7 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الخميس

1 من هو العدو الاول للعراق وللأمة العربية: وكيف رد صدام حسين على هذا السؤال؟
سعد ناجي جواد
القدس العربي

سؤال قديم جديد يؤرق الفكر ويعود الى الذاكرة بين الفينة والأخرى، الا وهو هل ان ساسة الغرب وكتابه ومفكريه اذكى وأدهى من نظرائهم العرب بحيث انهم يستطيعون بسهولة ان يستقطبوا التأييد للخطط الغربية حتى وان كانت مشبوهة و في غير صالح الأمة والشعب العربي. كي نجد بالنتيجة ان العديد من المفكرين والكتاب والساسة العرب يضعون كل بيضهم في سلة أمريكا والغرب، ومهما اساء الغرب للأمة العربية. و سؤال آخر يدور في الذهن بين الفينة والأخرى وهو هل ان الأحزاب الجماهيرية العربية التي حركت الشارع العربي لعقود، كانت خدعة كبيرة بحيث ان قيادات شيوعية، مثل قيادة الحزب الشيوعي العراقي، هذا الحزب العريق ذو التاريخ النضالي الطويل، حزب الشهداء فهد وسلام عادل ورفاقهم والذين أعدموا باوامر وتوجيهات بريطانية أمريكية، تصطف مع القوى الإمبرالية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة وتصبح طوع بنانها؟ او ان تقوم بعض بقايا قيادات الحزب الوطني الديمقراطي، هذا الحزب الذي رفض قادته أمثال كامل الجادرجي وحسين جميل المهادنة فيما يخص الديمقراطية والنفوذ البريطاني، تقبل بالتعاون مع ادارة الاحتلال المقيتة؟ او ان بعض البعثيين الذين عملوا منذ نعومة أظفارهم في صفوف هذا الحزب، ينتقل قسم منهم للعمل مع الولايات المتحدة، بينما يظهر من بينهم من يعتقد انها المنقذ الوحيد للعراق الان؟ وهل ان النخب المتعلمة تمتلك ذاكرة ضعيفة الى الحد الذي تسمح لنفسها ان تعتقد بان الولايات المتحدة و بريطانيا وفرنسا واسرائيل يمكن ان يضمروا خيرا للعرب وللمسلمين ولامتيهما؟ كل هذه الأسئلة كثيرا ما تعود للذهن كلما تنكأ ذكرى الاحتلال الجروح العميقة التي سببها، وكلما يتهاوى شاهد كنّا نحسبه قلعة صمود امام الاحتلال ومغرياته.
منذ ان وصل الرئيس ترامب الى الحكم بدأت ادارته تطبيق خطة، اعتبروها ذكية، وهي ليست كذلك، مفادها ان الخطر على الأمة العربية هو ايران، وان اسرائيل حليف يمكن ان يعتمد عليه للوقوف بوجه هذا الخطر!!! وبكل سهولة صَدَّقَ بعض العرب هذه الفكرة و اندفعوا للعمل بها، ونسوا في سرعة هرولتهم ما فعلته اسرائيل بالامة العربية منذ، بل و قبل قيامها على ارض فلسطين في عام ١٩٤٨، وما زالت تفعله حتى اليوم. نسوا الحروب العلنية والسرية والتصفيات الجسدية واغتيال العلماء والمثقفين و الطفولة ونسوا الدور الذي لعبته اسرائيل في تمزيق الأقطار العربية الواحدة تلو الاخرى، والمجاهرة بهذا الهدف دون خوف او وجل، علما ان هذه السياسات الإسرائيلية مستمرة حتى والمطبعين يتهافتون عليها و يزورونها بصورة سرية، او يستقبلون وفودا وأشخاصا مسؤولين منها. هذا طبعا لا يعني ان ايران هي ملاك المنطقة، وبالتاكيد لا يمكن ان يبرر او يغفر لها ما فعلته وتفعله بالعراق، الذي بالمناسبة لم يكن ليحصل لولا الاحتلال الامريكي-البريطاني – الاسرائيلي عام ٢٠٠٣، ولكن يجب ان يبقى هناك فارق ببن الاثنين، اسرائيل عدو تاريخي وحضاري وانساني، ويهدد مصير ومستقبل الأمة. وايران خصم او منافس سياسي إقليمي، يمكن ان تحل المشاكل معه بالدبلوماسية الهادئة والحوار. ولو كان في العراق سياسيون حقيقيون يحترمون العراق وتاريخه وشعبه، لوقفوا بوجه التغلغل الايراني بحزم وحولوا العلاقة الى علاقة متكافئة لا تابعة ذليلة. ولكن ان يظهر علينا الان ليقول لنا ان الولايات المتحدة، التي كانت السبب في كل ماسي العراق منذ بداية الاحتلال ولحد اليوم، ناهيك عن ما فعلته قبل ذلك، هي من (سيحرر العراق من الاحتلال الايراني)، يبقى موقفا ليس محيرا فقط، وإنما لايمكن اعتباره الا ساذجا او غير محسوب بطريقة صحيحة اذا احسنا النية، او مدفوع او مع الاسف طائفي بحت. ويمكن تفسير ذلك ببعض الملاحظات السريعة، اولا ان من أوصل العراق الى هذا المنحدر ليست احزاب من طائفة واحدة معينة، ولكن مجموعة احزاب وأشخاص من كافة الطوائف والقوميات، كلها شاركت في العمالة والانبطاح وتسليم مقاليد الامور لامريكا وايران واسرائيل، ولا تزال تفعل ذلك. ثانيا ان تبعة ومسؤولية كل ما جرى و يجري في العراق منذ عام ٢٠٠٣ تتحمله الولايات المتحدة وحلفائها الذين مكنوا لكل من هب ودب ان يتغلغل ويبث سموم نفوذه فيه، ثالثا ان الولايات المتحدة هي التي ارادت وخططت لكي توصل العراق الى هذه الحالة، وبالتالي فانه لا يمكن لعاقل ان يتصور، بعد كل هذه التجربة المريرة، انها ممكن ان تفعل اي شيء لكي يعود العراق الى ما كان عليه من خير وعزة ومنعة.
في حادثة لا يمكن ان تمحى من الذاكرة، جرت في ذروة الحرب العراقية-الإيرانية زار الرئيس الراحل صدام حسين احدى مدارس بغداد المتوسطة للبنين، وكما كانت العادة فان هذه الزيارة كانت تبث في كل نشرات الأخبار آنذاك. واثناء تفقده لأحد الصفوف سال الطلبة (من هو العدو الاول للعراق؟)، فهب كل الطلبة برد واحد (إيران إيران)، عندها رد عليهم قائلا (لا يا واولادي ايران دولة جارة، حكامها سيئون نعم، ولكنها تبقى دولة جارة، والعدو الاول للعراق وللأمة العربية هي اسرائيل )، ثم استرسل في توضيح فكرته. بالتأكيد لم تكن الزيارة اعتباطية، ولا عابرة وإنما مقصودة ومع صبية بهذه الإعمار والذين تفتحت عيونهم وإذهانهم على الحرب مع ايران واستمرارها، واراد ان يصحح ما قد يرسخ في ذهنهم من أفكار خاطئة.
