1 رسائل «داعش» بعد الانهيار محمد عاكف جمال
البيان الاماراتية
مع انتهاء معركة الباغوز شرق سوريا، اختفى آخر عنوان لتنظيم «داعش»، وكثرت التحليلات والتكهنات حول مستقبله خاصة مع استسلام أعداد كبيرة من مقاتليه وظهور انهيارات معنوية واسعة في صفوفه، حرصت الجهات المختصة في العراق وسوريا البلدين اللذين نُكبا بشروره على الاستفادة منها إعلامياً كجزء من استراتيجية إضعافه.
في عالم السياسة هناك طرائق متعددة لتبادل الرسائل بين الدول بعضها عبر القنوات الدبلوماسية، وبعضها بطرائق أخرى قد تكون عبر وفد مبتعث أو مندوب خاص أو عبر دولة أخرى أو من خلال تسريب صحافي أو البريد الإلكتروني أو التغريد على «تويتر» بما يتناسب مع طبيعة الرسالة ودرجة أهميتها.
أما داخل الدول، فيتم تبادل الرسائل بين السلطات القائمة وبين القوى السياسية التي لها حضور في المشهد السياسي بوسائل تعتمد على طبيعة النظام السياسي القائم. ففي الدول الديمقراطية هناك منصات متنوعة متاحة للأحزاب تروّج من خلالها برامجها وتعبر فيها عن مواقفها وسياساتها. في حين تجد هذه الأحزاب في الدول غير الديمقراطية، حيث لا يسمح لها بممارسة نشاطاتها، نفسها مضطرة إلى اعتماد النشرات السرية أو وضع الملصقات سراً على الجدران في المناطق العامة أو تنظيم التظاهرات والاعتصامات في شوارع أو ساحات المدن المهمة أو الذهاب إلى أبعد من ذلك في حالات الاستقطابات والاحتقانات الشديدة كاللجوء إلى السلاح أو إنشاء محطات بث إذاعي خارج البلد للترويج لطروحاتها.
وهناك إضافة إلى ما ذكرنا طرائق أخرى تلجأ إليها المنظمات الإرهابية لبعث الرسائل إلى من تفترضهم خصوماً لها، دولاً أو مكونات إثنية أو دينية أو مذهبية، عبر عمليات الاختطاف والاغتيالات والتفجيرات وإلحاق الأضرار بالمؤسسات الاقتصادية أو الخدمية كما اعتدنا على ذلك من تنظيم القاعدة وتنظيم داعش ومن غيرها.
رسالتان وصلتا أخيراً من تنظيم داعش معنونتان للجميع أفراداً ودولاً، الأولى عبر تفجيرات سريلانكا التي هزت العالم في عيد الفصح لفداحة الأضرار التي ترتبت عليها والتي شملت ثلاث كنائس وثلاثة فنادق في العاصمة كولومبو وبالقرب منها وراح ضحيتها ما يزيد على ثلاثمائة قتيل وأكثر من خمسمائة جريح. أما الرسالة الثانية فهي ظهور أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم في وسائل الإعلام بعد خمس سنوات من الاختباء ليلخص الاستراتيجية الجديدة للتنظيم بعمليات الاستنزاف والمطاولة للعدو، وليعلن عن تنفيذ اثنين وتسعين عملية في ثماني دول انتقاماً لما جرى لمقاتلي التنظيم في سوريا.
للرسالتين دلالاتهما في ناحيتين مهمتين أولاهما تتعلق بمستقبل التنظيم، حيث حرص البغدادي على تأكيد حضوره، شخصاً وتنظيماً، من خلال عاصفة التفجيرات في سريلانكا تعزيزاً ودعماً لمعنويات أنصاره وجمعاً لشتاتهم بعد الهزائم التي تلقوها، أما ثانيهما فتتعلق بمستقبل زعامته التي اهتزت بشكل كبير بعد سلسلة الانكسارات التي تجرعها التنظيم وخسارته لجميع مواقعه في العراق وسوريا، ومقتل العديد من قياداته على مدى السنوات المنصرمة.
خمس سنوات تفصل بين ظهورين إعلاميين متباينين للبغدادي، أولهما «عنفواني» يعلن فيه من مسجد النوري في الموصل انتصاره وميلاد خلافته المزعومة، وثانيهما «انكساري» يعلن فيه من مخبأ تحت الأرض في مكان ما هزيمته وانتهاء القتال في آخر معاقله. أولهما دفع الولايات المتحدة لرصد مبلغ خمسة وعشرين مليون دولار لمن يساعد في القبض عليه، وثانيهما قد يغري واشنطن بإلغاء ذلك إلا أنه لم يثنها عن إيلاء أقصى درجات الاهتمام بالدقائق الثماني عشرة التي ظهر فيها البغدادي حيث أشبعتها دراسة وتحليلاً من أجل التعرف على معالم توجهاته ومستقبل العمليات التي يخطط لها. إذ من الصعب الاقتناع بأن هذا التنظيم قد انتهى بعد هزائمه العسكرية في جميع المعارك التي خاضها. فثقافة العنف التي أنجبته ليست حالة طارئة في المنطقة بل متجذرة فيها بعمق بفعل التعقيدات الفكرية والسلوكية الطائفية، ثقافة هناك، في المنطقة وخارجها، من يعمل على إدامتها.
