1 «كل يوم هو إضافة» لجون كيري… مذكرات سياسي وديبلوماسي
البدر الشاطري
الحياة السعودية
جون كيري سياسي أميركي مميز خدم في الحياة العامة عقوداً عدة، وخاض حروباً حقيقية وسياسية، كان آخرها على رأس الديبلوماسية الأميركية، عندما تقلّد منصب وزير خارجية بلاده في الفترة الثانية لولاية الرئيس السابق باراك أوباما. يسرد الوزير كيري سيرته الذاتية في كتابه الجديد «كل يوم هو إضافة» EVERY DAY IS EXTRA الذي نشر أخيراً في 622 صفحة يورد فيها معلومات حول حياته منذ نعومة أظافره.
تكمن أهمية السيرة الذاتية لكيري في كونها تمثل تأريخاً لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. كما أنه يمثل طبقة معينة من النخبة الأميركية، خصوصاً في الشمال الشرقي للولايات المتحدة؛ معقل الليبرالية الأميركية، التي كان لها دور بارز في السياسة والديبلوماسية.
ينحدر كيري من أب اشتغل في مجال القانون والديبلوماسية، ومن أم تمثل صميم النخبة الأميركية متمثلة في عائلتي فورب وينثروب. وبسبب انتقال العائلة إلى ألمانيا، درس جون في مدرسة داخلية في سويسرا. وعندما عاد إلى الولايات المتحدة، انضم إلى مدرسة داخلية مرموقة ونخبوية. وأكمل دراسته بالتخرج في «جامعة ييل» العريقة العام 1966، ومن ثم درس القانون في «جامعة بوسطن».
نشط كيري في المجال السياسي حين اشتغل في حملة تيدي كيندي، الأخ الأصغر للرئيس جون كيندي، ليصبح سيناتوراً في مجلس الشيوخ. وحظي كيري بلقاء الرئيس كيندي حين أبحرا بالسفن الشراعية في إحدى بحيرات ولاية ماساتشوستس. وأصيب كيري بصدمة كبيرة حين اغتيل كيندي في عام 1963، وقرر حينها أنّ يمتهن المجال العام بعد تخرجه.
من خلال هذا الاستعراض السريع لخلفية الكاتب، نلمس التربية النخبوية التي نشأ عليها كيري. وكذلك التنشئة الليبرالية الذي انغمس بها هذا الرجل الذي أريد له أن يحتل مكانة مرموقة في المستقبل، ويكشف الكثير عن الحراك الاجتماعي ودور الأسر والمدارس والجامعات في إعداد النخب الحاكمة في الولايات المتحدة.
كان جيل كيري متشبثاً بالقيم الأميركية المتمثلة في الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة السياسية وتكافؤ الفرص ونداء الواجب. فحين صعّدت الولايات المتحدة حربها في فيتنام وبدأت تجند إجبارياً الشباب لخوض المعارك هناك، تطوع كيري للمشاركة في البحرية الأميركية مستنداً إلى هوايته في رياضة الإبحار. ويسهب كيري في شرح ذكرياته حول المعارك التي خاضها في مياه فيتنام كقبطان لأحد القوارب السريعة. وأصيب مراراً في العمليات القتالية وفاز بأوسمة عدة لشجاعته وحسن قيادته لمجموعته. ولعل الشرح المستفيض للعمليات التي كان يقوم بها جون كيري ورفاقه في فيتنام، مرده التشكيك الذي أبداه البعض حين ترشح للانتخابات الرئاسية في عام 2004 ضد الرئيس جورج بوش الابن.
ولكن تجربة كيري في فيتنام غيّرت فيه الكثير. فما شهده في تلك الحرب والضحايا الكثر الذين سقطوا فيها، جعله يشكك في جدواها وقدرة الولايات المتحدة على الظفر فيها، وهو ما أدى في النهاية إلى معارضته لها. يقول كيري: «حين انخرطت في البحرية في عام 1965، كنت ابن الحرب العالمية الثانية، وككثيرين من أبناء جيلي، تعلّمت القيم الأساسية للخدمة والتضحية. ولكن كان للعامين 1968 و1969 الأثر البالغ في تحولي، لقد غيرتني الحرب كما غيّرت أبناء جيلي والبلاد».