ويبدو ان البعض من الراشدين والكبار في العمر بحاجة الى التذكير بهذه الحقائق. ان الاعتماد على فكرة ان عداء الولايات المتحدة لايران يمكن ان يَصْب في مصلحة العراق تفكير خاطئ، اثبت خطاءه في السابق وسيثبت خطاءه في المستقبل. واحتمال اتفاق ايران مع أمريكا امر وارد وهناك مؤشرات عليه، و تحرير العراق من اي نفوذ اجنبي مهما كان نوعه ولونه هو مسؤولية ابناء العراق فقط، وبكل مكوناتهم و اطيافهم من من لم تتلوث مسيرتهم بالتعاون مع الأجنبي، اي كانت جنسيته، ولم تتلوث أيديهم بالفساد او بدماء العراقيين الزكية. وان من يعتقد عكس ذلك، يرتكب خطاءا كبيرا ان لم نقل جريمة كالتي ارتكبها العملاء والمأجورون الذين تعاونوا مع الولايات المتحدة وسهلوا و برروا احتلال العراق و تدميره.
2 الصراع بين أمريكا وإيران وانعكاساته على العراق علاء حميد القدس العراقي

في أخر حوار أجراه الصحفي المعروف توماس فريدمان مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما في صحيفة نيوريوك تايمز، يلمس الذي يقرأ هذا الحوار بوجود تحول بتوجهات الإدارة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وإعادة النظر بالدور الإيراني فيها، ولهذا ذهب أوباما في حواره إلى القول بأن الخطر لا يتمثل بإيران، بل في واقع الشعوب العربية وما تعانيه من غياب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
منذ ستينيات القرن الماضي تعاملت الولايات المتحدة مع هذه المنطقة كمجال حيوي تختبر فيه قدراتها الاستراتيجية على إدارة الأزمات، وهكذا ظلت تمثل بالنسبة لها حماية ونفوذ، لكن موازين القوى الدولية أخذت بالتغير منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي وبزوغ دول جديدة من إرثه، لهذا أصبحت خريطة العالم السياسية تظهر مراكز قوى جديدة ومختلفة.
مع هذا ظلت منطقة الشرق الأوسط تحمل الأهمية الدولية لعدة أسباب؛ منها قضية الصراع العربي الإسرائيلي، اختلال التوازن العسكري والسياسي بين دول الخليج وإيران، ثم زاد على الأمر مجيء ما يسمى “بثورات الربيع العربي” التي جعلت الأسئلة القديمة تعود مرة أخرى التي كانت تعنى ببناء الدولة وعلاقتها بالمجتمع.
ما يميز هذه المنطقة خط الصراع المتنامي على أساس المذهب والطائفة بعد سقوط النظام في العراق العام 2003، حيث نجد خط هذا الصراع يبدأ من إيران، العراق، والسعودية منتهيًا في اليمن.
زاد توقيع الاتفاق الأخير بين إيران والدول “5+1” من صعوبة الوضع العراقي، بسبب موقعه المجاور لإيران وغلبة الطابع الاجتماعي الشيعي على الجماعة السكانية الأكثر عددًا؛ إذ يدفع هذا الوصف نحو المزيد من الضغوط والاشتباك مع الحساسية العربية المتصاعدة من الدور الإيراني في بلدان المنطقة.
تاريخيًا كان محور العلاقة بين العراق وإيران يحكمها الصراع والتدخل، يكفينا لإثبات ذلك الرجوع إلى وقائع الحرب بين الدولة الصفوية والعثمانية، التي كانت ساحتها الجغرافية العراق لسنوات طويلة، ثم جاءت الحرب العراقية – الإيرانية لتكمل مصداقية ملامح هذه العلاقة.
القضية تبدأ من امتلاك البلدين لأطول شريط حدودي بين دولة عربية وإيران، وهنا نطرح سؤالا فيه نوع من الغرابة، هل تشبه العلاقة بين العراق وإيران، العلاقة بين الولايات المتحدة والمكسيك بحكم الاختلاف السياسي والتقارب الاجتماعي والثقافي بين البلدين؟
على مر التاريخ نجحت إيران سياسيًا على توظيف الجغرافيا العراقية لكي تكون مدخلًا لها في الوصول إلى البلدان الأخرى، على عكس العراق الذي لم يتمكن يوما من توظيف إيران لصالح مصالحه السياسية والاقتصادية.
تدفعنا قراءة العلاقة بين الطرفين “العراق وإيران” نحو العودة إلى ثنائية العروبة ذات المضمون الإسلامي، والإيرانية الحاملة للمعنى الفارسي القومي، وهذا راجع إلى زاوية النظر لكلا الطرفين لبعضهما البعض.
حيث تنظر إيران إلى العراق وكأنه الطرف الذي يحتاج إلى رعاية قائمة على رؤيتها السياسية لما تمثله من تقدم وقدرة على إدارة النزاعات في المنطقة، بالاعتماد على تجاربها في بلدان أخرى نجحت فيها.
يتعامل العراق مع إيران بكونه التهمة العربية الجاهزة التي لا مجال للانفكاك منها، ولهذا هناك مستويان من التعامل ينتهجهما العراق؛ الأول داخليًا بتأثير النفوذ المحلي عبر الجماعات والقوى السياسية والأخر خارجيًا عبر إمكانية تنامي التقارب مع الأطراف العربية لكي يوازن بين طرفي هذا التعامل.
ينطلق الجانب العربي بتعامله مع العراق من أطروحة التبعية للجانب الإيراني، وبالمقابل يعلل العراق التأخر العربي بوقوعه تحت ميراث النظرة التاريخية المعبأة بالنوازع المذهبية، لهذا أطلق أحد الزعماء العرب مصطلح “الهلال الشيعي” وكأنه يعيد أجواء الماضي وصراعاته.
العراق وإيران بعد 2003:
قبل تغير النظام السياسي في العراق كان هناك نوع من التقابل بين أطروحتين، أطروحة البعث القومية في مقابل أطروحة إيران الإسلامية التي وضعها الخميني، في الظاهرة يوجد تنافر عالي ولكن في مستوى الطرح الفكري والأيديولوجي هناك تشابه فيما يخص مبدأ الشمولية والدعوة إلى قيام أمة على أساس ديني أو قومي، كان المشروعان عابران للحدود يتخطان الجغرافيا ويوظفان التاريخ والتراث، وهذا يشير إلى أحد أسباب الصراع والتزاحم على الاحتكار والهيمنة على المنطقة كمجال للنفوذ والتأثير.
