1 لا نريد للعراق أن يكون حديقة خلفية لإيران
سعيد الحمد
الايام البحرينية
العراق العربي، والعراق العروبي شاءت أقداره وسياسات التخبط وخارطة برايمر أن تصبح هويته العربية مهددة بالتفريس بعد انغماس حزب الدعوة وميليشيات الفقيه في أن تؤسس جميعها هوية أخرى لهوية عراق العرب والعروبة.
وفي هذا السياق، فقدت الأحزاب والقوى والفصائل العراقية الأخرى أي تأثيرٍ حقيقي في المشهد واللعبة السياسية، وما عادت في أحسن أحوالها سوى رديف فاقد القرار، كما جرى للحزب الشيوعي العراقي صاحب التاريخ الوطني المديد الذي أضاع البوصلة، فلا هو مدني ولا هو لاهوتي.
وإيران الرسمية اطمأنت لسيطرتها على العراق، وبالنتيجة دخل صراع تقاسم الكعكة العراقية بين مراكز القوى الايرانية مرحلة علنية مع تدشين زيارة حسن روحاني لبغداد والنجف بوجهٍ خاص، ليوجه من خلال الزيارة الرسمية لبغداد والزيارة الدينية للنجف، حيث مقر المرجع السيستاني رسائل إلى جماعة قاسم سليماني وسليماني نفسه الذي اعتبر نفسه المندوب السامي الايراني يحكم المنطقة الخضراء والعراق كما يشاء.
روحاني شعر مع فقدان أي وجودٍ له في العراق بالتهميش وبشيء من العزلة التي تضاعف أثرها وكبرت تداعياتها مع العقوبات الامريكية الشديدة، وأصبح روحاني وحكومته حائط الصد، والضحية للسخط الشعبي العارم، والمسؤول الأول عن الآثار الاقتصادية الخانقة، بما يهدد مصير حسن روحاني وبما يضع رقبته تحت المقصلة أثناء البحث عن كبش فداء يحمِّلونه الآثار والأخطاء.
لعبة الشطرنج «وهي اختراع فارسي قديم»، تدخل الآن مرحلة صراع مكشوف بين فيلة السلطة الايرانية والمرشد الأعلى يحرك بيادقها على رقعة رسم حدودها بدقة لصالح استمرار قدسيته، فذلك «الرهبر» القائد يخرج منها كما الشعرة من العجينة ويتحمل غيره وسواه سخط الشعب وغضبه.
روحاني شعر بحاجةٍ إلى مرجع يستند إليه في صراع خرج عن حدود طهران ووصل إلى قلب بغداد، فخطط لزيارة رسمية الهدف منها ديني مذهبي عنوانه النجف وتفاصيله في لقاء مع السيد السيستاني الذي يفهم صراع الشطرنج الإيراني بحكم أصوله وجذوره الإيرانية الغائرة هناك، ويدرك أن مرجعيته الروحية المذهبية الشيعية لا تهددها سوى مرجعية سياسية مذهبية شيعية اتخذت من السياسة والدين سلاحاً تخترق به أي مرجعية مهما كانت قوتها.
والنتيجة فنجف السيستاني استثمرت زيارة روحاني بطريقتها الخاصة لتبعث هي الأخرى برسائل ذات دلالة إلى جميع الاطراف المعنية في إيران والعراق على حدٍ سواء، وهي رسائل تؤكد وترسخ دور مرجعية النجف في القرار السياسي الشيعي وبوجهٍ خاص في الصراع بين مراكز القوى في طهران.
المرشد الأعلى من جانبه يفهم التأثير السلبي على مكانته وعلى قراره وحتى على «قدسيته» من أثر التضخم الكبير الذي طرأ على أدوار ليس دور قاسم سليمان، الذي وإن أبدى ولاءه وخضوعه للمرشد، لكن تضخم القائد العسكري في كل مكان وزمان يهدد فيما يهدد مكانة الزعيم والرئيس المرشد ايضاً.
وما بين لعبة التابع والمتبوع في إيران الملالي سيحاول جميع فرقاء الصراع بين الكبار هناك اللعب في الساحة العراقية على طريقة استثمار تجار البازار الإيراني، فمن يأتي بغلةٍ أكبر من العاصمة بغداد إلى إيران التي تعيش الضنك والفاقة سيكون منتصراً وسيدعم «شعبياً» وجوده في المشهد على حساب الآخرين.
وهكذا مع تفاقم الحالة الإيرانية الصعبة اقتصادياً وفي صراع الاضداد الإيراني ظهرت بغداد والعراق كجمهورية موز، كما يفكر الايراني الحاكم لطهران ودفع بها من حديقة خلفية الى حديقة أمامية يدخلها فرقاء صراع إيران لصالح لعبتهم وترجيح كفة صراعهم لهذا الفريق أو ذاك.
ولعل توقيت زيارة روحاني في العراق تم اختياره بدقة، حيث تعاني ميليشيات العراق التي تتبع قاسم سليمان من أوضاعٍ خانقة بعد إدراجها على القوائم الإرهابية والقوائم السوداء، بما يضعها في خانة المحتاج لكل مركز قوى في طهران وفي قم.
2 المزاد الإيراني – الأميركي في العراق
فاروق يوسف
العرب بريطانيا
العراق بلد ضعيف عسكريا ورث سياسيا. فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه وليس لدى حكومته من الإرادة ما يكفي لحفظ استقلاله وسيادته. لقد تم تدمير ذلك البلد بطريقة ممنهجة ومتقنة، بحيث يمكن تشبيه تلك العملية بحياكة السجاد وهو ما يتقنه الإيرانيون أكثر من سواهم. فحين وقع العراق تحت الاحتلال الأميركي كان الإيرانيون حاضرين بقوة في المشهد، بالرغم من العداء الأميركي – الإيراني الحقيقي.