وفعلاً، اشتدت في تلك الفترة معارضة كيري حرب فيتنام. وشرع في الانخراط في الحركة المناوئة من قبل الرئيس جونسون وبعده الرئيس نيكسون. وكان عضواً فاعلاً في حركة محاربي فيتنام المناوئة للحرب. وأدلى كيري بشهادته أمام اللجنة الخارجية لمجلس الشيوخ، معرباً عن استيائه ليس من الحرب فحسب، بل من قيادة بلاده «التي خيبت أبناء الوطن وزجتهم في حرب عبثية».
ونظراً لزيادة اهتمامه بالشأن العام، شرع كيري بالسعي إلى الترشح للانتخابات ممثلاً عن مقاطعة في ولايته ماساتشوستس في مجلس النواب في عام 1972. إلا أن أول محاولته وكان لا يزال في التاسعة والعشرين من عمره، باءت بالفشل. ولكنه لم يتوقف عند أول فشل في الانتخابات، فبعد عمله نائباً للمدعي العام في الولاية لمدة من الزمن، بدأ شغفه بالسياسة يستحوذ عليه. ثم لاحت له فرصة الترشح لمنصب نائب حاكم ولاية ماساتشوستس في عام 1982، وفاز في الانتخابات مع مايكل دوكاكس الذي أصبح حاكماً للولاية. ولكن نجاحه السياسي جاء على حساب عائلته، وأدى إلى انفصاله عن زوجته جوليا، في العام ذاته.
ويبدو أن كيري استطاب السياسة والنجاح الذي حققه، ما جعله يطمح إلى دور أكبر. ولاحت فرصة أخرى حين استقال السيناتور الممثل للولاية في مجلس الشيوخ. وبالفعل ترشح كيري إلى المنصب في عام 1984 وفاز به، وأضحى منصبه كسيناتور أكثر المناصب الذي سيرتبط باسمه طيلة حياته، إذ خدم في مجلس الشيوخ من العام 1985 حتى 2013 حين عيّنه الرئيس باراك أوباما وزيراً للخارجية.
كلام كيري بكثير من التفصيل عن سيرته في مجلس الشيوخ، ينم عن اعتزاز بالمؤسسة، وعن فخر بدوره الذي كان دائماً منافحاً عن القضايا والقيم الليبيرالية. وزامل في هذه المسيرة زعيم الليبيرالية الأميركية الأشهر تيد كيندي (من الولاية ذاتها)، وكان بمثابة الأخ الأكبر له ومرشده في المجلس.
شعر كيري بالكثير من الإحباط بسبب الاستقطاب المتزايد بين أعضاء مجلس الشيوخ، مما يعطل الكثير من المشاريع التشريعية التي تصب في مصلحة البلاد والمواطنين. ومما زاد الطين بلة، أن معظم فترة شغل كيري لمنصبه كانت أثناء حكم الإدارات الجمهورية ما عدا فترة الرئيس بيل كلينتون.
عاصر كيري أحداثاً جمة أثناء فترات خدمته في مجلس الشيوخ، مثل غزو الكويت، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وغزو العراق. وكان اهتمامه بالشؤون الخارجية كبيراً، إذ شغل عضوية لجنة الشؤون الخارجية في المجلس، كما أن تنشئته السياسية كانت بسبب حرب فيتنام في القرن المنصرم. وعلى رغم هذه الخبرات المتراكمة في الشؤون الخارجية، ارتكب هفوات، بل أخطاء جسيمة. فحين ضربت الطائرات المخطوفة برجي نيويورك، ظن كيري أن «حماس» أو «حزب الله» هما من ارتكب الجرم المشهود! وحين حان موعد التصويت على مشروع قرار يفوض الرئيس بوش الابن بغزو العراق، صوت كيري لصالح القرار. بينما صوت ضد القرار الذي يخول بوش الأب شن حرب تحرير الكويت. وثبت أن قراره الأول كان خاطئاً فيما كان الثاني كارثياً، ولكن يمكن تفسيره بسبب السياق السياسي. فعند اندلاع الحرب على العراق في عام 1991، كان كيري يخشى التورط في حرب مثل فيتنام ويلام عليها. بينما كانت المصلحة تقتضي أن يدعم حرب أميركا ضد الإرهاب، لأنه كان ينوي الترشح للانتخابات الرئاسية. وظنّ أن الحظ قد يحالف بوش الابن كما حالف والده في الحرب قبل عقد من الزمن. وهذا ما كان، إذ نجح كيري في إقناع حزبه بترشيحه للرئاسة في 2004 لمواجهة الرئيس بوش والذي كان متمرغاً في حرب العراق. وما كان من كيري إلا أن زاد هجومه على بوش «الذي ورّط أميركا في حرب عبثية ليست لها نهاية واضحة». ولكن حجج كيري بدت واهية بسبب تصويته الذي خول الرئيس بوش شن حرب على العراق. وهكذا، خسر كيري المواجهة الرئاسية لصالح بوش الذي أعيد انتخابه بفارق ضئيل.
