1 في انفتاح الرياض على بغداد
محمد حسن الحربي الاتحاد الاماراتية
«العراق الذي نتطلع إليه ونريده، هو العراق العربي الخالص، العراق القوي، الآمن والمستقر والمزدهر، العراق الديمقراطي». في هذه السطور التي تضمنتها كلمة رئيس البرلمان الكويتي، مرزوق الغانم، في مؤتمر اتحاد البرلمانيين العرب في دورته الـ13 التي انعقدت السبت الماضي، في محافظة أربيل شمالي العراق، أجملت مضامين الخِطب التي تلت، بل شكلت عاملاً مشتركاً أوردته بقية الوفود في كلماتها. سطور لامست الكثير من نوايا الحضور وتطلعاتهم إلى عراق المستقبل، الناهض من قلب الرماد، بعدما قضى على الإرهاب بشجاعة، وأنهى أحلام تنظيم (داعش) ربما إلى الأبد.
غير أن المطلوب من العراق في طريقه التنموي غير القصير، هو كثير، أقله القضاء على الفساد المالي والإداري. وهذه المهمة على صعوبتها، واقترابها من المستحيل، في مخيال العامة من العراقيين، إن تحققت، فستُخرج العراق من قائمة الدول العشر الأكثر فساداً في العالم، ليستعيد بعدها عافيته شيئاً فشيئاً وينخرط في خطط تنموية جادة وحقيقية، ليس فيها، للمحاصصة السياسية الطائفية، نصيب أو تحكّم. ويعود بعدها إلى مكانه الحقيقي في الحضن العربي. هذا ما نريده للعراق في مسيرته التي ستبدأ بعد قليل من الوقت، وبدفع عربي جاد من الدول العربية، وبالخصوص، دول الخليج العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بصفتها إقليم قاعدة ودولة وازنة على المسرح العربي – الإسلامي، وكذا المسرح العالمي، برهنت على ذلك الاتفاقات التي جرى التوقيع عليها في الرياض، أثناء زيارة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، لها، يوم الأربعاء الماضي، وهي اتفاقات تغطي مجالات عدّة من بينها الاستثمار في مجال الطاقة.
ما حدث للعراق من قبل محيطه العربي، ليس قليلاً، وعلينا الحرص على ألاّ يتكرر مستقبلاً، فنتيجة لأخطاء استراتيجية ارتكبها بعضنا نحن العرب في التعامل معه بعد سقوط بغداد عام 2003م، حصل هنالك فراغ سياسي دام لوقت طويل، مما دفع إيران إلى استغلاله واستثماره فيما بعد لتحقيق أهداف عدّة، وتحقق لها ما أرادته، فسرحت ومرحت في العراق عرضاً وطولاً، وتعاملت معه كطرف مهزوم، عليه القبول بما يُملى عليه في إطار انتقامي لا يعرف الرحمة ولا قيم الجوار، فعمى البصيرة جعلها لا تفصل بين الخلافات السياسية السابقة – ما قبل عام 2003م – وبين رغبتها في الانتقام لهزيمتها، وتصدير ثورتها إلى العراق لتنطلق منه إلى دول عربية أخرى. لقد تحقق لإيران ما لم يكن ممكناً أن يتحقق فيما مضى من التاريخ، لتتخلص من طعم المرارة على إثر هزيمتها المدوية أمام الجيش العراقي الذي ذهبت ريحه بعد الاحتلال الأميركي لأرض الرافدين. إن هذه «الهبة» العربية التي شكلت الرياض منطلقها، في الانفتاح على العراق وشعبه تثلج صدور كل العرب الشرفاء الذين يعلمون جيداً، أن نهوضهم من كبواتهم الطارئة، وما أكثرها، إنما تكمن في تفاهمهم وتقاربهم واتفاقهم وتكاملهم. ويبقى سؤال: هل سيتم البناء على هذه الانطلاقة الخليجية بالانفتاح على العراق، ليجري تعميمها على دول عربية أخرى منتظرة؟.. لا يسعنا إلاّ الدعاء.
2 نحن.. والعراق
سلطان عبدالعزيز العنقري المدينة السعودية
جمهورية العراق بلدٌ شقيق، غالٍ على قلوبنا، فهو أوّلاً وأخيراً بلد عربي، يحتضن حضارة من أقدم الحضارات، حضارة وادي الرافدين.. والعراق يُشارك المملكة العربية السعودية حدوداً لأكثر من 800 كيلو متر، تمتد من محافظة طريف بالقرب من الحدود الأردنية في الغرب إلى محافظة حفر الباطن بالقرب من الحدود الكويتية في الشرق. وللمملكة منفذ بري هو الأكثر أهمية شمال شرق محافظة عرعر، وهو معبر «جديدة عرعر»، والذي سيُسهِّل عملية التنقُّل سواء بالنسبة للتجارة، أو لعبور المسافرين بين البلدين، أو الحجاج والمعتمرين، وستَنشَأ عليه سوق حُرَّة تخدم البلدين خلال شهور قليلة. ولذلك وجود تَحوُّل وتقارب بين المملكة والعراق وتوقيع مذكرات تفاهم، واتفاقيات تعاون، ليس بالأمر المستغرب، بل المستغرب هو انزعاج الشاذ الإرهابي «خامنئي» لهذا التقارب، الذي سيُحرِّر العراق من الاستعمار الفارسي، الذي سلَّمه له الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على طبقٍ من ذهب، للآيات والملالي الشواذ، في قم وطهران، والهالك الخميني، أتى على عجل على الخطوط الفرنسية، مِن منفاه في باريس، ليُصدِّر الثورات والمحن، بل ويُدمِّر عالمنا العربي، ويفعلوا بالعراق وغيره من البلدان العربية ما يشاءون، لتدميرها وتدمير حضاراتها، وتم لهم ذلك في بعض البلدان العربية!.
العراق عضو مُؤسِّس في جامعة الدول العربية، وعضو في الأمم المتحدة، ومع ذلك تُستباح أراضيه، ويُقتَل شعبه، وتُنهب ثرواته كدولة منتجة للنفط، وكدولة زراعية، من خلال الإرهابي خامنئي، الممتعض من هذا التقارب السعودي العراقي، وكأن العراق إحدى محافظات إيران، وليس دولة عربية ذات سيادة على أراضيها وشعبها وقراراتها الداخلية والخارجية!
هذا النازي خامنئي يقطع الكهرباء عن العراق في عزِّ الصيف والحر، والسبب أن العراق لم يُسدِّد ما عليه من التزاماتٍ مالية لإيران! في حين أن السعودية ستُزوِّد العراق بالكهرباء بربع قيمة ما تُزوِّده إيران للعراق، بل وبشكلٍ ثابت، ومهما عانى العراق من أزماتٍ مالية، فإن السعودية لن تقطع الكهرباء عن الشقيقة العراق.
