9 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الجمعة

1 إيران بين “كأس السمّ” و”النهاية الرسمية” عبدالوهاب بدرخان
الحياة السعودية

عندما يقول طرفا الصراع أنهما لا يريدان الحرب فهذا لا يستبعدها وإنما يحاول توجيهها وإيجاد تفاهم ضمني على قواعد الاشتباك فيها. حتى في الحرب النفسية، يسعى كل طرف إلى أن تكون له الكلمة الأخيرة التي تبقى في الأذهان. لم يكتفِ دونالد ترامب ولا علي خامنئي بالقول فقط أنه “لا يريد الحرب”، بل أتبع ذلك بعبارة مشحونة بالتحدّي والاستفزاز، فالرئيس الأميركي استخلص بأن الايرانيين “سيتألمون جداً (إذا هاجموا)”، وانتهى المرشد إلى أن الأميركيين يعرفون أن الحرب “ليست في مصلحتهم”. وبعدما تشارك وزير الخارجية وقائد “الحرس الثوري” الإيرانيان في بثّ شعار أن “أميركا لن تجرؤ على مهاجمتنا” ردّ ترامب بأنه إذا أرادت ايران القتال فستكون “النهاية الرسمية” لها، وزاد “لا تهدّدوا أميركا بعد الآن”، وردّ عليه محمد جواد ظريف بالمثل “لا تهدّد إيران أبداً”.

قد تعكس مراقبة لغة التخاطب العلني مدى الجمود أو التقدّم في التواصل غير العلني في شأن “التفاوض”. وهذا خيار يريده الطرفان غير أن طهران لا ترى في الظروف الراهنة ما يساعدها على قبوله واعتماده. وفيما تنتظر واشنطن “اتصالاً هاتفياً” إيرانياً لن يأتي، أو ردّاً على رسالة عبر عُمان، تعمل طهران على أكثر من خطّ، منها:

أولاً، محاولات تبقى غير مجدية لامتصاص الضغوط عليها، فمن جهة أضعفت العقوبات الأميركية موقفها إلى حدّ كبير وإن لم تصرّح به، ومن جهة أخرى وضعتها الاستعدادات العسكرية الأميركية أمام واقع مواجهة طالما تمنتها عندما كانت أكثر تعافياً اقتصادياً، ومع أن المواجهة لا تزال ممكنة في نظرها إلا أن حساباتها اختلفت، فالمغامرات وأعمال التخريب تشكّل سجالاً مكلفاً قد يطول لكنها لا تصنع نصراً عسكرياً يمكن البناء عليه.
ثانياً، محاولات أخرى سعياً إلى بلورة فريق (تحالف) دولي مستعدٍّ لمساعدتها في كسر العقوبات أو لنصرتها في مقارعة الولايات المتحدة. فعلى مدى شهور طويلة روّجت إيران أن أميركا في عزلة دولية وأن هيمنتها تتراجع وتوشك أن تبلغ نهايتها، وقد تكون توهّمت ذلك أو استنتجته من اتصالاتها مع عواصم أساسية، لذلك اعتبرت أن لحظة نشوء حلف دولي يواجه أميركا حانت الآن، لكنها اصطدمت بحقيقة أن حجم الكره والعداء لأميركا يضاهي الازدراء لسياسات إيران عموماً، وبالتالي لا يرقى إلى الاصطفاف معها.

ثالثاً، تعامل إيراني مرتبك مع نصائح ملتبسة بترجيح التفاوض، فالمجتمع الدولي لا يريد حرباً في المنطقة، وحتى لو لم يكن يقرّ أساليب ترامب إلا أنه يأخذ في اعتباره أن الرئيس الأميركي ذهب في التصعيد مع كوريا الشمالية إلى أقصاه ثم نزع فتيل المواجهة وبدأ يفاوضها مع تشديد العقوبات عليها. وكما في النزاع الكوري كذلك في النزاع الإيراني تسعى روسيا والصين ودول أوروبية إلى مصالحها أولاً. قد تضمر هذه الدول تمنياتٍ بأن تتلقى أميركا هزيمةً ما وقد تظهر بعض التعاون مع إيران، لكنها ستحرص في كل الأحوال على مصالحها مع أميركا. هذا واقع دولي قديم – جديد تعرفه طهران وظنّت أنها توصّلت إلى تغييره بمجرد إغلاق أبوابها أمام واشنطن أو بسجن نفسها في عقائديتها القاتمة أو أيضاً باستمالتها وتشغيلها أتباعاً بائسين في العراق وسورية واليمن ولبنان.

رابعاً، وهذا الأهم مرحلياً أن طهران أدخلت نفسها في “منطق الحرب” الذي ترى فيه اختباراً لكل ما استثمرته عسكرياً، داخلياً في “الحرس” وخارجياً في الميليشيات التي فرّختها، وعلى رغم حرصها على الظهور كدولة تحترم رغبة المجتمع الدولي في استبعاد الحرب إلا أنها أكثر حرصاً على إثبات نفسها حربياً كوسيلة لتأكيد ما تدّعيه من “نفوذ” إقليمي. ولأجل ذلك فهي تناور حالياً لفرض قواعد الاشتباك التي تناسبها، بحيث لا يكون هناك استهداف إيراني مباشر لقوات أميركا ومصالحها مقابل أن تحافظ إيران على حرية التصرّف ضد دول إقليمية حليفة للولايات المتحدة. فمن جهة تواصل طهران استراتيجية التخريب وكأنها لم تتأثّر بالضغوط الأميركية، ومن جهة أخرى تضع الردع الأميركي وأهدافه وردود فعله أمام اختبار. وقد تمثّل هذا التكتيك في تفجير السفن الأربع في المياه الاقتصادية الأميركية ثم في تدمير جزئي لأنابيب ضخ النفط في السعودية بطائرات مسيّرة أطلقت باسم الحوثيين ثم بإطلاق صاروخ “كاتيوشا” لترهيب السفارة الأميركية في بغداد… والمتوقع أن يتواصل مثل هذه العمليات من دون أن يصل إلى مستوى الحرب ولا مستوى “نصرٍ” ما لإيران.

الأكيد أن خيارَي الحرب أو التفاوض باتا متساويين في الصعوبة بالنسبة إلى خامنئي، وإذا كان سلفه الخميني تجرّع مرغماً “كأس السمّ” لإنهاء الحرب مع العراق قبل31 عاماً فإنه قد يجد نفسه مضطراً إلى كأس مماثلة بالموافقة على التفاوض من دون حرب. لا شك أنه سيتمنّع لكن الظروف لا تسمح له بالمجازفة، فالخميني تمنّع أيضاً وبدا معذوراً في النهاية لأن الحرب دمّرت الاقتصاد ولم تسفر عن نصر بل لعله وجد عزاءً في أن الحرب دمّرت أيضاً الاقتصاد العراقي، أما خامنئي فيرى بأم العين ما فعلته العقوبات باقتصاد إيران “من دون حرب” ولن يعذره الإيرانيون الذين أذاقهم صنوفاً شتّى من المعاناة إذا لم يتخذ القرار الصحيح. لا بدّ أن المرشد لم ينسَ بعد أن الاحتجاجات الشعبية جهرت بكل ما في الصدور ضد تدخّلات إيران خارج حدودها وصنّفته دكتاتوراً وهتفت بإسقاطه وموته، ومع أنه تجاهلها وبارك قمعها إلا أنه أدرك مغزاها، فأهمية “الانتصارات” الخارجية تتضاءل أمام الإخفاقات الداخلية.