الأجواء المتشنجة في المنطقة لا تساعد على التفاؤل، فعلى الرغم من قلة الثغرات في استراتيجية التحالف الدولي للتصدي للإرهاب عموماً ولتنظيم داعش بشكل خاص إلا أنه ليس هناك، على المدى البعيد، ما يكفي من الروادع للتحوط ضد عودته أو ظهور غيره، فالتفكك والتراخي قد بدأ يسري في أوصال هذا التحالف كما أن السياسات المتبعة محلياً في بعض دول المنطقة لا يزال فيها الكثير من الثغرات التي تسمح باحتضان مقاتليه وغض الطرف عن نشاطاتهم.
2 منهج السنهوري باشا في “التقنين” العراقي
إبراهيم البيومي غانم الحياة السعودية
يطولُ الزمن ما شاءَ الله له أن يطول على انقطاع العمل بجوانب أساسية من أحكام الشريعة الإسلامية في كثير من بلدان أمتنا الإسلامية؛ لكن سيظلُّ اليقينُ الذي لا شك فيه هو أن هذه البلدان ستتجه صوب تقنين هذه الأحكام؛ لِما لها من قوة تمدينية، ولِما فيها من رحمة وعدالة وإنسانية في مختلف المجالات، من: معاملات، وعقوبات، وإجراءات قضائية، وأحوال شخصية، وغير ذلك مما تتطلبه الحياة المعاصرة. ولهذا يتعين استذكارُ جوانب من جهود رواد التقنين في موجته الأولى في الربع الثالث من القرن الرابع عشر الهجري؛ أي قبل منتصف القرن العشرين الميلادي. ومن ذلك جهود العلامة عبد الرزاق السنهوري ومنهجيته في التقنين المدني العراقي.
قبل أن يصدر التقنين المدني العراقي في سنة 1951م، كان العراق يطبق مجلة الأحكام العدلية (العثمانية). وقبل ذلك عاشت بلاد الرافدين قروناً تطبقُ الفقه الحنفي في معاملاتها المدنية. وكان العراق هو مهد هذا الفقه، ففيه نشأ، وبين ربوعه ترعرع وازدهر، وعاش الإمام أبو حنيفة النعمان- رضي الله عنه وأرضاه في الجنة- في الكوفة ما قدّر الله له أن يعيش وهو يضع كل يوم لبنة في هذا البناء الضخم المشمخر، فما طوى حياته في الدنيا حتى أتم هذا البناء، وتركه للعالم الإسلامي صرحاً منيعاً تتحصن فيه الأجيال، وتراثاً غالياً يفاخر به الأبناء والأحفاد جيلاً بعد جيل.
وقد أسهم العلامة السنهوري إسهاماً كبيراً في وضع التقنين المدني العراقي وفق مرجعية الفقه الإسلامي وخصوصاً على المذهب الحنفي؛ إذ كان عضواً في اللجنة التي تشكلت لهذا الغرض، وعهدت إليه بإعداد لائحة القانون لتكون أساساً لبحث اللجنة ذاتها.
وثارت آنذاك اعتراضات كثيرة تفيد بأن تلك اللجنة استبدلت “القانون المدني” الحديث بالفقه الإسلامي عامة، والحنفي الذي تأسست عليه مجلة الأحكام العدلية خاصة. ولكن السنهوري باشا شرح حقيقة ما قامت به اللجنة. وهذه الحقيقة هي أن مشروع التقنين الذي وضعته ليس فيه جديد إلا الألفاظ؛ ذلك لأن القانون المدني العراقي كان موجوداً في صيغة مجلة الأحكام (العثمانية)، وإن كانت تنقصه الصياغة التي تتماشى مع العصر، وينقصه الترتيب والتنسيق والتبويب، وقسط من التحوير والتعديل يقتضيه تطور المدنية؛ فإذا بدا القانون المدني العراقي، بعد هذا الصقل في ثوب جديد، فهي جدة تخفي تحتها تقاليد العراق الفقهية وتراثها العظيم، سالمة مصونة من كل عبث وتشويه، على حد تعبير السنهوري نفسه. (عبد الرزاق السنهوري، من مجلة الأحكام العدلية إلى القانون المدني العراقي- كلية الحقوق جامعة القاهرة- عدد خاص من مجلة “القانون والاقتصاد”- الجزء الثاني، ص3، و4).
