1
الرَّاد على «الدَّعوة» راداً على الإسلام.. أي غرور رشيد الخيّون الاتحاد الاماراتية
تسلم «حزب الدَّعوة» رئاسة وزراء العراق وقيادة القوات المسلحة، أي السّلطة التنفيذية الفاعلة، المال والسِّلاح وما يتعلق بأمور البلاد كافة، لأربعة عشر عاماً، كلُّ هذا الزمن وكلّ هذه المسؤوليات الخطيرة في عنقه، ولا يُريد نقداً، ويتخيل نفسه أنه صاحب الفضل على العراقيين، مدعياً أنه أشبعهم مِن جوع وآمنهم مِن خوف، وحسب ادعاء خطبائه المأزومين، لولاه ما كانت ثقافة بالعراق، ولا كرامة ولا حُرية، أسقط لهم النِّظام السَّابق، حررهم مِن الأميركان، وهو الذي يُطارد الفاسدين، ويحفظ هيبة الدَّولة!
نقرأ لأحد دعاته تحت عنوان «الدعوة وحزبها الخالد النافع الكريم»:الدعوة خالدة خلود الإنسان في عالم الدنيا..الدعوة هي الإسلام بحد ذاته، الذي هو دين الله تعالى الخاتم الخالد، فالدعوة رسالة إلهية زكية هادية منقذة من الكفر والجاهلية، والضلال والإلحاد… والدعوة هي عقيدة التوحيد الإلهي الرسالي، ودستورها القرآن الكريم الحكيم، وشريعتها نازلة من السماء… وأهم من يقول إن حزب الدعوة – رسالة إسلام وعقيدة توحيد – فشل وولى واندثر وانطمر بلا رجعة لأن الله تعالى حافظه ومريده ومرتضيه»(الموقع الرسمي للحزب وفضائيته آفاق).
سطور موغلة بالغرور، تصوروا أن الله حافظ للحزب كحفظه للقرآن! وعندما ينشر الحزب هذا المقال في صحافته مؤمناً بما ورد فيه. لكن الانشقاقات الكثيرة، والعراك في أيام المعارضة على مغانم كعقار حسينية مثلاً، والأربعة عشر عاماً من السُّلطة تكشف الافتراء في ادعاء القدسية والحفظ الإلهي. رُفع خلالها الفساد إلى أعلى المستويات، تحول به أصحاب الحِرف البسيطة إلى أصحاب ثروات، واغتيل مَن اعترض على أحوال العراق في ولاية أمينه الثانية. نصب الحزب له خطيباً يبث التكفير على اليسار واليمين ويُجيد الكذب.
تدرب كادر «الدعوة» اليوم في معسكرات «سرايا الدفاع» السورية، وكان وقعها على السوريين كوقع أي ميليشيا عابثة. كتب متدرب فيها رسالة بعد فقد منصبه: «المجاهد الذي حمل السلاح منذ الدورة العسكرية الأولى، التي أقامها حزب «الدعوة» في جبال الزبداني، على يد ضباط سرايا الدفاع السورية عام 1980» (17/12/ 2012). نتج هذا التَّدريب عن تورط في المعارضة باغتيالات وعمليات تفجير خلال الحرب العراقية الإيرانية، تنفيذاً لأوامر الجارة الإسلامية.
أول سؤال يوجه للقادة الدعاة ورفاقهم، ماذا كنتم عليه قبل(2003)، وماذا أصبحتم بعدها؟! كم فضائية قضمتم أموالها مِن المال العام، وكم عقار سيطرتم عليه، بحجة الشِّراء؟! هل كان الفساد في ظل سلطة «الدعوة» يتناسب أن يُقرن وجود هذا الحزب بوجود الدعوة الإسلامية الأولى، وسواها جاهلية وكفر، تلك العبارة التي تعلموها مِن كتب سيد قطب(أعدم 1966).
يحاول الحزب بقيادته الحالية أن يعتبر نفسه ذلك الذي تأسس(1959)، وكان أولئك الناشطون فيه، لو عادوا إلى الحياة، وشاهدوا كيف تبدلت الأحوال، لتأسفوا على المخاطر التي ركبوها، كي يصبح فلان بطلاً وثرياً بأسمائهم، وهو المختبئ بالمنطقة الخضراء، التي حصنها له الأميركان، ولولاهم ما وطأ «دعوي» ولا غيره أرضها.
حاول «الدَّعوة» رصد كل الأفعال النِّضالية له، فقد جعل من حادثة «خان النص» (1977) مجداً له، بينما الحقيقة كانت حركة عارضة، لا قيادة لها ولا محرك، القصة أن مسؤول تنظيمات الفرات الأوسط للبعث حسن العامري، حاول تفريق الماشين في زيارة الأربعين، وعبث بقدور الطعام، فتصاعد صوت الاعتراض، وليس للحزب ولا أي فيصل إسلامي فضل فيها، لكن قسوة النظام حولت الحدث إلى ما ادعاه «الدعوة»، حسب ما أفاد به تايه عبد الكريم (قناة البغدادية، برنامج للتاريخ، تقديم: حميد عبد الله)، وسمعت ذلك من شاهد عيان اعتقل لشهرين ببغداد حينها، وهو أحد المجتهدين اللبنانيين.
