4 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم السبت

1 كلداني في الثورة أحمد جميل عزم
الغد الاردنية
اتصل بي صديق، مناضلٌ وفدائي قديم، تحدث بغضب، عن الذين يشككون بعروبة وإنسانية القضية الفلسطينية. لم يكن غاضباً من تصريحات بعض المسؤولين ومن يسمون أنفسهم إعلاميين عربا؛ تصريحات انطلقت مؤخرا، تتراجع عن عروبة وعمومية القضية الفلسطينية، وتسوّغ قبول الاحتلال، بقدر ما هو غاضب من أنّ هذه التصريحات جعلت البعض يقول إن العرب تخلوا عن القضية الفلسطينية. وقال إن العرب وغير العرب شركاء بالنضال والمقاومة والروح. ثم عرض علي لقاء صديقه “العراقي المسيحي الآثوري”. قال هي قصة قديمة، ولكن تجديد الوجه الإنساني للقضية ممكن.
في مطعم شعبي، للإفطار على ناصية شارع في عمّان، تحدثنا.
صديقي المناضل الفلسطيني المقيم في فلسطين طلب من ابنه الذي ذهب للعمل في العراق مؤخراً، البحث عن صديقه القديم الذي انقطعت أخباره منذ ثلاثين عاماً، وفعلاً وصل إليه، فدعاه للقاء ولتجديد الصداقة فالتقيا في عمّان.
في مجتمع المواطنة، أي في الدولة الحديثة، لا شيء حقا اسمه أقليّات دينية، أو عرقية، أو إثنية. هذه هي النظرية، وربما هذا هو الهدف والفكرة من بناء الدولة، كما ظهرت منذ القرن السابع عشر، والأصل أنّ هذه الفكرة تمتد إلى الدول العربية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى، وبقدر ما يرى البعض هذه الدول العربية نوعا من التجزئة للأمة، بقدر ما هي أداة توحيد “للمنابت والأصول”، رغم هذا بقيت “الهويات الفرعية” موجودة، لذلك كان افتخار الصديق الفلسطيني أن صديقه المناضل العراقي “آثوري”، وأنه برأيه، لا ينطلق من القومية العربية أو الإسلام.
يروي الصديق الفلسطيني: كنتُ أفاجأ لدى دخولي قاعة المحاضرات في الجامعة في بغداد، صباحاً، أنّ أخبار الثورة الفلسطينية مكتوبة على اللوح. ويقول لم يكن معي طلبة فلسطينيون سوى واحد بعيد عن السياسة.
قال إنّ شخصاً عراقياً تقرب منه وأصبح صديقه، كشف أنّه من يفعل هذا. ثم أصبح هذا الشخص عضواً في تنظيم فلسطيني. سألت صديقنا القادم من العراق، عن القصة، قال يمكنك القول أني كلداني. ما زلت أذكر لحظة هزيمة 1967، وكان أخي في السنة النهائية في المدرسة، مزّق والطلاب أوراق امتحان الفيزياء وخرجوا يتظاهرون. قال، كنتُ ما زلت في المدرسة، ولكن الشعور بالغضب والإهانة كبيران. عندما ظهر العمل الفدائي بدا أنّ “هناك متنفسا للكرامة”، واظبتُ على الاستماع لإذاعة الثورة، “صوت العاصفة” من القاهرة، صرت أسجل أخبار العملّيات.
لدى صديقنا العراقي ذاكرة تفصيلية حتى اليوم بمعلومات العمليات الفدائية في مدن ومناطق فلسطين؛ البحر الميت، الحمّة، طبريا، الجولان..إلخ.
عاد صديقه لفلسطين ثم عاد للعراق في زيارة لها بعد سياسي، كان هو قد تخرّج وعمل، فعرض عليه إرسال راتبه له، ليعمل هو في الداخل فدائياً، وهو يموله. رفض صديقه العرض وطلب منه أن لا يقلق بالتمويل. ظل الصديق العراقي متصلا مع الطلاب الفلسطينيين الجدد، الذين أصبحوا قناته مع الطلاب القدامي. وعندما اعتقل صديقنا المشترك، أرسل له مساعدة مالية عبر الطلبة الجدد، أعادها الصديق في المعتقل شاكراً. أخبرني الصديق العراقي اشتراكه في نشاطات طلابية وشعبية وتعبوية في لبنان حيث زار قواعد الثورة، وشارك في مؤتمرات طلابية وشعبية. حدثني عن كلمات من الإرث اليوناني، قال مثلا هناك تعبير هو “الشعب ما زال حياً”، وأنّ الإنسانية والكرامة، هي أساس الارتباط بفلسطين وقضيتها من جهته، وأنّ هذا كان محرّكه الدائم. وأضاف من الجهة الأخرى، يعتقد إسرائيليون أنّ هناك ثأرا تاريخيا مع الكلدانيين منذ نحو القرن السادس قبل الميلاد.
تحدث بحميمية عن لقاءات الثوّار والعمل النضالي، وعندما ذكر تجنيده ودوره في الحرب العراقية الإيرانية شعرت أنه ذكرها بحيادية تقريباً، سوى الارتباط بين علم الرياضيات والمدفعية.
رغم أن ما حدث هو من الماضي، وأنّ آخر ذكرياته في العمل النضالي، التضامني الشعبي، تعود لنهاية السبعينيات، لكن الأمر بدا له جزءا من هويته.
ربما هي قصص صغيرة، ولكنها تحتاج وتستحق التوثيق، لها طعم ووجه ينافس “القصص الكبيرة”، لأنّها تصنع الوجه الإنساني لفلسطين وقضيتها، وتصنع ما يمكن تسميته “زمنا جميلا” على ما فيه من ألم، فيه انتصار الروح بقدر ما فيه من هزيمة مادية.
هذا الوجه الإنساني يمكن أن يعود.
2 ليلةٌ نجلاء
رائد العسكر
الحياة السعودية