لم يكن السنهوري وحده الذي يرى صلاحية الشريعة كي تكون مصدراً للتقنينات الحديثة، بل شاركه الإيمان بهذا الرأي بعض كبار رجال القانون من المسيحيين في مصر منهم مثلاً: الدكتور شفيق شحاته، الذي كان يرى “أن الشريعةَ الإسلامية بحالتها الموجودة من غير تجديد فيها صالحةٌ لأن تكون مصدراً للتقنين”. (شفيق شحاته، الاتجاهات التشريعية في قوانين البلاد العربية- القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية العالية، جامعة الدول العربية، 1960، ص5، وص6). كما شاركه أستاذُه القانوني الفرنسي الشهير إدوارد لامبير الذي أكد على أن: “الشريعة الإسلامية هي مفتاح تطوير النظم القانونية التشريعية في العالم العربي والإسلامي، وأن إغفالها خطيئة في علم القانون”. ولم يكتف السنهوري باستحضار بعض شهادات لفقهاء منصفين من علماء الغرب يؤكدون فيها على صلاحية الشريعة للتطبيق في الواقع المعاصر، ومنهم الفقيه الألماني كوهلر، والإيطالي دلفيشيو، والأمريكي ويجمور. بل وجدناه يقوم هو نفسه بإثبات صلاحيتها وجدارتها، وبرهن على ذلك بأربعة أمثلة- كنماذج فقط- وهي: نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ونظرية تحمل التبعة، ومسؤولية عدم التمييز. وكلها من أحدث نظريات القانون في الفقه الغربي الحديث. ولكل نظرية منها أساس في الشريعة الإسلامية، لا يحتاج إلا للصياغة والبناء، ليوم على أركان قوية، ويسامت الفقه الحديث..
كان السنهوري يرى أن “من السفه أن نبدد ثروةً فقهية تركها لنا الأجداد، ونعيش عالة على غيرنا نتكفف”. وكان أمام السنهوري عند وضع التقنين المدني العراقي نموذجان من بلدان الشرق الإسلامي: تركيا الكمالية، ومصر الملكية. ولكنه وجد أن مصر قد أخذت قوانينها المدنية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر من التقنين الفرنسي، ولم تأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية- فيما عدا الأحوال الشخصية- إلا النزر اليسير. ووجد أن تركيا الكمالية قد اختصرت الطريق، وأخذت التقنين السويسري برمته، ولم تشأ أن تعدل فيه شيئاً، وبذلك هجرت الشريعة الإسلامية. وإزاء هذا الوضع، لم يشأْ السنهوري أن يحتذي بأي منهما في وضع التقنين العراقي المدني، وفضَّل أن يقوم هذا التقنين على عصرية الصياغة والتبويب، والاستفادة دون تحفظ من التقنينات الغربية من ناحية الشكل، وأن تكون الشريعة الإسلامية هي الأساس الموضوعي له من ناحية الموضوع. وبناء على هذا صدر قرار وزارة العدلية العراقية بتشكيل لجنة من رجال القانون لوضع لائحة للتقنين المدني الجديد، ووافقت اللجنة على اعتبار الشريعة الإسلامية أساساً لهذا التقنين.
شرَحَ السنهوري منهجية التقنين العراقي في الأخذ من الشريعة الإسلامية. ومن المفيد أن نعيد إثبات ما قاله هنا لأهميته من الناحيتين النظرية والتطبيقية في عملية التقنين. فبعد أن أكد على أن الشريعة الإسلامية هي أساس التقنين قال: “والخطة المثلى في نظرنا هي أن يعمد واضعُ التقنين الجديد إلى التقنينات الغربية، فيختار أحدثها وأكثرها إتقاناً، ويصوغ من كل ذلك نموذجاً لخير تشريع يراه، دون نظر إلى بلد معين، أو إلى تقاليد معينة. ثم يقرب هذا النموذج من أحكام الشريعة الإسلامية في مذاهبها المختلفة، وفي مختلف الأقوال من كل مذهب. وهو لا بد يستطيع أن يخرج أكثر أحكام نموذجه على قول أو آخر في مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي. وبذلك يظفر لأكثر الأحكام التي اختارها بمستند في الشريعة الإسلامية، يجعله هو الأصل للحكم الذي اختاره. أما بقية الأحكام التي تعدم مستنداً صريحاً في نصوص الشريعة الإسلامية- وهي لا شك قليلة- فإذا لم تتفق مع حالة العراق وظروفها وتقاليدها القضائية، عدل عنها إلى أحكام أخرى مناسبة للبيئة، وإلا فعليه أن يتأول لها، وينظر في تخريجها، حتى توافق قولاً في مذهبٍ من المذاهب.
ولا حجة لمن يعترض على هذا الرأي ويقول: أن الأخذ به لا يختلف كثيراً عن الأخذ بأحكام التقنينات الغربية. فما دمنا سننتهي إلى الأخذ بالنموذج الذي اخترناه من أحدث التقنينات الغربية، فلنأخذ به من الآن، ولا حاجة للرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية. ومثل هذا الاعتراض لا يقوم، فهناك فرق جوهري بين أن نجعل مصدرَ الأحكامِ الصالحة التقنيناتِ الغربية، وبين أن نجعلَ مصدرها الشريعة الإسلامية.