يصر«الدَّعوة» على الكذب في تاريخ تأسيسه، كي لا يكون ردَّة فعل لفورة اليسار العراقي(1959)، وضع له عام تأسيس مختلق(1957) وفي المولد النَّبوي (في مغالطة الدعوة في تاريخ تأسيسه راجع شهادات الأوائل: طالب الرفاعي، ومهدي الحكيم، وعبد الهادي الفضلي، ومحمد رضا الآصفي). أما أكبر كذبة كذبتها قيادة الحزب هو تبنيها محاولة اغتيال عدي صدام حسين(1996)، ولما سألتُ أحد القياديين حينها، أجاب:«لتشجيع الرُّوح الجهادية»!
أقول: أي إسلام صار قريناً لحزب الدّعوة؟ وبأي حقّ يصبح الحزب ممثلاً للنبي وآل بيته؟! وإذا كان الحزب «رسالة إلهية زكية هادية منقذة» حسب المنشور على موقعه، فعلى الرِّسالة السلام. حزب أمضى نصفه الأكبر في المعارضة ذيلاً للولي الفقيه وحتى الآن، سرى أمينه العام ليلاً إلى طهران، عندما قصدته تظاهرات الاحتجاج على الفساد، وأخذ وعداً بالحماية! أهذه هي الرسالة، كي يصبح فيها الراد على الدَّعوة راداً على الإسلام؟! أجد عند الجواهري(ت1997) ما يُعبر عن الحال:«تحكَّمَ باسمِ الدّينِ كلُّ مذَمَّمٍ/ومُرتكِبٍ حفَّتْ به الشُبُهات/وما الدينُ إلا آلةٌ يَشهَرونها/إلى غرضٍ يقضُونه وأداة»(الرجعيون 1926). فأي صاحب منصب وقيادي دعوي لم تحف به شبه فساد إداري ومالي واستفادة من بذخ الحزب بأموال الدولة. هذا، ومَن كان تقياً مِن الحزب غلق بابه مبكراً بوجه الشبهات، صوناً لذمته.
2 امرأتان من العراق
د. حسن مدن الخليج الاماراتية
«امرأتان نقيضتان.. بينهما وطن يتبدد»، تلتقيان مصادفة في باريس. واحدة تتجاوز الثمانين، والثانية بالكاد تقارب الأربعين. عمر منفى الأولى أكبر من عمر الثانية كاملاً.
تسأل إنعام كجه جي في روايتها العذبة والموجعة، في الآن ذاته، «النبيذة»: «هل تكفي بغداد رابطة بينهما؟ مدينة تقلّب المواجع. تجرح وتحظر اندمال الجروح. أرض جيّاشة. تزدري بالذين هجّوا منها. اذهبوا حيثما شئتم ولن تغادروني. إن خراجكم لي. لن يقال عنكم سوى عراقيين».
أليست كجه جي نفسها واحدة من هؤلاء العراقيين والعراقيات الذين هجّوا من بغداد، ومن العراق كاملاً، إلى منفاها في فرنسا، حاملة العراق معها فيما تكتب، أجاءت هذه الكتابة في الصحافة أم في رواياتها، ومن ضمنها «النبيذة» التي إن بثت في نفوسنا الفرح مرة، فإنها بثت الشجن والأسى مرات.
لكل واحدة من المرأتين بغدادها. بغداد الأولى ليست بغداد الثانية. الأولى، تاج الملوك، أو تاجي، أو «مدام شامبيون»، التي «ارتدت أسماء كثيرة. رقصت بها ثم خلعتها، ورمتها في صناديق الكرتون تحت تختها»، والثانية: وديان التي لم تجد في نفسها رغبة لمضاهاة الأولى، لأن «الدنيا صينية بقلاوة بالدهن الحر، تقول الرواية، أقبلت إحداهما عليها بشراهة واكتفت الأخرى بأن تكشّ عنها الذباب».
ولدت تاج الملوك في طهران التي لا تتذكر منها سوى مشاهد عابرة من طفولتها. «لا وطن لتاج الملوك مثل خلق الله». كان أبوها أمير خان ايمانلو قد طلّق والدتها، زينة السادات، قبل ولادتها بشهرين. تعيّن على الأم تدبر شؤون الحياة، فأصبحت مجوّدة للقرآن على مسمع زوار مرقد الإمام الرضا، لينتهي بها الأمر زوجة ثانية لعراقي من السادة يأتي بها هي وابنتها إلى بغداد.
لم تحب البنت زوج أمها أبداً، لكنها من بيته تعلمت عيون الشعر العربي وحفظته. كان مجلسه الأسبوعي قبلة الحفظة رواة الشعر وأرباب الفصاحة، وبسرعة خارقة بدأت تنشر في الصحف. توغلت في الحلقة الضيقة من الساسة، وعن قرب عرفت نوري السعيد وحلمت بأن تكون زوجة للوصي عبدالإله. حاورت عبدالله بن الحسين شريف مكة والحبيب بورقيبة يوم كان محامياً مغموراً أتى بغداد لحشد الدعم لقضية نضال شعبه من أجل الاستقلال.
أما وديان فقد كانت عازفة كمان في الفرقة السيمفونية العراقية، تتردد على نادي الفروسية لولعها بركوب الخيل. عاشت كما جيلها فواجع الحرب العراقية الإيرانية، وأجواء الاستبداد والقمع، لينتهي بها الأمر ضحية لمن وصفته الكاتبة ابن الشيخ، المعادل الروائي للابن الأكبر لصدّام حسين، الذي لم تسمه الكاتبة باسمه، حين استدرجت مكرهة إلى إحدى حفلاته. للحديث تتمة.