يقول الشاعر:

أتت نجلاء تغازل الشمس بضياء طرفها * تداعب النسيم بخصلات تزيدها دلال

سمراء فاتنة يرتعد البحر من قربها * بضيائها أضحى القمر بدرا في اكتمال

لعل قارئ عنوان المقالة يخطئ الظن ويصيب ويبعد كثيرا في الفكر والتفكير، فـ «نجلاء» الاسم العربي الجميل والذي يحوي كثيرا من معاني العذوبة والترف لا ينطبق وصفها الجميل على ما ذهبت به من بحث وتمحيص في «ليلة نجلاء» (طويلة) كنت أتوق شوقا لنتائجها.

في يوم الخميس الموافق 20-6-2018 أسقطت إيران طائرة من دون طيار أميركية في مياه الخليج العربي، وتعددت الروايات وانقسمت بين مطالب بالرد ومن هو مطالب بالتروي أكثر حتى ظهور نتائج التحقيق، إذ ذكرت بعض التحقيقات أن الطائرة كانت تحلّق فوق المياه الدولية وليست كما يدّعي الجانب الإيراني من أنها حلّقت فوق المياه الإقليمية لإيران، ومع ذلك كله ولو اختلفت نتائج التحقيقات فالنتيجة واحدة والطائرة أسقطها الحرس الثوري واستطاع أن يحقق نصرا معنويا على الأقل أكثر من ما هو نصر عسكر أو عملياتي.

وبالحديث عن الصراع الإيراني – الغربي لا بد لنا من النظر بصورة أشمل وأكبر مما هي عليه الحال، فالعلاقات الأميركية – الإيرانية منذ قيام ثورة الخميني مرّت بالكثير من المنعطفات والتوترات في المنطقة، أدت إلى تشتت واختلاف كثير من المحللين في العالم أو المنطقة، فهناك من يراهن على أن إيران والغرب وأميركا تحديدا على أعلى درجة من التنسيق وترتيب الأولويات ومحاولة استنزاف مقدرات وخيرات المنطقة عبر إحداث سيناريوات تكون أهم نتائجها قيام حرب على مستوى إقليمي، وهناك من ينكر لغة «المؤامرة» تلك ولا يعير لها بال، ويجزم أن إيران هي عدو للغرب وللمنطقة وأن مشروعها التوسعي وطموحها النووي هو الذي أدى إلى تلك المشاكل التي وقعت فيها.

وبالنظر إلى الفلسفة الأميركية في التعاطي مع أزمات المنطقة نستنتج أحد أهم عواملها، وهي المصالح الأميركية في المنطقة والتنافس العالمي على قدرات المنطقة الاقتصادية، فالولايات المتحدة قد لا تكون متحمسة للذهاب بعيدا في حرب مع إيران بقدر ما هي تعمل على حماية مصالحها الاقتصادية وتحقيق بعض سياساتها الاستراتيجية في فرض السلام بالقوة، فلا استدامة للاقتصاد من دون سلام، كذلك ومن أهم ما تذهب إليه أميركا في المنطقة هو تأمين دولة إسرائيل من أن تكون تحت الخطر الإيراني أو الخطر العربي، ولكن هل فعلا إسرائيل في خطر من إيران أو من العرب؟ هناك من العرب من يدّعي أن سبب الازمة الإيرانية هو تشتيت العرب عن قضيتهم المركزية وهي قضية فلسطين، وأن تدويل القضية بهذا الشكل يجعل العرب وإسرائيل في مكان واحد لمواجهة الخطر الإيراني إن صح التعبير، ويحمّلون دول الخليج وكالعادة السعودية بكل مشاكل المنطقة، إذا لم تكن هي أيضا سبب مشاكل العالم بحسب ادّعائهم وحسدهم.