ففي الحالة الأولى نكون قد قطعنا كل صلةٍ بالقديم الأصيل الموروث، وبدأنا حياة قانونية جديدة، نكون فيها عالةً على فقه الغرب وجهوده، نأخذ منه ولا نُعطيه. أما في الحالة الثانية فنكون قد احتفظنا بصلة الماضي، وجعلنا من هذه الصلة أساسًا يقوم عليه المستقبل، واحتفظنا باستقلالنا القانوني، فلا نكون عالة على فقه الغرب، وفي الوقت ذاته نكون قد استفدنا من هذا الفقه إلى أبعد مدى؛ إذ تصبح الأحكام القانونية في مستوى الأحكام الغربية وأرقاها من حيث التنظيم والترتيب. وإذا كنا تركنا الغير يأخذ بيدنا في حلبة السباق إلى حيث يوجد السابقون؛ فإنا بعد أن ندركهم يجب أن نجري على قدمينا، ونكون معهم جنباً إلى جنب في هذا الميدان، فنجعل الشريعة الإسلامية عمدتنا في تفسير النصوص، مادمنا قد جعلنا هذه الشريعة هي مصدر الأحكام التي اخترناها، وبذلك نقيم للشريعة الإسلامية ركنا جديداً من تطبيق القضاء واجتهاد الفقهاء، فتعود شريعة متطورة، تقوم بقسطها من العمل في تدعيم أركان القانون المقارن في عالم الفقه القانوني. أثبت السنهوري هذا المعنى في الكلمة الافتتاحية لكتابه الأشهر “الوسيط” (جزء الالتزامات) قال: “هذه هي الشريعة الإسلامية، لو وطئت أكنافها، وعبدت سبلها، لكان لنا من هذا التراث الجليل ما ينفخ روح الاستقلال في فقهنا وفي قضائنا وفي تشريعنا، ثم لأشرفنا نطالع العالم بهذا النور الجديد، فنضيء به جانباً من جوانب الثقافة العالمية في القانون”.
كان العراق في ضوء مبادرته إلى وضع تقنين مدني مستند على المرجعية الفقهية الإسلامية هو أول بلد عربي اعتز بتراث أجداده، وحرص عليه من الضياع، ولم يشأ وهو يراجع قوانينه المدنية، في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، أن يفرط في هذا الذخر العظيم. وكان السنهوري باشا يرى أنه إذا صحت دعوى العراق بصلاحية الشريعة للتطبيق المعاصر كنظام قانوني، فليس أمام سائر الأقطار العربية إلا أن تقتفي أثر العراق. وكانت دعوته تلك تعبيراً عن إيمانه العميق بأن الاستقلال التشريعي جوهر الاستقلال السياسي وأساسه، وأن أي نقص في هذا الاستقلال التشريعي يعني نقصاً في الاستقلال الوطني، وتكريساً للتبعية.
واقترح السنهوري منهجية متعددة الأبعاد في عملية التقنين وطبقها في التقنين العراقي؛ بدأ فيها بالنص “النموذج” الذي اختاره من بين نصوص التقنينات الغربية الحديثة، سعياً لبلوغ أعلى درجات التنظيم والترتيب والصياغة القانونية باللغة المعاصرة، مع التصرف في النص بما يراه ملائماً للتطبيق، وبما يحقق أعلى درجة من الوضوح والملاءمة. ثم أردف السنهوري ذلك بالنصوص الواردة- بشأن هذا النموذج المختار- في “مجلة الأحكام العدلية”، ثم بما ورد في مرشد الحيران لمحمد قدري باشا. وبعد ذلك قام بتوضيح أسباب اختياره للنص النموذج برؤية مقارنة. وعلى هذا صدر القانون المدني العراقي برقم 40 لسنة 1951م ونشر في الوقائع العراقية (عدد 3015 بتاريخ 8/9/1951)، وصار قيد التنفيذ بعد عامين من صدوره؛ أي في 8/9/1953، طبقاً لنص المادة 1382 منه.
ومما يجدر ذكره هنا أن وزارة العدل العراقية ألفت بتاريخ 7 فبراير (شباط) 1959 لجنةً لوضع لائحة الأحوال الشخصية، وقد استمدت مبادئها مما هو متفق عليه من أحكام الشريعة، وما هو مقبول من قوانين البلاد الإسلامية، وما استقر عليه القضاء الشرعي في العراق. واستطاعت اللجنة صياغة مشروع قانون للأحوال الشخصية والذي صدر بالقانون رقم 188 لسنة 1959. واشتمل على أهم أبواب الفقه في الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية الجامعة لمسائل الزواج والطلاق والولادة والنسب والحضانة والنفقة والوصية والميراث. وأخذ هذا القانون أحكامه من جميع المذاهب الإسلامية، ولم يقتصر على المذهب الحنفي. وجرى تطبيق أحكام القانون دون النظر إلى مذهب العراقي (سنياً كان أم شيعياً)، إذ إن القانون المذكور يشكل حالة وسطية وشاملة يتم تطبيقها على عموم مسلمي العراق؛ عراقيين كانوا أم من غير العراقيين.