إن الخوف على الاتفاقيات المشتركة بين السعودية والعراق الشقيق من محاولة العبث بها مِن قِبَل إيران، يتوجَّب حمايتها، ليس فحسب من الحكومة العراقية الحالية، أو المستقبلية، بل يتوجَّب أن تتم حمايتها من القطاع الخاص العراقي، ورجال الأعمال العراقيون، والغرف التجارية العراقية، وكذلك مصرف العراق الذي سوف يُفتَتح في المملكة، وللسعودية الحق أن تحمي استثماراتها المشتركة مع العراق، حتى لا تُفشلها التدخلات الإيرانية، بل قد تحاول إيران في المستقبل الاستحواذ على تلك الاستثمارات، وتخسر السعودية، ويخسر رجال الأعمال أموالهم التي استثمروها في العراق. فالسياسة غير المستقرة في العراق، سببها التدخُّلات الإيرانية -سابقاً- في تشكيل الحكومات العراقية من خلال الحرس الثوري الإرهابي، والحشد الشعبي، الذي يخضع لأوامر وتوجيهات الإرهابي المجرم قاسم سليماني، فالمعروف أن رأس المال جبان، يهرب عندما يجد عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، ولذلك أتوقَّع أن تضع السعودية بنية جميع مشاريعها التنموية المشتركة على أراضيها، في منفذ جديدة عرعر، بما فيها الكهرباء والاتصالات… وغيرها من المشاريع التنموية لتكون تحت نظر وحماية السعودية، وتكون هناك تسهيلات كبيرة من خلال خفض أو إلغاء الرسوم الجمركية، وحرية الحركة للقطاعين الخاص ورجال الأعمال العراقيين والسعوديين.
وأخيراً، نُرحِّب بالعراق الشقيق وبأشقائنا العراقيين؛ في بلدهم الثاني، المملكة العربية السعودية.
3 صوت جديد للشيعة العرب
نديم قطيش الشرق الاوسط السعودية
بدأ الرئيس الإيراني حسن روحاني زيارته إلى بغداد من الكاظمية وزيارة الإمامين الكاظمين قبل اللقاء بالمسؤولين العراقيين. وبدأ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف زيارته إلى سوريا بزيارة مقام السيدة زينب، قبل اللقاء بالمسؤولين السوريين. أولوية سياسات الهوية المذهبية ليست خافية؛ بل هي تتفوق على الضوابط الناظمة للعلاقات بين الدول وأصول التواصل بينها. لم يَزُرْ روحاني وظريف دولتين؛ بل مجالين حيويين لـ«الشيعية السياسية الخمينية». في المقابل، فتحت المملكة العربية السعودية صفحة جديدة من العلاقات بين الرياض وبغداد عنوانها «الاقتصاد» بما هو مصالح مشتركة بين بلدين، و«السياسة»؛ بما هي المجال الأصيل للعلاقة بين دول وحكومات؛ بوابتها سفارات وقنصليات ووزارات واتفاقيات، لا مقامات ولا حسينيات ولا مراقد.
الزيارة السعودية تصدّرها وفد من عشرات رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين السعوديين، وتخللتها اتفاقات مهمة في مجالات الكهرباء والطاقة والتنمية الاجتماعية وتطوير البنية التحتية السياسية بين البلدين عبر افتتاح قنصلية في بغداد وبدء الترتيب لثلاث قنصليات لاحقاً، تلتها زيارة في غاية الأهمية من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في سياق مشابه وشكل مطابق للزيارة السعودية.
عادل عبد المهدي عنوان جديد؛ ليس فقط للعراق بصفته دولة مهمة في الإقليم؛ بل لتموضع الشيعة العرب داخل العلاقة المأزومة بين إيران والعرب. هو ليس نوري المالكي بشططه الإيراني، وبصفته القاسم المشترك للتقاطع الأميركي – الإيراني على ساحة العراق. وهو ليس حيدر العبادي الذي تميز عهده بالارتباك وضعف الحيلة وقلة المبادرة فيما يتصل بموازنة موقف العراق وشيعته العرب حيال العلاقات الإيرانية – العربية.
عادل عبد المهدي صوت ثالث قيد التبلور، تسنده مرجعية النجف الأوضح في التعبير عن طعونها فيما شاب العلاقات العراقية – الإيرانية من غلبة واستتباع وتجاوز للسيادة واستثمار في عناوين الانقسام المجتمعي بغية إضعاف الدولة المركزية. كان هذا واضحاً في بنود البيان الذي صدر عن السيد علي السيستاني عقب اللقاء مع روحاني وظريف، وتركيزه على بند السيادة العراقية، ومسألة السلاح المتفلّت من قرار الدولة. وتسند عبد المهدي أيضاً خريطة شيعية عراقية عنوانها الأكثر رصانة هو السيد عمار الحكيم، وعنوانها الأكثر إشكالية هو السيد مقتدى الصدر، بفائض حيويته وحركيته، والغموض إزاء خياراته السياسية، وإن كانت لا تزال مطمئنة حتى الآن.
ينهض هذا الصوت على مرتكزين أساسيين لا يحظيان بأي إعجاب في طهران… فعبد المهدي، بلسان العراقيين وبلسان الشيعة، يقول بعلاقة ندّية مع إيران تقوم على أساس المصالح المشتركة بين بلدين، لا على قاعدة تحويل العراق إلى مدى حيوي ديموغرافي لـ«الخمينية السياسية». أما المرتكز الثاني؛ فيقوم على الإقرار بأولوية العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن، ومع الجوار العربي؛ وعلى رأسه المملكة العربية السعودية.
سبق لإيران، ووفق مصالحها الخاصة جداً، وانسجاماً مع مشروعها المذهبي والجيوسياسي، أن أدارت علاقات تفاهم مع الأميركيين منذ التحضير لإسقاط نظام صدام حسين، وقبله نظام طالبان في أفغانستان، وحتى الإطاحة بنتائج انتخابات عام 2009، وتكليف المالكي تشكيل الحكومة العراقية بدلاً من إياد علاوي الفائز يومها.
لكن طبيعة هذا التفاهم بقيت ضمن متابعة النخب ولم تتحول إلى خيار سياسي علني يحرج إيران في الداخل أو يحرج حلفاءها في الإقليم، لا سيما «حزب الله»، الذي هيمن على تمثيل الشيعة العرب لعقود طويلة.