دعونا نسترجع التاريخ قليلا، وتحديدا عقد الثمانينات من القرن العشرين «الحرب العراقية – الإيرانية»، إذ نالت هذه الحرب من مكانة القضية الفلسطينية كقضية مركزية وانتهت أوضاع القضية الفلسطينية أشد سوءا من قبل، واتضح المجهود العسكري العربي الضائع في دعم العراق آنذاك والذي كان المفترض أن يتوجه إلى إسرائيل، بل أصبح واضحا انشغال الجامعة العربية في تلك الحقبة بالأزمة الإيرانية – العراقية من خلال القمة العربية في عمّان عام 1987، وأعطت أولوية واضحة للصراع الإيراني – العراقي على حساب الصراع العربي – الإسرائيلي، لقد استغلت إسرائيل الاختلاف في موازيين القوى العسكرية وشنّت أكثر اعتداءاتها العسكرية على الدول العربية وطالت كل من العراق وضرب مفاعل أوزيراك عام 1981، ولبنان عام 1982، وتونس 1985، وأحدثت شرخا كبيرا بين بعث العراق وبعث سورية على إثر وقوف الأخيرة مع النظام الإيراني. لعل المتمعن في تلك الأحداث وما أنتجته الآن يستنتج أن الأدوات قد تكون واحده ولكن طريقة التنفيذ تتغير، فالمستفيد إلى الآن من كل ما يحدث هي دولة إسرائيل، والأداة في كل ما حدث هم العرب، والند في كل مرة هي إيران، والمشرف العام والتنفيذي أحيانا هي أميركا، والخاسر بين تلك المجموعات هي الدول العربية بقصد أو من دون قصد، ودول الخليج والسعودية تحديدا هي من تقف صادقة من دون أجندة سياسية أو مذهبية مع العرب والمسلمين، وهي التي يوجّه حساد العرب عليها التهم وكأنها المسؤولة عن سياساتهم الحمقاء، ومنذ ذاك اللحين ومرورا بغزو الكويت وسقوط صدام وتفتت الدول العربية واحدة تلو الأخرى نجد أن إيران وإسرائيل ما زالتا إلى حد بعيد بعيدتان عن خطر الزوال والسقوط كدول وليس كأنظمة.

وبعد تلك الليلة «النجلاء» والتي كنت أطرب فيها شوقا وأهيم لها ضحكا وأنا انتظر لحظة رد الولايات المتحدة على إسقاط إيران الطائرة من دون طيار خاب أملي وتوقعي إلى الآن، ولربما يتغير ذلك الحال إلى غير حال، وأصبحت أستحضر الكثير من المبررات والتبريرات وأربط أن الولايات المتحدة قد تكون مشغولة بالانتخابات وبتقاطع المصالح والاقتصادات وتأثير ذلك على العالم في عرض المحيطات، وقد يضع أميركا التي أعرف أنها بلد مؤسسات تعمل لتحقيق استراتيجيتها المعلنة والتي وضعت إيران ضمن الدول الراعية للإرهاب في موضع الدفاع خلاف ما تبنته في صون السلام بالقوة، ويترسخ لدي أكثر أن المعطيات الاستراتيجية دائما يلفها الكثير من الغموض والشك وعدم اليقين، ولكن كل ما استحضرت الماضي ورأيت الواقع أترقب المستقبل بـ «أمل حذر» فأنا أعلم مثل غيري دهاء السياسية السعودية وتحركاتها النشطة، وتعلّمت من أزمات المنطقة أن كل من يكيل لهذا البلد وهذه القيادة العداء سيقع في شر أعماله، فلنا مواعيد كثيرة مع التطور والسمو على الصعيد السياسي والاقتصادي.

يقول ابن أبي عيينة:

فانظر وفكِّر فيما تمرُّ به * إن الأريب المفكر الفَطِن
3 «العم سام»: لحظة صعود إمبراطورية.. وسقوطها!
طارق زيدان
الحياة السعودية

بشعره الأبيض الطويل المغطى بقبعة يعود بتصميمها إلى القرن التاسع عشر، وتعكس تحديدا أزياء سكان مدينة نيويورك، يخاطبك «العم سام» بسبابته ونظراته من خلال الملصق الشهير المنشور عام ١٨٥٢ والذي أصبح اليوم شعار الإمبراطورية الأميركية، ليوجه الدعوة إليك للانضمام إلى الجيش الأميركي.

يحاكي الشعار تاريخ ونشأة قوة عالمية أثرت في تاريخ البشرية، ويحكي قصص الهجرة والدم والمال والأمل والابتكار والاحتلال، فاسم «العم سام» مأخوذ من اسم جزار محلي أميركي يدعى «صموئيل ويلسون» كان يزود القوات الأميركية المتواجدة في مدينة تروي بولاية نيويورك بلحوم البقر، وكان يدمغ شحناته من لحوم البقر بحرفي U.S. (أي الولايات المتحدة) في إشارة إلى أنها ملك الدولة، فأطلق لقب «العم سام»: كلمة Uncle لحرف U، وSam لحرف S.