3 حرب باردة في صيف ساخن
داود الفرحان
الشرق الاوسط السعودية
آخر مَن يصلح للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران هو رئيس وزراء اليابان شينزو آبي! فالتهذيب الياباني والأدب الإمبراطوري لا يمكن أن يقنعا ملالي طهران بالتراجع عن سياسة تصدير الإرهاب إلى دول العالم شرقاً وغرباً. قد يصلح مصارعو السومو أو محاربو الساموراي لهذه الوساطة؛ فهم مثال للصبر والتحمل والصرامة. أما تكرار الانحناء الياباني الراقي أمام المرشد الإيراني فلا يؤدي إلى نتيجة غير إصرار الأخير على مواقفه، ليس ضد الولايات المتحدة فقط، وإنما ضد العالم كله.
الرد الإيراني على أي وساطة دولية لإبعاد شبح الحرب عن المنطقة جاء سريعاً عبر صواريخ أطلقها الحوثيون الموالون لطهران على مطار أبها المدني السعودي قرب جدة. وجاء فورياً أيضاً عبر الاعتداء الفارسي على ناقلتي نفط في بحر عُمان، إحداهما نرويجية، والأخرى وهي ليست بالصدفة يابانية!
في الثمانينات من القرن الماضي لام كثيرون الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لأنه لم يلجأ للحوار مع النظام الإيراني قبل توغل الجيش العراقي في الأراضي الإيرانية، متجاهلين أن ملفات وزارة الخارجية العراقية قبل الحرب كانت متخمة برسائل المجاملات والتمنيات والكلام الهادئ لحل المشكلات العالقة بين البلدين، وفي مقدمتها احتلال القوات الإيرانية بعض مراكز الحدود العراقية الرسمية، وقصفها لمدن حدودية عراقية في القاطع الأوسط من الحدود، وفي القاطع الشمالي حيث الأكراد. لم يذهب صدام بجيشه إلى الحرب على حين غرّة ولا للاستعراض، وإنما اضطر إلى ذلك نتيجة الصلف الإيراني منذ عودة الخميني إلى طهران في عام 1979 بعد أن كان البلدان في عهد الشاه محمد رضا بهلوي قد توصلا في عام 1975 إلى اتفاق لحل المشكلات الحدودية البرية والنهرية بالطرق السلمية. جاء الخميني وأعلن أنه لا يعترف بذلك الاتفاق، فردّ عليه صدام بتمزيق الاتفاق علناً أمام كاميرات التلفزيون.
هكذا كانت البداية. وهذا ليس دفاعاً عن الموقف العراقي، ولكنه توضيح للعقلية التي تُدار بها الأمور في إيران منذ مجيء حكم الملالي. هذا نظام لا يعرف إلا لغة القوة. وهو يطبق هذا الغرور النرجسي منذ سنوات على شعبه أولاً، ثم حين حانت الفرصة طبّقها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وفي حالات عاشتها الكويت والبحرين والسعودية، وعبرها استولى في عام 1971 على الجزر الإماراتية الثلاث، كما استولت «إسرائيل» على القدس والجولان والضفة الغربية وسيناء في عام 1967.
قبل شهرين، أعلن الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، وتصرف، كما لو أننا سنصحو من النوم في اليوم التالي على قصف الصواريخ الأميركية لطهران ومفاعلاتها النووية ومصانعها الحربية ومستودعاتها الصاروخية، ثم اتضح أننا نشاهد فيلماً سينمائياً أميركياً من أفلام أرنولد شوارزنيغر أو سلفستر ستالون أو هارسون فورد، ينتهي دائماً برحيل البطل في سيارته وسط الصحراء، في طريق ممتد «لا آن ولا وَدان»، أي «لا إنس ولا جان»!
يقول الكاتب الأميركي لي ألن زاتاريان، في كتابه «حرب الناقلات»: «جلس صدام حسين يشاهد في التلفزيون إطلاق إيران صواريخ (دودة القز Silkworm) ضد السفن الأميركية في حرب الناقلات الأولى في الثمانينات من القرن الماضي». وهي عمليات، كما يقول الكاتب، لو تم الإعلان عنها في ذلك الوقت لأعلن الكونغرس الحرب ضد إيران. لكن واشنطن ردّت آنذاك بقيام البحارة الأميركيين على متن السفينة الحربية «يو إس إس فينسنس» بإطلاق صاروخين على طائرة إيرانية من نوع «إيرباص» كانت تحلق من ميناء بندر عباس الإيراني إلى دبي. وأدى سقوطها إلى مقتل 290 شخصاً. وقع الحادث في 3 يوليو (تموز) 1988 قبل شهر واحد من نهاية الحرب حين فهم خميني الرسالة واضطر إلى إعلان قبوله وقف إطلاق النار وتجرعه كأس السم اعتباراً من 8 – 8 – 1988؛ خاصة أن الجيش العراقي كان أكمل تحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني في ميناء الفاو وبعض الجيوب في الشمال.
أدت حرب الناقلات بين العراق وإيران إلى تدمير 546 سفينة تجارية وناقلة نفط ومقتل 430 بحاراً مدنياً. وذكرت مؤسسة «للويدز – لندن» البريطانية للتأمين أن الجزء الأكبر من الهجمات نفذه العراق ضد السفن الإيرانية؛ إذ شن 3 أضعاف الهجمات الإيرانية، على الرغم من أن العراق لم يكن يملك سفناً حربية قادرة على الإبحار إلى مسافات بعيدة، وكان يلجأ في الدرجة الأولى إلى قوته الجوية الضاربة من طائرات مروحية ومقاتلات من طرازي «ميراج 1 – إف» الفرنسية، و«ميغ 23» السوفياتية المسلحة بصواريخ «كروز» المضادة للسفن.