3 واشنطن ـ طهران و««بريينغ مانتيس» 2» إميل أمين الشرق الاوسط السعودية
حين تحدث وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو منذ بضعة أيام عن تقديرات بلاده وأجهزتها الاستخبارية لنشاط إيراني وتصعيد محتمل في المنطقة، بل تهديدات جادة من قوات النظام الإيراني، لم يكن الرجل يتحدث من فراغ، بل كانت لديه معلومات قطعية عن تجهيزات إيرانية لإشعال منطقة الخليج العربي، وربما كذلك حوض البحر الأبيض المتوسط، عبر وكلائها، ومن خلال تهريب صواريخ مختلفة الأنواع، منها ما هو باليستي، ما استدعى تحريك طائرات «بي – 52» من قواعدها في جزيرة «دييغو غارثيا»، في المحيط الهندي.
الأمر الشديد الندرة في تحركات الولايات المتحدة العسكرية في العقود الأخيرة.
في أوائل الشهر الحالي كانت سفينة إيرانية تحمل صواريخ إلى ميناء مصراتة الليبي، بغرض نقلها إلى متمردي طرابلس والإرهابيين هناك، فيما يبدو أنه استعداد لإفشال أي جهود أميركية على الأراضي الليبية، بل محاولة إعاقة حركة قطع البحرية الأميركية في مياه المتوسط.
المتابع للوكالات الاستخبارية التي تعرض قراءاتها على الشبكة العنكبوتية في مقابل مالي لتقارير مثيرة، يدرك أن هناك من حلفاء واشنطن وغالباً إسرائيل، هم من زوّد الأميركيين بمعلومات حاسمة عن قوارب متنقلة تحمل صواريخ، كفيلة بإحداث أضرار كبيرة في الخليج العربي حيث مصالح واشنطن، وكذا مصالح حلفائها ستكون مهددة.
السؤال الجدير طرحه؛ هل طهران والملالي بالفعل جادّون في خيار المواجهة العسكرية مع الجانب الأميركي؟
العقلانية تقتضي تؤدة وتفكيراً عميقين قبل الجواب، مع استعمال وسائل مساعدة في التفكير تتصل بتصريحات وتطورات المشهد الإيراني الداخلي.
لتكن البداية محاولة استقراء توجهات وشهوات قلب قائد «الحرس الثوري» الإيراني الجديد اللواء «حسين سلامي» الذي ادّعى ذات مرة أن هناك في لبنان أكثر من 100 ألف صاروخ قائم جاهزة للانطلاق، في إشارة لا تخطئها العين جهة من ستوجه إليه تلك الصواريخ.
في فبراير (شباط) الماضي، كان «سلامي» يتوعد بخطط «لكسر أميركا وإسرائيل وحلفائها»، ومضيفاً: «يجب على قواتنا البرية أن تطهر الكوكب من – ما سماه – قذارة هذا الوجود».
خبرة «سلامي» البحرية العسكرية تلفت النظر، فقد كان الرجل مسؤول عمليات قاعدة نوح البحرية، أثناء الحرب مع العراق، ما يربط بينه وبين خطط طهران لنشر صواريخ في مياه الخليج، ومحاولة إعاقة الملاحة الدولية في مضيق هرمز.
يدرك الإيرانيون أن إدارة الرئيس ترمب حاسمة وجازمة في قرارها تصفير نفط إيران. الأمر الذي يعود بنا إلى رؤية طهران التي لم يبح بها كبار ملاليها، وهي إغلاق المضيق حال عدم تمكنهم من تصريف منتجاتهم النفطية.
على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد غير المقبول أصلاً من واشنطن وبقية عواصم العالم، ولا سيما أنه مع ارتفاع كل دولار في سعر برميل النفط، يدرك الأميركيون أنه يوفر لخزينة القيصر الروسي ملايين الدولارات. الأمر الذي يعني أرباحاً غير مقصودة لأحد أكبر الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة.
الإيرانيون لديهم بالفعل خططهم لإلحاق الضرر البالغ والأذى الكبير بالقوات الأميركية في العراق وسوريا، ومن هنا يمكن للمرء أن يقرأ بعمق أبعاد زيارة بومبيو إلى بغداد، وتأكيداته لقادتها بأن واشنطن ملتزمة بأمنها، ما يمكن أن يعد تطميناً رسمياً ومحاولة في الساعة الحادية عشرة لتأكيد وجود العراق الرسمي على الأقل في صفّ العم سام.
لن يقصر وكلاء إيران من الحوثيين في اليمن أيضاً عن إبداء تعاطفهم مع مواليهم، وذلك من خلال تدبير هجمات في باب المندب لإعاقة مرور السفن الدولية الحاملة لتجارة العالم ونفطه على حد سواء.
هل تنوي واشنطن الحرب على إيران؟
مؤكد يبقى خيار استخدام القوة العسكرية حاضر أبداً ودوماً على طاولة القوة العسكرية الأولى في العالم، غير أن جون بولتون، صقر المحافظين الجدد، يؤكد أن واشنطن لا تسعى إلى الحرب، لكنها من خلال قوة النيران الهائلة التي أرسلتها للمنطقة تبعث برسالة واضحة لإيران، مفادها أن أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها سيقابل بما يعيد للإيرانيين ذكرى قارعة حلت بهم العام 1988… ماذا عن هذا؟
باختصار غير مخلٍ، حدث في 14 أبريل (نيسان) من ذلك العام أن اصطدمت فرقاطة الصواريخ الموجهة الأميركية «يو إس إس صموئيل» بلغم بحري، حين كانت تبحر في مياه الخليج العربي. الأمر الذي أحدث بها ثقباً بقطر 4 أمتار ونصف متر في هيكلها، قبل أن تنقذها البحرية الأميركية من الغرق.