في الشعار أيضا قصة صعود إمبراطورية عالمية؛ صعود من الميليشيا/ الدولة إلى الميليشيا/ الدولة العظمى التي حجزت لنفسها مقعدا في تاريخ الأمم مثل إمبراطوريات سابقة، التاريخ لا يحمي المستغفلين.. هي لحظة تماس لعناصر تفوق وطني في مسار النشوء والتطور للدولة.. هو ما يسميه المؤرخون بـ»مكر التاريخ»، أو كما قال الصحافي العربي الكبير محمد حسنين هيكل بأن الحلم الإمبراطوري «يقوم على ضرورات أمن وطني ومطالب صراع دولي وليس حلما شخصيا».

اللحظة التاريخية

ففي لحظة تاريخية، اجتمع الشعار والحلم والمطلب الدولي، لحظةً أوجدت عناصر تحويل الدولة إلى إمبراطورية، لحظةً قطفها الجيش الأميركي عند انتهاء الحرب العالمية الثانية.

فقد تأخرت واشنطن في دخول الحرب الثانية، وقد كان لتسويف الرئيس الأميركي آنذاك روزفلت أسبابه العديدة. لم يكن رئيس وزراء بريطانيا تشرشل غافلا عن الأسباب الأميركية، بل كان يقف مراقبا انحسار الإمبراطورية البريطانية أمامه على الخريطة وكان متيقنا أن الفراغ الناتج عن هذا الانحسار لا بد وأن يملأه أحد ما، إلا أن تشرشل انتظر لأنه كان مؤمنا بعامل الوقت. قدر أن روزفلت سينخرط في الحرب ضد هتلر، لأن انهزام بريطانيا أمام ألمانيا سيضع واشنطن أمام خيارين: إما أن يتحول المحيطان الحاميان للبر الأميركي (الأطلنطي والهادئ) إلى سجن كبير يحبس أميركا أو أن يغزو هتلر أميركا.

وحين تبدى أمامه التوقيت توجه إلى واشنطن، وما أن نزل تشرشل ضيفا على البيت الأبيض حتى كان روزفلت، ولشدة حماسته للقاء، يتوجه مسرعا إلى جناح رئيس حكومة ملكة بريطانيا الشهير بخطاباتفوجئ تشرشل بوجود الرئيس الأميركي في حمامه، غير أن روزفلت عاجله بالقول «لقد أمسكت بك، لقد كشفتك». جاوبه تشرشل بطريقته المليئة بالرسائل السياسية «ليس هناك ما يخفيه رئيس وزراء صاحبة الجلالة عن صديقه وحليفه رئيس أميركا».

توالت اللقاءات بعدها، إذ تبادل الرجلان أكثر من ١٧٠٠ خطاب وبرقية، واجتمعا ١١ مرة، ليصدر بعدها إعلان مشترك يعرف بـ «ميثاق الأطلسي»، وهو عبارة عن وثيقة بين القوتين تعبيرا عن مبادئ مشتركة في السياسات الوطنية للبلدين. وبالفعل، تمكّنت بريطانيا من خلال الإعلان من طلب بضائع حربية من واشنطن عن طريق الدين، وهي مساعدة كانت بريطانيا بأمس الحاجة إليها، غير أن أميركا لم تدخل الحرب بعد.

وحين دخلت واشنطن الحرب من بابها العريض في حادثة الهجوم على ميناء بيرل هاربر جراء الغارة الجوية اليابانية المباغتة، كان تشرشل واثقا من فوز الحلفاء بالحرب في نهاية المطاف، وبدأ يعمل على تعزيز العلاقة الأنجلو – أميركية لعالم ما بعد الحرب.

ومع هول الحدث الذي أدى إلى مقتل 2402 جنديا أميركيا وجرح 1282 آخرين، فضلا عن خسائر كبيرة في الأسطول البحري الأميركي، انتقلت واشنطن من إدارة الظهر إلى الانخراط المباشر في الحرب، فكان أول عبور عسكري أميركي من البحر إلى البر، وتحديدا على خشبة المسرح الدولي في أوروبا وآسيا.

روزفلت وتشرشل في حوض الحمام

لا شك بأن العلاقة الحميمة بين تشرشل وروزفلت أسهمت في تأسيس العلاقة المتميزة اليوم بين لندن وواشنطن، إلا أن هذه العلاقة كانت إدراكا من بريطانيا للدور الأميركي الصاعد لعالم ما بعد الحرب. فهي علاقة بين رجلين يعرفان حجم القوة وتأثيرها.

حتما غيرت الحرب العالمية الثانية خريطة الكون، وأفرزت سلسلة أزمات تبدأ من تأمين الحدود بين الدول مرورا بالاقتصاد ووصولا للبنية الاجتماعية التي تمزقت جراء أزمة حادة للجوء، ومن نتائج هذه الحرب عودة جميع الدول إلى حدودها القديمة باستثناء بولندا التي توسعت على حساب ألمانيا، كما قسّمت أوروبا إلى مناطق نفوذ ومعها ألمانيا إلى شرقية وغربية بعاصمتين، كما انخفضت نسبة الولادات مقابل ارتفاع نسبة الوفيات، فضلا عن تفشي البطالة وزيادة عدد الإناث بالقياس مع الذكور.