لكن الحال اختلف بعد إزاحة النظام البعث الدكتاتوري، حيث لم يعد هذا التقابل موجود بسبب أن الطبقة السياسية الحاكمة لا يوجد لديها مشروع سياسي يحمل جنبة فكرية يكون في قبالة ما تطرحه إيران من مشروعها السياسي والذي اعتمد على مبدأ تصدير الثورة.
كما أن أغلب هذه القوى تحمل سمات سياسية متشابهة مع مقولات فكرية يحملها النظام السياسي في إيران، وهي أيضا قضت فترة ليست بقليلة في إيران إبان خروجها من العراق بسبب الاضطهاد السياسي من قبل نظام البعث السابق.
هذه التصورات تجعلنا نعيد اكتشاف العلاقة ومستوى التفاعل بين الطرفين “العراق وإيران” من جديد على أساس مقاربة الاختلاف والتشابه بين الاثنين، وهذا يحيلنا إلى سؤال بسيط هو: ماذا تريد إيران من العراق والعكس صحيح؟
حتى يمكننا التقاط مستوى التفاعل وحفظ المسافات بين الطرفين، كذلك نحتاج إلى الاطلاع على: كيف تفكر الطبقة السياسية في العراق بإيران بعد 2003؟ وما هي المنطلقات التي ترتكز عليها في بناء موقفها اتجاه إيران، وهذا السؤال يقع جوابه على عاتق الطبقة السياسية الشيعية.
ربما نجد بعض الارتباك لدى هذه الطبقة كونها واقعة في منطقة صراع غير محسومة الخيارات لغاية الآن، وهي منفعلة وغير فاعلة فيما يجري من حولها من صراعات، مع فقدانها لتوظيف إمكانيات العراق الجيوستراتيجية في دفع المخرجات السلبية للعلاقة بين إيران والعراق.
القضية تكمن في غياب التصور الواضح لهذه الطبقة عما يجري من تدافع إقليمي ودولي في منطقة الشرق الأوسط، ويكفينا أن نسأل كيف كان رد هذه الطبقة على تصريحات مستشار الرئيس الإيراني عن الإمبراطورية الإيرانية وعاصمتها بغداد؟، لم تتحرك هذه الطبقة بشكل واضح إلا بعد تصريحات من قوى فاعلة في المجتمع العراقي.
سوف تبقى العلاقة بين الطرفين تحكمها ثنائية “الفاعل والمنفعل” بسبب عدم قدرة الطبقة السياسية الجديدة من بناء رؤية واضحة لعلاقات العراق الإقليمية والدولية بعد 2003، لأنهم ما زالوا يفكرون بعقلية انتظار وقوع الحدث ثم بعد ذلك اتخاذ الموقف، ولهذا ينطبق على مواقفهم السياسية تسمية مبدأ “سياسة المنفعل”.
3 حين تتحول الدول إلى ثكنات عسكرية
فاروق يوسف العرب بريطانيا

“يمكن حل عدد من مشكلات الشرق الأوسط إذا ما تم احتواء إيران وتحجيم دورها القائم على أساس توسع نفوذها”، قول فيه الكثير من التبسيط غير أنه ينطوي على قدر غير قليل من الحقيقة.
فنفوذ إيران المتنامي قد أدى إلى أن تفقد دول استقلالها وقدرتها على إدارة شؤون مواطنيها بما يخدم خطط تنمية، كان بإمكانها أن تنهي الكثير من مشكلات شعوب، كانت ولا تزال تحلم بالعيش في سلام في إطار المواطنة التي تستند إلى مبدأ العدالة الاجتماعية.
فطبيعة التدخل الإيراني ليست من ذلك النوع الذي يكتفي بالسياقات السياسية التي يمكن أن تعبر عنها التحالفات القائمة بين الدول، بل يضرب ذلك التدخل بعصفه كل مرتكزات العيش بما يجعل النسيج الاجتماعي عرضة للتمزق والتآكل، كما أدى إلى انهيار واضح في قطاعي التعليم والصحة وسواهما من الخدمات التي يمكن أن تنشئ مجتمعا متصالحا مع إرادته الحرة.
لقد صار جليا أن الوجود الإيراني يعبر عن آليته في الاستمرار من خلال الميليشيات المسلحة، الخاضعة عقائديا لفكر الولي الفقيه، التابعة بشكل مباشر للحرس الثوري الإيراني. وهو ما يعني إما تسليح المجتمع وإما إخضاعه لسيطرة الجماعات المسلحة التي تلتزم أمام قيادتها بأسلوب المطيع الأعمى، غير أنها لا تلتزم بشيء أمام المجتمع. فهي تمارس العنف متى تشاء وضد من تشاء، ولا يمنعها وازع من الاستيلاء على المال العام. كما أنها لا تعترف بوجود دولة وطنية.
وهكذا تكون إيران مسؤولة بشكل كامل عن الانهيار الشامل الذي انتهى إليه العراق الذي لم يصح حتى هذه اللحظة من صدمة الاحتلال الأميركي الذي مضى عليه حوالي 16 سنة. وهي مسؤولة عن تهميش إرادة الشعب اللبناني من خلال السيادة المطلقة التي يمارسها حزب الله على القرار السياسي في لبنان، كما أنها مسؤولة عن الحرب في اليمن من خلال إسنادها المعلن لجماعة الحوثي التي لم تعد تكتفي بالإطار المحلي لمطالبها، بل صارت تهدد بأسلحتها المحيط الإقليمي.
إيران فعلت كل هذا ولا تزال تطمع في أن تفعل المزيد مصرة على أن استمرار نظامها في الوجود مرتبط بسياسات التوسع العسكري على حساب دول المنطقة التي تم استضعافها وإحداث خلخلة عظيمة في بنائها السياسي. وما انتهت إليه إيران من نتائج يتناقض كليا، كما قلنا، مع قيام دولة ترعى شؤون مواطنيها وتتحكم بثرواتها بما يخدم مصلحة شعوبها، مستقلة في خياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية.
فالدول التي ورد ذكرها صارت تستظل اليوم بعباءة الولي الفقيه بكل ما تتضمنه من تخلف وجهل وفقر ونزعات بدائية أدت إلى أن تتراجع شعوب تلك الدول عن إمكانية أن ترى لها مكانا تحت شمس العصر. فهي شعوب ضائعة، يائسة من نفسها، مخيبة، مغيبة ومحطمة الآمال.
وبشكل أوضح صارت تلك الدول أشبه بالثكنات العسكرية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني، وصار قاسم سليماني هو الملك غير المتوج الذي تخضع لأوامره المطلقة.