كان هناك شيء لافت من القبول الأميركي بذلك الحضور. وهو ما أغرى الإيرانيين بالمضي في تنفيذ مشروعهم لتدمير البنية الوطنية للمجتمع العراقي وإحلال الاستقطاب الطائفي محلها، بحيث صارت إيران ضرورية لجزء من الشعب العراقي، هو ذلك الجزء الذي انتفع من سقوط الدولة وانهيار الثوابت الوطنية والرقابة على المال العام.
أنتج التنسيق الأميركي – الإيراني نظاما سياسيا فاسدا في العراق لن يقوى على رعاية وصيانة مصالح الشعب العراقي والدفاع عنها في حالة وقوع صراع بين الطرفين، وهو ما كان متوقعا دائما وهو ما يحدث اليوم.
وإذا ما كان الأميركيون يستندون في اطمئنانهم إلى أن العراق سيكون واجهتهم في صراعهم مع إيران إلى معاهدة سبق لهم وأن وقعوها قبل سحب قواتهم عام 2011، فإن الإيرانيين هم أيضا مطمئنون إلى أن العراق سيكون واجهتهم في صراعهم مع الولايات المتحدة. كل واحد من الطرفين يرى أن له القدرة على إلحاق الأذى بالطرف الآخر من خلال استعمال العراق أداة في تلك الحرب، وهو ما يجعل منه رقما صعبا في المعادلة بالرغم من هشاشته وضعف نظامه السياسي.
في ظل ذلك الواقع الملفّق الذي صنعه صراع الآخرين يشعر السياسيون العراقيون الممسكون بالسلطة في إطار تسوية بين الطرفين تضمن لهم الحماية والدعم والسكوت على فسادهم بأنهم يحظون باهتمام فائض عن حاجتهم. الأمر الذي قد ينزلق بهم إلى الشعور بأهميتهم وأهمية القرارات التي قد يتخذونها، وهو ما يقع خارج صلاحيتهم وقدرتهم على رفض أو قبول ما يُملى عليهم.
من واجب أولئك السياسيين أن يصغوا لا أن يقولوا شيئا واضحا. فهم لا يمثلون الشعب العراقي، لا أمام إيران ولا أمام الولايات المتحدة، وهم صنائع تسوية جرت بين الطرفين. وهو ما يقيد قدرتهم، إن وجدت، على اتخاذ قرارات حرة ومستقلة. الحرب بين الطرفين إن وقعت ستكشف حقيقة أن لا وجود لدولة اسمها العراق.
إضافة إلى أن أرض العراق ستكون ملعبا مفتوحا يتحرك فيه الطرفان براحة وخفة، فإن ثروات العراق ستوضع ضمن المجهود الحربي لكلا الطرفين. وهو ما لن تتمكن الحكومة العراقية من أن تتحكم به. تلك حكومة صنعها اتفاق بين طرفي الصراع وستكون لاغية إن تم إلغاء الاتفاق.
لذلك يمكن اعتبار السباق بين الولايات المتحدة وإيران لكسب ود العراقيين مجرد استعراض دعائي لما يملكه كل طرف منهما من قدرة على تسخير العراق بثرواته في خدمته. وإذا ما كان الطرفان مطمئنين إلى أن العراق سيكون جاهزا لتلبية طلباتهما فلا يعني ذلك أنهما يعتمدان على موافقة الحكومة العراقية، بل على ما يملكان من قدرة على الحركة على أرض يملكان حرية الحركة عليها من غير أن يحتاجا إلى الحصول على موافقة أحد.
الحكومة العراقية تعرف أنها أضعف من أن تتخذ موقفا بالانحياز إلى طرف دون آخر. لذلك تفضل الصمت تفادياً للوقوع في خطأ قد يعصف بها. ما تملكه إيران والولايات المتحدة من وسائل للهيمنة في العراق لا تملكه الحكومة العراقية، لذلك سيكون المزاد مفتوحا على الكثير من المفاجآت.
3 فيلم الملوك الثلاثة.. تراجيديا حوّلت حرب الخليج إلى مغامرة
طاهر علوان العرب بريطانيا
اقتفت السينما الأميركية أثر الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، من الحربين العالميتين إلى فيتنام إلى العراق إلى أفغانستان وليبيا والصومال وغيرها، وكانت اللغة السينمائية المتوخاة تتعمد في الغالب إظهار الجندي الأميركي بطلا يحمل على ظهره وبسلاحه، كل القيم الأميركية، وكانت بذلك السينما الأميركية في هذا المحور من الأعمال، سينما المنتصر التي توظف كل تقنياتها لإبهار العالم، المغلوب منه والمحايد. في العالم العربي خاضت الولايات المتحدة حروبا كثيرة، احتاجت إلى أن ترفدها بمنجز سينمائي يقتفي أثر الحروب ويوظفها في سرده التصويري، وكان هذا المنجز في أغلبه وفيا للمبررات الأميركية، بأن حافظ على صورة الأميركي البطل الذي يذهب لغرس قيم الحرية، وقلة من الأعمال السينمائية نجت من هذه الأسطرة وخرجت عن الخط السياسي الأميركي، بأن قدمت صورة مغايرة للحروب أو التدخلات. فيلم الملوك الثلاثة، الذي أخرجه دافيد راسل، تناول الحرب الأميركية على العراق عام 1991، انتصر للرواية الرسمية الأميركية وأضفى على الحرب معالجة كوميدية جعلت الفيلم يلقى رواجا كبيرا في السوق الأميركية.