هناك الآن أزمة ولا تستطيع إيران إنكارها بالمكابرة أو بالتحايل على الوقائع، وكانت دعوة وزير الخارجية البريطاني إيران إلى “التفكير مليّاً في عزم الأميركيين” تعكس شعوراً دولياً بأن انفصال طهران عن الواقع قد يدفعها إلى التهوّر. فأي حرب تجنح إليها لن توقف هبوط عدّاد صادراتها النفطية وصعود عدّاد التضخّم ومؤشرات الغليان الاجتماعي بل تضاعفهما، كما أن مواصلة السياسات ذاتها كأن شيئاً لم يكن لم تعد خياراً واعياً. وإذ يتضح الأفق فإن الحرب التي كانت لا مفر منها صارت تفاوض لا مفرّ منه، أما الذهاب إلى حرب رمزية لفتح الطريق التفاوض فليس مضمون العواقب خصوصاً إذا حاولت إيران تنفيذ تهديداتها الدائمة باستهداف أوسع لمنطقة الخليج.

أما لماذا يبدو خيار التفاوض “كأس سمٍّ” لخامنئي فلأنه سيشكّل نهاية مراهنات إيران على خلافات الدول الكبرى مع الولايات المتحدة، وعلى إمكان اللعب على تناقضات داخل الإدارة الأميركية وبينها وبين الكونغرس، إذ استبقها ترامب برفضه الحرب من دون أن يمنع إدارته من درس كل الاحتمالات والسيناريوات. وحتى في هذه التناقضات فإن مَن لا يريدون الحرب يؤيّدون بشدّة أن تغيّر إيران سلوكها بعدما أظهرت تشدّداً في رفض تطبيع العلاقات مع أميركا وعجزت عن التعامل مع الجمهوريين والديموقراطيين على رغم الفوارق بين نهجَي ترامب وباراك أوباما.

لكن الأهم بالنسبة إلى خامنئي أنه يعرف مسبقاً أنه يصعب عليه فرض شروطه على التفاوض، فالوقت لم يعد في صالحه. وإذا استعرض المرشد ملفات التفاوض، استناداً إلى النقاط الـ 12 التي عرضها مايك بومبيو، فإنه سيكون مضطرّاً لأن يقدّر مسبقاً ما يمكن أن يخسره ومدى استعداده لهذه الخسارة، من الملف النووي إلى البرنامج الصاروخي، ومن أنشطة “الحرس الثوري” و”حزب الله” و”الحشد الشعبي” إلى دعم الإرهاب بإيواء تنظيم “القاعدة” والتنسيق مع “داعش”، ومن التدخّل في العديد من البلدان العربية وأفغانستان وغيرها إلى زعزعة الاستقرار في عموم الإقليم. هذه سلوكات لا يمكن اختزالها بـ “محاربة الاستكبار” أو بـ “مقاومة إسرائيل”، ولا يمكن أن تؤهّل إيران كقوة معترف بضمانها للسلم والاستقرار الاقليميين، بل تبقى قوّة تخريبية مطالبة بتغيير سلوكها، يتساوى في ذلك أن تأتي هذه المطالبة من الولايات المتحدة أم غيرها.
2 أميركا وإيران تتبادلان التهديدات)
جهاد الخازن
الحياة السعودية

قطر لم تدعَ إلى القمة الطارئة، التي اقترحتها المملكة العربية السعودية بعد استهداف مواقع نفطية سعودية بطائرات من دون طيار ومهاجمة أربع سفن في الخليج، اثنتين منهم من حاملات النفط السعودية.

القمة المقترحة في مكة المكرمة أواخر هذا الشهر (رمضان)، والسعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين قطعت العلاقات مع قطر في حزيران (يونيو) سنة ٢٠١٧، لأن قطر تؤيد الإرهاب وتقيم علاقات مباشرة مع إيران.

السعودية تتهم إيران بأنها وراء الهجوم بطائرات من دون طيار، وتقول إنها لا تريد حرباً في الخليج. إيران أنكرت أنها وراء الهجوم الفاشل على منشآت نفط في السعودية.

في غضون ذلك، المبعوث الإيراني في العراق هادي العامري صرّح قبل وصول وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو إلى بغداد بقوله: «الولايات المتحدة تعاني بسبب الأحمق دونالد ترامب. كان هناك ١٨٠ ألف جندي أميركي في العراق مع دبابات وأسلحة أخرى ونحن لم نقبل نواياهم أو رغباتهم. اليوم نريد بناء عراق يعتمد على نفسه، قوي ومستقل وله علاقات طيبة مع جيرانه لمصلحة شعب العراق لا الولايات المتحدة أو المملكة العربية السعودية أو ايران. لن نسمح للولايات المتحدة باستعمال العراق منطقة قتال بين دول أخرى…»

العامري قال أيضاً إن الولايات المتحدة لم تستطع أن تعمل شيئاً في فنزويلا وكوبا وهي لو قامت بحرب هناك لخسرتها كما خسرت حرب فيتنام. المقابلة مع العامري أجراها روبرت فيسك، وهو صحافي أحترم عمله وأصدقه.

العراق كان تحت الاحتلال الأميركي في معظم السنوات الـ16 الماضية، والولايات المتحدة تعتبر إيران عدواً، مع أن الرئيس ترامب قال إن بلاده لا تريد حرباً معها، وإنما تريد مراقبتها من قاعدة أميركية في العراق. البرلمان العراقي يريد طرد كل القوات الأجنبية الموجودة في العراق (وهذا يشمل قوات تركية في شمال البلاد حيث يوجد الأكراد).

طبعاً الولايات المتحدة حليفة إسرائيل في الشرق الأوسط، وعلى وجه الدقة الرئيس ترامب حليف معلن للإرهابي بنيامين نتانياهو في إسرائيل، وهذا يواجه ملف اتهام ضده يضم أنه تلقى رشاوى وهدايا ثمينة من يهود أميركيين.

في غضون ذلك أعلنت شركة «فيسبوك» أنها منعت شركة إسرائيلية من استعمال موقع الشركة لمهاجمة انتخابات نيابية في بلدان عدة، وأنها أوقفت عشرات الحسابات التي تروِّج لأخبار كاذبة.

ناثانيال غليشر، رئيس الأمن في «فيسبوك»، قال إن شركته أوقفت ٦٥ حساباً إسرائيلياً وألغت ١٦١ صفحة إسرائيلية وعشرات الجماعات وأربعة حسابات في موقع «انستغرام».

«فيسبوك» قالت إن الأشخاص الذين يقفون وراء الحسابات الكاذبة حاولوا كتم شخصياتهم، إلا أنها اكتشفت أنهم يعملون لشركة تدعى «ارخميدس»، وهي شركة استشارات سياسية تفاخر بأنها تمارس السياسة والعلاقات العامة وتزعم أن قدرتها ومهارتها في شؤون العالم تجعلها قادرة على «تغيير الحقيقة».

إسرائيل استضافت مسابقة «يوروفيجن» الأوروبية والولايات المتحدة حذرت من أعمال إرهابية ضد المسابقة. هذا لم يحدث، والتحذير الأميركي جاء مع مرور سنة على نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس واعتراف إدارة ترامب بأن المدينة المقدسة التي تخلو من أي آثار يهودية هي عاصمة إسرائيل. القدس هي القدس الشرقية وكل الآثار فيها مسيحية أو إسلامية، وقد بحثت إسرائيل ولم تجد شيئاً يهودياً فيها. هذه هي الحقيقة ولا حقيقة غيرها.
3 إيران وعملية «جبل النار»
المثنى حمزة حجي
الحياة السعودية

منذ بداية تشكل وعيي السياسي أواخر السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن، كنت قريباً من التيار الوطني الليبيرالي وبعيداً عن الإسلام السياسي ونظرته «الأحفورية» لحقائق الحياة، رافضاً الهوس العقائدي والرغبة في تنزيل النصوص والروايات التاريخية على وقائع العصر بطريقة انتقائية خدمةً لجماعات مهووسة بالسلطة.

إلا أن الجماعات الموالية لإيران ومليشياتها الصفوية لم تستح أبداً من التهليل لتدخل الجيش الروسي لقصف المدن السورية والمدنيين من نساء وأطفال، ما قتل وشرد الملايين، بل هللوا للرئيس فلاديمير بوتين الذي أطلقوا عليه «الإمام عبد الأمير أبو طين» وقدموه إماماً شيعياً ينصر آل البيت على «النواصب».