خلال التحقيقات، أدرك الأميركيون من الأرقام المسلسلة على الألغام أنها إيرانية، ومن هنا كانت القارعة التي استمرت 4 أيام عبر عملية «بريينغ مانتيس» (فرس النبي)، وكبدت إيران منشآت بحرية واستخباراتية على منصتي نفط، وإغراق 3 زوارق سريعة مسلحة، وفرقاطة واحدة، وزورق هجومي، وإصابة الفرقاطة سابالان، وفقدان نصف الأسطول العملياتي، ومقتل 55 عنصراً من البحرية الإيرانية.
وبمقارنة القوات البحرية والجوية والصاروخية الأميركية القائمة، والقادمة في المنطقة هذه الأيام، بما توافر وقت تلك العملية «فرس النبي – 1» من حضور لوجستي للأميركيين، تضحى فوهات الجحيم مفتوحة على الإيرانيين….
هل نحن على مقربة من ««بريينغ مانتيس» – 2»؟
4 إعادة بناء المشهد الريادي في العراق
باتريشا ليتايف،
اخبار الخليج البحرينية
يحاول العراق الآن النهوض بعد عقود من النزاعات المدمرة، ويشهد ولادة منظومة للشركات الناشئة.
تأسست «فايف وان لابس» في العراق لتصبح الحاضنة الأولى للشركات الناشئة في الدولة لمساعدة رواد الأعمال من اللاجئين والمتأثرين بالنزاعات على تأسيس أعمالهم في الشرق الأوسط، ما يعكس التقدم الذي تم إحرازه على هذا الصعيد.
وتهدف الحاضنة، التي أقيمت في منطقة كردستان العراق، إلى تمكين الأفراد من إعادة بناء حياتهم والإسهام في النمو الاقتصادي لمجتمعاتهم.
يُقدم لرواد الأعمال في «فايف وان لابس» التدريب والإرشاد على أيدي رواد أعمال على مستوى عالمي ويحاطون بمجتمع من رواد التغيير المبدعين الذين يتشاركون تجاربهم سوية.
وتعليقًا على هذه المبادرة، تقول باتريشا ليتايف الشريكة في تأسيس الحاضنة: «ترمي رؤيتنا الى إنشاء شبكة شمولية من المبتكرين ورواد الأعمال وتقديم الدعم والمهارات والعلاقات لهم لمساعدتهم في التأثير في مجتمعاتهم وبلدانهم بشكل إيجابي.
وقد أدت النزاعات إلى تزعزع المنظومة، وكان هذا دافعنا الأساسي لإنشاء هذه المؤسسة.
مثلًا، تم تهجير أحد رواد الأعمال لدينا عدة مرات قبل وصوله الى كردستان التي ارتاد فيها أربع جامعات مختلفة في أربع مدن قبل أن ينال شهادته».
وأضافت: «نحن نقدم المقدار الأدنى اللازم من الدعم وخصوصًا للمهجرين الذين يفتقدون شبكة محلية وليس لديهم رأس مال».
خرّجت الحاضنة حتى الآن 11 شركة منها مزرعة لألبان الجواميس وشركة لتوفير خدمات مجالسة الأطفال ومنصة تقنية طبية.
تقول مديرة العمليات إنها تتطلع الى ضم عشر شركات جديدة في صيف 2019.
مشهد مزدهر للشركات الناشئة
بالرغم من أن بغداد عاصمة العراق تعاني من النزاعات والحروب منذ أكثر من 10 سنوات، فإنها أصبحت موطنًا للشركات الناشئة «المزدهرة» منذ سنوات، على حد قول ليتايف.
وأضافت قائلة: «إن مشهد الشركات الناشئة في أول عهده في العراق، لكنه يشهد مؤخرًا ازدهارًا واضحًا. هناك عدة شركات تقنية تدرّ دخلًا معقولًا، منها شركات توصيل المواد التموينية وتطبيقات النقل بحسب الطلب وكذلك شركات محلية على غرار شركة أمازون العالمية».
كما أوضحت ليتايف أن «اهتمام الشباب بإنشاء شركاتهم الخاصة قد ازداد في آخر بضع سنوات بدعوى محدودية فرص العمل المتوافرة إثر الأزمة الاقتصادية. ما عاد الناس ينتظرون فرص العمل أن تأتي إليهم، بل صاروا يوجدونها بأنفسهم. من هذا المنطلق، فإن تزايد اهتمام الكثير من الشباب بريادة الأعمال كان من حسن حظنا».