وعلى ما يبدو فإن الأقدار تنتشل كيري بعد نكساته. فبعد معاناته تحت إدارة جمهورية وكونغرس يسيطر عليه الجمهوريون وهزيمة انتخابية رئاسية، بعدما كان متيقناً من الفوز، تحول ميزان القوى في الكونغرس لصالح الديموقراطيين في عام 2006. وبعدها بعامين، فاز الديموقراطيون بالبيت الأبيض عندما انتخب أول أميركي من أصول أفريقية (الرئيس السابق باراك أوباما) رئيساً؛ إضافة إلى حصول صديق وزميل كيري جو بايدن على منصب نائب الرئيس. وأدى شغور منصب الأخير في مجلس الشيوخ إلى منح كيري فرصة ترؤس لجنة الشؤون الخارجية في المجلس، وهو منصب رفيع لطالما حلم به.
ويتحدث كيري كثيراً عن شغفه بالشؤون الدولية، علماً أن توليه منصب رئاسة لجنة الشؤون الخارجية، منحه فرصة كبيرة للعب دور في الشأن الدولي، خاصة تحت قيادة إدارة ديموقراطية وتولي زميلته في مجلس الشيوخ، هيلاري كلينتون، منصب وزيرة الخارجية. أدى كيري أدواراً كثيرة في هذه النطاق. وانشغل بقضية كانت تؤرقه تتعلق بوضع نهاية لحرب فيتنام على المستوى الشخصي، ويبدو أن تلك التجربة كانت تلاحقه باستمرار، ولذلك عمل على المستوى السياسي لإنهاء مخلفات تلك الحرب، ومد جسور الصداقة مع فيتنام وشعبها. وكانت مبادرته مع زميله الجمهوري، جون ماكين، الذي كابد في سجون فيتنام ردحاً من الزمن، لمحاولة استخدام السجناء ورفات القتلى الأميركيين مدخلاً لإعادة صياغة العلاقة بين واشنطن وهانوي. وبذل كيري جهوداً حثيثة في هذا المجال، ونجح في تجسير الهوة بين أعداء الأمس والتحول إلى أصدقاء.
ومن الأمور اللافتة، أن معظم انشغالات كيري كانت بشؤون دول جنوب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، مما يدل على أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى واشنطن. وكانت أولى مهماته كرئيس لجنة الشؤون الخارجية، الانخراط في قضية أفغانستان، نظراً لتورط الولايات المتحدة في حرب بدت غير واضحة المعالم. وكانت إدارة أوباما ترى أن حرب أفغانستان هي الحرب الصحيحة، وأن حرب العراق خاطئة. ويقول كيري إنه استطاع أن يؤسس لعلاقة جيدة مع الرئيس الأفغاني حامد كرازي، وإقناعه بالقبول بجولة الإعادة بينه وخصمه الدكتور عبدالله عبدالله في الانتخابات الرئاسية. وكانت هذه المساومة التي توصل لها كيري في كابول مهمة للحفاظ على الوضع القائم هناك.
ونظراً للأهمية الجيو استراتيجية لمنطقة جنوب آسيا، حطّ كيري رحاله في باكستان لمقابلة رئيسها برويز مشرف. وتعهد مشرف حينها القبول بنتائج الانتخابات التي خسرها وتسليم السلطة. كما سعى كيري، على رغم الكثير من الصعوبات، إلى التأسيس لعلاقة جديدة مع إسلام أباد للتقريب بين البلدين. ونجح في تمرير قرار عرف بـ «قانون تعزيز الشراكة مع باكستان». ولكن الكثير من الاشتراطات التي احتواها القانون المذكور، أدت إلى رد فعل باكستاني سلبي بسبب مساسها بالسيادة الوطنية.