للرد على ذلك فإننا نذكرهم بدعوة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لله عز وجل أن «ليت بيننا بين الفرس جبلا من نار لا ينفذون إلينا ولا ننفذ إليهم»، وحيث ان الله يخلق الوسائل والأسباب لعله سخر الرئيس ترامب لإنشاء هذا الجبل الذي يتكون من عقوبات خانقة وطوق عسكري غير مسبوق من حاملات الطائرات المرسلة حديثاً و120 ألف جندي، إضافة إلى القوات المنتشرة في المنطقة لمنع إيران من الانفجار إلى الخارج وتركها تختنق مثل الضفدعة التي إذا ألقيتها في قدر ماء ساخن فإنها ستقفر للخارج فوراً، ولكن لو وضعتها في ماء عادي وقمت بتسخينه تدريجياً فإنها ستموت من دون أن تتمكن من الحراك.

يبدو أن «السحر قد انقلب على الساحر» أخيراً، فالنظام الإيراني الذي تعود -منذ 40 عاما- اللعب على حافة الهاوية مرهباً الجوار الجغرافي والعالم ودافعاً الجميع للاعتقاد أنه ذو قدرات إلهية مهدوية حتى جاء الرئيس ترامب من خارج المؤسسة المهترئة حاملاً معه عقلية أكثر شراسةً من الملالي ومالكاً لأكبر قوة عسكرية في التاريخ وهو قادر علي استخدامها، ما وضع الملالي أمام النتيجة الطبيعية لمن عاش بالسيف.

انتصار الرئيس ترامب وتعيينه لصقور ذوي عقلية هجومية هو أسوأ كوابيس الملالي بعد أن عاشوا ثماني سنوات في رفاهية وفرها لهم الرئيس السابق أوباما الذي كان يهرب من مواجهتهم من أول نفخة، وكان كل هدفه تأخير سلاحهم النووي عشر سنوات، وفي مقابل ذلك أعطاهم المشرق العربي ليعبثوا فيه وليقيموا إمبراطوريتهم المهدوية المقدسة، وفي الوقت نفسه أغرقهم في حرب لا نهاية لها في العراق وسورية ولبنان واليمن، فقط ليتمكن من السيطرة على حدود طموحاتهم وتدجينهم، ولكن الانتصارات المتتابعة لإيران في العراق وسورية ولبنان وسّعت شهية الشعوبية الفارسية الصفوية لتعتقد أنها الآن ستقتسم المنطقة رسمياً مع الولايات المتحدة.

يبدو أن الدور الإيراني التوسعي المفرط مقبل الآن على نهايته، تؤيد ذلك التصريحات الإيرانية الدالة على حالة تخبط سياسي قائمة على تهاوي الاقتصاد من ناحية والاختناق السياسي والاقتصادي، مصحوباً هذه المرة بانغلاق أفق المناورة أمام النظام.

كتبت وفق مقالة سابقة عن عدم اعتقادي بحدوث حرب كبيرة بين أميركا وإيران، لأن إيران تعرف النتيجة الحتمية لهذه الحرب وهو تدمير بنيتها التحتية العسكرية والاستراتيجية، وكذلك الرأي العام الأميركي لا يوجد له شهية على حرب جديدة يصعب توقع نتائجها. إذن، ماذا سيحدث؟

أعتقد أن إعلان الرئيس ترامب عدم رغبته في شن حرب حقيقية، ولكن استراتيجيته هي عدم رفع التهديد بعمل عسكري ضد إيران من على الطاولة، فعلى رغم شراسة الإدارة الأمريكية ولكنها تدرك العواقب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لشن حرب غير محسوبة، بل أعتقد أن سياسة الرئيس ترامب بحصار إيران وإرسال 120 ألف جندي وهي قوة هائلة تهدف إلى إنشاء طوق ناري من قوات كبيرة محيطة بإيران من جميع الاتجاهات وتركها تختنق، لأن الخوف الأعظم لإيران هو حدوث ضربة جوية مدمرة ضدها، وإلغاء الأميركيين لهذا الاحتمال خطأ استراتيجي سيطمئن الإيرانيين ويشجعهم على ما يفعلونه الآن من ضرب أنابيب النفط السعودي والاماراتي، بالتالي يجب عدم رفع العمل العسكري من الطاولة.

عندما تقع جريمة معينة أول سؤال يوجهه المحققون للوصول إلى الفاعل هو «من صاحب المصلحة؟» في الجريمة، والعثور على صاحب المصلحة سيدل في أغلب الاحوال على الفاعل.

انطلقت دعاية إيران وأحلافها تبرئ إيران من تفجيرات الإرهابية في الفجيرة وخط الأنابيب السعودي، بل دانت إيران ذاتها التفجيرات لتوجه الاتهام لإسرائيل بالقيام بهذه التفجيرات، بحجة رغبة إسرائيل دفع الولايات المتحدة لضرب إيران، ولكني أستبعد العامل الإسرائيلي على رغم إيماني في رغبة إسرائيل بشن هجوم أميركي على إيران، لكن طريقة حدوث التفجيرات وحجمها لا يدل على مصلحة إسرائيلية التي كانت ستقوم بضربة كبيرة داخل مضيق هرمز لإحداث أزمة كبيرة من النوع الذي سيدفع أميركا لضرب إيران، أما أحداث صغيرة من هذا النوع فبعيدة نسبياً عن مضيق هرمز ولا تسبب بالتالي أزمة كبيرة هي مصلحة إيرانية وليست إسرائيلية.

كما أن ميناء الفجيرة هو خط خلفي أنشأته السعودية والإمارات على بعد حوالى 140 كم من مضيق هرمز وكذلك خط الأنابيب إلى البحر الأحمر للهدف نفسه وهو «تقليل الاعتماد على مضيق هرمز» ممراً وحيداً لصادرات النفط لخفض قدرة إيران على ابتزاز كلا البلدين، ما يؤكد المصلحة الإيرانية في ضرب هذه الأهداف.

لا يوجد لدي شك أن التفجير في الفجيرة وضرب محطات ضخ النفط السعودية ورائها أصابع إيرانية، سواء من الحوثي أم غيره، لأنها ببساطة هي صاحبة المصلحة في هذا النوع من العمليات، فإيران أجبن من أن تقوم بعمل عسكري كبير، بالتالي ستلجأ لهذا النوع من العمليات المحدودة التركيز ( low intensity operations) لتحقيق أربعة أهداف:

الأول: الضغط على السعودية والإمارات وإرهابهما من دون الذهاب إلى عمليات كبيرة، بسبب تقاربهم مع الولايات المتحدة.

الثاني: قطع خطوط الاحتياط لكل من الإمارات والسعودية بهدف حصر صادرات النفط في مضيق هرمز الذي تنشر إيران على ساحله الشرقي ومجموعة جزر الإمارات الثلاث المسروقة وهي طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى قوات كبيرة ومنظومات صواريخ، وبهذا تحسن إيران قدرتها على ردع الأميركيين من قصف إيران.

الثالث: رفع أسعار النفط بشكل تدريجي يؤلب العالم على أمريكا، بل يرفع أسعار الطاقة داخل أميركا، ما يعقّد مهمة الرئيس ترامب.

الرابع: تحسين أوراق إيران التفاوضية في أي مفاوضات قادمة مع أميركا.

يجب علينا التحلّي بأعصاب فولاذية في المرحلة القادمة وعدم تقديم تنازلات في الأمن أو السياسة، لأن الملالي ليسوا قادرين على عمل كبير، بل هم مقبلين على كارثة ولكن علينا الاحتياط من «رفسة البغل».
4 من على الشرفة سألت: مجتمعنا شاحنة ثقيلة.. كيف نجرها؟
طارق زيدان
الحياة السعودية

«اللي فات مات وإحنا ولاد النهاردة»، كما يقول المثل الشعبي المصري الدارج. من أين نبدأ نقاشنا: «من الحاضر أم من المستقبل؟»، سألت نفسي متأملا من على شرفة المنزل.