في بداية الحرب استهدف العراق السفن الإيرانية التي تحمل إمدادات متجهة إلى جبهات القتال البرية، ثم شمل القصف السفن التي تحمل صادرات إيرانية إلى الخارج رداً على هجوم إيراني دمر واحتجز سفناً عراقية حربية وتجارية راسية في الموانئ العراقية في شط العرب ومياهه الإقليمية في الخليج. وأعلن العراق في الجولة الأولى من الحرب في مايو (أيار) 1981 أن جميع السفن المتجهة إلى الموانئ الإيرانية في المنطقة الشمالية من الخليج قرب الحدود العراقية ستصبح هدفاً للنيران العراقية. وفي عام 1984 صعّد العراق هجماته لتدخل حرب الناقلات مرحلة جديدة، شملت سفناً إيرانية تتحرك نحو الموانئ الإيرانية الجنوبية عند مضيق هرمز، وخاصة في جزيرة «خرج» حيث شنت الطائرات الحربية العراقية أعنف الغارات بالصواريخ الموجهة على ميناء التصدير النفطي هناك، وحولته إلى ركام.
ولم يكن في إمكان طهران أن ترد مباشرة على الغارات العراقية المتلاحقة، فلجأت إلى استهداف سفن كويتية كانت تنقل النفط العراقي، واستخدمت إيران في ذلك ألغاماً تقليدية في المياه القريبة من الكويت وفي خليج عُمان. وفي تلك الفترة، استهدفت إيران سفينة سعودية، ما دفع الرياض إلى إسقاط طائرتين إيرانيتين من طراز «فانتوم 4» بأسلحة طائرتين مقاتلتين سعوديتين من طراز «فانتوم 5»، لكن لغماً إيرانياً انفجر يوم 18 مايو (أيار) 1988 في سفينة الصواريخ الأميركية «صمويل روبرتس» خلال إبحارها في الخليج، دفع واشنطن إلى تنفيذ عملية واسعة تحت تسمية «فرس النبي» دمرت خلالها وأغرقت سفينة «سهناد» الإيرانية الضخمة لنقل النفط.
ولم تستطع إيران تنفيذ تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز خلال حرب الناقلات، لأنها نفسها كانت تعتمد على الممرات البحرية لتصدير النفط. لكن الحال تغير اليوم، بعد أن تم منع إيران من تصدير النفط، وليس أمامها إلا شعار «عليّ وعلى أعدائي»!
في الحرب العراقية – الإيرانية، لجأت الكويت إلى رفع علم بريطانيا على سفنها وناقلاتها، فلم تجرؤ إيران على مهاجمتها. وحضرتُ في منتصف الثمانينات مؤتمراً صحافياً في الكويت عقده ولي العهد الكويتي الشيخ سعد العبد الله – رحمه الله – لتوضيح أسباب لجوء بلاده إلى رفع العلم البريطاني على سفنها البحرية، أكد فيه أن هذا الأمر لا يتعارض مع السيادة الكويتية، ويأتي رداً على التهديدات الإيرانية بإغراق الناقلات الكويتية التي تنقل نفط العراق إلى الأسواق العالمية.
ولتخفيف جفاف هذا المقال، أشير إلى أن جميع الصحافيين العرب والأجانب تقريباً تناوبوا توجيه الأسئلة إلى الشيخ سعد العبد الله، مع ذكر اسم كل منهم والصحيفة التي يعمل فيها. وأجاب عنها بمنتهى الصراحة، ثم التفت إلى مدير تحرير جريدة «الجمهورية» المصرية (وكان يعرفه) وقال له: «أنت الوحيد الذي لم يوجه لي سؤالاً». فأجابه: «سمو الشيخ لديّ أسئلة طبعاً، ولكني خشيت أن أقول اسمي قبل توجيهها إليكم فيضحك الجميع!»، كان اسم الأستاذ مدير تحرير جريدة «الجمهورية» هو محمد الحيوان، وهو واحد من أشهر الصحافيين المصريين في تلك السنوات. وضجت القاعة بالضحك!
السؤال الأخير؛ هل يتكرر سيناريو حرب الناقلات في مياه الخليج؟ هذا ما تريده طهران، لأن استراتيجيتها المزمنة هي أن تجري الحرب خارج حدودها، براً أو بحراً أو جواً.
4 بلقنة فلبننة فصوملة و…
سمير عطا الله الشرق الاوسط السعودية
في مرحلة من المراحل كان ياسر عرفات يحذّر من «بَلْقَنَة» المنطقة؛ نسبةً إلى دول البلقان التي تفجرت إلى كيانات في ظل العثمانيين، ثم الإمبراطورية الهنغارية – النمساوية، وأخيراً؛ في ظل يوغوسلافيا. وخلال مرحلة التحذير من البلقنة، انفجر لبنان إلى فرق متقاتلة، فشاع مصطلح «اللبْنَنَة»، وانتهت في لبنان من غير لَبْنَنَة؛ أي من دون تقسيم وكيانات جديدة، فقامت الدنيا في الصومال، ولا تزال، ومعها نشأ وشاع مصطلح «الصَّوْمَلَة»؛ أي بقاء الحدود الدولية كما هي، وتفتت البلد من الداخل، وتحوله إلى دولة فاشلة تضربها المجاعات ويتوزع المسلحون أمور الدولة.
وظل مصطلح «الصوملة» الأكثر شيوعاً واستدامة، يخترقه أحياناً تعبير «العَرْقَنَة». الآن أطل تحذير جديد: لكيلا يتكرر النموذج الليبي! وليبيا هي البلقان من دون انفصالات، ولبنان من دون طوائف، والصومال من دون رئيس دولة.
