قناة الحرة الامريكية تعلق على قرار ترامب بالعفو عن قاتل طفل مصلاوي

أن يصدر عفو رئاسي في الولايات المتحدة عن جندي سابق خدم في العراق وأقدم على قتل متعمد لرجل كان مولجا بإطلاق سراحه أمر يستحق التوقّف عنده.

ابتداء، مجددا، لا بد من التشديد أنه لا يستقيم غضّ النظر عن هذا الأمر الهام لتجنّب توظيف العفو أو تسخير الاعتراض عليه في إطار الجهود الدعائية الهادفة إلى الطعن بالولايات المتحدة. فالانتقائية التي تعتمدها هذه الجهود قائمة على أي حال، منتخبة من الأحداث المتوالية ما يؤيد التصوير الأهوائي لأميركا على أنها معقل الشر، ومهملة ما يزيد عنه بأضعاف من مواقف مشرّفة، أفعالا وأقوالا، تتيح للمجتمع والثقافة فيها إشهار انسجام المبادئ والمصالح والاعتزاز به. فالنقد، اللطيف منه واللاذع، للولايات المتحدة كما لغيرها، جزء لا يتجزأ من المنظومة الضامنة للحرية، وهو بالتالي مرحّب به. غير أن أثره لا يتحقق إلا بالإنصاف. أي لا اعتبار لقول من يرى في هذا العفو مأساة ومادة للتشهير فيما تغيب عن أنظاره المآسي الجسيمة التي تحفل بها دياره أو التي يرتكبها أبطاله.

التوجه الغالب في الولايات المتحدة عند بروز أخبار جرائم من هذا النوع ليس إلى إنكارها

القضية التي شملها العفو الرئاسي تعود إلى العام 2008، مع تعرّض فرقة من الجنود الأميركيين، في إطار عملية مكافحة للنشاط المعادي للاحتلال الذي تلا إسقاط نظام الطغيان، في محافظة صلاح الدين، إلى تفجير عبوة ناسفة أودت بحياة اثنين منهم. فمن خلال التقصي، وردت معلومات تثير الشبهات حول ضلوع ما للمواطن العراقي علي منصور محمد في التفجير. فجرى اعتقاله للتحقيق، كما جرى تفتيش منزله، والذي وإن حوى قدرا من الأسلحة، لم يكشف عن تورّطه بالعمل المعادي. فصدر الأمر بإخلاء سبيله، وأنيط بالفرقة التي سقط منها القتيلين إعادته إلى بلدته.

والظاهر من التفاصيل الواردة أن قائد هذه الفرقة، مايكل بهنا، كان قد عقد العزم على الانتقام من علي منصور محمد، دون اعتبار لعدم توفر الأدلة على تورطه بالعمل المعادي. وبالفعل، توقفت الآليات التي كانت تنقل الفرقة وعلي منصور محمد تحت أحد الجسور، وعمد بهنا إلى إخراجه من السيارة، ثم إلى تعريته وقتله وحرقه.

سرعان ما بلغت تفاصيل الجريمة السلطات العسكرية المعنية، فجرى اعتقال بهنا وترحيله ثم محاكمته وإدانته بجرم “القتل دون سابق تصور وتصميم”، والحكم بسجنه خمسة وعشرين عاما. وإذ اجتهدت عائلة بهنا لإيجاد الأعذار التخفيفية، بما فيها الإفادات الطبية التي تبين ضغطا نفسيا حصل لديه نتيجة مقتل الجنديين زميليه، فإن محكمة الاستئناف خفّضت الحكم إلى خمسة عشر عاما. وتلا ذلك شفاعات متعددة من سياسيين، على مستوى الولاية كما على مستوى واشنطن، وصولا إلى إخلاء سبيله بعد أقل من خمس سنوات في الاعتقال، وإن بقي تصنيفه القانوني “الإفراج المشروط” والذي يقّيد حرية حركته إلى حين انتهاء مدة محكوميته.

وقبل أيام، تلقّى مايكل بهنا نبأ حصوله على عفو رئاسي صادر من البيت الأبيض يزيل من سجّله العدلي القضية بالكامل ويعيد إليه كامل حقوقه المدنية.

لا مفرّ هنا من أن يلحظ أي متابع محايد الإفراط في التسامح مع مايكل بهنا، سواء من حيث اعتبار جريمته قتلا “دون سابق تصور وتصميم” خلافا للأدلة والقرائن، أو من حيث الحكم الصادر بحقّه، ثم تخفيفه، ثم إخلاء سبيله، ثم صدور العفو بحقّه.

وتصبح المسألة أكثر خطورة حين تُدرج ضمن إطار قرارات قضائية سابقة، في قضايا تورّط فيها عسكريون أميركيون، بعيدة عن المتوقع من العدالة، ولا سيما منها، مثالا لا حصرا، مجزرة الحديثة التي ذهب ضحيتها أربعة وعشرون مواطنا عراقيا، منهم الأطفال والنساء والشيوخ، قتلتهم مجموعة من العسكريين الأميركيين انتقاما لسقوط زميل لهم ضحية عبوة ناسفة. ورغم ضلوع هؤلاء العسكريين بمحاولة طمس للوقائع من خلال تقارير كاذبة حول ظروف المجزرة، وبعد مقاضاة استمرت أعواما، طوي الملف دون أن يطال أي من المتورطين حكما بالسجن.