إلا أن ليتايف تقرّ بأن بيئة الأعمال «محفوفة بالتحديات حقًا» في العراق. وتأتي ملاحظتها هذه مدعومة بآخر تصنيفات سهولة ممارسة الأعمال الصادرة عن البنك الدولي، إذ حل العراق في آخر القوائم.
وأكدت مديرة العمليات قائلة: «إن البنى التحتية جيدة إلى حد ما، وهناك تغطية جيدة جدًا لتقنية «الجيل الثالث» عبر مختلف أنحاء البلاد، ما يساعد في ربط الناس بسهولة. ومن ناحية القدرة على توسعة العمليات، فإن الناس مستعدون لإنشاء الشركات.
لكن هناك معيقات يفرضها القانون، منها على سبيل المثال غلاء تكلفة تسجيل شركة. كما يُطلب ممن ينشئ شركة أن تكون لديه مساحة مكتبية خاصة به ومحامٍ ومحاسب متوافر. الوصول الى التمويل محدود جدًا وتفتقر الدولة الى قانون للملكية الفكرية.
وأردفت قائلة: «ليست البيئة في العراق جذابة لرواد الأعمال حاليًا، لكن هناك دعم كبير من البنك الدولي الذي يجري تقييمًا بهدف تقديم توصيات للحكومة ستساعد في إنشاء وتسجيل الشركات بسهولة أكبر».
تجدر الإشارة إلى أن «فايف وان لابس» تستمد حاليًا تمويلها من المتبرعين، لكن ليتايف تأمل أن ترى استثمارًا من الشركات ورؤوس الأموال المغامرة مع الوقت.
وأضافت قائلة: «هناك عدة أسباب للاستثمار في الشركات الناشئة العراقية. فمن جهة، آن الأوان أن يُعاد إعمار الدولة، والاستثمار في الشركات الناشئة وسيلة ممتازة للإعمار ورد الجميل للوطن، وهذا يؤدي الى تحقيق الأثر.
كما أن هناك الكثير من الموهوبين والأذكياء الذين يأتون بأفكار رائعة، ومن وجهة نظري إن أفضل من سيقوم بإعمار العراق هم رواد الأعمال من أهلها. وأما بالنسبة للمهتمين بالأسواق العالية الخطورة، فهناك العديد من الفرص في العراق لأنه الآن حقل مفتوح».
5 هل نحن أمام سياسة أميركية جديدة لردع إيران
عبدالباسط سيدا
العرب بريطانيا
تحركات دبلوماسية أميركية، وتصريحات، وعقوبات غير مسبوقة، واتصالات مع مختلف الأطراف، توحي بسياسة أميركية مغايرة لتلك التي اعتمدها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما نحو إيران، سياسة ترمي وفق ما هو معلن إلى كبح الجهود الإيرانية الهدّامة في دول المنطقة ومجتمعاتها.
إن وصول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في زيارة مفاجئة إلى العراق يدخل ضمن إطار التحركات المعنية، وذلك بعد سلسلة خطوات انفتاحية اعتمدها فريق الحكم الجديد في العراق برئاسة عادل عبدالمهدي؛ خطوات استهدفت تعزيز العلاقات بين العراق ومحيطه العربي على أمل استعادة التوازن بعض الشيء في المعادلات الإقليمية التي تؤثر عراقيا. ويتمثل ذلك في حالة توزع مراكز النفوذ، والاصطفافات والاستقطابات التي تتسم بها لوحة القوى السياسية والعسكرية العراقية الحالية بانتماءاتها وتوجهاتها المختلفة.
ما يضفي أهمية خاصة على زيارة بومبيو أنها جاءت في أجواء تصفير تصدير النفط الإيراني، وفرض حزمة جديدة من العقوبات الأميركية التي شملت قطاع المعادن. هذا إلى جانب إعلان الحرس الثوري منظمة إرهابية، فضلا عن اتخاذ القرارات بحق العديد من المسؤولين الإيرانيين، وقيادات حزب الله. كل هذه الخطوات تؤكد وجود توجّه جديد في السياسة الأميركية نحو إيران، وهذا ما يُستشف أيضا من التحركات العسكرية الأميركية التي تمثلت في إرسال حاملة الطائرات أبراهام لينكولن، وقاذفات بـ52 إلى المنطقة. وليس من المستبعد أن تكون هناك خطوات أخرى تتمثل في تعزيز إمكانيات القوات الأميركية الموجودة في العراق أصلا، أو تلك التي يمكن أن تصل إليه في أي لحظة.
وما يستنتج من مختلف التحركات هو أن العراق لن يكون، مثلما كان منذ سقوط نظام صدام حسين وحتى الآن، ساحة مفتوحة للتواجد الإيراني الذي تحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع. وهناك عوامل داخلية عراقية تساعد السياسة الأميركية، منها حالات الفساد الفلكية التي اتسمت بها حكومة نوري المالكي التي كانت تابعة في كل شيء للنظام الإيراني. ولم تكن حكومة حيدر العبادي نفسها بعيدة عن أمر كهذا. وقد ولّدت تلك الحالات تذمرا لافتا في الشارع العراقي بصورة عامة، وفي الشارع الشيعي الوطني في الجنوب على وجه الخصوص، كما الإخفاق في معالجة تبعات ملف الموصل، ومناطق سنجار، بالإضافة إلى الأسئلة التي مازالت تنتظر الإجابات، وهي الأسئلة التي تدور حول العوامل التي ساعدت داعش في السيطرة السريعة على الموصل والمناطق المحيطة بها بما في ذلك سنجار.