والمشكلة أن المصطلحات التي تصور هذه الأوبئة التاريخية، تدوم طويلاً… ففي لبنان توقفت الحرب العسكرية وحلّت محلها حروب أخرى، وفي الصومال تبدو الحرب بلا نهاية، وها هي ليبيا بعد نحو العقد تنتقل من اللبننة إلى الصوملة وتقف عند حافة البلقنة.
يقول الوسيط الأممي غسان سلامة إن الصراع الليبي هو الوحيد الذي ليس في حاجة إلى تمويل خارجي، فالنفط سيتكفل المسألة. لكن الحقيقة أن النفط لعب دوراً مهماً؛ حيث يكثر وحيث يقل، كما في العراق وسوريا. وكان اللاعبان الرئيسيان تركيا وقطر. فالدوحة تريد أن تكون الأولى في الغاز، وليس فقط الثانية، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان جعل صهره وزيراً للمالية، لكي يوسع صفقاته النفطية خارج «داعش» في سوريا.
تتسابق قطر وتركيا إلى ليبيا حيث تؤججان صراعاً لا علاقة لهما به، إلا من حيث علاقة الإمبراطورية السابقة بولاياتها السابقة. أما قطر، فلم نعرف أنها كانت تتمتع بهذه العلاقات من قبل، لكنها مطاردة مصر من كل جهة ممكنة وحدود مفتوحة… من غزة إلى طول الحدود مع ليبيا. وتتكفل إيران الجانب الحوثي لقصف السعودية ونفط الخليج… وتترافق مع تركيا في غزو العراق وسوريا معاً.
5 العنف الجنسي لا يقتصر على المرأة فقط
هيفاء زنكنة
القدس العربي
لا يمكن للقوات الأمنية، بأمرة الأنظمة القمعية، إلا أن تلجأ إلى أكثر الأساليب انحطاطا لتكميم الأفواه والهيمنة على الشعب. هذه حقيقة لم يعد بالإمكان التشكيك بها، لأنها من صلب وجود هذه الأنظمة التي تتغذى على العنف، بأنواعه، وأكثره سفالة هو الاغتصاب الذي لم يعد يقتصر على النساء كسلاح لمنعهن من المشاركة بأي نشاط عام بل وامتد بممارساته الكريهة ليشمل الأطفال والرجال، في بلدان عديدة، تمزقها الحروب أو حين تشهد تظاهرات احتجاجية، مهما كانت سلمية مسارها. وما حدث في السودان، في الأسابيع الأخيرة، نموذج لسلوك الأنظمة القمعية حيث ارتكبت وحدة قوات التدخّل السريع «الجنجويد»، المتنفذة ضمن وحدات الأمن، والتابعة لنائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو، عديد الانتهاكات وبضمنها اغتصاب نساء ورجال، أثناء فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش منذ 3 يونيو/حزيران، حسب مصادر متعددة.
يكاد لا يخلو بلد عربي من الجرائم الوحشية ذاتها التي نشهدها، حاليا، في السودان، وإن كان على مستويين هما بسبب المشاركة في التظاهرات أو الاعتقال. فسجل العراق وليبيا وسوريا، حافل، يدل على خوف الأنظمة المزمن من شعوبها وحاجتها الماسة إلى سلب كرامة الشعوب بأي أسلوب كان. وليس هناك ما هو أكثر نجاحا، بالنسبة إليها، من الهيمنة على أجساد الضحايا لسحق الكبرياء وإذلالهم. وقد شهد العقد العربي الأخير، تطور آلية الحد من مشاركة أفراد الشعب، خاصة المرأة، في أي حراك اجتماعي، من التهديد بالضرب أو الاعتقال أو إعاقة الحركة إلى استخدام انواع كانت نادرة، نسبيا، كالاختطاف والقتل والاغتصاب. ففي العراق، أصبح اختطاف المتظاهرين وضربهم ومن ثم إطلاق سراحهم والسماح لهم بالحديث عما عانوه، ليكونوا أمثولة تخيف الآخرين، شائعا. كما، بين الحين والآخر، اختطاف أحد الناشطين وتغييبه، لتصل درجة الترويع حدا أقصى. وإذا كانت المرأة العراقية قد استحوذت على حصة كبيرة من التهديد بالقتل أو الاغتصاب، وتنفيذهما، فعليا، في حالة المعتقلات والسجينات، منذ غزو العراق عام 2003، فإن القتل والاغتصاب طالا الرجال أيضا، في سجون الاحتلال الأمريكي والبريطاني والحكومات العراقية على حد سواء. حيث أصبح التهديد بالاغتصاب أو الاغتصاب الفعلي، ضد الاثنين، معا، ليمس «الشرف» كقيمة اجتماعية وأخلاقية عالية، متناميا بشكل طردي مع ازدياد شراسة الأنظمة في استقتالها للدفاع عن مصالحها، وثقة الجناة بعدم محاسبتهم وتقديمهم للعدالة.
ويتطابق ما ارتكبه الجناة في لسودان ضد المرأة المشاركة في التظاهرات مع المرأة المصرية التي عاشت التجربة نفسها أثناء اعتصامات ميدان التحرير وأماكن أخرى، واحيانا لمجرد وجودها في الأماكن العامة، حيث انتشرت مجموعات التحرش التي تعتدي على الفتيات بطريقة منظمة مما دفع الحكومة إلى سن قانون يجرّم التحرش الجنسي بعد تزايد الضغوط لمكافحتها.