وخلال عمله رئيساً للجنة العلاقات الخارجية، قام كيري بزيارة إلى دمشق بعد أن جمدت الإدارة السابقة علاقاتها مع سورية. وكان يرى أن الديبلوماسية وسيلة للوصول إلى الغايات المبتغاة، وليست هدفاً أو هبة تعطى للدول الأخرى. وعند مقابلته الرئيس السوري بشار الأسد، أعرب الأخير عن رغبته في الانفتاح الاقتصادي والتوصل إلى حل سلمي مع إسرائيل. وكشف الأسد عن تخوفه من رد فعل شعبي ضد النظام إذا لم يقم النظام بإيجاد فرص عمل للأعداد المتزايدة من الشباب، وقال إن سورية ستصبح جمهورية إسلامية في غضون عقد من الزمان. وحينها علّق وزير الخارجية السوري قائلاً إن الرئيس سيصبح «الملا أسد». ورد الرئيس ضاحكاً «سأصبح بشار بلحية».
كشف كيري عن حقيقة باتت معروفة عن اضمحلال المؤسسات السياسية الأميركية. وعبّر عنها في أكثر من مكان. فمجلس الشيوخ بات معطلاً بسبب الحزبية المفرطة، خصوصاً بعد صعود تيار «حزب الشاي» الجمهوري. وأصبح التوصل إلى تشريعات تخدم المصلحة الوطنية صعب المنال. وكدأبه، وجد كيري من ينتشله من هذه المؤسسة التي نخر فيها التعصب الحزبي إلى فضاء أرحب، حين عرض عليه الرئيس أوباما أن يخلف هيلاري كلينتون في وزارة الخارجية. وكان قبول كيري مباشراً وكذلك موافقة مجلس الشيوخ على تعينه.
واستمرت منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا تحتل حيزاً مهماً في تفكير كيري بعد توليه منصب وزير الخارجية، إذ باشر عمله في زيارة إلى كابول لحل الأزمة الدستورية مرة أخرى حين اختلف المرشحان أشرف غني وعبدالله عبدالله على نتائج الانتخابات. كما كان وضع القوات الأميركية هناك على أجندة الوزير الجديد. ونجح كيري مرة أخرى في خلق صيغة يتشارك فيها الزعيمان الأفغانيان السلطة من دون زعزعة البلاد.
ومن خلال استعراض كيري لمساعيه الديبلوماسية التي امتدت إلى قارات عدة، تفهم مدى انشغال واشنطن بالعالم، وانشغال العالم بها. فتارة ينهمك في مسألة أوكرانيا، وأخرى في كولومبيا، ومرة أخرى في إعادة العلاقات مع كوبا. واستحوذ الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين بشكل كبير على اهتمام كيري. وعندما عرض رغبته في إحياء المسيرة السلمية للرئيس أوباما، ردّ عليه الأخير بأنه متشكك، ولكنه قال له: «سأدعمك إذا أردت أن تحاول».
ولم يألُ كيري جهداً في محاولة تقريب وجهات النظر بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وعندما فاتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بمشروع السلام. يقول كيري إن الأخير حدّق في عينيه وقال: «أنا مستعد أحاول في هذا الجهد، ولكن هناك شيئين عليك أن تعرفهما: الأول أن الجميع في هذه المنطقة يكذب دائماً وأنتم الأميركيون تجدون صعوبة في فهم ذلك؛ الثانية، أن أقصى ما أستطيع فعله ربما أقل من الحد الأدنى الذي يمكن لعباس قبوله».
لا يرى كيري مشكلة في أن كون كل من تعاملوا مع المسيرة السلمية في المنطقة كانوا أشخاصاً متحيزين إلى إسرائيل بشكل كبير. ويقول في هذا السياق إن الرئيس عباس كان على علم بأني مساند قوي لإسرائيل». عيّن كيري مارتن أنديك موفداً خاصاً لعملية السلام في المنطقة، وأشاد بخبرته الطويلة في هذا المجال. ولكنه لا يذكر في كتابه أن أنديك كان يعمل لدي اللوبي الإسرائيلي، قبل أن يعمل مع بعض الإدارات المتعاقبة. ولعل فشل العملية السلمية يكمن في أن ليس هناك أشخاص يلتزمون الحياد كوسطاء نزيهين.
وللقارئ أن يتأمل سعي كيري وإدارة أوباما الحثيث للتوصل إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، وكيف أمّن ضغوط دول عدة للتوصل إلى اتفاق وكذلك إلى حل للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. كما يتحدث كيري عن الدور العماني في إتمام الصفقة. ويشيد بالسلطان قابوس ودوره البناء للتوصل إلى هذا الاتفاق. كما يشرح أيضاً كيف تعاملت إدارة أوباما مع الوضع السوري، على رغم إعلان الرئيس (أوباما) أن استخدام الأسلحة الكيماوية خط أحمر ثم قبوله بأنصاف الحلول.