لذلك فإن الحد من نفوذ إيران في المنطقة وبالأخص في الدول الثلاث يمكنه أن يشكل بداية لحل مشكلات عديدة وليس الحل كله.
من خلال ذلك الإجراء تفقد الجماعات الطائفية المسلحة مصادر تمويلها بالمال والسلاح، وإذا ما كان البعض منها سيقاوم معتمدا على إمكاناته الذاتية، كما هو حال حزب الله، فإن الزمن كفيل بالقضاء على تلك الإمكانات إذا ما توفرت إرادة دولية تعين تلك الدول على النهوض مجددا.
لا أحد يتمنى الشر لإيران غير أن واجب المجتمع الدولي ينبغي أن يقوم على أساس منع الشر الإيراني من إلحاق الأذى بالآخرين.

4 الموصل.. شهادات مدينة ملتاعة
د. باهرة الشيخلي
العرب بريطانيا

امتلأ بريدي برسائل وجهها إليّ أبناء الموصل، بعد نشر صحيفة “العرب” مقالتي “في الموصل.. نزوح معاكس من البيوت إلى الخيام”، لكن الأسماء في الرسائل كانت مستعارة تكتفي بالحرف الأول من اسم المرسل وأبيه أو لقبه، مما يشي بإرهاب الحشد الحكومي للناس، مع أن أغلب ما قالوه في رسائلهم رصدته وأعلنته منظمات محلية ودولية لحقوق الإنسان.
إنهم وجدوا أن هناك من يوصل صوتهم ويشرح معاناتهم، فطفقوا يشكرون الجريدة والكاتب، ولكن رسائلهم حملت استعراضا لجوانب أخرى مما يعانون لم نذكرها في المقالة السابقة.
ومن خلال قراءتنا لمقتطفات من هذه الرسائل ترتسم أمامنا صورة واضحة لما يجري في هذه المدينة التي عانت من إرهابيْن، ودُفن تحت أنقاض مبانيها أطفال ونساء وشيوخ.
وقد آثرت ألا أتدخل في النصوص الملتاعة، إلا في ما يخص بعض الهنات النحوية، وتركت رسائل أبناء الحدباء تتحدث بكل حرية بوصفها شهادات حية فيها من الويلات الموجعة ما يجعلها بمرتبة وثائق إنسانية توضع أمام الجمعيات والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان.
والآن بات جليا أن الذي يهيمن على العراق ويتحكم برقاب شعبه هو الحشد الشعبي “المقدس” وأن أي حكومة لن تتلقى الأوامر إلا من هذه القوة.
إنهم يؤكدون أن الحشد الحكومي يزداد تغلغله في الدوائر الحكومیة بمحافظة نینوى، فهو يقصي مديري الدوائر ومديري الأقسام عن مناصبهم بمختلف الحجج والذرائع من أجل إحلال أشخاص آخرين موالین محلهم، مقابل الحصول على عقود وامتیازات من هذه الدوائر، فلا یتم تعیین مدیر إلا بعد الاتفاق معه على مبلغ كبیر مقابل تعیینه واستمرار الدعم المتبادل بین الطرفین، وهناك معلومات عن تعزیز المیلیشیات الموجودة في نینوى بالمزید من الأسلحة والذخائر ومحاولة ضم عدد من شباب المحافظة إلى صفوفها، وهو يماثل ما فعله تنظيم داعش في المدينة.
يشكو الموصليون من استیلاء عصابات ومتنفذین على الأراضي والممتلكات العامة التابعة للدولة أو للأوقاف من خلال التعاون مع أٔطراف من الحشد أو المسؤولین مقابل حصص واستثمارها أو بیعها خارج الضوابط ما یهدد بتحويل المدینة إلى عشوائیات، وهناك سباق محموم من أجل سحب الأموال من مجتمع محافظة نینوى ونقلها إلى بغداد أو إیران بشتى الطرق والوسائل من خلال بیع أراضي الدولة لهم أو منحهم إجازات في نشاط معین مثل استثمار أو مزاولة مهنة ما وغیرها ومن أي شيء تروم عمله في محافظة نینوى حتى الحصول على هویة أحوال مدنیة بسیطة یتطلب دفع أموال مقابل ذلك. وتكشف الرسائل عن أن الحشد الحكومي يسعى، هذه الأيام، إلى تقویة علاقته مع عشائر محافظة نینوى واستقطابها من أجل دفعها مستقبلا إلى مقاومة الأميركان في حال تطور الأمر وتصاعد المواجهة مع إیران، وعن زیادة السخط الشعبي على الحكومتین المركزیة والمحلیة بسبب نقص الخدمات وعدم الاكتراث بحاجات المناطق المحررة.
وتلفت إلى غیاب التخطیط في شتى مجالات إعمار محافظة نینوى وخضوع موضوع إعادة الخدمات والإعمار للصفقات المشبوهة والمزاج والمحسوبیة، وإلى تنامي الكراهیة ضد الحكومتین المحلیة والمركزیة والقوات الأمنیة بسبب التدهور الخدمي والاقتصادي، بالإضافة إلى الظلم الذي یتعرض له المواطن من إجراءات إداریة وأمنیة كونه من محافظة نینوى مثل التصریح الأمني وغیره.
الرسائل أثارت أيضا مشكلة تدهور الوضع الاجتماعي بین الطبقات الفقیرة بسبب الفقر والجهل جراء الحروب والنزاعات المسلحة وتدهور الواقع التعلیمي والصحي، والتوترات المتصاعدة في بعض أقضیة محافظة نینوى ونواحيها مثل سنجار وتلعفر وغیرهما بسبب سیطرة جهات مسلحة علیها.
بالاضافة إلى عدم الإفراج عن المعتقلین رغم صدور قرارات قضائیة بالإفراج عنهم بسبب مساومة ذویهم أو التربح من خلال حصص إطعامهم والمساعدات التي تقدم إليهم، فضلا عن مشكلة ابتزاز النازحين من خلال عدم السماح للكثیر من العائلات بمغادرة مخیمات النزوح بحجة أنهم أقرباء لأشخاص ينتمون إلى داعش والاستیلاء على منازلهم ومساومتهم والتربح أیضا من مخصصات إطعامهم والمساعدات التي تقدم إلیهم.
القضية الأخطر هي أن تنظیم داعش وصل إلى مراحل متقدمة في إعادة تنظیم صفوفه، وهو يمارس نشاطه بهدوء، وخاصة أن أغلب المنتمین إليه غیر مقبوض علیهم أو مفرج عنهم بحجة عدم كفایة الأدلة بسبب الفساد المستشري في المنظومة الأمنیة، إذ یتم رفع أسماء من يدفع من الحاسبة المركزیة مقابل مبالغ مالیة، أو يتم إصدار هویات رسمیة لهم بأسماء مختلفة أیضا مقابل مبالغ مالیة.