«معك حق»، خاطبت نفسي، فما يهم الآن هو حاضرنا. ثم أكملت، لكن لمعرفة الواقع المعقد وتحديدا في لحظة التغييرات والتحولات الكبرى، لا بد من العودة إلى الأساسيات.

لو ذهبنا إلى سنة أولى جامعية (علوم سياسية) لاستحضار بعض القواعد الأساسية في التحليل، سنجد أن كل موقع سياسي عبارة عن أرض وموارد. السعودية أرضها الجزيرة العربية وهي مطلة على الخليج والبحر الأحمر. ومواردها نفط وغاز ومعادن وغيرها، ويرادف كل موقع فضاءات متعددة، إعلامية وعسكرية وثقافية وغيرها.

يمكن القول ان ضم كل هذه العناصر في خطة عمل اسمها سياسة هو التحدي؛ فالسياسة ليست عملا تطوعيا أو جمعية خيرية، ما تخسره أنت يكسبه طرف آخر، سواء أكان حليفاً أم عدواً، لكن يبقى على العمل السياسي خلق التوازن بين الفضاءات والأرض والموارد، وهو ما لم يحصل في حالة دولة قطر الشقيقة، على سبيل المثال لا الحصر، ذلك أن الفضاء الإعلامي عندها تضخم بما لا يتناسب مع حجم الأرض والموارد، ناهيك عن القدرات العسكرية والثقافية.

يقود ذلك إلى استنتاج قابل للنقاش: هل من المقبول لبلد بموقع السعودية ومواردها أن يعاني من انحسار الدور؟

رؤية 2030 السعودية التي ننتمي إليها تحتم علينا تأمل أحوال الإقليم؛ نحن نعيش في منطقة على كوكب الأرض تتميز بأنها تحتضن أكبر الثروات الطبيعية، النفط مثلا يربطنا مباشرة بالاقتصاد العالمي، إذ هو وقود الحضارة الإنسانية حتى إشعار آخر.

كما أن منطقة الشرق الأوسط، ونحن جزء لا يتجزأ منها، تشكل شرفة مطلة على كل حركة في هذا العالم، سواء مالية أم معلوماتية أم تجارية. نعم، نحن نعيش في منطقة تطل على ستة بحار (الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين)، وتشبك ثلاث قارات بريا هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.

غير أن هذه الشرفة تشهد صراعات طائفية وسياسية بأبعاد محلية وإقليمية ودولية، كما أن أبناء هذه المنطقة هم شهود على هدر امتيازات هذا الموقع بسبب غياب النظام الإقليمي العربي. أصلا المجتمع الدولي لا يستطيع الانتظار حتى تنتهي هذه الصراعات. ثمة حسابات ومصالح تحدد موقفها ولا تقيم وزنا لمصالح الآخرين. من هنا علينا إعادة قراءة الخريطة.

بعد أكثر من 15 سنة من الصراع والحروب بالوكالة على أرض الشام والعراق، أصبحنا أمام خريطة جديدة، خريطة سياسية أفرزت واقعا سياسياً جديدا، إذ نتج عن هذا الصراع اتفاقان دوليان جديدان، يحمل كل منهما في طياته الكثير من الأبعاد؛ الأول: هو الاتفاق النووي الإيراني (خمسة + واحد). الثاني: هو الاتفاق الكيماوي السوري. كلا هذين الاتفاقين رسم حدود استخدام القوة العسكرية، وأبرز أن المجتمع الدولي حريص على بناء نظام إقليمي جديد مختلف عن الذي شهدناه، سواء قبل احتلال العراق في العام ٢٠٠٣ أم بعده، بمعنى أن كل عمل ينصب في خانة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، يعتبر تشويشا على الإرادة الدولية.

قد يجادل البعض أن هذا الاتفاق أو ذاك قد يلغى وأن الصراع الدائر لن يتوقف. فهناك إسرائيل، وهنا إيران وتركيا وروسيا وأمريكا. كل ذلك ممكن، إلا أن الواقع يجعلنا ننظر إلى الصورة التي ترتسم أمامنا تدريجيا، ما نريده في المستقبل هو ما نتحاور عليه في الحاضر.

إذا كنا أولاد اليوم، فمن واجبنا ألا نسقط أمنياتنا على الواقع، فالفرق بين التخطيط والتمني هو أن المخطط يتعامل مع النتائج، أما المتمني فيريد إعادة تدوير النتائج.

«لحظة.. لحظة» ماذا عن الرسوم المفروضة من الدولة وتقليص اعتمادنا على إيرادات النفط؟ «هذا إجراء طبيعي» قلت لنفسي. فالرسوم الحكومية هي القابلة القانونية للتحول.

أما في ما يخص النفط، فلنعترف كما اعترف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «نحن مدمنون»، ويجب معالجة هذا الإدمان، كما أن النمط الاستهلاكي المفرط الذي نعيشه هو نمط غير صحي لجسم المواطن وجسم الدولة.

لنتفق هنا، نحن نريد من الدولة أن تقود القافلة، نريدها أن تجر عربة المجتمع نحو المستقبل. هذا ما نريده صحيح. حسنا، عربة المجتمع اليوم أشبه بشاحنة وزنها أكثر من 100 طن محملة ببضائع ثقيلة جدا، بإدماننا وحياتنا الاستهلاكية ناهيك عن بعض الأفكار الاجتماعية البالية.

نحن كمن يريد أن يجر شاحنة ثقيلة الوزن باستخدام دباب!
5 مسلسل “العاصوف”
أحمد الحناكي
الحياة السعودية

مسلسل “العاصوف” السعودي، الذي يعرض على قناة “إم بي سي” بجزئه الثاني، يثبت أن العمل الجماعي يثمر عملا كبيراً، كما أن الثبات على فريق العمل يقود إلى التجانس بين أعضائه؛ فالمنتج والمخرج والمؤلف والمشرف والممثلون والممثلات لم يتغيروا، وهذا يقود إلى إثراء وعمق في المسلسل.

يأخذ بعض السعوديين على “العاصوف” أنه لا يمثلهم، وأن الفترة الماضية -التي كان المسلسل يمثلها- لم يكن فيها مثل تلك الأحداث التي يعرضها هذا العمل الدرامي، بل إنهم يرون أنها فترة “الزمن الجميل”، أي فترة التدين والأخلاق والقيم والمثل العليا. فهل هذا صحيح؟

لا أعرف من الذي أوهم الشعوب في كل أنحاء العالم بأنهم الأفضل، فالأميركي والأوروبي وسكان باقي القارات، يحملون هذا الإحساس نفسه، وهو أنهم متميزون عن غيرهم، ومن هذا المفهوم، لا يشذ السعوديون عن ذلك، وكرس هذا الشعور كوننا نحمل الشرف بأن المسجد الحرام والكعبة المشرفة يقعان في مكة المكرمة إحدى المدن السعودية.

من السهل تفنيد هذا الشعور (الأفضلية)، فبعض الصحابة غفر الله لهم، كانوا من بقع مختلفة من العالم، كبلال الحبشي أو سلمان الفارسي أو صهيب الرومي، وكذلك كان التابعون يتبعون مدناً أخرى، أصبحت لاحقاً دولاً مستقلة، كمصر والعراق والشام وبلاد المغرب واليمن. كما أن القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لم تكن تفرّق بين المسلمين إلا بالتقوى، فمن أين أتتنا حكاية “الأفضلية”؟

يقودنا هذا إلى أحداث المسلسل الذي يتحدث عن عائلة الطيّان، إذ يركز على الإخوة الثلاثة ومعهم زوجاتهم القريبات لهم أصلا وأبناء خالتهم وأخوالهم وكذلك والدتهم وأختها، فالمسلسل اتخذ هذه العائلة نموذجاً للعائلات، كون الأحداث التاريخية التي مرت بالمملكة منذ نشأتها على يد الموحّد، مرت بمخاضات مهمة، أثّرت في سلوكيات الناس وغيرتهم، وهذا أمر طبيعي. وبالتالي، فإن هذا المجتمع تتباين فيه السلوكيات، من خالد (ناصر القصبي) الذي يمثل العصامي الذي بنى نفسه بنفسه والمحب لعائلته ويتميز بالعقلانية والهدوء والتزام القوانين، على عكس محسن (عبد الإله السناني) المشاكس الجشع الأناني المحب للسفر والمغامرات وميله إلى المظاهر، فيما يميل أخوهم محمد (عبدالعزيز سكيرين) إلى الالتزام والمحافظة.