الحكاية مختلفة الآن… ففي مقابل صوت نصر الله الناقم دوماً على السعودية، والضدي جداً لسياسات واشنطن ووجودها في المنطقة وعلاقات حكوماتها معها، هناك صوت شيعي عربي آخر، لا غبار على شيعيته، ولا على منتبه. فالعراق هو الشيعة بالمعنى الكياني للكلمة… هو المراقد والمزارات ومواسم الزيارات للأضرحة، في حين أن لبنان هو إذاعة وتلفزيون وأمن المشروع الشيعي الخميني؛ لا أكثر! الصوت الآخر هذا، يقول عكس ما يقوله نصر الله وباسم شيعة أكثر من شيعة نصر الله. فعادل عبد المهدي «ليس جندياً في حزب ولاية الفقيه»، وهو لن يحب إيران ومصالحها أكثر من العراق ومصالحه، ولن يخوض حروب «لو كنت أعلم» نيابة عن الإيرانيين وعلى حساب مواطنيه. وعادل عبد المهدي لم يكلف نفسه باسم الشيعة أن يحارب السعودية في اليمن أو أي مكان آخر، أو أن يعادي السياسات الأميركية، أو أن يسعى لتحويل العراق إلى منصة تتجاوز عبرها إيران العقوبات الأميركية ولو على حساب استقرار أرزاق العراقيين وعملتهم ومصارفهم…
في لبنان تنبّه رئيس مجلس النواب نبيه برّي لهذا الملمح الجديد، فكانت زيارته للمرجع السيد السيستاني وزيارته الطويلة نسبياً إلى العراق. تغطت الزيارة بهدف سُرب في الصالونات وبعض الإعلام، أن بري يحمل مبادرة للتقريب بين السعودية وإيران. بري من الفطنة والمعرفة بمكان ليدرك استحالة هذا الخيار الآن، كما يدرك أن لبنان لا يملك من الأوراق ما يؤهله للعب دور في هذه المساحة المعقدة من الخصومة، وفي ذروة الحرب الاقتصادية والسياسية على نظام الخميني. الهدف الحقيقي لزيارته هو البعث برسائل لمن يلزم بأن في لبنان من أخذ علماً بأن ثمة عنواناً جديداً للشيعة العرب…
الرحلة الطويلة بدأت.
4 «الاقتلاع» و«الاجتثاث» سودانياً وعراقياً
فـــؤاد مطـــر الشرق الاوسط السعودية
اعتدنا كصحافيين عايشوا ميدانياً أو متابعة من خلال عملنا في الصحف معظم الانقلابات العسكرية في الدول العربية، أن نركِّز بداية على صانعي الانقلاب وفي الوقت نفسه نُدرج في الاهتمامات ما يحدُث في دول العالم الثالث، كوننا أعضاء في هذا الجسم العليل من انقلابات بعضها متقن وعلى مستوى وبعضها الآخر فولكلوري. وكنا نتوقف بصورة خاصة على البلاغ رقم واحد الذي يصدر عن صانع الانقلاب أو باسم المجموعة صانعي الانقلاب.
وعندما حدثت الخطوة الأُولى على طريق الانتفاضة الشعبية المبهرة في السودان يوم 11 أبريل (نيسان) 2019 متمثلة بإطلالة تلفزيونية غير متوقعة لوزير الدفاع أحمد عوض بن عوف وإلقاء بيان يعلن كف يد الرئيس عمر البشير، وتعليق الدستور، وكذلك حل الحكومات، وفرْض حظْر التجول، كان من الطبيعي التوقف عند البيان غير المسبوقة مفرداته ووضْع خطوط تحت بعض الكلمات التي تفسر ما استعصى تفسيره لهذه النقلة المفاجئة من جانب قائد عسكري بشيري الهوى إزاء رئيسه الذي لم تمضِ سوى 48 يوماً على تعيينه نائباً أول لرئيس الجمهورية مع احتفاظه بمنصب وزير الدفاع.
كان البيان المفترَض أنه البلاغ رقم واحد، على نحو المألوف حدوثه منذ الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي، خالياً من الموقف السياسي، بمعنى فقرات الإشارة إلى التضامن العربي والقضية الفلسطينية، والاكتفاء بالالتزام بالعلاقات الطيِّبة مع دول الجوار ودول العالم عموماً، وكذلك الحرص على علاقات دولية متوازنة والالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية إلى جانب المحلية. وجاء البيان يحمل بشرى إنهاء نظام إنما من دون تسمية البشير والاكتفاء بعبارة «رأس النظام». كما برَّأ البيان «اللجنة الأمنية العليا» من مسؤولية ما حدث، وهذا واضح في تمهيد البيان للقرارات التي تم اتخاذها، حيث فيه تلميح إلى احتمال حدوث انقسام في الجيش… وإن كان البيان استعمل عبارة «بوادر إحداث شروخ في مؤسسة عريقة».
ومثلما أن البيان لم يسمِّ البشير بالاسم فإنه كان على درجة من الدبلوماسية في التعبير، فلم يستعمل كلمة «إسقاط» النظام وإنما الاكتفاء بكلمة «اقتلاع» وهي جديدة على القاموس الانقلابي العربي. وأما مسألة «التحفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن» (وهنا مرة أُخرى يعتمد نحوياً المعلوم المجهول) فإنها ليست مستحدَثة، ذلك أنه في الانقلاب العسكري الأول في العالم العربي الذي جرى في الجمهورية السورية والذي قام به القائد العام للجيش حسني الزعيم (رتبة عسكرية) رائد الانقلابات العسكرية ضد أهل السياسة والأحزاب، أُودِع رئيس الجمهورية شكري القوتلي، ورئيس الحكومة ووزير الخارجية والدفاع خالد العظم، ووزير الداخلية والمعارف محسن البرازي، في المستشفى العسكري في المزة، لكل منهم غرفة خاصة به. وعندما طلب كل من القوتلي والعظم إحضار بعض الكتب الأدبية والأدوية فإنه تم تزويدهما بها.
مناسبة هذا الاستحضار للانقلاب العسكري الأول، أن ثمة الكثير من أوْجه الشبه في المضامين بينه وبين أحدث ما حصل في السودان بعد سبعين سنة وكلاهما في أيام ربيعية (انقلاب الزعيم على الحكم المدني آخر شهر مارس (آذار) 1949 والانقلاب الخجول على البشير يوم 11 أبريل 2019).