نحن الآن في العام 1991 وحرب الخليج الثانية المرتبطة بقضية احتلال الكويت ثم تحريرها، ما تزال ذيولها مشتعلة وضحاياها لم يبرد دمهم وآثارها التدميرية قائمة على جبهتي الحرب في العراق والكويت.
على هذه الأرضية سوف ننطلق في مقاربة ثيمة الصراع التي هي ثيمة أساسية في هذه الدراما التي تكررت في العديد من الأفلام الأميركية التي عالجت الثيمة ذاتها.
واقعيا، ظلت فكرة الغلبة والقهر والتفوّق جزءا من بروباغندا الحرب وأداة المنتصر والغازي كما هي في كل الحروب والصراعات غير المتكافئة على مرّ التاريخ.
آلة الحرب الصماء العمياء في مقابل الإنسان الأعزل مقاربة أخرى تحضر بقوة أيضا في هذه التراجيديا القاسية، حيث يجري طحن أضعف الضحايا تحت تروس ماكنة الحرب فيما يمكن لأبطال الحرب أن يكونوا هم ضحاياها أيضا ومن أشد من يعانون من آثارها. كما نحن نعيش اليوم في إصابة جنود الحرب الأميركان في ما يعرف بمرض لعنة العراق أو متلازمة ما بعد الصدمة المفضية إلى الانتحار شبه اليومي للآلاف من الجنود الأميركان العائدين بكوابيس تلك الحرب وقصصها الفظيعة.
لكن ذلك كله لا يستوجب تزويق قبح الحرب وآثامها فما بالك بصبغها بصبغة كوميدية للتخفيف من قسوتها وآلامها وجراحاتها، وهو ما نشاهده في هذا الفيلم للمخرج ديفيد راسل ومن إنتاج العام 1999.
في الصحراء الجرداء المديدة وفي المشهد الأول للفيلم تظهر عبثية قتل الإنسان. جندي عراقي واقف على تلّة، رافعا راية بيضاء وفي يده الأخرى السلاح، ويحتار الجنود الأميركان ماذا يفعلون معه وبدلا من أن يطالبونه برمي سلاحه فإنهم يطلقون النار عليه ويردونه قتيلا، ثم ينطلقون في حفل صاخب احتفالا بالنصر.
الصحافية كاثي (قامت بدورها الممثلة جودي غرير) التي أرسلتها شبكة تلفزيونية مرموقة لتغطية انتصارات الولايات المتحدة، يختلي بها الجنرال آرشي (الممثل جورج كلوني) خلوة حميمية تتبادل الشتائم مع منافستها الصحافية آدريانا كروز (الممثلة نورا دون) ثم يدخل آرشي في سجال مع رئيسه الأعلى في كونه يعطي الأحاديث للإعلام من دون ترخيص وفي مقابل الترفيه الجنسي عن نفسه.
دافيد راسل: لا يمكن تزويق قبح الحرب وآثامها فما بالك بصبغها بصبغة كوميدية للتخفيف من قسوتها وآلامهادافيد راسل: لا يمكن تزويق قبح الحرب وآثامها فما بالك بصبغها بصبغة كوميدية للتخفيف من قسوتها وآلامها وفق هذه الخلفية الساخرة سوف نمضي مع ثلاثة جنود يرأسهم الجنرال آرشي مهمتهم تعقّب سبائك الذهب المزعومة التي يحتفظ بها نظام صدام حسين بعد سرقتها من الكويت، وسيكون المكان المحتمل لإخفائها هي أقبية تحت الأرض تقع بالقرب من محافظة كربلاء العراقية.
الرحلة من الكويت، حيث تواجد القوات الأميركية، إلى ذلك المكان المفترض لوحدها تحمل مساحة كوميديا مرفوقة بحلم يقظة خلاصته أن الفريق الرباعي يحلم بتقاسم سبائك الذهب والعيش برفاهية في الولايات المتحدة بعد ترك الجيش، والحاصل أننا سوف نتحول ابتداء من هذه الحبكة الثانوية إلى مغامرة البحث عن الذهب وليس غير ذلك، وبمعنى آخر، تتحوّل ثيمة السرقة إلى قاسم مشترك لعيّنة من أفراد الجيشين، العراقي والأميركي.
يُبنى المكان على أساس تنويعات فرضتها الدراما الفيلمية، فهنالك في الغالب الأرض الصحراوية القفراء التي يتحرك عليها الفريق الرباعي، وهناك خيام الجنود الأميركان فهم لا يقيمون في مخابئ وينعمون بالرقص وشرب الخمور كما ظهر في مشاهد الفيلم، وفي المقابل العراقيون، الجنود وهم في مخابئ وأقبية وسراديب، أما المدنيون فيقيمون في العراء.
هذا التقاطع المكاني سوف يحول مهمة الفريق إلى ما يشبه مغامرة البحث في مغارة علي بابا. لصوص سرقوا ما سرقوه من الكويت، ولصوص جدد -هم الجنود الأميركان- يريدون سرقة ما سرقه العراقيون ويستحوذون عليه، وسوف نكتشف وجود سبائك الذهب وسيارات الليموزين التي سوف تستخدم لاحقا في مشهد كوميدي مصنوع بعناية.