الفساد هو السبب الرئیسي لعودة ظهور التنظیم بالإضافة إلى الأسباب الأخرى التي أسهمت في ظهوره قبل العام 2014 والتي لا تزال موجودة من ظلم وإقصاء وتهمیش وتدهور اقتصادي، عدا عن تسجیل حالات عدة بتعرض تنظیم داعش إلى القرى المحاذیة لجزیرة نینوى الغربیة واغتیاله عددا من المختارین.
إن أهل الموصل ينتظرون الفرج، فقد فرضت عليهم طقوس طائفية غريبة لا يعرفونها، وسلطت عليهم سياط العذاب والتفقير، ومن غادر منهم مخيمات النزوح يعود إليها لأنه وجد أن حياته في تلك المخيمات أكثر أمنا وكرامة من حياة في بيت لا يدري متى يداهمه من يتهمه بأنه داعشي، ثم يسوقه إما إلى الاعتقال، وإما إلى الإعدام.

5 فالح حنظل من ذكريات العهد الملكي العراقي إلى أفق التاريخ الإماراتي زيد بن رفاعة
العرب بريطانيا

عندما دخل فالح حنظل الكلية العسكرية العراقية عام 1954 وتخرج منها ملازما، لم يكن يتخيل أنه سيكون شاهدا على حدث بدّل تاريخ العراق وقلبه رأسا على عقب، ألا وهو حدث 14 يوليو 1958.
كان صباحا كبقية الصباحات بالنسبة إليه. خرج من داره ليعبر الجسر إلى عمله في قصر الرحاب، وإذا بقوات مِن الجيش تمنعه من العبور، فراح يستفسر من مقر عمله عبر التلفون عمَّا حدث، وإذا بالمقر، حيث رئيس الحرس الملكي، لا يعلم بشيء، حتى وصلت مفرزة وحاصرت القصر، واستسلم الملك والوصي وبقية العائلة الملكية، ولكن ذلك لم يمنع وقوع المذحبة الرهيبة، والتي راح ضحيتها الملك والوصي والعديد من أفراد الأسرة الهاشمية التي كانت تحكم العراق، إضافة إلى رئيس الوزراء الأسبق الباشا نوري السعيد وآخرين.
حنظل الذي يعد أفضل مَن ألف ووثق الحدث في كتابه “أسرار مقتل العائلة المالكة في العراق”، كان قد التقى بقاتل العائلة ستار العبوسي، بعد حين، وأخبره الخبر اليقين، والندم القاتل، حتى وصل الرجل إلى حافة الانهيار، مِن وقع الجريمة، وانتهى منتحرا، بعد أن رفعه الثوار إلى رتبة عقيد، ولم يُحاسب، ولم تحتج عليه الأحزاب التي عدت الثورة فاتحة أبواب الجنة لأهل العراق، لكنها على ما يبدو فتحت أبواب جهنم، ولم يجد من أتى بعدها قفلا لها.
اعتقل الثوار حنظل في بغداد، لكونه من ضباط الحرس الملكي أولا، وثانيا، والكلام يعود له، بسبب أنه كان مفعما بالفكرة والنشاط، فعمر الثانية والعشرين، يرى الخيال حقيقة. بعدها انتقل إلى الأردن حاملا الفكرة ذاتها، فاتصل بوصفي التل، رئيس وزراء الأردن في ما بعد لاستعادة الماضي الذي بدا وكأنه ذهب من غير رجعى.
وظل الملازم المتقاعد، وهو مِن أسرة ضباط في الجيش، فوالده كان عقيدا، يحوم لجمع شمل الغاضبين من الحدث، وفي ذهنه إمكانية إعادة العهد الملكي. إلا أنه عول على الملك حسين بن طلال، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، والعذر أنه كان هناك اتحاد ما بين الأردن والعراق. غير أن الملك الحسين كان حكيما، ويعرف أن ذلك العهد لن يعود، وربّما راح الأردن أيضا إذا عمل للفكرة نفسها، وهو الذي حافظ على ملكه بعض النواجذ، فبعد ثورة العراق كان الأردن هدفا وشيكا.
عاد حنظل إلى العراق بعد سقوط النظام الجمهوري الأول، ليأتي نظام جمهوري آخر على وقع حدث 8 فبراير 1963، فعُين هناك مديرا لمصنع السكاير، لكن حدثا آخر أقلقه كونه من رجال العهد الملكي، مع صغر سنه ورتبته آنذاك، لذا قرر مغادرة العراق ثانية إلى الأردن، وكان قبلها قد حصل على شهادة عالية في الإدارة الصناعية من جامعة سيراكيوز الأميركية.
طريقة حنظل في كتابة تاريخ دولة الإمارات ورجالها تركز على تسجيل الحدث عبر الرواية كما هي، وقد كان بأسلوبه هذا رائدا مؤسسا ومرجعاً لمَن سيأتي ليكتب ويبحثطريقة حنظل في كتابة تاريخ دولة الإمارات ورجالها تركز على تسجيل الحدث عبر الرواية كما هي، وقد كان بأسلوبه هذا رائدا مؤسسا ومرجعاً لمَن سيأتي ليكتب ويبحث
غادر العراق ومازال نفس المعارض في ضميره، لإعادة مجد العهد الملكي، واتصل به رجال المعارضة العراقيين، مِن أمثال سعد صالح جبر إلا أنه اكتشف أن الهدف كان سرابا، وأن الرجال غير قادرين على إعادة الزمن إلى الوراء.
عمل حنظل في مجال حفر آبار المياه، وفي مجال النفط بأبوظبي، وفي عرض الصحراء، التي وصلها العام 1969. وخلال الخمس سنوات التي قضاها ينام ويعيش في فندق، عبارة عن سيارة لوري، أخذ يتقصى تاريخ المنطقة ويسجل لهجاتها، فجمع مادة غنية ليؤسس عليها كتابة تاريخ الإمارات. فصدر له “معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة”، و”معجم الغوص واللؤلؤ في الخليج العربي”، و”معجم القوافي والألحان في الخليج العربي”.
ربّما وجه إلى الضابط العراقي والمؤرخ الإماراتي فالح حنظل السؤال الآتي؛ كيف قدّر له أن يترك العمل في مجال النفط، وما سيأتي له به من ثروة وعيش رغيد، وهو من أوائل العاملين فيه، ويتفرغ لكتابة التاريخ، والذي مورده لا يغني ولا يسمن؟ لقد انحاز حنظل إلى ما يحب ويشغف به، فكان التاريخ هاجسه، واعتمد في كتابته على الوثيقة والمصدر، فهو لم يكتب مذكرات، ولا نثرا أدبيا، إنما يُسجل التاريخ، وكانت طريقته في كتابة تاريخ دولة الإمارات ورجالها تسجيل الحدث عبر الرواية كما هي، وهو بهذا كان مؤسسا ورائدا، ومَن يأتي ليكتب ويبحث في التاريخ لا بد أن يستند إلى مرجع، وليس أفضل مما كتب حنظل مرجعا.