تطول المقارنة من حيث الأسباب وظروف الخطوة التي أوجبت الانقلاب الودّي قبْل أن يتطور إلى انقلاب يتسم بالجدية في السودان، لكن ما يعنيني كمتابع عريق للشأن السوداني وانقلاباته وتقلبات عهوده هو هذا التأدب في التعامل بالحسنى من جانب رموز الانقلاب مع مَن كان حاكماً بأمر شريحة عريضة من السودانيين أدخلت حركة «الإخوان المسلمين» «إقنيم» ثالث في المجتمع السوداني المشهود تديُّنه حتى من جانب شيوعيي الوطن في زمن ازدهار الحركة الماركسية المركز (الاتحاد السوفياتي) والأفرع في كثير من دول أوروبا ودول العالم الثالث. فالسودان على مر عهوده حتى الثمانينات كان ذائع الصيت بأنه طائر أسمر اللون بجناحيْه الأنصاري والختمي وإلى درجة أن «الأنصار» كما «الختمية» باتتا حركتي الإسلام السياسي في السودان لا ينازعهما هذا «الإقطاع الدياسي» بمعنى الديني – السياسي، طيف آخر، ثم دخل على الخط بقوة وحيوية فكرية متمكنة دينياً وسياسياً الدكتور حسن الترابي ممسكاً بورقة على درجة من الأهمية تتمثل في أنه زوج ابنة الإمام عبد الرحمن المهدي، بما يعني أن كبير الأنصاريين ومُنظِّرهم والمعقودة عليه آمال إنعاش الزعامة الروحية والسياسية والنضالية للجد عبد الرحمن ضد الإنجليز الصادق المهدي بات أمام مَن يحاول اقتسام الشأن الأنصاري وإن كان ذلك بنسبة بسيطة في استطاعة الترابي تنميتها وابتكار صيغ وأساليب من أجْل ذلك، معتمداً على حذاقة تكتيكاته وعُمْق ثقافته. ولقد حقق الترابي ما يصبو إليه، ذلك أنه استطاع من خلال حركة «الإخوان المسلمين» خلْق قاعدة له وتحقيق اختراقيْن داخل المؤسسة العسكرية في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري أثمرت ضباطاً إسلامويين حققوا بقيادة عمر حسن البشير انقلاباً على حُكْم أهل السياسة، مستغلين في ذلك المشهد الماثل في مخيلتهم عما جرى لزملاء لهم من غزوة جاءت من ليبيا وقتلت أعداداً كانوا نياماً في معسكرهم. وعندما استعذب البشير حلاوة السلطة المطلقة أرسل الشيخ الترابي إلى احتجاز في إحدى دور الضيافة ثم لاحقاً إلى الباستيل السوداني، سِجْن «كوبر».
هنا أيضاً تطول القضية والظروف حولها وما أنتجتْه من مشاعر ومحاذير، وأعود إلى عبارة «اقتلاع ذلك النظام والتحفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن» التي أوردها وزير الدفاع باسم اللجنة الأمنية العليا عوض بن عوف.
كان لا بد من فتْح صفحات قاموسية لتفسير كلمة «اقتلاع». فما هو سائد أن كلمة قلع تقال عند خلْع أضراس أو باب ضاع مفتاح قِفْله، وأحياناً يكون استعمالها شعبياً مثل القول إن فلاناً خلع فلاناً بلكمة على وجهه. ثم يفيدنا القاموس أن للكلمة أكثر من تفسير أحدها بمعنى إزالة القائد عن رتبته. وهذا ما قصده البيان الذي قضى بنقل مكانة البشير من كرسي الرئاسة إلى الجلوس على كرسي عادي في «منزل آمن». أما بعض سائر معاني كلمة الخلع فهي «خلع الرجل زوجته» و«خلعت الزوجة زوجها». كما أن لفظة «الخلاع» المشتقة من خلع تعني (قاموسياً) شبه خبل يصيب الإنسان، وتعني كلمة الخليع (جمع خُلعاء) المعزول من مقامه. أما الخولع فإنها (قاموسياً) تعني الأحمق. وأما المخلَّع من الرجال فإنه (قاموسياً) الضعيف الرخو. كما أن معنى الخليع جمْع خُلعاء تعني (قاموسياً) الخبيث. وللكلمة معنى إيجابي، إنما (قاموسياً) تتعلق بالشجر وليس بالبشر وهي أخلع الشجر بمعنى أنبت ورقاً جديداً. وهذا يُجيز القول حول ما كان يدور في خاطر بن عوف كبادرة حُسْن تعبير وتوصيف تجاه رفيقه البشير. والأرجح أن بلغاء ضادّيين سيبويهيين في الحراك الشعبي رأوا الخلع من جانب بن عوف بهذا المعنى فثابروا وصبروا إلى أن كانت «النقلة البرهانية» التي لم تكتمل فصولاً.
ويبقى القول إن الكلمتيْن التوأميْن (الاجتثاث عراقياً والخلع سودانياً) مرشحتان في حال كثرة الحالات الموجبة وإصدار البيانات في شأنهما إلى استمرار تداولهما. ففي العراق لم يُحسم أمر الخشية من عودة «البعث» إلى الساحة السياسية في رداء أو آخر. وفي السودان لم تُحسم الأمور وبالذات ما يتعلق بالشراكة المدنية – العسكرية، فضلاً عن الخشية من سيناريوهات إخوانية تستوجب التنبه إليها. وهكذا فحتى إشعار آخر قد ينتهي الأمر تداولاً لكلمتي «الاجتثاث» و«الخلع» إلى اندماجهما في كلمة واحدة «الديراسينية» كما «الديمقراطية» و«البيروقراطية» و«الديكتاتورية»… وهي كلمات أجنبية استُعربت أو استُشرقت. والباب مفتوح أمام «الديراسينية»، كون التحديد القاموسي الأجنبي الذي في مقالتي هذه أستند إليه في كلمة «اجتثاث» العراقية النشأة والابتكار وكلمة «خلْع» السودانية الوليدة النشأة، هو Deracinement والفعل Deraciner (بالفرنسية) وكذلك بالإنجليزية Deracinate مع اختلاف اللفظ.
… ولهذا الغوص في المشهد السوداني بقية إبحار.
5 الخفي والمعلن في قمة برلمانات دول الجوار
هيفاء زنكنة القدس العربي
احتفت أجهزة الإعلام العراقية، ومعها عديد الساسة، باستضافة العراق، في 20 نيسان/ أبريل، قمة برلمانات دول جوار العراق، معتبرة إياها استعادة لـ«الدور المحوري» للعراق بعد سنوات من « الدور التحالفي». وانه «إنجازا وتحولا مهما وانتقالة نوعية في مسيرة الدبلوماسية النيابية العراقية». وبلغ المديح ذروته حين انهالت التهاني على رئيس البرلمان العراقي لتمكنه من الجمع بين برلمانات هذه الدول المتنازعة، غالبا، وكيف ان قمة بغداد قد تصبح في القريب العاجل تكتلا إقليميا جديدا للتنمية والاستقرار!
تجاهلت أجهزة الاعلام، سذاجة او حماسا أو تعمدا، عن نقاط أساسية كان يجب أن تثار في تعاملها مع خبر «القمة»، لعل أهمها ان معظم هذه البرلمانات لا تمثل شعوب الدول المشاركة. فأعضاء البرلمان العراقي، مثلا، هم حصيلة المحاصصة الطائفية والعرقية وانتخابات بلغت نسبة المشاركة فيها 20 في المئة فقط. مما يعني انها تمثل ذات الوجوه الفاسدة بأقنعة مغايرة. وقد لا ينطبق الحال نفسه على كل البرلمانات والدول الا انه ينطبق، بالتأكيد، على عدد منها، بدرجات متفاوتة.