إذا كانت المرأة العراقية استحوذت على حصة كبيرة من التهديد بالقتل أو الاغتصاب وتنفيذهما فعليا، في حالة المعتقلات والسجينات، منذ غزو العراق عام 2003، فإن القتل والاغتصاب طالا الرجال أيضا
ويُعدّ العنف الجنسي ضدّ الرجال والفتية في سوريا من بين انتهاكات حقوق الإنسان التي قام «مشروع جميع الناجين» والأمم المتحدة بتوثيقها، بدءًا من سبتمبر/أيلول 2017 وحتى أغسطس/آب 2018، ليضاف إلى قائمة العنف الجنسي ضد المرأة والفتيات. وهي تفاصيل قلما يتم التطرق إليها من قبل الضحايا والمنظمات الحقوقية معا. حيث يقتصر عمل المنظمات على توثيق حالات العنف ضد الفتيات والنساء باعتبار الجناة رجالا، بالإضافة إلى «الصور النمطية السائدة حول «الرجولة» التي تُعزّز التصورات في أوساط العاملين في المجال الإنساني بأن بإمكان الرجال رعاية أنفسهم وأنهم ليسوا بحاجة إلى المساعدة»، كأن العالم كان بحاجة إلى رؤية صور التعذيب في «أبو غريب» وخاصة المجندة الأمريكية ليندي انجلاند بابتسامتها المنتشية وسط الضحايا العراة، ليعرف أن الجلاد واحد، أيا كان جنسه. ولا فرق في تأثير هذه الانتهاكات الجسيمة على نفسية الضحايا. حيث يعانون، حسب التقرير، من الإحساس بالعار، وفقدان الثقة بالنفس، واضطرابات النوم، والإحساس بقلّة الحيلة، والشعور بالارتباك، والتفكير في الانتحار. وينتاب الناجون من الرجال الإحساس بفقدان الذكورة ولوم الذات. وتُعزى هذه المشاعر إلى الثقافة المجتمعية والتوقعات السائدة من الرجال والفتية، باعتبارهم مسؤولين عن حماية أنفسهم وعوائلهم.
تبين شهادات عديد الضحايا سواء من المشاركين بالتظاهرات أو المعتقلين السياسيين بالإضافة إلى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية أن الخطوة الأولى لوضع حد لهذه الانتهاكات البشعة هي كسر حاجز الصمت والعمل على مقاضاة الجناة. قد لا يكون هذا سهلا، لمن يعيش في ظل نظام قمعي أو احتلال، إلا أنه حق إنساني وقانوني وأخلاقي يجب عدم التخلي عنه مهما طالت السنين، إن لم يكن من أجل الضحايا أنفسهم فمن أجل أبنائهم، لئلا تتكرر المأساة. ولدينا في تقدم ثلاثة مواطنين كينيين، يمثلون آلاف الضحايا، بقضية ضد الحكومة البريطانية لأنهم تعرضوا للتعذيب من قبل قوات بريطانية أثناء انتفاضة الماو ماو في خمسينيات القرن الماضي، سابقة تستحق التقليد والتقدير. فقد ارتكبت هذه الجرائم في فترة الاحتلال البريطاني لكينيا قبل أكثر من ستين عاما، لكن الاغتصاب من الجرائم التي لا تسقط بمرور أي زمن، وقد استغرقت القضية سنوات، إلا أن الضحايا رفضوا التخلي عن حقهم، ونجحوا في أجبار الحكومة البريطانية عام 2013 على دفع تعويضات والاعتراف بممارسة التعذيب ضدهم ومن بينهم رجل تعرض للإخصاء وامرأة تعرضت للاغتصاب. وقدمت المحكمة سابقة قانونية من ناحية الإقرار بتجريم التعذيب الذي مورس على الضحايا، ذكورا أو أناثا، باعتباره عنفا جنسيا وليس جسديا فقط. ويوضح مركز العدالة الانتقالية الدولي مصطلح «الانتهاكات الجنسية» بأنه يمكن أن يأخذ أشكالا متعددة، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي والاستعباد الجنسي والتعرية القسرية والإجبار على القيام بأفعال جنسية مع الآخرين. وهو تعريف ينطبق، بكل بساطة، على ممارسات سلطة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني والحكومات العراقية المتعاقبة، بالإضافة إلى بقية الأنظمة العربية القمعية. وسيبقى انتهاك الجسد أداة لسلب الكرامة الإنسانية، ما لم تتوصل الجماهير إلى التخلص من الأنظمة القمعية، وإقامة حكم يمثلها، تكون واحدة من مهامه الأولى مقاضاة الجناة، وخاصة أفراد قوات الأمن الذين يفترض بهم حماية الناس.
6 العشوائيات السياسية! كفاح محمود كريم راي اليوم بريطانيا
كما انتشرت العشوائيات السكنية حول المدن خلال العقود الأخيرة في كثير من بلدان العالم وخاصة بلدان الشرق أوسط، فان ظاهرة نشوء العشوائيات السياسية بدأت تنتشر هي الأخرى في معظم الأنظمة السياسية الشمولية، وخاصة تلك التي تم تغييرها خارج نسق التطور الطبيعي للمجتمعات بكل أشكالها ومظاهرها، فحينما تخرج الأمور عن سياقاتها القانونية أو المتفق عليها كأعراف أو قواعد تأخذ مأخذ القانون في إرساء النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تدخل إطارا أخرا بعيدا عما اتفق عليه، ويصبح عشوائيا لا يخضع لأساس منظم سواء كان قانونيا أم دستوريا، ويقترب من الفوضى واللا مسؤولية وعدم الانتماء، حيث شهدنا في مراحل غياب القانون وتسلط نظم اجتماعية بالية سواء كانت قبلية أو محرفة من معارف دينية سطحية أو ناتجة من أمزجة تخضع لسلطة المال والفساد، نمو مستوطنات عشوائية تتجمع فيها مختلف المستويات الاجتماعية، لكنها تتوحد تحت نظام اللا قانون لتكون أول تعريف للعشوائيات السكنية التي تتطور تدريجيا لتشكل نمطا أخرا من السلوك والتفكير، ينتج ويؤسس لهياكل سلطوية لا انتماء لها إلا حاجياتها بصرف النظر عن كونها مشروعة أم غير مشروعة، كما حصل ويحصل اليوم في كثير من البلدان التي تم تغيير أنظمتها عموديا بشكل عشوائي خارج مراحل تطور النظم الاجتماعية والتربوية والسياسية ومنذ ما يقرب من نصف قرن.