يرى حنظل كتابة التاريخ مسؤولية، وليست مجاملة، ولا خلق أحداث ونسج معلومات لتحسين الصورة أو تحقيرها. وهو يعلم أن تحسين الصورة كتحقيرها عند كتابة التاريخ، فكلاهما يكونان تزويرا وكذبا. لذلك نستطيع القول إن حنظل حوَّل التاريخ الشفاهي إلى تاريخ مكتوب، في أغلب كتبه، وقد وصفه البعض بأنه أول من كتب بهذا الشكل، وصنع تاريخا مكتوبا. حينها اقترح عليه أن يكتب التاريخ على طريقة محمد بن جرير الطبري، ومَن أتى من بعده، أي يُسجل الحوادث على السنين، لكن ضياع حوادث عدد من السنين منعه من الأخذ بهذا المقترح. لكنه أصدر بدوره “المفصل في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة”، و”رسائل الرسول وكتبه وموفودوه إلى حكام الخليج العربي”، و”الشحوح وتاريخ منطقة رؤوس الجبال في الخليج العربي”، و”ابن ظاهر فيلسوف الإمارات وأمير شعراء النبط”، و”العرب والبرتغال في التاريخ”، و”الشيخ زايد بن خليفة حاكم غمرة أبوظبي- 1855-1909”، و”جامع الأمثال ومأثور الأقوال والكنايات عند أهل الإمارات”، “وموجز تاريخ النفط في بلدان الخليج العربي”، و”مختصر معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية”.

الوطن الآخر

حنظل يبرز، خلال نصف قرن قضاه في الإمارات، كمثقف حيوي. فبالإضافة إلى كتبه، قدم برامج تلفزيونية وأسس صفحة “مدارات خليجية”، وأدار المنتدى الثقافي في أبوظبيحنظل يبرز، خلال نصف قرن قضاه في الإمارات، كمثقف حيوي. فبالإضافة إلى كتبه، قدم برامج تلفزيونية وأسس صفحة “مدارات خليجية”، وأدار المنتدى الثقافي في أبوظبي
مَن التقى بحنظل، وهو في العشرينات، المشتعل نشاطا وحيوية، وفي خياله تسهل العقبات الجسام، لم يُصدق أنه حدب وبهذا الصبر على أن يكون مؤرخا، وهي حرفة تحتاج إلى روية وبُعد نظر، وهكذا وجد نفسه في معمعة التاريخ، ولم تبق للسياسة ذرة في ضميره، فالحلم بعودة النظام الذي خدم فيه، ويرى قد بنى العراق من العدم، قد تبخر.
قد تجد القليل من الكُتاب والمؤرخين يقبل النقد، ويعترف بالخطأ، وأحدهم حنظل، تراه يسأل كثيرا، وإن اقتنع قدم اعتذاره بسهولة، فهو من التواضع أن يجلس مستمعا، وربَّما من يستفيد منهم بعمر أبنائه وأحفاده، لكنه لا يتعامل مع العلم بالعمر وطول التجربة إنما بتراكم الخبرة والدراسة العلمية والنتاج.
هكذا عوض حنظل عن حلمه السياسي بإعادة العهد الملكي بكتابة التاريخ، واقتصاره على تاريخ الإمارات ولهجتها ومجتمعها، بعد أن دخلها وكان عمره خمسة وثلاثين عاما، فما عاشه فيها أكثر مما عاشه ببلاده العراق، ففيها قضى خمسين عاما وما زال يعيش.
إنها رحلة طويلة من الشباب إلى الشيخوخة المفعمة بالنشاط، فمازالت القامة منتصبة ونظرة البصر حادة، والذاكرة فولاذية، ووقته مشغول بالكتابة والبحث. جمع دواوين لشعراء إماراتيين نبطيين، بعد أن كانت قصائدهم محفوظة في الصدور أو مدونة في مخطوطات متفرقة، وقد بلغ عدد الدواوين التي جمعها فالح حنظل نحو ثلاثة عشر ديوانا، وبذلك أسس تاريخا أدبيا كاد يُطوى.
هذا بالإضافة إلى ممارسة التحقيق، ومن تحقيقاته الكتب الآتية “نيل الرتب في جوامع الأدب” لمحمد علي الشرفاء الحمادي، و”الجواهر واللآلئ في تاريخ عُمان الشمالي” لعبدالله بن صالح المطوع، و”عقود الجمان في أيام آل سعود في عُمان” للمؤلف نفسه، و”الإمارات العربية المتحدة والخط الجوي البريطاني” لفاطمة الصايغ، و”الفوائد في تاريخ الإمارات والأوابط” لمحمد سعيد غباش، و”الحوليات في تاريخ الإمارات” ليوسف بن محمد الشريف، و”رسائل الملا حسين” للشيخ سعيد بن أحمد آل حامد. مازالت بعض مؤلفاته المخطوطة تنتظر النشر مثل “قصر الحصن التاريخ والأدب والفن”، و”رسائل السركال” بالاشتراك مع فاطمة الصايغ، و”الشيخ سُلطان بن سالم القاسمي” وغيرها.
كان حنظل، خلال الخمسين عاما التي قضاها ومازال بدولة الإمارات، متعدد النشاط والفن، والعمر قبل عشرين عاما يساعده على هذا التنوع، فقام بمهمة إعداد وتقديم برنامج تلفزيوني تحت عنوان “آفاق خليجية”، وبرنامج آخر تحت عنوان “المسلمون في إسبانيا والبرتغال”، كذلك له مساهمة في تأسيس وإصدار صفحة ثقافية بعنوان “مدارات خليجية” في جريدة “أخبار العرب”، وقام بتأسيس وإدارة المنتدى الثقافي في أبوظبي.
لكل هذه الجهود وما لم نذكره لضيق المجال، حصل حنظل على وسام أبوظبي تكريما له على تأليف كتاب “معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتحدة”، كما حصل على جائز العويس للدراسات والابتكار العلمي، وحصل على جائزة أحسن كتاب عن الإمارات، وهو كتابه “جامع الأمثال ومأثور الأقوال والكنايات” عن هيئة الشارقة للكتاب.