النقطة الأخرى التي تم تجاهلها هي أن هناك الكثير مما يجمع بين دول الجوار الست المشاركة وهي إيران، سوريا، السعودية، تركيا، الكويت، والأردن، بالإضافة إلى العراق في خلفية المناوشات الظاهرة بينها يومياً، وتحت سطح ما يتصوره الناس. وان التعاون قائم بين هذه الدول، والبرلمانات جزء لا يتجزأ منها، بشكل عميق يتوغل في بنيتها الأساسية، ويتبدى ذلك بوضوح كبير خاصة بين إيران والعراق والسعودية وسوريا تحت العنوان الأعظم في عالم اليوم: مكافحة الإرهاب. وتشير الدلائل، إلى أنه سيستمر إلى أجل غير محدد، ما لم يحدث تغيير مفاجئ يؤدي إلى خلخلة العلاقة. لذلك يبدو من المستغرب أن يثير اجتماع هذه الدول في مكان واحد استغراب معظم أجهزة الإعلام العراقية والعربية، ويتم اعتباره انتصارا للدبلوماسية. فما يجمع هذه الدول، حقا، وبالدرجة الأولى ليس الاستقرار والتنمية كما يدعي ممثلو البرلمانات، بل الاستبداد وقمع الشعوب، وتكريس كل الجهود لانتهاك الحقوق والحريات والفساد، واعتبار الشعوب «العدو الأول»، وهو مصدر التهديد والتآمر على أمن الدولة، أي الحاكم وأتباعه. فأفضل الاجتماعات التي تتم بين دول المنطقة، مثلا، وأكثرها وئاما، هي اجتماعات وزراء الداخلية لتوقيع الاتفاقيات الأمنية الداخلية، وغالبا ما يتم ذلك برعاية إحدى الدول الكبرى.
إن سردية القمع الرسمي المنهجي بين دول الجوار، وممثلي البرلمانات، يعرفونه جيدا، موثق بتفاصيله المرعبة من قبل المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بأنواعه من اعتقالات وتعذيب واعدامات. فالنظام السوري برئاسة بشار الأسد يواصل حملات الاعتقال والتعذيب والاعدام بلا هوادة. ويشير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى وجود أكثر من 118 ألف مدني اعتقلتهم القوات الحكومية بشكل تعسّفي أو أخفتهم قسريًا منذ مارس/آذار 2011، وإن المئات من المعتقلين يلقون حتفهم إما تحت التعذيب المباشر أو بسبب الأوضاع غير الإنسانية في المعتقلات. يداري البرلمان السوري «المنتخب» هذه الجرائم، تماشيا مع الفكرة السائدة، في الدول العربية والإقليمية، بأن كل معارض إما متآمر أو إرهابي.
لذلك، من الطبيعي أن تحتل إيران والعراق والسعودية، قائمة الدول الأكثر تنفيذا لأحكام الإعدام، وغالبا، بعد محاكمات صورية قد لا تستغرق أكثر من نصف ساعة وبناء على تهم وشهادات مفبركة، وبوجود قضاء تتحكم به الإرادة السياسية والفساد، والأدهى من ذلك بوجود برلمانات « منتخبة».
في ظل هذه الحكومات، يواجه الناشطون في مجال حقوق الإنسان من محامين إلى أعضاء جمعيات حقوقية (إن سمح لها) إلى المدونين، عقوبات تصل إلى الجلد والسجن مدة طويلة، كما في السعودية وإيران. والمفارقة في الأمر، أن كلا البلدين يطبقان العقوبات، وبضمنها التعذيب، بمساواة بين الرجل والمرأة، خلافا لعدم المساواة السائدة عموما. ففي السعودية، اعتقلت عشر نساء معروفات بدفاعهن عن حقوق المرأة، وتم تقديمهن للمحاكمة ومنهن لجين الهذلول وعزيزة اليوسف وإيمان النفجان والأكاديمية هتون الفاسي. كما اثبت النظام السعودي قدرته على ملاحقة معارضيه والتخلص منهم بأبشع الطرق لا على ارض الوطن فحسب بل وخارج حدوده، اغتيال جمال الخاشقجي مثالا.
ولا يزال مئات المعارضين الإيرانيين قابعين في السجون بعد عقود من اعتقالهم، وحُكم في الشهر الماضي، على محامية حقوق الإنسان البارزة والمدافعة عن حقوق المرأة نسرين سوتوده، بالسجن لمدة 33 عامًا وستة أشهر و148 جلدة بعد إدانتها بسبع تهم، لدفاعها عن نساء قُبض عليهن بسبب الاحتجاج على قوانين الحجاب القسري.
وينافس العراق إيران وسوريا في ممارسة التعذيب المنهجي بحق المعتقلين حسب سياسة «عليهم جميعا ان يعترفوا»، بلا تمييز جنسي أو عمري. ففي 6 مارس/ آذار، أصدرت منظمة « هيومان رايتس ووتش»، الحقوقية الدولية، تقريرا عن وجود نحو 1500 طفل محتجز، في كردستان العراق. تم اعتقالهم عشوائيا وتعذيبهم بالضرب بالأنابيب البلاستيكية وأسلاك الكهرباء والهراوات لإجبارهم على التوقيع على اعترافات بأنهم ينتمون إلى تنظيم «الدولة الإسلامية». ونشر تقرير آخر حول استمرار التعذيب الوحشي في سجن الفيصلية بشرق مدينة الموصل. ويؤكد التقرير فشل القضاة العراقيين، على الرغم من التقارير الواسعة الموثوق بها عن التعذيب في الحجز، في التحقيق في مزاعم التعذيب، واصدارهم احكاما جاهزة يشكل الإعدام ثلثها والبقية السجن المؤبد. حثت المنظمة « مجلس القضاء الأعلى على إصدار إرشادات حول الخطوات التي يجب على القضاة اتخاذها عندما يزعم المدعى عليه التعذيب. ويجب على رئيس الوزراء عادل عبد المهدي أن يدين علانية استخدام التعذيب من قبل جميع الموظفين المكلفين بتنفيذ القانون والأمن والعسكريين». وعن دور البرلمان، ذكرت المنظمة الحقوقية: «يجب على البرلمان إقرار مشروع قانون مناهضة التعذيب، والذي يتطلب من القضاة أن يأمروا بإجراء فحص طبي لأي محتجز يزعم تعرضه للتعذيب في غضون 24 ساعة من علمه للادعاء». أليست هذه التوصيات من صلب عمل البرلمانيين؟ الا يدركون ان سكوتهم (مفترضين حسن نيتهم) على سياسة حكوماتهم القمعية هو الذي يولد عدم الاستقرار والإرهاب وفشل التنمية؟ اليس توليد الإرهاب، وصنعه المباشر هو بالذات من أهم وسائل الحكم القمعي؟ وقد كان نعوم تشومسكي أول من قال، عندما أراد أحدهم إحراجه بالسؤال عما إذا كان هناك بديل لمكافحة الإرهاب، فقال «هذا سهل. فقط توقفوا عن صنعه».