لم تكن هناك مفاجآت صاعقة في الأحداث، أي أن يكون هناك شيء لا يمكن حدوثه. ولعل بعض المعترضين لم يمرّوا بهذه الأحداث، وبالتالي استنكروها، فيما يخشى غيرهم من أن يسيء إظهارها في مسلسل تلفزيوني إلى صورة المملكة. أما الآخرون، فهم يعلمون بما حدث ولكنهم لا يريدون لأبنائهم أو بناتهم أن يستسهلوا الأمر أو أن يعتبروه أمراً طبيعياً.

من المؤكد أن القصبي والمجموعة التي معه، وصلوا إلى النضج الفني الاحترافي، بعدما كانوا في السابق مجرد مقلدين، وبرأيي أن كل أفراد الطاقم من دون استثناء، أجادوا أدوارهم، وإذا اعتبرنا أن الأدوار الرئيسة كانت للقصبي والسناني والسكيرين والحبيب وريم عبدالله، فإنهم كانوا قمما فنية لا تجارى.

في الأخير، أعتقد أن النص كان بحاجة إلى إثرائه من قبل صاحب السيناريو، إذ نفاجأ أحيانا بلقطات غير مكتملة أو غير مقنعة. وخلال السنوات الـ50 الماضية مرّت بنا أحداث، داخلية وخارجية، لو أفردنا لكل حدث منها مسلسلاً، لأنتجنا ثروة، مثل المد القومي الناصري، ثم انتصار 6 أكتوبر ضد الكيان الصهيوني، ثم الثورة الإيرانية، فحركة الجهاد الأفغاني، وبعدها مباشرة الحرب العراقية – الإيرانية، ثم احتلال الكويت من قبل العراق، فتحرير الكويت بواسطة الحلفاء، ثم الغزو الأميركي للعراق وإعدام صدام حسين، وأخيرا “الربيع العربي” الذي لا نزال نعيش إرهاصاته. أما داخليا فحركة جهيمان، و”تنظيم القاعدة”، والعمليات الإرهابية، ثم حرب الحلفاء ومعهم الشرعية اليمنية ضد جماعة الحوثيين التي تعد الطاغية داخلياً.

بتصوري إننا بحاجة إلى الاستعانة بالكتاب السعوديين، وكذلك الضليعين بالحركات الإسلامية والمعاصرين للأحداث، فضلا عن العسكريين والقطاعات الأمنية، لنخرج بنصوص متميزة. ومن دون شك، ليس بالضرورة أن يكون النص يعكس الواقع تماماً، فلا بأس من تطعيمه بالخيال. ولعل تجربة رأفت الهجان و”ليالي الحلمية” وقبلهم “ثلاثية” نجيب محفوظ – بين القصرين وقصر الشوق والسكرية – أصدق مثال وتعبير عن ذلك.
6 أحزاب القرن العشرين القومية… كيف انتهت؟ ولماذا غابت؟
صالح القلاب الشرق الاوسط السعودية