تكدست الديون وتحولت دول أوروبا من دول مصدرة إلى دول مستوردة، وأصاب الدمار المساكن والمصانع ووسائل النقل والمزارع. بمعنى آخر كانت دول العالم الكبرى وتحديدا الإمبراطورية الإنكليزية في الحضيض.

في الوقت نفسه، تمكنت واشنطن من الحفاظ على أساسيات اقتصادها الصناعي، وانحصر تأثير الحرب على نسيجها الاجتماعي، فبرزت أمام حلفائها المنتصرين كقوة عالمية، لا بل صارت نظرة العالم إلى تضحيات الجيش الأميركي وقادته نظرة بطولة. هم قادة النصر ضد النازية والفاشية.. هم أصحاب القنبلة النووية التي غيرت مجرى الحرب، والأهم أن قادة جيش «العم سام» موجودون بجيوشهم في مواقع الحرب. في أوروبا وآسيا والمحيط الهادئ والبحر الأبيض المتوسط، ولم يستطع أحد أن يطالبهم بالانسحاب، بل تمسكت بهم بعض الدول خشية الضعف والدمار، ما جعل الجيش الأميركي يتربع على كرسي السلطة في الفضاء السياسي لعالم كان يفيض بالخراب.

جلس ثلاثة من كبار قادة جيش «العم سام» على سلطة العالم يحكمون في لحظة ما بعد الحرب: في واشنطن الجنرال جورج مارشال وزير دفاع روزفلت الذي أصبح لاحقا وزير الخارجية في عهد الرئيس ترومان وصاحب مشروع مارشال. وفي باريس، الجنرال دوايت آيزنهاور قائدا عاما للجيوش المتحالفة. وفي طوكيو الجنرال دوجلاس مكارثر وصيا على اليابان وبحر الصين.

من هذه اللحظة بدأ التحرك نحو مشروع الإمبراطورية.. لحظة اجتمعت فيها دواعي أمن وطني أميركي ومطلب دولي. أخذ قادة الجيش الأميركي المهمة على عاتقهم من مواقعهم الجديدة في حكومة «العم سام». تحديدا الجنرال آيزنهاور الذي انتخب لاحقا الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية.

حينها نشأت نظرية الأمن الأميركي على مبادئ استراتيجية محددة. التفوق العسكري على كل القوى الدولية مجتمعة والتطور التكنولوجي لصالح «العم سام» فقط والمرونة في الحركة العسكرية بالاشتراك مع الحلفاء.

نظرية «المرونة» هذه أفرزت خريطة عالمية عسكرية تتماهى مع الخريطة السياسية الجديدة بتحدياتها، ضمت الخريطة قيادة في أوروبا (حلف الناتو) وقيادة في آسيا مرتكزة على اليابان وقيادة لم يكتمل لها النجاح وهي قيادة الشرق الأوسط (حلف بغداد) عام ١٩٥٥م.

نظرية أمنية جيوسياسية عرفت في ما بعد بمبدأ آيزنهاور، وعرضها في رسالته الخاصة إلى الكونغرس عام ١٩٥٧، وبحسب المبدأ ذاته يكون بمقدور أي بلد طلب المساعدة الاقتصادية الأميركية أو العون العسكري الأميركي. هذا المبدأ جاء ردا على بروز الاتحاد السوفياتي.

أما على الصعيد الداخلي لنظرية الأمن الأميركي الجديدة فقد تجسدت بالعدد الهائل من ضباط الجيش الأميركي الذين أصبحوا يشغلون مناصب مدنية في الحكومة والشركات الأميركية الكبرى، وبحسب إحصاءات العام ١٩٥٩ في موقع وزارة العمل الأميركية تبين أن هناك أكثر من 200 ألف موظف قدموا من الجيش الأميركي!

المهم، اشتغل أهل المال في الصناعة والتمويل وتطوير التكنولوجيا لهذا التحرك نحو الإمبراطورية، ولحق بهم أهل السياسة لخدمة هذه الاستراتيجية بتشريع القوانين في الكونغرس، وعمل أهل السلاح على تعزيز التفوق العسكري والانتشار العالمي.

قام المجتمع الأميركي بابتكارات رائعة، مثلا التواصل الإلكتروني (الفاكس) وجد في خدمة الجيش الأميركي منذ خمسينات القرن الماضي، ليصبح متوافرا لاحقا بثلاثين سنة للقطاع الخاص في الثمانينات، وبعدها الهواتف النقالة والأقمار الاصطناعية وأجهزة التنصت والتشويش وغيرها من تكنولوجيا تنتمي للقرن العشرين، بينما نعيش في القرن الواحد والعشرين.

وعلى رغم سقطات دموية لأهل السلاح كحرب فيتنام وتحديات كبيرة لأهل السياسة كالحرب الباردة مع السوفيات مع تقلبات اقتصادية عالمية لأهل المال، استمرت العلاقة بين المال والسياسة والسلاح تنمو وتزدهر، معززة التحول الإمبراطوري بإدار ضباط «العم سام».