بصريا، تمت معالجة البناء المكاني بمهارة وحرفية واضحة، مع إدخال لمسات من عادات وتقاليد عراقية في مقابل أن وظائفية المكان المخفي هو غالبا إما لإخفاء مسروقات وإما لاحتجاز مدنيين، وما عدا ذلك فإن رحلة الأربعة تشبه رحلة اكتشاف في صحراء مترامية، يزيدها متعة كونهم شبه متمردين على قياداتهم وينفذون عملية غير مرخّصة أو لا تعلم عنها قيادات الجيش الأميركي الكثير.
على صعيد البناء السردي من تحصيل الحاصل أن الفيلم قائم على سرديتين متقابلتين لا ثالث لهما، وهما السردية الأميركية في مقابل السردية العراقية. يوظف الأميركان في هذه السردية دافعين هما دافع الانتصار والتفوق والدافع الثاني هو المغامرة. فالفريق الرباعي يكون قد خرق ما عرف باتفاقية خيمة صفوان التي بموجبها اجتمع قادة الجيشين الأميركي والعراقي وأنهوا العمليات الحربية بعد هزيمة الجيش العراقي، وعلى هذا ظل هاجسهم هو عدم التدخل العسكري مع أنهم نفذوا عمليات دموية.
أما السردية العراقية فمحورها تلك الشخصيات التي حرص الفيلم على تقديمها منهزمة وسطحية. الجنود العراقيون من السهل خداعهم كما في صنع موكب رسمي كوميدي مهلهل لسيارات قادمة من عمق الصحراء على أساس أنه موكب لصدام حسين ما يؤدي لهرب الجنود العراقيين. أما المدنيون العالقون ما بين بطش قوات صدام والغزاة الأميركان فبلا حول ولا قوة، بل إن الفيلم يظهرهم جياعا، وبعضهم يطلب الطعام لأطفاله.
في المقابل كانت مشاهد الحوار المصنوع بشكل جيد بين الجندي الأميركي الأسير تروي (الممثل مارك واهلبيرك) وبين الضابط العراقي من المشاهد المصنوعة بموضوعية، لكون الضابط العراقي هو أحد ضحايا الغزو بسبب مقتل زوجته وابنه وتدمير بيته بسبب القصف الأميركي واسع النطاق على المواقع المدنية إبان حرب العام 1991.
ولعل المضيّ في هذه السردية سوف يقودنا لاحقا إلى أكثر المشاهد درامية التي اختتم بها الفيلم وكيف سوف يكفّر الرباعي الأميركي عن خطاياه ويكمل مغامرته، عندما ينجح في إنقاذ مجموعة من المدنيين بالسماح لهم بعبور الحدود والدخول إلى الجانب الإيراني، بغرض الهروب من بطش أجهزة النظام العراقي.
هنا سوف تبرز مفارقة الضحايا مرة أخرى، القوة الدرامية الغالبة ومن منطلق التفوّق والقهر بإمكانها تصفية من تشاء، لكنّها بالنسبة للجنرال آرشي تتعدى ذلك إلى انتهازية يقنع بها ضابطه الأعلى بأنه إن أنقذ المدنيين فسوف يظهر ذلك في وسائل الإعلام الأميركية وسوف تتم ترقيته إلى رتبة أعلى، ومن جهة أخرى سوف يحصل على حصة من سبائك الذهب.
المدنيون يمثلون نقطة انتقال ما بين الانتهازية والطمع الفردي وبين عبثية القوة والاستئثار التي تجعل الجنود الأميركان في صورة القتلة الذين لا يميزون بين ضحاياهم، حتى وإن بدوا مستسلمين أو بلا قضية يقاتلون من أجلها.
في وسط هذه الدراما المتصاعدة هنالك مشاهد قتل القوات العراقية لامرأة أمام أنظار طفلتها وزوجها وأمام أنظار القوات الأميركية، ومشاهد أخرى تتعلق بالتعذيب والاحتجاز وكلها ملتصقة بالقوات العراقية. المدنيون الذين هم في العراء وبلا حماية يستدرّون رأفة المغامرين الأربعة، والصورة أكثر دراماتيكية ومثالية عمّا هي عليه في واقع إبادة القوات الأميركية لعشرات الألوف من المدنيين العراقيين بدم بارد، لكن الفيلم يتغاضى مع هذه القضية.
المدنيون في الجانب الأميركي يتم إظهار عيّنة فقط تتمثل في زوجة الجندي تروي وابنته وهي التي سوف تنقذ زوجها والباقين في مفارقة دراماتيكية، إذ أنه بسبب عجزه عن طلب المساعدة من وحدته العسكرية يكتشف وجود جهاز هاتف لاسلكي يتمكن تروي من خلاله من الاتصال بزوجته في الولايات المتحدة، ليطلب منها الاتصال بالوحدة العسكرية لطلب العون وهو حل لا يبدو مقنعا ومع ذلك تم تمريره في الفيلم.
تبرز في الفيلم وظيفة التلفزيون والفضائيات في تغطية الحرب، وواقعيا لا يمكن أن ينسى العراقيون والعالم بأسره تغطية مراسل سي إن إن، بيتر آرنت، للرحب على العراق.
