , وبالتالي حيدت ثقافة الرفض المجتمعية الى حد كبير , ويمكن اعتبار مظاهرات كركوك التي دعى اليها المجلس العربي دليل واضح على فشل هذه الجهات في استغلال ثقافة المجتمع الرافضة لترشيح محافظ كوردي لكركوك , فقد لاحظنا كيف ان التظاهرة فشلت في استقطاب الجماهير التي لم تتجاوز البضعة عشرات .
5 – وجود توجه اممي ودولي داعم وضاغط باتجاه ايجاد حلول للمشاكل بين الاقليم والمركز قد يتحول الى اشراف اممي مستقبلا على اي اتفاق بين الطرفين .
انطلاقا من النقاط اعلاه فان الثقافة الجمعية العراقية ( ساسة وشارع ) امام اختبار كوردي حقيقي في جس نبض تغيير توجهاتها ازاء المطالب الكوردية , في الوقت ذاته فان حكومة كوردستان الجديدة امامها فرصة لتحريك المياه الراكدة مع بغداد , ووضع النقاط على الحروف , دون القبول بالحلول المطاطة التي تمرست عليها بغداد . فعدم التوصل الى حلول عملية مع بغداد هذه المرة ستكون انتكاسة حقيقية لاي تفاهم مستقبلي حول هذه الملفات .