هنا يمكن فهم سياق تصريح الرئيس آيزنهاور الشهير في خطاب الوداع الأخير له عام ١٩٦١، عندما حذّر من دور مجمع صناعي عسكري وسياسي واقتصادي يصل نفوذه إلى عمق مؤسسات الدولة.

أدرك آيزنهاور أن فكر الميليشيا ما يزال حاضرا في دولة «العم سام»، وأنه يجري في عروقها من خلال جيشها القابض بيده على خريطة العالم. الجيش الذي نشأ من جملة محطات لا يمكن إخضاعه بعد التطور نحو العالمية، نشأة يمكن تتبعها منذ بداية الهجرة نحو العالم الجديد من الشرق إلى الغرب بعبور المحيط الأطلنطي، وما تلاها من هجرة داخلية في عمق القارة الأميركية من شواطئ المحيط الأطلنطي إلى شواطئ المحيط الهادئ، والحاجة الدائمة للجم تدفق المهاجرين وتثبيت السلطة في دولة تتوسع أراضيها بسرعة الانتقال. لذلك، اكتسب الجيش الأميركي مهارات الانتقال السريع إلى ساحات المعركة.

خاضت هذه الدولة حربين أساسيتين في ذاكرتها الجماعية: حرب الاستقلال بقيادة جورج واشنطن والحرب الأهلية بقيادة أبراهام لنكون. وكلا الحربين انتصرت فيهما الدولة باعتمادها حرب العصابات، وفق المؤرخين.

لا يمكن القفز فوق عناصر تفوق كثيرة للدولة الأميركية. منها الانفتاح الاجتماعي والفردية المنتجة بعيدة عن قيود الجماعات. والمقدرة الكبيرة لجهازها الإعلامي والإعلاني، لكن إذا أردنا البحث عن العلاقة بين البيت الأبيض والكونغرس لا يمكن القفز من فوق المؤسسة العسكرية أو البنتاغون، كما صرح الرئيس آيزنهاور. فالعلاقة الأساس تظل بين ثلاثية المال والسياسة والسلاح في صناعة القرار السياسي هي السلطة الحقيقية في إمبراطورية «العم سام».

الخلاصة: أميركا لا يحكمها العسكر، والمؤسف أنه يصعب على كثيرين فهم آلية صناعة القرار السياسي في أميركا أو حصرها بين حدود البيت الأبيض والكونغرس فقط، الواقع أن هذه العلاقة تمر من خلال مجموعة مصالح متشابكة ومؤسسات عدة عامة وخاصة، هي منظومة متكاملة يصلح تسميتها بـ «الإستبلشمنت»، أو اختصارا «العم سام».

«العم سام» شعار وقصة وعقيدة، تظل عقيدة «العم سام» في حماية الحرية والديموقراطية من أعداء الداخل والخارج كما يقول القسم في الجيش الأميركي. وتظل فصول روايتها مستمرة، يكتب التاريخ لحظة الصعود، فهل يكتب أن احتلال العراق العام ٢٠٠٣ هو لحظة سقوط الإمبراطورية؟
4 هل كان عباس الكليدار آخر العمالقة العراقيين؟
حميد الكفائي
الحياة السعودية

لم أسمع بعباس الكليدار قبل العام 1982، فالرجل غادر العراق منذ نهاية الخمسينات واستقر في بريطانيا، واتخذ من الإنكليزية لغة للكتابة والعمل، إذ دوَّن كل مؤلفاته ومقالاته باللغة الإنكليزية. إلا أنني عندما كنت طالبا في “كلية وسط لندن التكنولوجية” (“جامعة ويستمنستر” حاليا) في العامين 1981 و1982 ، عثرت في مكتبة الجامعة، على كتاب عن العراق لمؤلفه عباس الكليدار، فالتقطته وبدأت أقلب صفحاته وأخذت أقرأ في مقدمته حتى وصلت إلى فقرة تتحدث عن مكونات الشعب العراقي التي حددها الكتاب بأنها: “سنة عرب وشيعة يتحدثون العربية” وكرد وتركمان وآشوريون”! عندها توقفت عن القراءة وأغلقت الكتاب وأعدته إلى مكانه، وحكمت على كاتبه بأنه مغرض يحاول بث الفرقة في صفوف الشعب العراقي وقد يكون إيرانياً. فالإيرانيون بشكل عام، لا يريدون أن تكون للعراق أي صلة بالعرب، ودائما ما يقللون من عروبته، عبر تركيزهم على الشيعة وتمييزهم عن باقي العراقيين، باعتبار أنهم يشتركون معهم في المذهب.

