1 داعش إلى مهمة أخرى
عديد نصار العرب بريطانيا
هل انتهى تنظيم داعش فعلا؟ هل بات من الممكن القول إن كابوسا مرعبا استحضر من خارج التاريخ البشري قد تبدد؟ وهل ما كانت تعرف بـ”دولة الخلافة” التي سيطرت على مساحات شاسعة من العراق وسوريا بما في ذلك كبريات المدن مثل الرقة والموصل وهددت دمشق وبغداد، قد أصبحت اليوم أثرا بعد عين ولم يتبق منها سوى مشكلة بضعة آلاف من المقاتلين الأجانب، يطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بلدانهم باستردادهم؟
كرة النار التي ألقي بها في ملعب الثورات لتحرق الشعوب الثائرة أدّت المطلوب منها وآن أوان إخمادها، فأخمدت. ستة أطنان من الذهب المنهوب من العراق وسوريا تسلمها الأميركيون. خمسمئة مليون دولار تسلمها نظام العراق زاعما تفكيك شبكة لا مثيل لها “في تاريخ العراق” لتمويل داعش.
داعش، أو دولة الخلافة في العراق والشام، حيث كان تقدير التحالف الدولي لمحاربته أن تعداد مقاتليه يزيد عن خمس وثلاثين ألفا، بمؤسساته القتالية ومقدرته على ارتكاب أبشع أشكال القتل وسفك الدماء، “بالذبح جيناكم”، حرق الناس أحياء، الانغماسيين، السيارات والآليات المفخخة، والرايات السوداء والزي الأفغاني “الشرعي” للمقاتلين، “باقية وتتمدد”… باتت أثرا بعد عين وبات مقاتلوها كناية عن بضعة آلاف من المعتقلين بأيدي قوات سوريا الديمقراطية وقوات التحالف الدولي.
الولايات المتحدة التي أقامت سجونا طائرة وسجونا عائمة وسجونا ذائعة الصيت لاعتقال كل من يشتبه بانتمائه إلى تنظيم القاعدة خلال العقد الأول من هذا القرن وبعد احتلال أفغانستان واجتياح العراق، في غوانتانامو وغيرها، وسجونا سرية في أوروبا الشرقية وحتى في بعض الدول العربية، تطالب اليوم وعلى لسان رئيسها دونالد ترامب الدول الأوروبية باستعادة الإرهابيين الدواعش من مواطنيها الذين باتوا في عهدة قوات سوريا الديمقراطية وعهدتها في سوريا، وإلا اضطرت إلى إطلاق سراحهم! والدول الأوروبية في حيرة من أمرها!
بعد كل هذه الحرب على داعش وبعد استسلام آلاف من مقاتليه، لم نسمع حتى اليوم عن تقديم قيادي واحد من هذه الدولة المزعومة أو هذا التنظيم الذي لم يوفر كبريات الدول الأوروبية من مجازره وجرائمه المتنقلة، إلى محاكمة واضحة وتحقيق صادق ومفيد يمكن أن يؤدي إلى طمأنة النفوس وأن خطر هذا التنظيم الإرهابي آيل فعلا إلى الزوال. كما أن زعيمه المفترض “الخليفة” أبا بكر البغدادي لا يزال غير معروف المصير.