اقترب القرن الحادي والعشرون من تجاوز «عشريته» الثانية، لكنه مع ذلك لم تجرِ حتى الآن دراسة فعلية ولا مراجعة سريعة عن أسباب تلاشي الأحزاب العربية القومية واختفائها عملياً، وأيضاً الأحزاب «الجهوية» أو الإقليمية، وكأن هذه الأحزاب لم تشغل هذه المنطقة والعالم العربي بأسره، ولفترة طويلة، وتقلب الأوضاع رأساً على عقب في «القطر العربي السوري»، وفي «القطر العراقي»، والتي كانت قد حكمت فيهما سنوات طويلة، وفشلت في أن تقيم دولة واحدة في هذين البلدين العربيّين.
لو أردنا أن نحدد أسماء هذه الأحزاب التي كانت قومية بالفعل، والتي بمعظمها كانت قد ظهرت بدءاً بأربعينات القرن الماضي، فإننا سنجد أن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه عام 1947 ثلاثة من «الطلائعيّين»، اثنان منهم من سوريا، هما الأستاذ ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وكلاهما من دمشق الشام، والثالث هو «اللوائي»، نسبة إلى لواء الإسكندرون، زكي الأرسوزي، الذي كان مفكراً قومياً أكثر منه مناضلاً حزبياً، وبالطبع فإنه قد التحق بهؤلاء عدد كبير من الذين ألهب حماسهم العروبي في تلك الفترة المبكرة شعار «أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة».
كان «حزب البعث»، بحكم أن جامعة دمشق قد استقطبت كثيراً من الطلبة الوافدين من أقطار عربية كثيرة، قريبة وبعيدة، قد أصبحت له خلاياه التنظيمية في معظم هذه الأقطار، التي من بينها الأردن وفلسطين (الضفة الغربية) ولبنان والعراق، ولاحقاً اليمن وكثير من دول الخليج العربي، وأيضاً السودان وليبيا والجزائر والمملكة المغربية وتونس، وحقيقة أنه كانت قد برزت أسماء مهمة ولامعة في هذا المجال، لم تتأخر في احتلال مواقع قيادية رئيسية في معظم هذه الدول، وذلك إن لم يكن فيها كلها.
لقد أصبح «البعث» بالإضافة إلى سوريا قوة رئيسية في العراق خلال سنوات قليلة، وأيضاً في الأردن، وفي اليمن بشماله وجنوبه، وفي ليبيا، وهذا قبل أن تصبح هناك «جماهيرية» القذافي، وهو – أي «البعث» – قد أصبح حاكماً فعلياً يسيطر على كل شيء في «القطر العراقي»، وقبله في «القطر السوري»، حسب المصطلحات البعثية، وكاد يضم إلى هذين البلدين الأردن في منتصف خمسينات القرن الماضي، وهذا لو لم تعترض محاولاته الدؤوبة عقبات رادعة كثيرة.
وحقيقة أن وصول هذا الحزب إلى مصر، التي كانت وهي لا تزال أكبر دولة عربية، وفيها أهم الجامعات في ذلك الوقت المبكر، أي في خمسينات القرن الماضي، كان في غاية الصعوبة، رغم أن عدداً كبيراً من الطلبة «البعثيين» ومن دول عربية متعددة، وبخاصة من العراق وسوريا، وبالطبع من الأردن وفلسطين، كانوا قد التحقوا في ذلك الوقت المبكر بجامعات مصر، ومن بينهم صدام حسين نفسه وفاروق القدومي (أبو اللطف) ومحمد أبو ميزر (أبو حاتم) وكثير من الأردنيين والفلسطينيين واليمنيين، الذين احتلوا في بلدانهم لاحقاً مواقع قيادية عليا مهمة وكبيرة.
ولعل أول مشكلة فعلية واجهت هذا الحزب في بلد المنشأ هي أن الرئيس جمال عبد الناصر قد اشترط حلَّه عندما أصبحت سوريا «الإقليم الشمالي» في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، ما جعل ضباطه الأكثر نشاطاً، الذين تم نقلهم إلى القاهرة تحاشياً لقيامهم بانقلاب عسكري على نظام «الوحدة»، يؤسسون أول خلية بعثية سرية، ضمت محمد عمران الذي كان أعلاهم رتبة، وصلاح جديد وحافظ الأسد، وهؤلاء الثلاثة كلهم من الطائفة العلوية، واثنان من الطائفة الإسماعيلية هما عبد الكريم الجندي وأحمد المير، وحقيقة أن كل الانقلابات اللاحقة، بعد انهيار الوحدة المصرية – السورية (الانفصال)، قد قامت بها عملياً هذه اللجنة، بما في ذلك ما سمي ثورة مارس (آذار) عام 1963، وانقلاب فبراير (شباط) عام 1966، وانقلاب حافظ الأسد في عام 1970، الذي يعتبر نظام ابنه بشار امتداداً له ونسخة غير منقحة منه.
وأيضاً، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا الحزب، الذي كان على مدى ستينات القرن الماضي، وقبل ذلك، وبعد ذلك بسنوات ليست قليلة، قد تعرض لانشقاقات كثيرة، أولها انشقاق عبد الله الريماوي (الناصري)، وثانيها انشقاق العراقي علي صالح السعدي خلال المؤتمر القومي السادس لهذا الحزب، الذي انعقد في دمشق عام 1966، وذلك في حين أن آخرها هو انشقاق حافظ الأسد، حيث بات «البعث» بعد ذلك منتهياً بصورة نهائية.
إن هذا هو «حزب البعث» الذي شغل المنطقة كلها، والعالم العربي بأسره، لأكثر من نصف قرن، وذلك في حين أن حزب «حركة القوميين العرب»، الذي أسسه الدكتور جورج حبش، ومعه هاني الهندي من سوريا، ووديع حداد من فلسطين، وأحمد الخطيب من الكويت، وحامد الجبوري من العراق، ما لبث أن تخلى عنه بعد هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 لحساب تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، التي ما لبثت هي بدورها أن ضربها سيف الشتشظي والانقسام، وخرجت منها «الجبهة الشعبية – القيادة العامة» بقيادة أحمد جبريل، و«الجبهة الديمقراطية» بقيادة نايف حواتمة، وكثير من الانشقاقات اللاحقة الأخرى، التي تحول أحدها إلى حزب سياسي، مقرّه رام الله في الضفة الغربية، ما لبث هو بدوره أن عانى من انشقاقات كثيرة.
وآخر هذه الأحزاب هو «الحزب القومي السوري»، الذي أسسه اللبناني أنطون سعادة، الذي تم إعدامه في لبنان في عهد حسني الزعيم، صاحب أول انقلاب عسكري في سوريا عام 1949، وهذا الحزب ما لبث هو بدوره أن أصيب بداء الانقسام والتشرذم، وخرج منه عدد من مؤسسيه، مثل عصام المحايري، وجورج عبد المسيح، وخاصة بعد اغتيال الضابط القومي عدنان المالكي عام 1955، وحقيقة أن أفضل فترة مرَّ بها هذا الحزب هي الفترة التي تزعمه فيها اللبنانيان عبد الله سعادة، وإنعام رعد، اللذان حوّلاه إلى رديف للمقاومة الفلسطينية، قاتل معها وإلى جانبها خلال حصار بيروت عام 1982، وتحول بعدهما إلى مجرد تنظيم هامشي تابع لنظام الأسد في عهد الأب والابن. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن اعتبار الحزب الشيوعي حزباً قومياً عربياً، فهو حزب «أُممي»، يتبع موسكو مباشرة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، والآن في حقيقة الأمر لم يعد موجوداً بكل فروعه وتشكيلاته، إلا أسماء ومقرات!!
ثم إنه لا يمكن اعتبار فصائل المقاومة الفلسطينية أحزاباً قومية عربية، وحيث قد تمت الإشارة آنفاً إلى أن «حركة القوميين العرب» بقيادة الدكتور جورج حبش قد تحولت إلى تنظيم فلسطيني، أصبح عضواً فاعلاً في «منظمة التحرير الفلسطينية»، هو «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وأيضاً فإنه لا يمكن اعتبار حركة «فتح» وجناحها العسكري «قوات العاصفة» تنظيماً حزبياً، وهذا ينطبق على «الجبهة الديمقراطية» بقيادة نايف حواتمة، وعلى الانشقاقات الفتحاوية التي تلاشت نهائياً، ومن بينها جماعة صبري البنا (أبو نضال) وجماعة أبو خالد العملة.
والمؤكد أن ما ينطبق على كل هذه الفصائل الفلسطينية، ينطبق على تنظيم «الإخوان المسلمين» الذي أسّسه كتنظيم عالمي، المصري حسن البنا، الذي تم إعدامه لاحقاً، والذي بات يعتبر في بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، تنظيماً إرهابياً، وهذا ينطبق أيضاً على «حزب التحرير» الذي أسّسه في خمسينات القرن الماضي الشيخ تقي الدين النبهاني، والذي أصبح وجوده الأساسي الفاعل يقتصر على كثير من الدول الإسلامية الآسيوية.
7 حدود الحرب مع إيران ومأزق إدارة ترامب
د.شفيق ناظم الغبرا

القدس العربي بريطانيا

حرب أم لا حرب، هذا هو السؤال الأساسي الذي يسود منطقة الخليج في الأيام القليلة الماضية. أجواء التصعيد ودخانه يلف كل دول المنطقة لكنه لا يلبث أن يكتسب مسحة من التهدئة والتدخل لإيقاف التصعيد. إيران من جانبها تستعد للحرب وكأنها واقعة بعد ساعة، هذه هي المعلومات القادمة من إيران. لقد استعدت إيران لتحريك كل حلفائها وأدواتها في المنطقة، وهذا يعني ان الحرب لو وقعت ستأخذ بعدا إقليميا. هذا بالتحديد ما حضرت إيران نفسها له منذ ان أسقطت القوات الأمريكية نظام صدام حسين في 2003.
وإن وقعت الحرب ستنقسم دول العالم وسنرى اصطفافات جديدة بين دول كالصين وروسيا وأوروبا. بل قد تشعر تركيا أيضا بأنها هي الأخرى مستهدفة بسبب موقعها في ميزان القوى، وانها قد تكون الثانية على لائحة السعي لإعادة رسم خارطة دول المنطقة لمصلحة إسرائيل والصهيونية. لو وقعت الحرب ستدفع إيران ثمنا كبيرا، لكننا في الضفة الأخرى من الخليج سندفع ثمنا كبيرا على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي، لكن إسرائيل والولايات المتحدة سيدفعان، بنفس الوقت، ثمن ليس في حسبانهما. لقد استعدت إيران للحرب ووضعت في أهدافها كافة القواعد الأمريكية في الإقليم، ولو وقع هذا السيناريو، أجد أنه سينهي رئاسة ترامب الذي لن يتحمل خسائر أمريكية بسبب تطرف عناصر أساسية في إدارته.
لن يقع في إيران سيناريو يشبه سيناريو العراق في 2003. لو وقعت الحرب قد تكسب إيران سياسيا من المواجهة مع الولايات المتحدة فتقف بعد الحرب على مفترق قد يكون مفيدا لها خاصة أن اهتز الموقف الأمريكي وانقسم على نفسه. ستجد إيران حلفاء في روسيا والصين وستجدهم في دول اخرى لا تريد للولايات المتحدة واسرائيل الهيمنة والسيطرة على كل الابعاد والأجواء.
وقد يكون التحضير الإيراني للحرب السبب الأهم في عدم وقوعها، فالحشد الأمريكي والتصعيد الأمريكي هو الآخر قد يكون السبب في بناء حالة تؤدي للتفاوض. لكن التفاوض لا يضمن النتائج التي تريدها الولايات المتحدة، فقد رأينا كيف تعثر ترامب مع كوريا الشمالية بعد تصعيد كبير معها، وشاهدنا حدود الدور الأمريكي في فنزويلا بعد وعود بالتغير والتدخل العسكري. بل حتى في سوريا اهتز الموقف الأمريكي.