وهنا سوف يقدم المراسلتين المتنافستين آدريانا وكاثي. الأولى مولعة بالسبق الإعلامي وبالملابس الأنيقة والثانية مولعة بمعاشرة الضباط واستنطاقهم لأخذ تصريحات مفيدة منهم، وما عدا ذلك خفت صوت الإعلام تماما بينما في غالب أفلام الحرب هنالك مقدمة لخطاب أحد الرئيسين، جورج بوش الأب أو الابن، سواء من قاد حرب الخليج الثانية أم الثالثة، أما هنا فسوف يحضر اسم جورج بوش بطريقة ساخرة، بما ينقله الجنود الأميركان بأن الرئيس يريد تحريرهم.
على صعيد القيمة الوثائقية للفيلم يمكن التوقف عند نزر يسير تم بثه خلال أحداث الفيلم ومنه مثلا قصة المسروقات التي يجري تتبعها من طرف الجيش الأميركي، ثم قصة التلوث التي لا تبرز إلا لماما في مشهد عابر عندما تشاهد الصحافية آدريانا وهي ترأف بطيور عالقة في وسط بركة من الزيت فتذرف الدموع، وكذلك يشاركها مرافقها الذي يحاول التحرش بها.
لا شك أن عنصر الوثائقية والثبات على الحقائق الموضوعية على الأرض تم تخفيفه إلى حد كبير بالابتعاد قدر المستطاع عن أي توثيق واقعي وعملي وإيجاد حلول درامية بديلة، من خلال التنويع على الموضوع المطروح، من خلال جوانب من الحرب مع صبغها بصبغة كوميدية ممتزجة بالمغامرة أكثر من مقاربة الحرب في حد ذاتها بوصفها كارثة مدمرة.
تراجيديا قدّمت الحرب باعتبارها مجرد رحلة كان هدفها اصطياد نفر من الأشرار المهيئين للهزيمة، وثلة من المدنيين يعارضون النظام ولا يمتلكون رؤية تتعلق ببلدهم ومستقبلهمتراجيديا قدّمت الحرب باعتبارها مجرد رحلة كان هدفها اصطياد نفر من الأشرار المهيئين للهزيمة، وثلة من المدنيين يعارضون النظام ولا يمتلكون رؤية تتعلق ببلدهم ومستقبلهم
وإذا أمعنا النظر في هذه الجزئية، فلم يعرف للجيش الأميركي إبان تلك الحرب أنه قام بمثل تلك العملية التي انتقل فيها من أقصى جنوب العراق إلى كربلاء، ثم إلى الحدود العراقية الإيرانية بقصد إنقاذ المدنيين في حل إخراجي كان أقرب إلى المزحة الثقيلة البعيدة عن الواقع كليا، والأقرب إلى الضحك على العقل الأميركي المستهلك الأول لتلك الدراما.
ولمنح الجمهور الأميركي متعة أكبر، وهو ما تحقق فعلا، فقد ظهر أفراد الجيش الأميركي وهم سكارى ويرقصون بلا انقطاع، ثم انطلقوا في رحلة البحث عن الذهب انطلاقا من خارطة تم استخراجها من مؤخرة أحد جنود صدام حسين الهاربين، ثم تتوالى مشاهد استعمال الخارطة بطريقة مسقطة ومفبركة، مصحوبة بالنكات التي يتبادلها الجنرال آريش وزملاؤه.
هذه المقدمات تبدو كافية لفهم الخلاف الحاد الذي نشب إبان إنجاز الفيلم وبعد إنجازه بين المخرج وكاتب السيناريو جون ريدلي الذي عند مشاهدته الفيلم وجد قصة وأحداثا لا تتطابق مع ما كتبه، مما أجج الخلاف بين الطرفين، بالإضافة لما رافق إنتاج الفيلم من خلاف مع الشركة المنتجة، لكن الفيلم قوبل باستحسان أميركي وحقق دخلا جيدا في شباك التذاكر، كما أعيد إطلاقه مجددا بعد الحرب الأميركية التالية على العراق في العام 2003 أو ما يعرف بغزو العراق.
لا شك في المحصلة النهائية أننا بصدد عمل سينمائي قدّم حرب العام 1991 بحسب مقاربة غلب عليها طابع المغامرة وأنها ليست مأساة إنسانية مدمرة بل مجرد رحلة كان هدفها اصطياد نفر من الأشرار المهيئين للهزيمة أصلا، وثلة من المدنيين الذين حتى وإن كانوا يعارضون للنظام العراقي وقتها فإنهم لا يمتلكون رؤية تتعلق ببلادهم أو بمستقبلها.
وهي من الخلاصات التي حرص الفيلم على إظهارها كجزء من بروباغندا الحرب كما يبدو، والتي تراوحت بين الغلبة والقهر وبين الدراما الساتيرية التي تراوغ مبتعدة عن الجرح إلى تخدير مؤقت ينسي آثاره أو يقللها، ويصرف النظر إلى هوامش وجزئيات تستخّف بالأشياء أو تبسّطها لخدمة جمهور يجد في المغامرة والكوميديا مقاربة مسلية لكارثة الحرب وفظائعها.
4 العراق يحصر السلاح بيد الدولة في إيران
حامد الكيلاني
العرب بريطانيا
عندما قال الممثل الأميركي الخاص لإيران برايان هوك إن إيران تريد تحويل العراق إلى محافظة إيرانية، في هامش تصريحه على زيارة الرئيس حسن روحاني ونتائجها، فمعنى ذلك أن الولايات المتحدة ما زالت في مرحلة قراءة الدور الإيراني في العراق واحتمالاته ومآلاته المستقبلية، بما يوضح فكرة الرئيس دونالد ترامب عن سياسة ترصين القواعد العسكرية بهدف مراقبة أنشطة النظام الإيراني.