6 العلاقات السعودية العراقية حاجة قومية أم صراعات أقليمية؟ مثنى عبد الله القدس العربي
أتت زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى السعودية في 17 إبريل/نيسان الجاري، في ظل إغراءات سعودية على شكل باقة خطوات حذرة، اتخذتها لصنع نفوذ لها في العراق. في الوقت نفسه جاءت الزيارة في خضم تشديد العقوبات الأمريكية على طهران، التي كان من نتائجها ضغوطات سياسية واقتصادية على بغداد أيضا. مع ذلك تثير الزيارة عددا من الأسئلة المهمة عن العراق الحالي، هل استعاد هويته الوطنية والقومية؟ ما نوع الثقة التي تربطه بمحيطه العربي؟ وهل لديه القدرة على لعب ورقة التوازن بين العرب وإيران لتحقيق مصالحه؟
من المعروف أن الخط البياني للعلاقات بين البلدين الشقيقين شهد اضطرابات عميقة وواضحة على مدى عقود من الزمن، كان العامل الأساسي فيها هو الصراع على الزعامة القومية في المنطقة، وكذلك تضاد الحواضن الدولية. فالعراق لم يكن يوما أمريكيا إلى ما قبل الاحتلال، في حين كانت السعودية على الدوام في هذا المعسكر، وحتى عندما أصبح العراق أمريكيا، لم يطرأ أي تحسن في العلاقات، لأن الهواجس السياسية والاقتصادية لكل طرف من الآخر، هي من المسلمات الأساسية لكلا البلدين.
وقد حاولت الولايات المتحدة في السنوات الاخيرة وضع قطار العلاقات على السكة المطلوبة، وتشجيع رئيس الوزراء العراقي السابق على الانفتاح على الرياض، غير أن المحاولة فشلت، ثم شجعت الطرفين على تشكيل (المجلس التنسيقي) الذي كان رغبة أمريكية للقفز بالعلاقات إلى المستوى الاستراتيجي، وللتدليل على هذه الرغبة أُفتُتح برعاية وزير الخارجية السابق تيلرسون في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2017.
على الجانب العراقي، يشير البعض إلى أن الزيارة هي رغبة عراقية بالابتعاد التدريجي عن المحور الإيراني، لكنهم يتناسون أن صانع القرار السياسي ليس موجودا في بغداد، قد يكون رئيس الوزراء الحالي لديه الرغبة في ذلك، لكن أنى له أن يحقق تلك في ظل قوى سياسية مسلحة أتت به إلى هذا المنصب؟ وإن كان قادرا حقا على تحقيق سياسة خارجية تصب في مصلحة العراق، فلماذا لم يستطع حتى اليوم إكمال نصاب وزارته التي مازال شاغرا فيها منصبا وزير الدفاع ووزير الداخلية؟ هو يقول بأن الزيارة ستشكل تحولا في العلاقات مع السعودية، لكن هل مستلزمات ذلك موجودة بيديه؟ وحتى اعتماد سياسة النأي بالنفس تجاه أزمات وصراعات المنطقة، حسبما يشير في تصريحاته، لا يمكن أن تتحقق، لأن الحكومة في بغداد لا تحكم، والدولة هي مجرد مسرح توجد فيه ديكورات تشير إلى وجود دولة، لكن السلطة موجودة في مكان آخر. كما أن مسار العلاقات العراقية العربية خصوصا، لا يحدده المسار الرسمي مهما امتلك رئيس الوزراء من أوراق مؤثرة في صناعة القرار. فهنالك مسار القوى السياسية الذي فيه الكثير من المكابح والمعرقلات نحو الانفتاح على السعودية خصوصا، وعلى العرب عموما.
رأينا الضجة الكبرى في البرلمان العراقي على تطوير العلاقات مع الأردن، رغم أن الاتهامات الموجهة له من قبل القوى السياسية، التي هي في الضد من التقارب العربي، أقل بكثير من الموجهة للسعودية. فالحقيقة تشير إلى أن العراق تحول منذ عام 2003 إلى مُصدّر للميليشيات تقاتل في الاراضي العربية لزرع النفوذ الايراني، بعد أن كان خزان رجال للدفاع عن الأمة.
أما على الجانب السعودي، فإن السعوديين يرون في العراق ساحة يمكن أن يلعبوا فيها دورا كبيرا، من خلال التأثير فيه بمرجعيتهم الدينية، والامتدادات القبلية والعشائرية. كما يمكن أن يكونوا مصدرا بديلا للغاز والطاقة الكهربائية المستوردة من إيران، لكنهم في الوقت نفسه يدركون تماما أن النفوذ الايراني يُحجّم قدرتهم على لعب دور فيه، وتنتابهم شكوك في أن يكون الطريق التجاري سالكا لمواجهة هذا النفوذ. كما يعلمون تماما بأن القوة المالية تمنحهم نفوذا، لكن ليس بما يعني حرية الحركة إلى أبعد الحدود.
وفي الوقت الذي يبرز فيه سؤال عن حقيقة الرغبة السعودية في إعادة هيكلة العلاقة مع العراق، فإن ذلك لابد أن يأتي متزامنا مع سؤال آخر عن مدى وجود استقلالية عراقية في صنع قرار سياسي يتناغم مع تلك الرغبة ويراعي مصالحه وأهدافه، فالارتباط وثيق جدا في هذا الموضوع.
وعلى الجانب الإيراني، هنالك مشكلة أساسية في موضوع العلاقات العراقية الايرانية، وهي أن الأخيرة موجودة في بُنية العملية السياسية القائمة في العراق، وهذا التواجد يعطيها أفضلية كبرى في تحديد خطوات العراق السياسية والاقتصادية والأمنية داخليا وخارجيا، على غيرها من القوى الدولية والإقليمية المتداخلة في الشأن العراقي.
كما أن طهران ترى في العراق المصدات الأمامية للدفاع عن أمنها القومي، لوجود عوامل كثيرة فيه تؤثر عليها، كما تستطيع إن امتلكتها أن تؤثر بها على غيرها.