قد يكون التحضير الإيراني للحرب السبب الأهم في عدم وقوعها، فالحشد الأمريكي والتصعيد الأمريكي هو الآخر قد يكون السبب في بناء حالة تؤدي للتفاوض

لو نظرنا للسياق الذي تندرج في إطاره الأحداث، سنجد بأن الولايات المتحدة تواجه مأزقا مرتبطا بتنفيذ ارادتها وقراراتها التي لم تقرها معظم الدول بما فيها المؤسسات الدولية. في احسن حالاته يريد الرئيس ترامب حربا لا يدفع ثمنها ولا يدفع فيها أرواح أمريكية، وهذا غير ممكن مع إيران. لنتذكر بأن إيران فيها 80 مليون نسمة وإيران اربعة أضعاف العراق. وبالفعل الرئيس ترامب ابلغ وزير دفاعه الأسبوع الماضي أنه لا يريد حربا مع إيران.
إن إيران دولة أمة، وهي حضارة قديمة ومتجددة تنطلق من دورها التاريخي بصفتها الدولة الاهم المنطقة الى جانب العثمانية قبل القرن العشرين. هذا التواصل بين الدور التاريخي والخبرة الإدارية والحضارية هو الذي يصنع من إيران طرفا أساسيا في معادلات الشرق الاوسط. ان الاعتقاد بأن إيران ستخرج من المعادلات ليس في مكانه، بل يرجح انها اقتحمت المعادلات مبكرا من أجل تخفيف الضغط الأمريكي عليها.
العداء الإسرائيلي الإيراني ليس مرتبطا بالإيديولوجية الاسلامية، فاسرائيل لا تجد مشكلة في الايديولوجية الإسلامية للنظام الإيراني، فالنظام الاسرائيلي برمته تسيطر عليه الايديولوجية الدينية. إن الخوف الإسرائيلي من إيران مرتبط بما هو أهم من الايديولوجيا: ميزان القوى العسكري وميزان القوى السياسي والتكنولوجي والنووي، وتاريخ من المواجهات المسلحة عبر حزب الله وحركة حماس. لكن الانتهازية الإسرائيلية تسعي لتوريط الولايات المتحدة في حرب ليست بمصلحة الولايات المتحدة، والسبب في ذلك ان إسرائيل عاجزة عن تنفيذ حرب لوحدها ضد إيران.
أن التحرك الأمريكي والإسرائيلي في مواجهة إيران هو الوجه الآخر للضغط على الاردن والفلسطينيين في حماس والسلطة الفلسطينية وقطر والكويت ودول عربية أخرى لتمرير صفقة القرن التي يقصد منها اعطاء إسرائيل مزيد من الارض في ظل تصفية القضية الفلسطينية وقضية القدس. لهذا فالصراع مع إيران غير مرتبط بتمدد إيران الاقليمي. فاليمين المتطرف في الادارة الأمريكية يحاول استباق الصعود الإيراني وكما والتركي، وذلك لأثره على البعيد الأمد والإستراتيجي على اسرائيل، ويحاول بنفس الوقت تحصيل أكثر ما يستطيع من اموال وصفقات سلاح، في ظل عزل صعود النفوذ الروسي والصيني. إن الهدف الاساسي لإدارة الرئيس ترامب هو تدجين الاقليم، وجني الاموال ووضع حدود لردود الفعل على ما هو قادم في شأن القضية الفلسطينية. هذا انعكاس للأزمة التي تواجهها إدارة ترامب على الصعيد الأمريكي والدولي.
سيبقى السؤال الأساسي، ما هي استراتيجية الدول العربية تجاه هذا الوضع؟. سنجد انه سيكون مثل كل الاستراتيجيات السابقة: مفككا ولا يحظى بإجماع. يختلف العرب مع إيران في مجالات عدة وسياسات كثيرة، لكن هذا لا يعني انهم سيؤيدون تصعيدا عسكريا في منطقة الخليج او تصعيدا مسلحا وغارات جوية ضد إيران تؤدي لتدمير الإقليم. فقد أعلنت عدة دول خليجية كالكويت وقطر عمان رفضها للحرب، بينما دول اخرى في الخليج تعيش حالة تحالف مع القوة الأمريكية وتصعيدها العسكري. يقع كل هذا بينما الازمة الخليجية وحصار قطر لازال قائما. الخليج لن يكون موحدا في ما هو قادم، والواضح ان نزاعات اكثر تعقيدا قد وصلت لمنطقة الخليج.
8 صراع الإرادات بين واشنطن وطهران
بكر صدقي
القدس العربي بريطانيا

يترقب العالم، هذه الأيام، ما يمكن أن يشعل فتيل الحرب بين الولايات المتحدة وإيران. ذلك أن العقوبات القاسية التي طبقتها واشنطن على طهران هي، بذاتها، نوع من إعلان الحرب. فإذا أضفنا التحشيد العسكري الذي قامت به الأولى حول الثانية، كنا إزاء مشهد يكرر ما حدث، في العام 2003، بالنسبة للعراق.
لكن الفوارق بين الحالتين هي أهم، ربما، من التشابهات. فمن ناحية إيران نرى أنها اليوم ليست بالضعف الذي كان عليه نظام صدام حسين في العراق. ومهما كثر الحديث عن وضعها المنهك، أصلاً، من العقوبات السابقة، زائد الكلفة الباهظة لحروب الوكالة التي قادتها في سوريا واليمن والعراق وعبء حزب الله في لبنان، فهي، بالمقابل، تمتلك أدوات إقليمية قوية على شكل ميليشيات واختراقات لمجتمعات البلدان العربية، يمكنها أن تسبب أذى كبيراً للقوات والمصالح الأمريكية أو مصالح حلفائها الإقليميين، في حال اندفعت الولايات المتحدة إلى حرب عسكرية صريحة ضدها.
ومن ناحية الولايات المتحدة، هي أيضاً أقل قوة مما كانت عليه في العام 2003، ليس بمعنى الإمكانات العسكرية المتفوقة بلا شك، ولكن بمعنى القدرة على اتخاذ قرار الحرب. ليس فقط لأن الرئيس ترامب كان قد وعد، في حملته الانتخابية، بسحب القوات الأمريكية من المنطقة، وما يعنيه ذلك من عدم استعداد الرأي العام الأمريكي لخوض مغامرة عسكرية جديدة بعيداً عن الحدود الوطنية، ولكن أيضاً بسبب وضع ترامب المهزوز في المؤسسة الحاكمة بسبب «فضيحته الروسية»، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي من شأنها أن تقيد أكثر قدرته على اتخاذ قرار، ووجود معارضة قوية له في الكونغرس.
ومن أهم الفوارق بين الأمس اليوم، غياب أي غطاء سياسي من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، الدول الأوروبية الرئيسية بصورة خاصة، ناهيكم عن الغطاء الأممي الغائب. ليس هناك، عموماً، متحمسون للحرب المتوقعة غير الثنائي بولتون ـ بومبيو، وفي الخارج بنيامين نتنياهو. حتى دول الخليج العربية التي حرضت ضد إيران، طوال السنوات السابقة، لا تبدو متحمسة لنشوب الحرب، وهي أكثر تفضيلاً لتحقيق نتائج مرغوبة بواسطة التهديد بالحرب، لا بالحرب ذاتها.
الواقع أنه حتى الإدارة الأمريكية، وترامب بخاصة، يبدو أكثر تفضيلاً لإرضاخ إيران بالتهديدات الجدية المعززة بالعقوبات القاسية، أكثر من رغبته في خوض الحرب فعلاً. وهذه ليست، على أي حال، شيئاً فريداً يخص الحالة الراهنة، بل ربما هي القاعدة العامة بالنسبة للنزاعات بين الدول. لا أحد يفضل خوض الحرب إذا كان التهديد بها يحقق النتائج المرجوة بكلفة أقل. فالحرب، في نهاية المطاف، هي صراع إرادات. إذا استطاع القوي كسر إرادة الأضعف منه وإخضاعه، يكون قد حقق أكثر مما يمكن لأي نصر عسكري أن يحققه.

