غزو العراق: عودة أمير الظلام تشيني

ما زالت حلقات تقييم الغزو الامريكي على العراق عام 2003 تعتمل داخل الولايات المتحدة وآخرها فيلم Voice للمخرج آدم ماكي، الذي يرسم فيه صورة قاتمة “لأمير الظلام” ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن.

عن قريب ستبث قاعات السينما في الولايات المتحدة فيلماً تمت الدعاية له بشكل لافت، للمخرج الأمريكي آدم ماكي Adam Mckay بعنوان Vice، عن نائب الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد (ديك) تشيني. الكلمة صعبة الترجمة لأنها تحتمل معنين، معنى النائب، باعتباره كان نائباً للرئيس الأمريكي بوش الابن، ولكنها تحمل معنى الرذيلة أو الخسة كذلك. وهو ما يرمي إليه صاحب الفيلم، باعتبار ديك (الصيغة المرخمة لريتشارد) تشيني المسؤول الأول عن دخول الولايات المتحدة مستنقعاً أضر بمصالحها وبدورها وصورتها.

وغاية الفيلم الوقوف عند محطة 2003 التي أخلفت فيها الولايات المتحدة الموعد مع التاريخ حين شنت الحرب على العراق، ليس للقضاء على نظام صدام حسين فحسب بل لرسم معالم الشرق الأوسط، ووضعه على سكة “الدمقرطة، وإدماجه في السوق العالمية”.

كانت الولايات المتحدة مسنودة بجيش من “الخبراء” يَعِدون بجعل العراق منارة منها تسطع أنوار الديمقراطية والحرية والحكم الرشيد، والتمكين للمرأة، وتقوية القدرات، من المفاهيم التي كانت تخرج من رحم مراكز بحث مُغْرضة و مُوجَّهة، مثل معهد American Entreprise Institute، أو نصائح الخبير الأمريكي من أصل لبناني فؤاد عجمي، بتبني المقاربة الطائفية والاعتماد على الأكراد والشيعة في إرساء معالم نظام الحكم في العراق. بل حتى صحافي لامع، مثل فؤاد زكريا، نصح بأن يجعل من العراق ألمانيا ثانية، أي يطبق عليه ما طبق على ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، بحل الجيش، وتعقب فلول النازية. وهكذا طُبقت الوصفة الطائفية، وتم حلُّ الجيش، وتعقُّب كل من حمل بطاقة حزب البعث، عن إيمان أو ضرورة، والنتيجة ما نعلم.

لم يعد أحد يتستر على أن ما أدخل المنطقة في نفق مظلم، وكان من نتائجه تأجيج التطرف واستفحال المواجهات الطائفية هو غزو 2003. الشعوب كما الأفراد محتاجة إلى مشجب، والمشجب بالنسبة للأمريكيين هو ديك تشيني، ولو أنه في حقيقة الأمر، لم يكن إلا عنواناً لسياسية ومتحدثاً باسم اتجاه عام في الولايات المتحدة، وبخاصة في البنتاغون، إذ لا ننسى أنه تقلَّد حقيقة وزارة الدفاع في عهد بوش الأب وكان مرة أخرى عراب الحرب على العراق سنة 1991، وهو من قدِم إلى الملك فهد في قصره بجدة، ليريه صور الأقمار الاصطناعية لأربع دبابات توغلت لأمتار في التراب السعودي، والخطر المحدق الذي يشكله العراق على السعودية، لتسويغ التحالف الدولي. كان تشيتي متحدثاً باسم صقور البنتاغون والمركب العسكري الصناعي، من أجل بث رسالة للعالم، عقب انتهاء الحرب الباردة، مفادها أن الولايات المتحدة ذات السؤدد  الذي لا ينازع، والقطب العالمي الوحيد.

إلا أن حرب 1991 لم تكن موفقة، لأنها أخلفت ما دعت له من نظام عالمي جديد، ووقعت في صورة كاريكاتورية له، وهي سياسة الكيل بمكيالين في قضايا عدة، وحملت الضغينة والتقاطب الحضاري الذي كان يريده ويسعى له دعاة الصدام الحضاري.