فهذا البلد يعني لها حوزة النجف التي يُقلدّها مئات الآلاف من العالم الاسلامي. كما يعني قوة نفطية مؤثرة في الاسواق العالمية. وخط حدود يمتد إلى أكثر من 1200 كم، إضافة إلى أنه الرئة الحالية التي تتنفس بها من العقوبات الامريكية من خلال تصدير الغاز والكهرباء والبضائع المختلفة إليه، مقابل تأمين العملات الصعبة التي هي بحاجه لها. فهل ستسمح طهران بتحول العراق إلى الحضن العربي مرة أخرى، في وقت تعلم فيه تماما بأن كل ما يجري هي عملية انتزاع للعراق من بين أحضانها كي يُستخدم ضدها؟
وعلى الرغم من هذا المشهد المُعقّد يمكن القول بأن عالم السياسة يحوي الكثيرمن المفاجآت، كما تستطيع المصالح أن تفتح طُرقا سالكة وسط حقول الألغام. فمع اشتداد العقوبات الامريكية على طهران، خاصة بعد اعتبار الحرس الثوري منظمة إرهابية، قد يرى صانع القرار الإيراني بأنه يمكن له التقاط تسويات سياسية من خلال التحرك العراقي نحو السعودية، لكن السؤال المهم هو هل توجد فلسفة سياسية عراقية قادرة على العمل وفق هذا الاتجاه؟ وفي المقابل هل يمكن أن تمضي السعودية في هذا الاتجاه بما يحويه من طرح أفكار لتسوية سياسية مع طهران، وتتخلى عن الركب الامريكي المتجه باتجاه الضغط على طهران، وهي التي دفعت فيه الكثير من الجهود والأموال؟ نعتقد أن هذا غير ممكن وغير منطقي في الوقت الحاضر، على الرغم من أن الولايات المتحدة لديها مصلحة في استقطاب إيران إلى طاولة الحوار، وأن كلا الطرفين ليس لديهما الرغبة في مواجهة مباشرة.
7 حين يعترف الدواعش…
كاظم الموسوي الوطن العمانية
وعند جهينة الخبر اليقين، قالها العرب، ومنه يمكن النظر إلى أقوال ـ اعترافات المجرمين الدواعش التي بدأت تنشر أو تسرب، والتي جاءت بعد نجاح السلطات وجهات مسلحة في العراق وسوريا خصوصا في القبض عليهم، أو على من هو بمنصب قيادي. وهذه الاعترافات لها أهمية كبيرة لأسباب عديدة، أمنية وسياسية واستراتيجية في الحرب على الإرهاب والقضاء على أسسه وقدراته في العمل وإعادة العمل لتنظيمه الإرهابي. إذ إن تجميع المعلومات ومعرفة الخطط والاتصالات والتوجهات أمور ضرورية جدا في الحرب على الإرهاب والإرهابيين والحاضنة التي توفر لهم كل ما يحتاجونه لعملياتهم الإرهابية والبيئة المحيطة أو المفرخة أو التي توفر فرص حياة التنظيم الإرهابي وانتشاره واستمراره. وكلما تزداد المعرفة بهذه الأخطار وتطوراتها تتوفر ظروف الوقاية والحماية منها، وتقل وسائل تمددها وتداعياتها. وفي الوقت نفسه تخزن قاعدة المعلومات عنهم وعن مخططاتهم ومشاريعهم وقياداتهم ويمكن تبادلها مع من لديه مثلها ويحرص فعلا على المشاركة في الحرب على الإرهاب والإرهابيين ومصادر تمويلهم وتجنيدهم وربما التخطيط معهم في ارتكاب جرائمهم.
مثلا كشف مجلس القضاء الأعلى العراقي، عن استلام أكثر من تسعمئة متهم من سوريا، من آخر موقع لهم فيها، عبر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ومصادرها، إضافة لما عند الأجهزة العراقية الاتحادية أو إقليم كردستان من معتقلين. ولعل ما نشر عن اعترافات “أبو الفضيل البلجيكي”، أحد الإرهابيين الأجانب الذي حكم عليه بالإعدام، بعد أن تمت إدانته من قبل القضاء العراقي بالانتماء لداعش، واشتراكه بالقتال ضد القوات العراقية في الموصل، مثالا. واسمه (بلال عبد العزيز المرشوحي)، بلجيكي الجنسية من أصول مغاربية، يبلغ من العمر25 عاما. ترك بلجيكا حيث كان يدرس الهندسة وسافر إلى سوريا، ملتحقا بجبهة النصرة أولا، ثم انتقل إلى صفوف تنظيم “داعش”. وساهم أقاربه في تجنيده.
ولعل أخطر ما كشفه “أبو الفضيل البلجيكي” هو استخدام التنظيم للسلاح الكيمياوي وغاز الكلور. فقد أكد أن “التنظيم استخدم أسلحة (قنابل هاون) تحتوي على مواد كيميائية وغاز الكلور خلال معاركه في ريف الرقة في المخيمات، وأن من أمر باستخدامها هو المكنى خطاب العراقي، وهو يشغل منصب أمير ديوان الزكاة”. كما كشف أن “إحدى الكتائب التابعة لجيش الخلافة وهي كتيبة طارق بن زياد كان يقودها ضابط سابق في الجيش الفرنسي وهو المكنى أبو سليمان الفرنسي، من أصول جزائرية”.
في اعترافاته أمام محكمة التحقيق المركزية المختصة بقضايا الإرهاب في الرصافة، كشف عن هويته ودراسته وميوله، و”قمت بالاطلاع على بعض الكتب التي تحث على التشدد والأفكار المتطرفة”. ووجد في ما حصل في سوريا فرصة للالتحاق والتنفيذ. كما لفت إلى أنه واجه في تلك الفترة بعض المشاكل مع عائلته، بسبب أفكاره المتطرفة، ما دفع عائلته إلى طرده من المنزل. وتابع قائلا: “تواصلت مع ابن عمتي المدعو (عز الدين) الذي كان قد ذهب إلى سوريا وشارك بالقتال ضد القوات السورية، وكذلك بعض الأصدقاء ممن أصبحوا يحثونني على الانتقال إلى سوريا والقتال هناك وقررت بعد ذلك الانتقال”.
إلى ذلك، أوضح أبو الفضيل قائلا “غادرت بلجيكا إلى ألمانيا ومن ثم تركيا ومن بعدها إلى سوريا برفقة زوجتي الهولندية من أصول مغاربية التي كانت لديها رغبة أساسا بالذهاب لسوريا، وبعد أن دخلنا هناك بصورة غير مشروعة كانت مجموعة من المقاتلين بانتظارنا وأخذوني إلى حلب وانتميت هناك إلى جبهة النصرة”. وأشار إلى أنه أرسل بعد ذلك إلى أحد المعسكرات التابعة لجبهة النصرة، حيث جرى تدريبه على الأسلحة، بالإضافة إلى خضوعه لدورة شرعية ولياقة بدنية على يد مدربين بعضهم أجانب. كما بين الإرهابي البلجيكي أنه “تم فصله من جبهة النصرة نتيجة خلافات مع المكنى أبو البراء البلجيكي بعد أن قدم الأخير تقارير ضده اتهمه فيها بالتفرج على المواقع الإباحية، وبعد ذلك بدأت الصراعات بين الفصائل المسلحة في سوريا حتى برز تنظيم (داعش) آنذاك”. وذكر أنه مع تمدد “داعش”، أخذ عائلته وانتقل إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وانخرط في صفوفه. وقال: “قابلت والي حلب أبو حفص الجزراوي وجرى تعييني بعد ذلك في الشرطة الإسلامية ضمن ولاية حلب”. كما كشف آلية عمل تلك الشرطة وأقسامها.