من حقّ العراقيين، بل من حق الجميع في كل مكان، السؤال عمّا إذا كانت هذه المحاكم الأميركية تثمّن الحياة البشرية على أساس مقادير أهمية، لغير الأميركيين فيها قيمة أقل. دون إسقاط هذا السؤال، بل مع الدعوة الصادقة إلى متابعته ومساءلة الولايات المتحدة، كدولة ومجتمع وثقافة، بشأنه، فإنه لا بد من النظر بما هو أقرب إلى المتحقق من وجهة النظر السائدة في الولايات المتحدة نفسها.

الملاحظة الأولى، والموضوعية، دون أن تدرج على الإطلاق في خانة الأعذار، هي أن حوادث الإجرام هذه فائقة الندرة، تعدّ بالمفردات التي تذكر مع مرور الأعوام، رغم الانتشار الواسع النطاق لمئات الألوف من الجنود الأميركيين في أنحاء العالم على مدى العقود الماضية. ومقابل كل جريمة تبقى، عن جدارة، في الذاكرة، أعداد لا تحصى من أفعال الخير الطوعية من جانب الكثير من الجنود.

والتوجه الغالب في الولايات المتحدة عند بروز أخبار جرائم من هذا النوع ليس إلى إنكارها أو افتراض براءة الجنود من التهم الموجّهة إليهم، بل اعتبار هؤلاء الجنود المتورطين بالجرائم ضحايا بدورهم. المقاربة التي يلجأ إليها المتابعون لهذه القضايا، ولا سيما من أقارب الجنود المتهمين، هي تبيان التعارض بين سلوك هؤلاء الجنود في حياتهم العادية قبل مشاركتهم بالعمليات الحربية، بما يخلو منه من الجنوح إلى الإجرام والقتل والأذى وبما يتضمنه من الحسّ المدني والأخلاقي، وبين الجريمة التي تورطوا بها، والتي تبتعد عن المتوقع وتنحدر إلى الشر السافر. فتفسير هذا التعارض لديهم يقوم على أن المسؤولية عن الجريمة لا تقع على الجندي بقدر ما تعود إلى منظومة التجنيد وطبيعة المهام المطلوبة من هذا الجندي.

التركيز بالتالي، كما في حال مايكل بهنا، هو أن الجندي أراد خدمة بلاده، وفي العراق سعى إلى مساعدة العراقيين، ولكن الأوضاع الفائقة والتي ألزمته بها قيادته دفعته إلى الجريمة. فالشركاء في الجريمة هم مايكل بنها بالطبع بصفته من ارتكب الفعل، ولكن أيضا القرار السياسي في واشنطن، والذي أوفد هذا الشاب إلى بلاد بعيدة، والبنية التنظيمية للقوات المسلحة، والتي لم تتمكن من تجنيبه الضغوط إلى دفعته إلى الفعل أو الظروف التي أتاحت له ارتكابه. ولا يجوز بالتالي تحميل الجندي وحده مسؤولية الجريمة ككل.

في قضية مقتل علي منصور محمد، كما في قضية الحديثة، ما أفضى إلى النتيجة القضائية هي المناورات التي تمرّس بها وكلاء الدفاع في الولايات المتحدة، في غياب تلقائي لمن يمثّل مصالح الضحايا. ليس من شأن المحاكم، إذ تراعي السوابق وتوازن بين ما أمامها من أدلة ومرافعات، أن تكون من يقرّر العواقب التاريخية لقراراتها، فعنايتها وحسب بالقضية المحددة المطروحة أمامها.

قرار العفو هذا يبدو وكأنه إنكار للجريمة

غير أن هذا لا يعفي الولايات المتحدة ككل من المتابعة النقدية لهذه القرارات ومن تحمل المسؤولية. فالقصور والتقصير حاصلان بالفعل في الأدوار المتوقعة من الدولة والمجتمع والثقافة في هذا الصدد.

لا سبيل البتّة من حيث الممارسة مقارنة أداء القوات المسلحة الأميركية، والتي وإن كانت عرضة للأخطاء والتجاوزات، تبقى ملتزمة بعقيدة عسكرية قائمة على مبادئ الحرب العادلة، وبين ما تقترفه الجهات الرسمية وغير الرسمية، أو ما ترتكبه روسيا مثلا، من عدوان على مدى منطقة الشرق الأوسط.

ومن هنا خطورة قرار العفو الرئاسي الذي ناله مايكل بهنا. إذ دون التأطير الذي يدرج هذا القرار في سياق تحميل الولايات المتحدة ككل مسؤولية الجريمة، وبالتالي طرح القرار على أنه نقل لبعض أعباء الجريمة من أحد المشاركين فيها إلى سائرهم، فإن قرار العفو هذا يبدو وكأنه إنكار للجريمة، بل إقرار بإباحة الإعدامات الميدانية (رغم أن جريمة بهنا تتعدى الإعدام الميداني، وإن تمكنت مناورات المحامين من حصرها بذلك). وبالإضافة إلى التناقض الفادح بين هذه العواقب والقيم التي يعتز المواطن في الولايات المتحدة أنها أساس لبلاده، فإن من شأن هذا الواقع الجديد المنقوص أن يقدّم للأعداء والخصوم، من روسيا وصولا إلى “الدولة الإسلامية” مادة يزعمون من خلالها صواب تصويرهم الإسقاطي للولايات المتحدة. فاقتضى التنويه.