الحل «المنطقي» هو أن تتصرف طهران بعقلانية وتنكفئ إلى داخل حدودها، ما دامت القوة التي سمحت لها سابقاً بالتمدد، لفترة مؤقتة، اتخذت الآن قرارها المعاكس بإنهاء فترة التفويض أو السماح

النزاع الأمريكي ـ الإيراني مرده أصلاً هو رغبة حكام إيران في التصرف كقوة اقليمية عظمى قادرة على إملاء شروطها على جيرانها الإقليميين والحصول على رضوخهم لابتزازها. وإذا كانت الولايات المتحدة قد تصرفت معها بتسامح، في المراحل السابقة، سواء أثناء الحربين الأمريكيتين على أفغانستان والعراق، أو بعد ذلك أثناء ولايتي أوباما، فقد آن الآوان لانتهاء فترة السماح، بسبب تعاظم الدور الإيراني في الإقليم بما تجاوز الحدود المسموح بها أمريكياً ودولياً.
الحل «المنطقي» وفقاً لهذا المخطط هو أن تتصرف طهران بعقلانية وتنكفئ إلى داخل حدودها، ما دامت القوة التي سمحت لها سابقاً بالتمدد، لفترة مؤقتة، اتخذت الآن قرارها المعاكس بإنهاء فترة التفويض أو السماح، بخاصة وأن القيادة الإيرانية ليست في وضع مريح، داخلياً، لتعاند الإرادة الأقوى منها. غير أن نشوة القوة «الإمبراطورية» لها مفعول مسكر، يبدو أن حكام إيران لا يستطيعون التخلي عنه، مهما بدا هذا التخلي هو عين العقل. أضف إلى ذلك أن رضوخهم، بدون حرب، بعد طول معاندة، سيكلفهم ثمناً غالياً، فتصبح إيران عرضة لابتزازات متتالية في مقبل الأيام، لن تملك إزائها إلا الاستمرار في الخضوع المرة بعد المرة، كحال المقامر الذي يعلن استسلامه قبل أن يخسر فعلياً.
المرجح، وفقا لهذا المنظور، أن تواصل إيران المعاندة مع الاستعداد لدفع الثمن مهما كان باهظاً. ربما يساعدها على ذلك خبرتها السابقة في الحرب مع العراق التي خسرت فيها الكثير، لكنها تمكنت من تجاوز الحالة الصعبة لتنتقل، بعد ذلك، إلى الهجوم، أي التمدد الإقليمي. كما أنها تراهن على صعوبة اتخاذ القرار بالحرب بالنسبة للرئيس ترامب، فإذا حدثت كانت كلفتها على الولايات المتحدة أعلى ـ نسبياً ـ من كلفتها على إيران. سواء تعلق الأمر بالعجز عن تحقيق أهداف الحرب (أي الإرضاخ) بصرف النظر عن الدمار الذي يمكن للأمريكيين أن يلحقوه بقدرات إيران العسكرية والاقتصادية والبشرية، أو بأي خسائر بشرية أميركية مهما كان حجمها صغيراً.
هو، إذن، حساب الذي ليس لديه ما يخسره أمام الذي تعز عليه أقل خسارة. بهذا الرائز يمكن للقيادة الإيرانية أن ترفض الرضوخ للشروط الأمريكية وتذهب إلى النهاية في المواجهة. فهي ستكون مواجهة رابحة لها مهما كانت نتيجتها قاسية عليها، على نفس منوال «النصر الإلهي» لحسن نصر الله في العام 2006. وبخاصة إذا استطاعت تحييد أوروبا عن الصراع أو ربما كسب تعاطفها.
صحيح أن إيران ستخرج من أي حرب مع الولايات المتحدة مثخنة بالجراح، لكنها لن تصل حد التراجع عن طموحاتها الإقليمية، إلا إذا أصبح النظام مهدداً بالسقوط. فقط في هذه الحالة يمكن له أن يراجع سياساته الخارجية. أما ما دون ذلك، فمن شأنه، بالعكس، أن يدفع النظام إلى مزيد من الانخراط في شؤون الإقليم تعويضاً عن خسائره، حاشداً خلفه وحدة وطنية صلبة ضد «الخارج الشرير» ومزوداً برواية عن مظلومية وطنية متأججة.
9 لماذا تعود الحرب إلى المنطقة العربية..!
عبدالعزيز السماري
الجزيرة السعودية

لا يختلف المشهد اليوم كثيراً عن الأمس، فطبول الحرب ارتفعت أصواتها من جديد، وتعود كما عادت من قبل على المنطقة العربية، والحروب العالمية أصبح ميدانها الأوحد في الجوار القريب، وقد عانت شعوب المنطقة الأمرين من ويلات الحرب، ولو حاولنا فهم أسباب عودة الحرب إلى المنطقة لربما ساهمنا في منع حدوثها مستقبلاً،..

في الوقت الحاضر تتواجد القوى العظمى بعتادها وجيوشها في المنطقة،.. لا يمكن أن يحدث هذا بدون أسباب وعوامل جيوسياسية في الواقع، فالعنترية السياسية جزء من سلوك السياسة في بعض الدول، ولم تتوقف المنطقة من إنتاج عينات عنترية من بعض القادة، التي تبحث عن المواجهة مع الغرب بأي ثمن، ولو كان ثمنه تدمير بلاده، وما تفعله إيران منذ تولي الملالي الحكم هو تصدير المشاكل والأزمات لجيرانها، وتخطيطها الدائب للحصول على قوة تدميرية هائلة.

لا يختلف المشهد كثيراً عما حل بالعراق، الذي أدخله زعيمه السابق في حروب لا تتوقف، كان آخرها خروجه الذليل بعد أن تم تدمير بلاده بالكامل، ثم جاءت التراجيديا السورية بكل ما تحمل من أبعاد الألم والموت والتهجير، وشارك في وصولها إلى هذا المستوى مختلف القوى العالمية، وساهمت غطرسة قيادتها في احتلال البلاد من قبل روسيا.

هم لا يأتون من أجل كحل العيون العربي، ولكن من أجل تدمير المنطقة، ونهب ثرواتها، ونشر الخراب في أرجائها، لكن مع ذلك علينا أن نواجه الحقيقة المؤلمة، هم يأتون إلى المنطقة لأن بعض زعمائها متهورون، ويرغبون في السيطرة والهيمنة على الجيران، وما تفعله إيران في الوقت الحاضر لا يختلف كثيراً عما فعلته مصر في الحقبة الناصرية، والعراق في زمن صدام. وكلاهما انتهى بكارثة خلفت الهلاك والخراب لبلادهما.

لا يزال العقل الشرقي يعيش في وهم الماضي، وأن لهم الصدر دون العالمين أو القبر، وهي مقولة جاءت من زمن كانت تحكمه السيوف والخناجر، ولا تصلح للتداول في هذا الزمان، والعمل في وقتنا الحاضر يختلف عن الماضي، فبناء الأمم والأوطان يحتاج إلى أشياء من الصبر والدهاء والعمل، والظاهرة الصوتية انتهى زمنها، والشوفوينية الوطنية لم تعد صالحة لحفظ الأمن الوطني، ولكن قد تحدث المعجزة من خلال قفزات التعليم والاقتصاد وحكمة العقلانية السياسية.

النزعة الاستعمارية للقوى العظمى لم تنته، وما زالت قائمة، وما يحدث في سوريا مؤشر لعودة الاستعمار إلى المنطقة، وإذا لم نتوقف عن العنتريات السياسية، سيكون لهذه القوى قدوم آخر لاحتلال بلد آخر، ولا أستبعد ذلك، وربما ساهم الصمت العربي في تسليم سوريا العربية إلى المحتل الروسي، وقد تبدأ مرحلة جديدة من الاستعمار في المنطقة.

ما تفلعه إيران في المنطقة خطير جداً، والتوسع الإيراني وإثارة الشغب في الدول العربية المجاورة، ومحاولة حصولها على القوة النووية يزيد من احتمالات الانفجار في المنطقة، وقد تقوم الحرب، ولو قامت سيخسر الجميع في المنطقة، ولهذا لا بد أن تعود إيران إلى رشدها، وأن تتوقف عن إثارة المتاعب وتهديد الأمن ومصادر الطاقة في العالم، وأن تتعلم الدرس من التجارب المريرة السابقة.