تطمينات أطلقها رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي بعد تلقيه اتصالا من وزير الخارجية الأميركي جورج بومبيو تفيد بأن واجبات القوات الأميركية المتواجدة على أرض العراق محددة فقط في الحرب على تنظيم داعش، وبهكذا مناوبات حراسة من النظام السياسي تمرر أحلام روحاني بهدوء ومجاملة وتطمينات من ذات الدولة العظمى التي تفرض العقوبات وتشددها على إيران.
ثمة تساؤلات عن العلاقات بين حكام العراق والنظام الإيراني ومدى حميميتها بما يفسر لنا الارتياح البالغ في اللقاءات التي بدت وكأنها حفلات تعارف تحت عناوين متباينة بعضها مفاوضات رسمية وأخرى توقيع على تفاهمات تبدو محسومة. في كل الأحوال يفترض أن يطلع على نصها العراقيون ولو من خلال مجلس النواب.
الشبهات تتعلق بحجم الحرية في تصرفات من التقاهم روحاني أثناء زيارته، من الذين نزعوا فجأة من رؤوسهم ووجوههم وتصريحاتهم الكابوس الأميركي، أي صلاحيات الراعي الرسمي لنظامهم السياسي منذ كارثة الاحتلال التي جاءت بهم أحزاباً وحكاماً إلى أحضان السلطة والجاه والمال. لو ذهبنا إلى تفسير تلك الثقة بسبب غياب الدور الأميركي انطلاقا من استقلال القرار العراقي الذي عبر عنه فالح الفياض متحدياً بوقوف العراق إلى جانب إيران في التصدي للعقوبات الأميركية، لطرحنا الأسئلة في هذه الحالة على الجانب الأميركي في ما لو كانت لزيارة الرئيس الإيراني مضامين أخرى من التفاهمات أبعد من أرض العراق المزدحمة بقلق المشاريع الدولية والإقليمية، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء من رغبة العراق في أن يكون نقطة التقاء في المنطقة، وليس منصة للعدوان على دول الجوار.
الاستعراض الإعلامي وما لحق بالزيارة من قراءة في فصول رواية الليل والنهار للمقارنة بين وصول طائرة الرئيس الأميركي إلى قاعدة عين الأسد ليلاً وسط مخاوف أمنية أميركية معلنة، وما أرادته إيران باستغلالها واستثمارها زيارة روحاني إلى العراق بوصول طائرته مبكرا في صباح اليوم الأول، ثم التوجه للمراقد الدينية في منطقة الكاظمية وقبل أي استقبال رسمي.
ينطوي ذلك على تلميح عابر لما تعنيه هذه الزيارة الشخصية لروحاني إلى منطقة الكاظمية، وهذا أمر لا ننكره على مستوى العقيدة، لكن زيارته كرئيس لنظام سياسي حققت أهدافها في توصيل رسالة مهمة إلى الجانب الأميركي من أن القاعدة المذهبية التي يستند إليها النظام الإيراني تتفوق على أية قاعدة عسكرية تتحصن فيها القوات الأميركية أو تنطلق منها.
البعد الآخر هو التصيد في الأثر الشعبي الطائفي عند العراقيين والذي كان بعضا من نتائج الاحتلال الأميركي بما أسفرت عنه الصراعات من حرب أهلية تداخل فيها التهميش والإقصاء والاغتيالات والإرهاب بغطاء من نظام المحاصصة الطائفية والسياسية بعد تفشي وباء المشروع الإيراني.لكن الأوضاع بعد سنوات طويلة من سيطرة الأحزاب الإيرانية تدهورت إلى حدودها القصوى التي أصبح معها المواطن على تماس مع الفساد المالي والإداري بنقص الخدمات وزيادة نسب التلوث والجفاف وانتشار الميليشيات وتهريب النفط والمخدرات وتنامي التدخلات الإيرانية على الحدود في قضايا قطع تدفق مياه الأنهار أو الطاقة أو مشكلة مياه البزل. نتجت عن تلك السنوات يقظة تمثلت في حركة الاحتجاجات وحرق القنصلية الإيرانية ومقرات الأحزاب الطائفية وصور الخميني وخامنئي.
زيارة الكاظمية في بداية نشاطات روحاني في العراق وختامها بلقاء المرجع علي السيستاني الذي تداول مع الرئيس الإيراني قضية حصر السلاح بيد الدولة بكل ما تعنيه هذه العبارة من هيمنة إيران على الميليشيات. رغم أن إصدار فتوى من المرجع السيستاني بحل الميليشيات ومن ضمنها الحشد أمر منطقي لانتهاء مبررات فتوى الجهاد الكفائي، أي إننا بصدد تفاهمات في إطار مختلف يصب في سياسة التهدئة والحوار أثناء زيارة روحاني التي انتهت بالعودة إلى طهران من مطار النجف، كنوع من المصالحة الطائفية مع أبناء الجنوب برسائل ضمنية عن ضرورة التحمل والصبر، وهي رسائل بذات الأسلوب والصياغة إلى الداخل الإيراني، وذلك ما يقلق في مستقبل تقاسم أعباء ومصير العقوبات الأميركية على إيران مع العراقيين.
وزير خارجية إيران المستقيل محمد جواد ظريف أكد على استمرار العمل باتفاقية الجزائر لسنة 1975 المتعلقة بشط العرب، والاتفاق على ذلك مع الجانب العراقي الذي يتحدث عن تعليق العمل بتلك الاتفاقية والرغبة في العودة إلى الأوضاع قبل توقيعها.