كتاب كيري مهم لكل مهتم بالسياسة الخارجية الأميركية، لأن كاتبه عاش الوقائع وكان وسط معمعة صناعة هذه السياسات كمحارب ومعارض وناشط سياسي وعضواً في مجلس الشيوخ ووزيراً للخارجية.
2 إيران تخاطر بإساءة تقدير تهديدات الولايات المتحدة
دنيس روس الشرق الاوسط السعودية
تجاوزت إيران في الوقت الحالي كمية اليورانيوم المنخفض التخصيب التي استطاعت تخزينها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، أو ما يطلق عليه الاتفاق النووي الإيراني. وأعلن وزير خارجيتها جواد ظريف أنها سوف تبدأ قريباً في رفع مستوى تخصيب اليورانيوم فوق نسبة 3.67 في المائة المسموح بها في الاتفاق. كما تستمر الاعتداءات التي يشنها العملاء الشيعة بانتظام متزايد ضد شركاء أميركا في المنطقة؛ حيث تعرضت السعودية لهجمات صاروخية ودرون على يد الحوثيين ضد منشآت ضخ نفطية ومطارات مدنية. ووقعت كذلك أعمال تخريبية ضد سفن، والتي إن توقفت لفترة، يجب ألا نفترض أنها انتهت.
ما الذي يحدث؟ ببساطة، تتبع القيادة الإيرانية طريقتها في ممارسة أقصى ضغط، رداً على سياسة «أقصى الضغوط» التي تمارسها إدارة ترمب. على الأرجح يهدف أقصى ضغط إيراني إلى تحقيق عدة أمور؛ أولاً، أن توضح إيران للرئيس ترمب أن الضغط يمكن أن يمارسه الطرفان، وأن إيران لديها عدة خيارات لتطبيق ضغوطها على نحو يمكن معه نفي المسؤولية عنه ضد مصالح أميركا وأصدقائها في المنطقة. ثانياً، رفع أسعار النفط، لأن الرئيس أبدى حساسية تجاه ذلك، وأيضاً لأن إيران ترغب في تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، نظراً لقدرتها المحدودة على التصدير. ثالثاً، إعطاء أصدقاء أميركا وشركائها سبباً لحثّ الإدارة على تخفيف الضغوط.
وفيما يخص النقطة الأخيرة الخاصة بحثّ أميركا على تخفيف الضغط، تجدر الإشارة إلى خطاب ألقاه المرشد الأعلى علي خامنئي في 29 مايو (أيار)، قال فيه إن أميركا تسعى إلى الضغط على الجمهورية الإسلامية لكي تدخل في مفاوضات وهي في حالة ضعف. وأعلن أن إيران لن تستسلم للضغوط، وبدلاً من ذلك سوف تستخدم «نفوذها» الخاص. لقد شاهدنا دلائل النفوذ الإيراني في هجمات العملاء، وعمليات التخريب التي ينفون مسؤوليتهم عنها، والآن نرى انتهاك الاتفاق النووي، ذلك الانتهاك الذي قد يقلص ببطء زمن الاختراق الإيراني مرة أخرى.
قد يقول الرئيس ترمب إن الإيرانيين «يلعبون بالنار»، ولكن في الوقت الراهن، يبدو أنهم لا يصدقون ذلك. المفارقة أن كلا الطرفين قد يعتبر ضغوطه القصوى مقدمة لمفاوضات من النوع الذي سيشهد تعزيز موقفه وإضعاف موقف الآخر. وبالتأكيد تكمن الخطورة في إساءة التقدير.
في هذه المرحلة، من الصعب الاستنتاج بأن الإيرانيين يصدقون بأن إدارة ترمب لن تتحرك عسكرياً ضدها إلا إذا قُتلت قوات أميركية على يد الإيرانيين مباشرة. بالفعل وقعت هجمات صاروخية عن طريق عملائها في العراق حيث توجد قوات أميركية؛ ولحسن الحظ لم يتعرض أحد لأذى. ما الذي كان سيحدث إذا تعرضوا لأذى؟ هل تعتقد إيران أنها ما دامت تستطيع نفي ارتكابها لأي شيء – فيما يشبه الألغام الملتصقة بهياكل السفن – فلن تتخذ الولايات المتحدة رد فعل؟ لست واثقاً من أنهم يجب أن يصدقوا ذلك، ولكني أشك في أنهم يدركونه.