ولم يكن غزو 2003، موفقة كذلك، لأنها هلهلت العراق، وأضعفت بنية الدولة، وأججت الصراعات الطائفية، وثلمت صورة أمريكا في العالم، ورسمت شرخاً مع حلفائها، من قبيل فرنسا وألمانيا وروسيا، ممن نعتهم وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد بأوروبا العجوز.

من نتائج إضعاف بنية الدولة في العراق، الهشة أصلاً، بعد عشر سنوات من الحصار، الرمي بالعراق في براثن ما يسمى بالدولة الفاشلة. كل دولة فاشلة، أو نظام مهلهل، يصبح مرتعاً للتنظيمات المتطرفة. أليست ” داعش، فحركة التوحيد والجهاد التي تزعّمها أبو مصعب الزرقاوي، كلها “الابن الطبيعي” عن طريق اغتصاب من خلال حرب 2003؟

لم يعد الأمريكيون الآن يتسترون على أن حرب 2003 لم تكن ضرورية، وغير ذات جدوى، وذات نتائج سلبية، ليس على منطقة الشرق الأوسط وحدها، بل على العالم، من خلال تأجيج الإرهاب الدولي، وهو ما أسر به مسؤول سابق كبير في الوكالة المركزية الأمريكية، ممن اشتغل في العراق، وكان المسؤول الأول لاستجواب صدام حسين، وضمّن تجربته في كتاب بعنوان “استجواب الرئيس” Debriefing The President، يوحنا نيكسون John Nixon. يعترف الكاتب بأن حرب 2003 لم تكن موفقة، ويعترف أن نشأة “داعش الارهابي هو من نتائج تلك الحرب.

تُحمّل الصحافة الأمريكية مسؤولية هذا الانزياح السلبي إلى تشيني، وتنعته بذات اللقب “أمير الظلام” الذي نُعت به واحد من صقور المحافظين الجدد، والداعين للحرب، بيرل. لقد أضحى نعت “أمير الظلام” ليس لقباً لشخص، بل عَلماً على اتجاه، وعنواناً على مرحلة.

لكن هل “أمير الظلام” فترة من الماضي، تحيل لصقور الحرب على العراق، أم أن “أمير الظلام” تحيل إلى قصور في الرؤية؟ تعترف كثير من الأقلام الرصينة، والأصوات الحصيفة، أن سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، تُجهز على ما سمي بالسلام الأمريكي  الذي انتظم عقب الحرب العالمية الثانية. يهزأ ترمب من الدبلوماسية المتعددة الأطراف، ولا يقيم وزناً للأمم المتحدة، ولا للتحالف الأطلسي، ولا يتحدث باسم المبادئ، ولكنه انطلاق من التكلفة، ويهيب بالحلفاء أو من هم في حكم الحلفاء بالأداء، ولا يعد العلاقات الدولية ميداناً تطبعه القواعد والدبلوماسية بل القوة والمصالح، وبقدر ما ينأى من مبادئ حقوق الإنسان، يشيد بأنظمة سلطوية.

هل على العالم أن يستفيق يوماً على فيلم بعنوان “الرئيس” يرسم فيه الموعد المخلف من لدن الولايات المتحدة، ليستخلص العبرة من هذا الانزياح غير المأمون العواقب؟

لقد كان العالم السوسيولوجي إيمانويل تود محقّاً، حين قال بأن الولايات المتحدة كانت منذ الحرب العالمية الأولى الحل لمشاكل العالم، ولكنها أضحت عقب الحرب الباردة، مصدر مشاكله. هل هناك عنوان لنجاح لهذه المرحلة؟ النظام العالمي الجديد؟ مسلسل السلام “النيو ليبرالية؟ دمقرطة الشرق الأوسط”، وزد على ذلك. يسعى كاتب الدولة الحالي، بومبيو، أن يتدارك هذا الانزياح من خلال زيارته لمنطقة الشرق الأوسط، لطمأنه بعض قادته وحشد الدعم للإدارة الأمريكية والشراكة الإستراتيجية وللتسويق لشعار “أمريكا طالع يُمن للشرق الأوسط”. وهل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ؟