كتبت عنه صحيفة الاتحاد الإماراتية، بمناسة تكريمه في العام 2014 من قبل الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي ونائب رئيس دولة الإمارات، بقلم ناصر الظاهري “لقد سعدت أبوظبي والإمارات بوجود شخص شريف مثله عاش فيها، وعمل من أجلها، كانت حملته لنا الريح الباردة يوما، فسكن في القلوب، وحوطته هُدب العيون، ورد الجميل بأحسن منه وأكثر. كان يعمل وبصمت، ينجز من دون أن يتبختر بعمله هنا وهناك، بغية مراءاة وبغية فائدة تُرجى في الحياة”. كذلك كتبت عنه الصحيفة نفسها وبقلم علي أبوالريش “حنظل وهو يتكئ على زمانه، ويمشي بخطوات أشبه بالجملة الاسمية على صفحة الأيام، تلتقي به في ممر أو بهو أو عند مدخل، وكأنك تصطدم بالقبس، كأنك بحضرة قديس يتلو أحلامه بعرفانية وعيه، وانغماسه في أتون الكلمة، كنورس يغدق فم الموجة برائحة الأجنحة الهفهافة، يمر عليك كما الرواية العتيدة، والثيمة المعتقة بمطر الرصانة والرزانة وصدق الأمنيات، هكذا هو فالح حنظل، ملح الكلمة، وسُكر العبارة المجللة بالمعنى الرصين”.
وكتب عنه سلطان العميمي، الذي شاركه في هم التوثيق الأدبي واللغوي الإماراتي، قائلا “عندما بدأت الاهتمام بالأدب الشعبي وتاريخ الإمارات اتجهت إلى الدكتور فالح حنظل طالبا مساعدته، ووجدتني أمام شخص كأنه يعرفني منذ زمن بعيد، فتعامل معي بحب وود، ومنحني كل ما طلبته من مراجع”. هذا غيض من فيض فالإمارتيون الذين كتبوا وصرحوا بمحاسن فالح حنظل كثيرون، والكرم بينه وبينهم متبادل.
العراق الذي لا يُنسى

على الرغم من أنه ترك بلاده نهائيا وهو في سن الشباب، وقبلها غادرها لبضع سنوات عاشها بالأردن، إلا أنه مازال متعلقا بالعراق، وأخباره تشغله، فعندما عاد بعد 2003 لم يره ذلك العراق الذي تركه، تغير كل شيء، الطرقات والأبنية والبشر، وصار هاجس الطائفية يؤذيه، الطائفية التي وجدها تنخر بمسقط رأسه وملاعب طفولته وحارة شبابه، ويكلثر السؤال عن كيفية الخلاص منها، مع أنه يعلم أن السؤال لا إجابة عليه، وليس هناك من مدى زمني لها، فالأحزاب الحاكمة تعيش عليها، وتراها أسا للديمقراطية التي حملتها إلى السلطة.
تجده واقعيا في التعامل مع العصر، فالزمن الذي لا تستطيع تغييره عليك بدراسته، وعدم استفزازه، كي لا يأتي على الأخضر واليابس، أي الحفاظ على ما تبقى. حنظل لا يكره ولا يبغض أحدا على الإطلاق، وإن قيّم الشخصيات بالسالب أو الموجب، فلم ينطلق من شعوره الشخصي، بقدر ما ينطلق من المعلومة التي تحدد ذلك التقييم. هذا ما تعلمه من دراسة التاريخ، وهو الحاصل على الدكتوراه في الدراسات العربية الإسلامية من جامعة أكستر البريطانية.
وإذ يحتفي الإماراتيون بمؤرخهم، مازال في ذهن العراقيين ضابطا في الحرس الملكي ومؤرخا لمصرع العائلة المالكة، الذي يُعدّه من أوثق الكُتب.
هكذا عاش فالح حنظل شبابا مغامرا من أجل تحقيق هدف لا تقدر عليه إلا الجيوش، وهو إعادة العهد الملكي، ولما كل وفُت ما في عضده انتبه إلى مغامرته وخطورتها، وجد نفسه مؤهلا لكتابة التاريخ، وهي مغامرة أيضا، لكن محصولها تثبيت الحقيقة، مثلما ثبتها في كتابه عن مصرع العائلة المالكة في العراق، ومازال يسعى لتثبيت تاريخ أرض احتضنته كحفار آبار ماء، في البداية، و”كانت الأرض ماء مالحا ورمالا، حتى علت العمارات وشُقت الطرقات، ونصبت الجسور، وتحقق كل ما كان يخطه الشيخ زايد بعصاه على تلك الرمال”، كما يقول فالح حنظل.

6 جريمة اغتيال في كربلاء خليل علي حيدر
الايام البحرينية

من المعروف عن مرجع الشيعة الاثني عشرية السيد علي السيستاني المقيم في مدينة النجف العراقية حرصه على إبعاد المؤثرات الدينية عن القرارات السياسية أو العكس، على النقيض من مدرسة «ولاية الفقيه» التي يترأسها مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي، إلا أن السيد السيستاني يعطي رجل الدين الحق في إبداء رأيه حتى لو كان في قضية سياسية، من موقعه كمواطن في القضايا الوطنية العامة.
بعد أشهر على طلب «آية الله السيستاني» من وكلائه المعتمدين خصوصا في مدينة كربلاء «عدم التطرق مباشرة إلى الأوضاع السياسية في خطبهم ولقاءاتهم»، يقول الكاتب اللبناني «مصطفى فحص»، دعا السيد السيستاني في لقاء مع مسؤول دولي إلى «حصر السلاح بيد الحكومة والوقوف بوجه التصرفات الخارجة على القانون، ومحاسبة فاعليها بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية».
وأضاف «الفحص» أن هذا الموقف يعتبر «أول إدانة واضحة وعلنية لعملية اغتيال الكاتب والروائي العراقي «علاء مشذوب»، التي حصلت قبل أقل من أسبوعين في مدينة كربلاء». (الشرق الأوسط، 13/‏ 2/‏ 2019).
جرى التخلص من الأديب العراقي بطريقة بشعة أثارت موجة من الغضب والسخط، وسط دعوات تطالب الأجهزة الأمنية بإجراء تحقيق عاجل، وكشف القناع عن القتلة ومحاسبتهم، وقد تمت عملية التصفية بـ13 رصاصة، أطلقها مجهولون عليه قرب منزله في كربلاء، حينما كان متوجها إلى مسكنه على دراجته الهوائية، عقب حضور أمسية ثقافية في مقر اتحاد الكتاب في كربلاء.
من قرر تصفة الكاتب «علاء»؟ ولماذا؟ تتضارب الروايات حول الأسباب، فهناك كتاباته عن الفساد وتردي الواقع الحكومي، والمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية، ويشار كذلك إلى تفاصيل وردت في روايته «جمهورية باب الخان»، التي تجري أحداثها في «قاع المجتمع»، بحي باب الخان بكربلاء. وهناك احتمال آخر، يضيف الكاتب الكربلائي، «ناصر الياسري»، يتعلق بـ«تصفيته من قبل الميليشيات الموالية لإيران، خصوصا بعد منشوره الذي انتقد فيه مؤسس الجمهورية الإسلامية الخميني»، ويقول الياسري: «وجدت في جثمانه 13 طلقة نارية، وكثيرون يقولون هي عدد السنوات التي قضاها الخميني معارضا لحكم الشاه في العراق». وهناك منشور آخر لمشذوب ينتقد فيه بشدة «حزب الدعوة» لأنه لم ينصف ضحايا نظام صدام حسين الذي قتل والد الكاتب في تسعينيات القرن الماضي. (الشرق الأوسط 4/‏ 2/‏ 2019).