أزعجني التوصيف، لكن المسألة انتهت في وقتها، فما أكثر الذين يحاولون بث الفرقة بين العراقيين، إذ أن العراق محاط ببلدان كل منها يرى أن له حقاً (تاريخياً) فيه. إيران لم تتقبل حتى الآن أنه دولة ذات سيادة وهوية مستقلة، وأن له شعباً مختلفاً قومياً وثقافياً ولغوياً عن شعبها، وأن عهد الإمبراطورية الفارسية ولى منذ مئات السنين. أما تركيا، فأُجبِرَت على التخلي عن ثلث العراق في عام 1925، لكن الأتراك ما زالوا يتصرفون وكأن شمال العراق حديقتهم الخلفية، فقواتهم تعسكر هناك تحت ذرائع شتى، بينما يدخل مسؤولوهم العراق من دون إذن من حكومته أو حتى علمها. وفي سورية هناك (القوميون السوريون) الذين يعتقدون أن العراق جزء من “سورية الكبرى” وأنه يجب أن يعود إليها يوماً! وينسى هؤلاء أو يتناسون أن العراق أعرق من دولهم، فعمره كبلد قائم ضمن حدوده الحالية تقريباً، يربو على سبعة آلاف سنة، وتعاقبت على أرضه الامبراطوريات وبقي دولة تتميز بتنوع الأعراق والأديان والثقافات واللغات.

مرت السنون على تلك الحادثة، وكنت نسيتها كلياً لو لم التق بالبروفيسور عباس الكليدار في بيت صديقتنا المشتركة لمياء الكيلاني بعد أكثر من عقدين عليها. وبعد أسئلة التعارف الأولية، سألته إن كان هو مؤلف كتاب “العراق: البحث عن الهوية”، فقال: “نعم”، فذكّرته بأنني اطلعت على بعض كتبه وأفكاره وأنني اختلف مع بعض الأفكار الواردة فيها اختلافاً جذرياً، فرحب بالاختلاف، ثم ذكرته له قصة تصفحي أحد كتبه في عام 1982 وامتعاضي من تقسيمه العراقيين إلى (سنّة عرب وشيعة يتحدثون العربية) في وقت ينتمي السنة والشيعة إلى القبائل العربية ذاتها. سألته كيف توصل إلى هذا الرأي الخطير الذي يزعج معظم العراقيين؟ استغرب المعلومة ونفى نفياً قاطعاً أن يكون كتبها قائلا إنه ابن قبيلة عربية أصيلة ولا يمكن أن يشكك بأنساب العراقيين. غير أنني كنت متيقناً من أنني قرأت المعلومة في كتابه، وهو ما دفعني إلى قطع صلتي بكتاباته، لكنه ظل مستغرباً ونافياً أنه كتب ذلك.

وفي صباح اليوم التالي، دق جرس هاتفي فأجبت وإذا به البروفيسور عباس الكليدار. بادرني القول: “لقد راجعت الكتاب المذكور وأنت على حق في ما قلته، إذ وجدت التصنيف المسيء للعراقيين فيه، لكنني لم أكتب حرفاً واحداً منه، وإن ذلك المقطع أضافه الناشر كمقدمة من دون علمي”. سألته لماذا يا ترى يضيف الناشر معلومة خاطئة عن العراق من عنده؟ هل هو من القوميين الإيرانيين؟ أجاب: “ربما”. وبعد أسبوعين تقريبا دعاني إلى بيته مع عدد من أصدقائه وسرد لهم قصتي مع أحد كتبه وكانت أمسية ممتعة بصحبة عالم جليل. ينتمي الكليدار إلى عائلة معروفة في مدينة الكاظمية في بغداد تقع عليها مسؤولية إدارة “أوقاف الإمام الكاظم”، بما فيها الضريح، كما يشير اسمها الذي يعني (حامل مفاتيح الدار).

عمل الكليدار أستاذاً في العلوم السياسية في “جامعة لندن” – “كلية سواس”- لربع قرن تقريباً، وكانت محاضراته العامة حافلة بالمثقفين وطلبة العلم. ومن الطرائف التي ساقها لي أنه في كل محاضرة يلقيها كان يجد صديقه البروفيسور صفاء خلوصي جالسا في المقدمة، وبعد أن تنتهي المحاضرة يسأله خلوصي سؤالا واحدا يتكرر باستمرار: “متى كانت آخر زيارة لك إلى العراق”؟ وعندما يجيبه، يكتفي بالقول: “شكراً”. كان سؤال خلوصي يهدف إلى تنبيه الحاضرين إلى أن معلومات الكليدار ليست دقيقة لأنه يعيش خارج العراق منذ زمن بعيد. وخلوصي مؤرخ وأديب عراقي مرموق وكان أستاذاً في الأدب العربي والإنكليزي في عدد من الجامعات البريطانية، وقبلها في “جامعة بغداد”، وكان شديد الاعتزاز بالعروبة، وهو صاحب فكرة أن الشاعر الإنكليزي وليام شكسبير عربي الأصل واسمه الأصلي “شيخ زبير”!