يمكن للولايات المتحدة أن تعلن اليوم أو غدا النصر المؤزر على هذا الوحش، ولكن، هل يمكن أن تصدق القول إن خطره زال؟ أو أننا سنواجه غدا مجزرة جديدة لداعش جديد أو متجدد في بؤرة جديدة للصراع يمكن أن تهدد مصالح هذه الدولة أو تلك من مراكز الهيمنة العالمية؟
قد يكون تنظيم داعش قد أزيل عن الخارطة الجغرافية التي كان يحتلها في كل من العراق وسوريا، إنما زوال خطر داعش وما يشابهه من تنظيمات إرهابية لن يكون إلا بإلقاء القبض على العناصر القيادية الحقيقية التي أنشأته وحركته، وتقديمها إلى محاكمات صادقة وصريحة وعلنية ليتبين من التحقيقات من كان وراءه ومن موله ومن سهل له ومن سلحه ومن أطفأ حقيقة جذوته هنا وقد يشعلها هناك. وسوى ذلك، فإن داعش سيبقى خطرا داهما يتهدد الشعوب لأن في ذلك ليس سقوطا لهذا النظام السياسي في هذه البلاد أو تلك، بل سقوط حتمي، أقله أخلاقي، للقوى المهيمنة محليا وإقليميا ودوليا، تلك القوى المعادية لطموحات الشعوب ولتحررها. داعش ومثيلاته ليس سوى التعبير الأشد قبحا عن طبيعة نظام عالمي فاق بتعفنه كل التوقعات.
2 هل انتهت ظاهرة داعش
ماجد كيالي
العرب بريطانيا
برز “داعش” كقوة تهديد، وكظاهرة صاعدة، في صيف 2014، مع سيطرته على مدينة الرقة، في سوريا، ثم على مدينة الموصل في العراق، لكن بدأ بالانحسار في العام 2017، أي بعد ثلاثة أعوام، بعد خروجه من الموصل، وانحسار نفوذه في العراق ثم في سوريا (2018)، وهو بات الآن يخوض آخر معاركه، على الأرجح، في شمالي شرق سوريا، وهو ما بشّر به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مؤخّرا.
مع ذلك فربما أن ظاهرة “داعش” لن تختفي بصورة نهائية، فهكذا تنظيمات لديها من السيولة ما يمكّنها من الاستمرار بشكل أو بآخر، أي حيث ثمة مناخات تتيحها، أو حيث ثمة توظيفات تطلبها، أو تسهّل لها، بيد أن اليقيني في شأن تلك الظاهرة أنها انتهت تماما، إن لجهة قدرتها على البقاء في منطقة معيّنة، أو لجهة فرض أجندتها فيها، كما إنها انتهت، بالتأكيد، بوصفها قوة تهديد سواء في العراق أو في سوريا، لاسيما مع آخر المعارك التي تشهدها بعض المناطق في الحدود السورية ـ العراقية.
وللتذكير فقد ظهر “داعش” في أبريل 2013 في العراق، لكنه برز كقوة خطيرة مع سيطرته على مدينة الرقة في شمال غربي سوريا، في يناير 2014، بعد انسحاب “جبهة النصرة” وبعض الفصائل “الإسلامية” منها، في ذلك الحين، والتي كانت تسيطر عليها، إثر انسحاب النظام منها (أبريل 2013) أيضا، في مصادفة غريبة أو مثيرة للتساؤل، وهو ما اعتبر بمثابة البداية لصعود هذه الظاهرة البشعة في المشهد السوري. رغم ذلك فإن الظاهرة الداعشية لم تتوطد إلا بسيطرة التنظيم على الموصل، في يونيو 2014، حيث أعلن منها الخلافة، وإقامة الدولة الإسلامية، وذلك إثر انسحاب الجيش العراقي من تلك المدينة، بطريقة كيفية وغامضة (إبان حكم المالكي)، ما أدى إلى استحواذه على أسلحة أربعة فرق عسكرية، ومئات الملايين من الدولارات في المصرف المركزي. هكذا، فمنذ ذلك الحين بات داعش يسيطر على أراض شاسعة في سوريا، في الرقة ودير الزور والطبقة، وفي العراق في الأنبار وصلاح الدين ونينوى، مع حرية حركة بقوافل سيارة بين باديتي العراق والشام، ومع تجارة في النفط مكنت “داعش” من الاستمرار في تمويل أنشطته.