الاختلال في التصريحات يبين طبيعة المفاوضات. فالموقف من اتفاقية الجزائر موضع إحراج للنظام السياسي في العراق الذي أدان الاتفاقية لأنها فرطت في حقوق العراق في شط العرب تماشياً مع الإدانات الإيرانية لذات الاتفاقية لأنها موقعة من الشاه، لكن المصالح اختلفت وإيران تقرأ التحولات الإستراتيجية دون أن تفرط في النظام في العراق الذي تجتهد على إدامته من منظور أن ما تعطيه في أي مفاوضات إنما تعطيه لنفسها.
الإعلام الطائفي في العراق بعد زيارة روحاني يتحدث بخطاب شبه موحد رفضا لما يسميه عدم احترام الخطاب السياسي للنظام أو شخصياته، متذرعا بالترفع عن الخطاب الشعبوي في إشارة إلى انتقادات لاذعة للمفاوضات وما ستسفر عنه من أهداف ليست جديدة على المشروع الاستيطاني الإيراني، متناسيا أن الخطاب الشعبوي في العراق لا علاقة له ببرامج السياسة أو بنزوع فكري ليمين متطرف أو محافظ أو يسار متشدد أو معتدل في سياق تنافس انتخابي.
الخطاب الشعبوي بعد 16 سنة من عار الاحتلال يُقصد به الصوت الذي فقد قدرة التحليل والحوار الهادئ لأنه صوت الألم وهو يتنافس مع صفير الرياح والأمطار في مخيمات النزوح المتهرئة أو مدن الجوع والعطش والعشوائيات. خطاب هؤلاء الذين فقدوا معنى كرامة العائلة وكيفية حمايتها ورعايتها، صوت لم تعد له قدرة احتمال مجاملة زوار الليل أو النهار على حساب إنسانية أهلهم وحقوقهم في الحياة أو الوطن أو حقهم في شط عروبتهم.
5 «الدواعش» يأكلون الحصرم وأطفالهم يضرسون الياس حرفوش
الشرق الاوسط السعودية
من «دولة» سيطرت بالإرهاب والنار على بقعة واسعة من الجغرافيا ضمت أجزاء واسعة من سوريا والعراق، إلى أزقة صغيرة يقاتل فيها إرهابيو «داعش» للاحتفاظ بما تبقى من الحلم المجنون لهذا التنظيم الذي أقلق المنطقة والعالم. من الرقة والموصل إلى الباغوز ومخيم الهول في محافظة الحسكة. رحلة قصيرة في عمر الزمن لم تتجاوز 5 سنوات، لكنها كانت رحلة حافلة بالجرائم التي ارتكبها عناصر التنظيم الإرهابي، من دون رادع من دين أو أخلاق أو ضمير. وحافلة بالمآسي التي عانى منها الضحايا، من مختلف الجنسيات والديانات، وفي مختلف المواقع التي نُكبت بمرور الشارات السوداء لهؤلاء المجرمين.
اليوم نسمع أن «داعش» يحتضر ويعيش ساعاته الأخيرة في المنطقة الحدودية شرق الفرات بين العراق وسوريا. ونسمع أيضاً أن زعيمه أبو بكر البغدادي، الموهوم بالنصر، صاحب الشعار البالي «باقية وتتمدد»، يختبئ في جحر ما في تلك المنطقة، بانتظار اللحظة التي ستقضي عليه، مثلما قضت من قبله على سلفه أبو مصعب الزرقاوي، وقبلهما على من كان أشد خطراً وأكثر دهاء، أسامة بن لادن، الذي رافقه أيضاً حتى آخر أيامه حلم إقامة تنظيم عابر للحدود والدول، في ظل شعارات واهمة تغسل عقول السذّج، وتغري أصحاب الأفكار المتطرفة، لكنها في نهاية الأمر تقضي على صاحبها وتشرد أتباعه، بعد أن يكونوا قد نشروا الدمار والخراب.
يحتضر «داعش» ويذهب إلى نهايته المحتومة غير مأسوف عليه. لكنه يترك خلفه أيتاماً وأرامل، وقرى وبلدات مهجورة، ومآسي إنسانية لا حصر لها. وفيما لم يتورع عناصر هذا التنظيم من عرب ومستوردين من مختلف بقاع الأرض عن ارتكاب الفظائع، التي ستدخل تاريخ الجرائم البشرية بأبشع صورها، من إحراق ضحاياهم أحياء إلى قطع الرؤوس وتعليقها فوق أعمدة الكهرباء وإشارات المرور، إلى سبي النساء واغتصابهن، نسمع اليوم من يستنجدون منهم أو من النساء اللواتي انضممن إليهم بهدف إنجاب «أشبال» لحماية مستقبل «الدولة» المزعومة، طالبين مساعدة العالم ومؤسساته الإنسانية (الغربية خصوصاً) على الخروج من الوضع المزري الذي انتهوا إليه.