ارتبط الكليدار بعلاقة وثيقة بالعائلة المالكة الأردنية وعمل مستشارا لولي العهد الأمير الحسن بن طلال وكان يكتب له خطاباته المتعلقة بالثقافة والدين والتاريخ، باللغتين العربية والإنكليزية. وأخبرني أنه في إحدى المناسبات، طلب منه الأمير الحسن أن يزيل معلومة من خطابه باللغة العربية، ويبقيها باللغة الإنكليزية! وعندما سأله عن السبب، أجابه بأن المتلقين العرب لا يتحملون هذ المعلومة! امتاز الكليدار بكونه موسوعة معرفية إذ إن لديه خزيناً لا ينضب من المعلومات عن تأريخ المنطقة ومشاكلها ومعوقات التقدم فيها. كان ناقداً موضوعياً للسياسة العراقية على مر العصور وتتميز مؤلفاته بغزارة المعلومات وعمق التحليلات. كان يُدعى إلى عواصم العالم المختلفة لإلقاء المحاضرات عن القضايا السياسية والثقافية العربية. وإلى جانب كتبه عن العراق، كتب عن دول عربية أخرى منها كتاب “لبنان: انهيار الدولة والأبعاد الإقليمية للصراع” و”(مصر: مأزق الدولة” الذي اشترك معه فيه الكاتب البريطاني مايكل بوريل.

عاش الكليدار حياة مليئة بالنشاط والحيوية وكانت شقته في حي كنزينغتون غرب لندن ملتقى لأصدقائه، المتفقين والمختلفين معه على حد سواء، فالاختلاف في الرأي أمر عادي عنده. كان مع زوجته اللبنانية (ماج)، التي رحلت قبل ثلاث سنوات، يخدمان ضيوفهما بنفسيهما. وعلى رغم تجاوزه الثمانين، لم يبدُ الكليدار مُسِنّاً مطلقاً، بل بقي نشيطا منتصب القامة ومتوقد الذهن والذاكرة. أمضى في لندن ما يقارب الستين عاما، وكان أصدقاؤه يشْكِلون عليه ابتعاده عن بلده، ولكن، لم تكن العودة إلى العراق ممكنة زمن النظام السابق بسبب آرائه الناقدة للسياسة العراقية منذ تأسيس الدولة في عام 1921، وكان ذلك سيعرضه للمساءلة والسجن. بقي الكليدار متنقلاً بين بيروت ولندن، ولم يزر مسقط رأسه، بغداد، حتى بعد زوال الديكتاتورية. لم يدُر في خلدي يوما أنني سأرثي عباس الكليدار بعد ستة أشهر من رحيل صديقته لمياء الكيلاني التي التقيته في بيتها أول مرة وزارني بصحبتها آخر مرة. في العشاء الأخير الذي جمعنا، اعترف الكليدار بأن بعض تصوراته عن العراق لم تكن دقيقة. “لقد برهنت تجربة ما بعد العام 2003 أن هناك مشاكل عميقة يعاني منها المجتمع العراقي لم تكن في الحسبان”. برحيل عباس الكليدار، يقترب جيل العراقيين (العمالقة) من الانقراض. الجيل الذي اتسم أبناؤه بالجد والمثابرة والعمل الدؤوب والسعي الحثيث من أجل التميز والإبداع.
تغريدة:

إيران لم تتقبل حتى الآن أن العراق دولة ذات سيادة وهوية مستقلة، وأن له شعباً مختلفاً قومياً وثقافياً ولغوياً عن شعبها، وأن عهد الإمبراطورية الفارسية ولى منذ مئات السنين. أما تركيا، فأُجبِرَت على التخلي عن ثلث العراق في عام 1925، لكن الأتراك مازال يتصرفون وكأن شمال العراق حديقتهم الخلفية”.

عباس الكليدار غادر العراق منذ نهاية الخمسينات واستقر في بريطانيا، واتخذ من الإنكليزية لغة للكتابة والعمل، إذ دوَّن كل مؤلفاته ومقالاته باللغة الإنكليزية.

عندما كنت طالبا في “كلية وسط لندن التكنولوجية” (“جامعة ويستمنستر” حاليا)، عثرت في مكتبة الجامعة على كتاب عن العراق لمؤلفه عباس الكليدار، فالتقطته وبدأت أقلب صفحاته وأخذت أقرأ في مقدمته حتى وصلت إلى فقرة تتحدث عن مكونات الشعب العراقي التي حددها الكتاب بأنها: “سنة عرب وشيعة يتحدثون العربية” وكرد وتركمان وآشوريون”! عندها توقفت عن القراءة وأغلقت الكتاب وأعدته إلى مكانه.

ذكرت لعباس الكليدار قصة تصفحي أحد كتبه في عام 1982 وامتعاضي من تقسيمه العراقيين إلى (سنّة عرب وشيعة يتحدثون العربية) في وقت ينتمي السنة والشيعة إلى القبائل العربية ذاتها.

امتاز الكليدار بكونه موسوعة معرفية إذ إن لديه خزيناً لا ينضب من المعلومات عن تأريخ المنطقة ومشاكلها ومعوقات التقدم فيها. كان ناقداً موضوعياً للسياسة العراقية على مر العصور وتتميز مؤلفاته بغزارة المعلومات وعمق التحليلات.