يضاف إلى هذه العوامل، تمكّن الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني من فرض نفسه عبر الانتخابات على المستويين الكردي والعراقي العام، الأمر الذي حقق توازنا في هذين المستويين. هذا إلى جانب التوافق الذي تم حول عادل عبدالمهدي رئيسا للوزراء؛ وهو توافق لم يكن له أن يتم لولا الضغط الأميركي، والتراجع الإيراني الاضطراري.
أما سوريا، فيبدو أن حالة مناطق النفوذ ستدوم إلى حين آخر. وهذا معناه أن الولايات المتحدة ستستمر في استخدام ورقة منطقة شرقي الفرات ضمن إطار حساباتها الخاصة بتوازنات الوضعية العراقية، والاحتمالات المستقبلية. وهي ورقة مهمة على صعيد ضبط العلاقة مع تركيا في سياق عملية إعادة صياغة معادلات ضبط المنطقة من جديد.
ورغم ما يُشاع هنا وهناك حول خلافات أميركية روسية بشأن الملف السوري، إلا أنه في التوجّه العام يُلاحظ وجود توافق على الخطوط العامة من جهة تحديد مناطق النفوذ، وإعادة رسم الحدود بينها من حين إلى آخر، وذلك لاعتبارات ميدانية، وأخرى تتصل بحسابات إقليمية. ولعل تصريحات جيمس جيفري الأخيرة بخصوص التفاهم مع الروس حول ما يجري في جنوب إدلب وشمال حماة، تؤكد استمرارية التفاهمات رغم التصريحات المتشنجة التي تصدر عن المسؤولين الروس، وهي تصريحات باتت جزءا من عُدّة الشغل إذا صح التعبير.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل سيستمر التفاهم الأميركي الروسي بخصوص ترتيب الأوضاع في سوريا، أو على الأقل المحافظة على عملية توزّع القوى الأجنبية المنخرطة في عملية الصراع على البلد إلى حين آخر، وذلك ريثما تتبلور ملامح التطورات المقبلة التي ستشهدها الساحة العراقية؟ أم أن روسيا لن تتخلى عن تحالفها مع الإيرانيين، وتفاهماتها مع الأتراك، وذلك استعدادا لمعرفة تبعات الجهود التنافسية مع الأميركان في ساحات أخرى. وما يستنتج من القرائن المتوفرة حاليا هنا وهناك، هو أن اللوحة السورية لن تشهد تغييرات دراماتيكية في المدى المنظور، وربما على مدى العامين القادمين. لأن المسرح مهيّأ للمشهد العراقي الذي سيؤثر بطبيعة الحال في المشهدين السوري واللبناني.
وفي الحالة العراقية، هناك دور لافت للقوى العراقية الداخلية التي ستضطر، في حالة اشتداد الضغط الأميركي، إلى إعادة النظر في مواقفها ومواقعها من التنافس الأميركي الإيراني. وهي حالة ليس من المستبعد أن تتحول إلى وضعية صراع غير مباشر عبر القوى الإقليمية والمحلية، وربما إلى صراع مباشر محدود إذا ما أصرّت إيران على التصرف وفق شعاراتها المعلنة.
وتبقى أسئلة معلّقة مفتوحة بخصوص الدور العربي في التقريب بين العراقيين، غير المرتاحين، بمختلف انتماءاتهم، للتغلغل الإيراني في العراق، واتخاذه قاعدة للانتشار في دول المنطقة، وتهديد الأمن والاستقرار فيها.
يبدو أن المنطقة ستشهد صيفا ساخنا، ولكن هل سيقتصر ذلك على الجانب الدبلوماسي، والتشدد في اتخاذ المزيد من العقوبات والإجراءات التهديدية الرادعة؟ أم أنه سيتجاوز ذلك إلى اشتباك عسكري محدود، ربما يكون مقدمة لصراع أوسع يكون مدخلا لعملية تفاهمات دولية إقليمية جديدة، ولكن بشروط تتناسب مع المتغيرات التي كانت، والحسابات المستقبلية؟
الجميع في انتظار ماهية الموقف الأميركي الذي ليس من السهل التكهن به. فهناك حسابات كثيرة معقدة تؤخذ بعين الاعتبار في أي سعي يتناول ترتيب الأوضاع مجددا في منطقة هامة كمنطقة الشرق الأوسط. كما أن حملة الانتخابات الأميركية باتت على الأبواب، وهي تؤدي عادة إلى إرجاء البتّ في القرارات الصعبة، ولكن من يدري، فربما تتخذ الإدارة الحالية من عملية الإقدام على مثل هذه القرارات متكأ للاستمرارية.