هؤلاء الذين كان الغرب «الكافر» بالنسبة إليهم هدفاً مشروعاً، وكان رعاياه، بمن فيهم من زاروا سوريا والعراق للقيام بمهمات إنسانية، ينتهون قتلى على أيديهم، لا يتورعون اليوم عن طلب النجدة، مستغلين شعارات تدغدغ المشاعر الغربية، مثل ضرورة حمايتهم والدفاع عن «حقوقهم الإنسانية». هكذا سمعنا مثلاً النحيب الذي أطلقه والدا الفتاة البريطانية شميمة بيغوم، التي غادرت بريطانيا وهي في عمر الخامسة عشرة لتلتحق بصفوف «الدولة الإسلامية» وتتزوج من أحد مقاتليها، لتنجب أطفالاً منه. شميمة التي مات طفلها الرضيع قبل أسبوع (بعدما فقدت طفلين آخرين) في أحد المخيمات التي أقامتها «قوات سوريا الديمقراطية» قرب الحدود العراقية لمن غادروا ساحة المعارك من عائلات أفراد التنظيم الإرهابي، تشكو اليوم، كما يشكو أهلها، من سحب جنسيتها البريطانية، وحجتهم أن السماح لها بالعودة إلى بريطانيا كان يمكن أن ينقذ طفلها. وهذا في الوقت الذي أعلنت فيه هذه المرأة أمام الصحافيين الذين التقوا بها في المخيم الذي لجأت إليه، أنها غير نادمة على الانضمام إلى «داعش».
وينقل مراسل محطة «بي بي سي» عن أحد الأطباء الأكراد الذي عالج الطفل الذي أنجبته شميمة من زوجها «الداعشي» الذي يحمل الجنسية الهولندية، أن هذا الطفل كان يعاني من صعوبات في التنفس ونقل إلى المستشفى، لكن محاولات إنقاذ حياته فشلت. وكانت عائلة بيغوم كتبت رسالة لوزير الداخلية البريطاني ساجيد جاويد (الذي اتخذ القرار بسحب جنسية شميمة) جاء فيها «أن الطفل بريء ولا يصح أن يفقد الحق بالرعاية التي توفرها له بريطانيا». وبعد ذلك كتبت والدة شميمة رسالة أخرى إلى وزارة الداخلية تطلب فيها اتخاذ «قرار رحيم» بإعادة النظر في قرار سحب جنسية ابنتها، بسبب الظروف الصعبة التي تعيش فيها. وعلى رغم تشدد الوزير جاويد في قرار سحب جنسية شميمة، وهو القرار الذي تم ربطه بدوافع سياسية تعود إلى الصراع على خلافة تيريزا ماي في زعامة حزب المحافظين، فقد أعلن وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت أن الحكومة يمكن أن تنظر في إعادة أطفال «الدواعش» من آباء أو أمهات بريطانيين إلى بريطانيا. كما تدرس حكومات أوروبية أخرى اتخاذ قرارات مماثلة.
طفل شميمة ليس وحيداً. منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) تذكر أن نحو 3 آلاف طفل من أبناء «الدواعش» يعيشون في الوقت الحاضر في مخيم الهول شرق الحسكة، ويحمل أهلهم جنسيات 43 دولة على الأقل. كما أن هناك نحو ألف طفل يعيشون في العراق. وبين هؤلاء الأطفال من لم يتجاوزوا الخامسة من عمرهم. وفيما يواجه عناصر «داعش» القتل أو الاعتقال، على يد مقاتلي «قوات سوريا الديمقراطية» الذين تدعمهم الغارات الجوية الأميركية، يبقى هؤلاء الأطفال شهوداً على نوع آخر من الضحايا البشرية، التي خلّفها هذا التنظيم الإرهابي. أهل يأكلون الحصرم، فيما أطفالهم يضرسون.
وإذا كان التعامل مع نساء التنظيم كـ«مدنيين» يطرح أسئلة كثيرة، باعتبار أنهن كن يدركن ماذا يفعلن واخترن «وظيفة الإنجاب» كإحدى الطرق لتعزيز قوة «داعش» وحشد صفوف هذا التنظيم بـ«أشبال الخلافة»، فإن الذين يشرفون على مخيمات اللجوء يواجهون مشكلة أصعب مع الأطفال، تبدأ من الرعاية الصحية، وتصل إلى الهوية الضائعة لهؤلاء، وخصوصاً عندما ترفض الدول التي ينتمي إليها أهلهم منحهم جنسيتها. وهذا ما يفسر تحذير منظمة «يونيسيف» من ضرورة عدم معاملة الأطفال الذين أنجبتهم «الداعشيات» على أنهم إرهابيون.
شميمة ليست الزوجة الوحيدة التي التحقت بصفوف «داعش» وكانت شاهدة على الجرائم التي كان يرتكبها عناصره، كما كانت شاهدة على ما حلّ بأطفال ضحاياه وبأمهاتهن، من الإيزيديات في سنجار إلى الكرديات في عين العرب (كوباني)، إلى ما حل بأهل الرقة والموصل، والمحاكم وأعمال القتل الجماعي في ساحة القلعة التاريخية في مدينة تدمر. كثيرات غير شميمة اخترن هذا الطريق بكامل إرادتهن وبقناعة كاملة بما يفعلن. وإذا كان طبيعياً ألا يتحمل الأطفال مسؤولية الأفعال التي ارتكبها أهلهم، فإن وضعاً قانونياً وسياسياً يواجه الحكومات الغربية عندما ستتخذ قرارها بشأن استعادة هؤلاء الأطفال واحتضانهم في البلدان التي كان أهلهم يحملون جنسياتها. فهذه الحكومات لا بد أن تتخذ قرارها تحت ضغط أسئلة تتعلق بالبيئة التي سينشأ فيها أطفال «الدواعش» ومدى تأثير الأفكار المتطرفة التي يتبناها أهلهم على قدرتهم على الاندماج في المجتمعات الغربية التي يمكن أن تستضيفهم. وكلها قرارات لا بد أن تتخذها الحكومات آخذة في الاعتبار الجوانب الأمنية إلى جانب الاعتبارات القانونية والإنسانية.