المسألة المطروحة أمام الإدارة هي كيف توضح أن إيران تخاطر بإساءة تقدير ما سوف تفعله الولايات المتحدة. المشكلة في التصريحات العلنية الكبيرة هي أنه بمجرد التصريح بها يجب اتخاذ إجراء أو خسارة المصداقية. كان جون بولتون قد أعلن في 5 مايو الماضي أننا سنرسل مجموعة حاملة طائرات إلى الخليج لأن لدينا معلومات استخباراتية بأن الإيرانيين يستعدون لشن هجمات ضد قوات أميركية وضد حلفائنا. وأعلن أننا سوف نستخدم «قوة شديدة» إذا تعرضت قواتنا أو مصالحنا أو أصدقاؤنا لتهديد. ومنذ ذلك الحين، وقعت هجمات ضد 6 سفن، وتعرضت منشآت سعودية لضربات من عملاء إيران، وكذلك أصابت هجمات صاروخية مشابهة قواعد عراقية ومنشأة نفطية تستخدمها شركة «إكسون»، وأُسقطت طائرة درون أميركية.
ليس لديّ شك في أن مستشار الأمن القومي جون بولتون كان يقصد ما صرح به. ولكن الرئيس لا يريد الوقوع في «حرب أخرى لا تنتهي في الشرق الأوسط». هذا شعور يمكن فهمه، ولكن عندما تتسع الفجوة بين التصريحات والأفعال، تُضعِف كلاً من المصداقية والردع.
وفي مفارقة أخرى؛ إذا أُضعف الردع، ستزداد احتمالية نشوب حرب. وهناك عدة أمور تستطيع الإدارة أن تفعلها لاستعادة قوة الردع. في البداية، يجب أن تجعل من الأصعب على الإيرانيين أن يظنوا أن بإمكانهم الاستمرار في تنفيذ اعتداءات يمكنهم إنكارها دون تحميلهم مسؤوليتها علناً. وبعيداً عن الشرق الأوسط، لم يكن هناك من يستعد لتحميل إيران مسؤولية الاعتداءات التي وقعت ضد السفن سوى البريطانيين والألمان (وإن كان متأخراً). لذا يجب البحث عما يجعل آخرين يُحمِّلون إيران المسؤولية. كما يجب تشكيل قوة بحرية متعددة الجنسيات لإظهار وجود تحالف دولي مستعد لحماية السفن من مثل تلك الاعتداءات. وكلما ضَعُفت قدرة إيران على نفي مسؤوليتها عن الاعتداءات وعلى الإفلات من العقاب، انخفضت احتمالات وقوع مثل تلك الاعتداءات.
ثانياً، طالما أن الإدارة ليست لديها خطوط اتصال خاصة مباشرة مع الإيرانيين، والتي كانت ستسمح بنقل الأمور بوضوح شديد، سيكون عليها الاعتماد على آخرين. تكمن المشكلة في أنه إذا استعانت الإدارة بالعُمانيين أو السويسريين أو العراقيين أو آخرين لتوصيل الرسائل، سوف تخاطر بأن يصوغ كل وسيط الرسالة. لذا من الأفضل الاستعانة بمرسال واحد فحسب، وأن يكون مرسالاً يتعامل معه الإيرانيون على محمل الجد. وبالنظر إلى أن الرئيس يملك قدراً من الثقة في فلاديمير بوتين، لماذا لا يستعين بالروس في توصيل الرسالة بأن الإيرانيين يوشكون على استفزاز رد فعل عسكري خطير من ترمب. بالطبع يجب أن يصدق بوتين هذا الأمر في الوقت الحالي، يصدق أن الولايات المتحدة سوف تتخذ إجراءً عسكرياً إذا استمرت هذه الاعتداءات. ولا يمانع بوتين تصاعد التوترات – ولا سيما إذا رفعت أسعار النفط – ولكنه لا يرغب في أن تُستخدم القوة الأميركية لتشكيل ما يحدث في المنطقة. ولن يلقى تحذير بوتين تجاهلاً من طهران.
هل يمكن أن تؤدي خطوات أخرى إلى الحد من خطورة إساءة التقدير واستعادة قوة الردع؟ نعم، ولكن أي إجراءات عسكرية – حتى المحدودة منها – تخاطر بالدخول في دائرة تصعيد «العين بالعين» التي يرغب ترمب في تجنبها بوضوح. ومع ذلك إذا لم تفعل إدارة ترمب المزيد لإقناع المرشد الأعلى بالمخاطر التي تحوم حولها إيران، فسيكون هذا هو السيناريو الذي قد نواجهه.