وتزامنا مع الظهور الجنيني لتلك العشوائيات وبدء مرحلة الانقلابات وتغيير الحكم بالقوة العسكرية الداخلية أو الخارجية وهيمنة قوى طارئة على مقاليد الحكم، ظهرت بواكير العشوائيات السياسية التي رافقها تشكيل مصطلحات ممسوخة أو مستنسخة من المدارس العالمية للنظم السياسية والاقتصادية وخاصة المدرستين الاشتراكية والرأسمالية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، ونشوء دول الفلك الروسي وأنظمته الديمقراطية الشعبية، هذه المصطلحات الممسوخة من المدرستين انتشرت بعد أول انقلاب عربي في مصر وانطلاق شعار اشتراكيتنا العربية، المصنعة من مزيج ماركسي- رأس مالي لكي تلائم البيئة العربية والإسلامية على حد تبرير مصنعيها، هذه المصطلحات التي استُنسخت أو مُسخت من قبل تلك الأنظمة، التي أحدثت تغييرا فوقيا وفرضت هذه الأنماط السياسية والاقتصادية، مقحمة بلدانها في تجارب فاشلة ذهب ضحيتها ملايين من البشر ومليارات من الأموال، وضياع فرص ذهبية للتقدم والتطور، كما في اشتراكية البعث في سوريا والعراق واشتراكية عبد الناصر في مصر وليبيا والجزائر وغيرهم، وكذا الحال في الديمقراطيات العشوائية التي أنتجت برلمانات مشوهة تتحكم بها مجموعات من شيوخ القبائل والعشائر وفتاوى رجال الدين المتاجرين بالدين والسياسة معا، وبدعم مطلق من السحت الحرام الذي أنتجته ماكينات الفساد ومنظوماتها، حيث لا قيمة للانتخابات ونتائجها بسيطرة هذه العوامل على كل مفاصل التغيير والتداول في السلطات.
ومن جهة أخرى ففي غالبية دول منطقتنا الموبوءة بانعدام سلطة القانون وفقدان العدالة الاجتماعية وارتفاع مستويات خط الفقر المدقع مقابل انخفاض مريع في الوعي والتعليم، يتم تدمير الناتج القومي واستهلاكه في بناء ترسانات عسكرية وأسوار الهياكل الأمنية للنظم السياسية وعناصرها في مفاصل الدولة، حيث تحولت بلدان هذه المنطقة وخاصة جمهوريات الانقلابات والربيع العربي إلى استهلاكيات واسعة، انتشرت فيها أنماط عديدة من العشوائيات السكنية والفكرية والسياسية، بل استطيع أن ازعم إننا إزاء بلورة نمط من الديمقراطية الفوضوية التي يمكن تسميتها بالديمقراطية العشوائية الناتجة من ذات البيئة التي تجمعت فيها شرائح (تعبانة) من المجتمعات على مختلف مستوياتها، ابتداءً من التجمعات أو الإحياء وصولا إلى نمط التفكير العشوائي الناتج من بيئة تلك العشوائيات.
إن فرض نظام تداول السلطة على الطريقة الغربية في مجتمعات لم يتبلور فيها وعي وطني جامع ومفهوم للمواطنة وبنية تربوية وتعليمية تؤسس لقيام نظام اجتماعي وسياسي تقدمي ديمقراطي، بالتأكيد سيؤول إلى الفوضى التي نشهدها سياسيا واجتماعيا في معظم هذه البلدان وفي مقدمتها العراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث التقهقر والانكفاء في دهاليز أنظمة بالية متخلفة تتحكم فيها مجموعات وشلل طارئة من الشيوخ الفاسدين وحيتان السحت الحرام ورجال الدين المنحرفين الذين أقحموا قداسة العقائد في متاجرات السياسة فشوهوا الدين والسياسة معا، وأنتجوا على مقاساتهم ديمقراطية عشوائية أسوء من سابقاتها الأنظمة الدكتاتورية، ولا تختلف في مضامينها عن سلوكيات تلك العشوائيات التي نمت وترعرعت حول المدن الكبيرة.