أما في ما يتعلق بدخوله الأراضي العراقية، فقال “انتقلت إلى العراق لمساندة المقاتلين هناك من أفراد التنظيم خلال المعارك التي شنها الجيش العراقي لاستعادة الموصل”. وقال “خضنا معارك شديدة مع القوات العراقية في الموصل وعند بدء الجيش بالتقدم والسيطرة على معظم الأراضي، هربت باتجاه الأراضي السورية، إلا أنني لم أتمكن من الهرب وتم القبض علي داخل الأراضي العراقية”.
كما كشف ما يسمى وزير نفط “داعش” المدعو أسامة عويد الصالح، أن التنظيم هرّب نحو 40 طنا من الذهب من الموصل إلى سوريا وأماكن أخرى. وقال هذا المدعو (وكالات 2019/4/10) المعتقل لدى (قسد) منذ 11 شهرا، إن تنظيم “داعش” تمكن من تهريب أطنان من الذهب وكميات كبيرة من المنقولات والمواد الثمينة التي استولى عليها خلال سيطرته على مناطق شمال العراق. وأصبحت جزءا من مصادر تمويل عملياته الإجرامية والمتاجرة بها.
اعترف وزير نفط “داعش” عن أماكن وجود زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي، بأنه موجود بالمناطق السورية التي تسيطر عليها تركيا (إدلب وجوارها) أو المتاخمة لها، مؤكدا أن الصلات بين التنظيم الإرهابي والقوات المسيطرة في هذه المناطق خلقت علاقة معقدة قدمت تسهيلات كثيرة للتنظيم لبيع مسروقاته وتجديد ترسانته من الأسلحة. وأبرز ما اعترف به بعض الحقائق غير المعروفة عن التنظيم بما في ذلك كيفية إدارة العلاقات الاقتصادية مع الحكومات.(!)
اقترح العراق على دول التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة تولي محاكمة الأجانب المعتقلين في سوريا مقابل بدل مالي، إلا أن مصدرا حكوميا أكد أن العراق لم يستلم ردا، والمقترح يشمل نحو ألف أجنبي معتقل عند قسد. وهناك أخبار عن استلام العراق لأعداد منهم، وفي كل الأحوال هذا غيض من فيض وما خفي أعظم.
8 رهان أميركي خاطئ على شرق الفرات
حميدي العبدالله البناء اللبنانية
قرار الولايات المتحدة الإبقاء على جزء من قواتها في منطقتي التنف وشرق الفرات ينطلق من حسابات تشدّد على أنّ بقاء هذه القوات يمنع سورية وحلفاءها من الاقتراب من المنطقة، وبالتالي حماية خيار إقامة كيان ذاتي شرق الفرات يقود إلى نشوء وضع يشبه الوضع القائم في شمال العراق منذ عقود طويلة.
لكن هذا الرهان الأميركي على هذه المنطقة هو رهانٌ خاطئ، أولاً، لأنّ منطقة شرق الفرات تختلف عن شمال العراق. في شمال العراق الأكراد يمثلون حوالي 90 وأكثر من سكان تلك المنطقة، في حين أنّ الأكراد لا يمثلون أكثر من 30 من سكان منطقة شرق الفرات، ومعروف أنّ السيطرة الأميركية على شرق الفرات ترتكز الآن على وجود وحدات الحماية الكردية، التي تمثل أقليةٍ ضئيلة في المنطقة، ويقود هذا الاعتماد على الأقلية وتمكنها من السيطرة إلى ردود فعلٍ لدى الغالبية، ويجري التعبير عن ردود الفعل بعشرات العمليات المسلحة التي تستهدف «قوات سورية الديمقراطية» والاحتجاجات الشعبية المتواصلة ضدّ وجود هذه الجماعات، الأمر الذي يجعل المنطقة رمالاً متحركة ولا تمثل بيئة حاضنة للوجود الأميركي على غرار الوضع القائم في شمال العراق.
ثانياً، الولايات المتحدة تنطلق من تجربة السنوات الأخيرة، حيث لم تُستَهدف من قبل الجيش والشعب السوري وحلفائهما لأنّ أولويات سورية كانت تتجه لتحرير المناطق الأكثر خطورة مثل محيط دمشق وأحياء حلب الشرقية والمنطقة الجنوبية، حيث كان العدو «الإسرائيلي» يسعى إلى إقامة جدار عازل في الجولان، وأيضاً الأولوية لتحرير دير الزور ومدنها الكبرى، لأن من دون ذلك يصعب إطلاق معركة تحرير المناطق الخاضعة لسيطرة ميليشيات «قسد» المدعومة من القوات الأميركية.
اليوم، وبعد أن أنجزت الدولة والجيش السوري وحلفائهما تحرير المناطق التي كانت لها الأولوية، لم يبق سوى منطقتين خارج سيطرة الدولة، منطقة إدلب ومحيطها، التي تخضع العملية العسكرية لتحريرها لحسابات مرتبطة بعلاقات تركيا مع الولايات المتحدة وموقفها من الكيان الانفصالي الذي تسعى واشنطن لإقامته يشكل تهديداً للأمن القومي التركي.
والمنطقة الثانية الخارجة عن سيطرة الدولة السورية هي منطقة شرق الفرات والتنف، التي باتت لها الأولوية، وعندما تبدأ معركة تحريرها بمعزل عن طبيعة هذه المعركة، وما إذا كانت حرباً نظامية، أم حرباً تشبه الحرب التي رعتها سورية وإيران في لبنان ضدّ قوات الأطلسي عام 1983، فإنّ الحسابات الأميركية سوف تختلف جذرياً عن الحسابات الحالية، عندها أمام الولايات المتحدة خيارَين لا ثالث لهما، إما الغوص في مستنقع حربٍ ثالثة في المنطقة أوسع وأكثر كلفة من حروب الولايات المتحدة والناتو في أفغانستان والعراق، وإما إعادة النظر في الحسابات الخاطئة والانسحاب من سورية على قاعدة ما ردّده ترامب وسفير الولايات المتحدة السابق في سورية روبرت فورد، أنها في سورية لا مصالح كبرى اقتصادية تبرّر التورّط بحربٍ مكلفة وطويلة الأجل وتحتاج عشرات آلاف الجنود.