مصدر أمني في كربلاء لم يستبعد فكرة قيام جماعات متطرفة دينيا في كربلاء بعملية الاغتيال، على خلفية آراء دينية وسياسية، إذ «وجدت بالقرب من جثمانه قصاصات ورقية تتهمه بالكفر والإلحاد وتمتدح عملية الاغتيال».
«مشذوب»، يقول كاتب بالصحيفة، «روائي وكاتب ناشط مدني وأستاذ جامعي حاصل على شهادة الدكتوراه من كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، وله عدة روايات ومجاميع قصصية».
شيع العشرات من الكتاب والمثقفين والمواطنين العاديين من أهالي كربلاء جثمان الأديب المغتال، ونعى وزير الثقافة العراقي الفقيد، وقال شاعر عراقي عن بلده «إنها أرض كلما جاعت أكلت مبدعيها»!
مؤلفات الراحل «مشذوب» يقول «فاضل النشمي»: تزيد على العشرين كتابا في مجالات التاريخ والفن والرواية، من بينها «موجز تاريخ كربلاء الثقافي» و«تأويل التاريخ الإسلامي في الخطاب الدرامي التلفزيوني». مثقفو العراق أطلقوا حملة لشراء كتبه ردًا على القتلة، وقد صرح النائب «فائق الشيخ علي» في «تويتر»: «الرصاصات الـ13 التي توشح بها صدره ستجعلني أتوشح بقراءة 13 كتابًا من إصداراته».
الكاتب النشمي أضاف في المقال نفسه، تحت عنوان «غليان في العراق ضد اغتيال علاء مشذوب»، (الشرق الأوسط 5/‏ 2/‏ 2019): «هذه أول جريمة اغتيال كبيرة تطال كاتبا وناشطا مدنيا تقع في عهد حكومة عادل عبدالمهدي الذي تولى رئاسة الوزراء في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعد أن وقعت مجموعة من جرائم الاغتيال لناشطين مدنيين وفتيات موديل ومراكز تجميل في نهاية الدورة الرئاسية لرئيس الوزراء السابق حيدر العبادي عام 2018».
ولم يسلم وزير الثقافة هو الآخر من انتقادات كثيرة من المثقفين على خلفية بيان النعي الذي أصدره أول من أمس، لأنه «كان باردًا ولم يرتقِ إلى مستوى الحدث والإدانة الصريحة للفاعلين»، بحسب المنتقدين.
من جانبها، نعت السفارة الأمريكية في بغداد، أمس، الروائي علاء مشذوب، وكتبت منشورًا في صفحتها الرسمية على «فيسبوك»: تتقدم السفارة الأمريكية في بغداد بأحر التعازي إلى عائلة وأصدقاء الكاتب العراقي الراحل علاء مشذوب الذي قتل بطريقة وحشية لا مبرر لها.
7 من ذاكرة حرب تحرير الكويت
عبدالهادي السعدي
الرياض السعودية

في صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، أيقظتني أمي خائفة مرتبكة «اقعد اقعد» الكويت احتلت العراق، قلت ماذا تقولين؟ قالت: «مثل ما سمعت». الكويت تحتل العراق ليه؟ وكيف؟ ولماذا؟ طبعاً لم أصدق، وقتها كنت في الشمال البهي، فلم تكن لدينا مصادر، وحتى أقف على حقيقة الخبر، هاتفت أحد أقطاب مؤسسة اليمامة الصحفية آنذاك، فأكد لي صحة الخبر، بأن العراق احتلت الكويت فعلاً، شعرت بخيبة أمل، سحيقة وعميقة، ودعته وأغلقت السماعة، وقتها لم يكن لدينا وسائل تواصل، أو فضائيات، كان مصدرنا الوحيد ماجد سرحان، هنا لندن، فتحت زر الراديو وجاء صوت المذيع مستفزاً ومتهدجاً: لقد قامت القوات العراقية باجتياح دولة الكويت، وإن الأمم المتحدة تستنكر هذا الاحتلال، وتطالب السلطات العراقية بالانسحاب الفوري، لأن دولة الكويت عضو في هيئة الأمم المتحدة، ودولة وذات سيادة. انتهى الخبر، وبدأ خبر موت الحلم العربي، يطل برأسه، هذا الحلم الذي راهنت عليه آلاف مؤلفة من التقدميين، واليساريين، والراديكاليين، اتفقوا واختلفوا حوله، ونشبت بينهم خلافات مرة وشرسة، ومعارك كسر عظم، كله من أجل هذا الحلم، والذي لم يكن حلماً بالأساس، لأنه يرتكز على العاطفة الجياشة، ويفتقر إلى الوعي والموضوعية المتجردة، ربما لأنهم ضخموه وبالغوا في الحديث عنه، والاختلاف حوله، كانوا يراهنون على الوحدة، وأنها قادمة لا محالة، وفي الطرف الآخر يرفع المتأسلمون شعار إقامة الخلافة، ويزعمون أنها قادمة أيضاً، كان الجميع يستدعي أبوة هذا الحلم، يتجادلون حوله في الصالونات الأدبية، وفي المقاهي، وعلى صفحات الجرائد، ومن شدة حماسهم يشتبكون أحياناً بالأيدي، وأحياناً يتبادلون التراشق بأكواب الماء والشاي، وكان يتبعها من بعض الرفاق كلمات، مثل انبطاحي، انهزامي، عميل إمبريالي، وهكذا سقط الحلم رغم مشروعيته، لأنه لا يرتكز على أسس علمية.
وتحررت الكويت، تحررت بهمم وسواعد الرجال، حينما أطلق الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله القرار التاريخي بتحرير الكويت، لما للكويت من مكانة عظيمة في وجدان السعوديين، والخليجيين، وكل من عرف تسامح وخير الكويت، وبعد معارك شرسة وطاحنة، تحررت الكويت، وأقيمت الأفراح والأهازيج، لأن الكويت بقعة أوكسجين عائمة على الخليج، وبرلمان، ومسرح، وصحافة، وأحمد الربعي، وحسين عبدالرضا، وحياة الفهد، وآخرون، وها هي الكويت تقيم أفراح فبراير على طريقتها في ذكرى التحرير، تذكُر بالجميل والعرفان كل من وقف معها وساندها، وأخذ بيدها، وتسامح كل من خذلها وتتركه للتاريخ.