7 العراق: نظام رئاسي أمْ برلماني؟
أمجد الدهامات
راي اليوم بريطانيا
بين فترة وأخرى تصدر دعوات من جهات سياسية وشعبية لتغيير النظام السياسي في العراق من برلماني إلى رئاسي، والسبب في ذلك هو المشاكل التي يعاني منها البلد نتيجة هذا النظام الذي هو الوليد الشرعي لدستور عام (2005)، لكن هل تنتهي المشاكل بمجرد تغيير النظام السياسي للبلد؟
طبعاً هناك نقاش قديم حول أفضلية الأنظمة السياسية، ولكلٍ منها مؤيد ومعارض، وبشكلٍ عام لا يوجد اتفاق على أفضلية نظام على آخر، فلكل منها محاسن ومساوئ وكل دولة اختارت ما يناسبها من الأنظمة نتيجة ظروف تأريخية مرّت بها وحتّمت عليها الاختيار، كما لا توجد وصفة جاهزة لتطبيقها على كل البلدان، فلربما ينجح نظام في دولة معينة ولا ينجح في دولة آخرى، فالعلة الرئيسية ليست في النظام نفسه بل في القائمين على تطبيقه.
فبعضهم يقول إن النظام الرئاسي يخفف من الصراعات السياسية ويفصل بين السلطات ويحقق استقرار البلدان مثلما هو الحال في أمريكا، البرازيل، تشيلي، … ألخ، لكن هناك تخوف من تحول رأس النظام إلى دكتاتور مثلما حصل في دول الحزب الواحد والدكتاتوريات في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.
وهناك من يقول إن النظام البرلماني يمنع تحول الحاكم إلى دكتاتور ويحدّ من التعارض بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لكونهما من اتجاه سياسي واحد كما هو الحال في المانيا، بريطانيا، الهند، ماليزيا، … ألخ، لكن هناك من يقول إن هذا النظام لا يوفر استقرار سياسي للبلدان، ففي إيطاليا مثلاً تم تشكيل (58) حكومة منذ عام (1946)، كما أنه لم يحمي كمبوديا من الحكم الدكتاتوري لرئيس الوزراء (هون سين) الذي تولى المنصب منذ عام (1984) ولحد الآن، وكذلك أثيوبيا التي حكمها رئيس الوزراء الدكتاتور (ملس زيناوي) خلال الفترة (2012-1995).
ولجمع محاسن النظامين الرئاسي والبرلماني وتلافي مساوئهما ابتكرت فرنسا في عهد الرئيس (شارل ديغول) النظام المختلط أو شبه الرئاسي في دستور الجمهورية الخامسة عام (1958) الذي وزّع السلطة التنفيذية بين رئيس جمهورية منتخب من الشعب بشكل مباشر يتمتع بصلاحيات كبيرة ورئيس وزراء لديه صلاحيات أيضاً ومسؤول امام الرئيس والبرلمان.
في هذا النظام تسير الأمور بسلاسة كبيرة في حال كان لحزب الرئيس أغلبية في البرلمان، فيستطيع أختيار رئيس وزراء من نفس الحزب، لكن الصعوبة تكمن في حال فقدان الرئيس لأغلبيته البرلمانية فيضطر للتعايش مع رئيس وزراء من حزب آخر كما حصل في فرنسا عام (1986) عندما كان رئيس الجمهورية (فرانسوا ميتران) من الحزب الاشتراكي ورئيس الوزراء (جاك شيراك) من الاتحاد من أجل حركة شعبية.
ولفوائد هذا النظام فقد تبنته الكثير من الدول مع تغييرات تناسب كل واحدة منها، مثل: فنلندا، البرتغال، بولندا، ليتوانيا، سلوفينيا، كرواتيا، إيرلندا، النمسا، آيسلندا، روسيا، رومانيا، بلغاريا، جورجيا، مولدوفا، مقدونيا، باكستان، قرغيزستان، سيرلانكا، منغوليا، السنغال، الكونغو، مدغشقر، النيجر، مالي، … ألخ، وربما يكون الأفضل للعراق ايضاً.
طبعاً من الممكن أن تغير دولة ما نظامها وهذا ما حصل سابقاً، لكن أغلبها تمت لأغراض شخصية ولترسيخ الدكتاتورية، وهذه بعض الأمثلة:
غانا: غيّر نظامها رئيس الوزراء (كوامي نكروما) إلى رئاسية في عام (1960) وأصبح رئيسها لغاية انقلاب (1966).
ملاوي: غيّر نظامها رئيس الوزراء (هاستينجز باندا) إلى رئاسية عام (1966) وحكمها بشكل دكتاتوري لغاية عام (1994).
زمبابوي: غيّر نظامها رئيس الوزراء (روبرت موغابي) إلى رئاسية في عام (1987) وحكمها بشكل دكتاتوري لحين طرده من الحكم في عام (2017).
اثيوبيا: حولّها رئيس الجمهورية (ملس زيناوي) إلى برلمانية عام (1995) وأصبح رئيساً للوزراء بشكل دكتاتوري حتى وفاته عام (2012).
أرمينيا: بالنظر لكون الدستور لا يسمح لرئيس الجمهورية (سيرج سركيسيان) البقاء رئيساً لفترة ثالثة فقد حوّل نظامها إلى برلماني عام (2015) وأصبح رئيساً للوزراء لكن أطاحت به ثورة شعبية.
تركيا: حولّها الرئيس (رجب طيب اردوغان) من النظام البرلماني إلى الرئاسي عام (2017) وأصبح رئيساً للجمهورية.
بالنسبة للحالة العراقية ولتلافي أخطاء الدول الآخرى فمن الأفضل أن يكون التغيير بشكل مدروس وغير متسرع كما كُتب الدستور، ومن خلال حوار سياسي ومجتمعي موسع تشارك فيه القوى السياسية والشعب، وبالتالي سيختار المواطن عن قناعة راسخة النظام السياسي المناسب، مثلما فعل الشعب الإيراني عندما وافق على تحويل النظام إلى رئاسي عام (1989) بينما لم يوافق الشعب البرازيلي على تحويل النظام إلى برلماني عام (1993).