بيد أن ما يفترض إدراكه، أو الانتباه إليه، هنا، أولا، أن معظم النظم المحيطة بسوريا والعراق، أو التي تشتغل كفاعل محلي في هذين البلدين، ساهمت في تخليق “داعش” وأخواته، أو السماح بوجودهما، بطريقة أو بأخرى، مباشرة أو مواربة. تأتي ضمن ذلك، أيضا، الدول الغربية التي سكتت عن المقتلة الفظيعة في سوريا والعراق، وعن تدخل إيران وميليشياتها في هذين البلدين، والتي اكتفت بمراقبة نمو ظاهرة “داعش”، من بلدانها، وسكتت عن الوافدين من مواطنيها للمشاركة في القتال، مع أنها اشتغلت على عدّهم وتنظيم أضابير لهم.
ثانيا، ما تقدم يفيد بأن نشوء “داعش” ولاسيما صعوده، وتطور إمكانياته، واحتلاله المشهدين السوري والعراقي، لم يأت نتيجة تطور طبيعي في الحركات الإسلامية، سواء الدعوية والمعتدلة أو المقاتلة والتكفيرية، بقدر ما أنه يعود إلى الشروط المساعدة، أو إلى التسهيلات التي مكنته من حيازة الموارد المالية والعسكرية (خاصة بعد سيطرته على الموصل)، كما إلى تباين إرادات الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين أتاحوا له الاستمرار والتمدد، بل ووظفوه، كل لأغراضه السياسية.
ثالثا، يمكن ملاحظة أن الأطراف التي ادعت محاربة الإرهاب لم تشتغل على استهداف “داعش”، بدليل أن قواته كانت تتحرك بحرية شبه مطلقة وفي مواكب سيارة في مناطق مكشوفة بين باديتي العراق والشام، كما ذكرنا، وبدليل أن “داعش” لم يسيطر على معظم المناطق، في العراق وسوريا، نتيجة مواجهات أو معارك عسكرية جدية، بقدر ما كانت سيطرته نتيجة انسحاب الجيشين العراقي والسوري، أو نتيجة انسحاب فصائل عسكرية “إسلامية”، وبدليل أننا شهدنا أن “داعش” لم يصمد في أي منطقة تمت مواجهته بها في سوريا والعراق، وأنه ظل يهرّب قواته، من منطقة إلى أخرى، على مرأى من كل التحالفات الدولية.
رابعا، يستنتج من كل ما تقدم أن “داعش” هو بمثابة تنظيم من نوع خاص، أي ليس حركة سياسية طبيعية، وليس نتاج حراكات سياسية في التيارات الإسلامية في مجتمعي العراق وسوريا، إذ المصطنع فيه أكثر من العادي، والخارجي أكثر من الداخلي، وهو نتاج الغضب والإحباط، والتدين والعدم، كما هو نتاج صعود التيارات الدينية وهبوطها. أيضا، هذه ظاهرة جرى تصنيعها وتضخيمها وتوظيفها لإدارة الصراعات المحليّة أو للتحكّم بها، أو كأداة للصراع بالوكالة، إذ لكل فاعل إقليمي ودولي “داعش” خاصّته. خامسا، ما ذكرناه لا يعني أن “داعش” يتبع دولة معينة، رغم أن ثمة أنظمة معينة سهلت قيامه (العراقي والسوري والإيراني)، فهكذا ظاهرة يكفي فقط تخليقها كي تولد دينامياتها وحيواتها الخاصة، لكن يفترض أن نلاحظ في هذا السياق أن أكثر من استفاد من “داعش” هو النظامان السوري والإيراني، وأن روسيا لم تقاتل داعش بمعنى حقيقي، مع سعي كل الأطراف المذكورة إلى تحويل الصراع السوري إلى مجرد حرب ضد الإرهاب؛ علما أن هذه القوى أقل شيء حاربته هو “داعش”، وفي المقابل فإن أقل شيء حاربه “داعش” هو هذه الأطراف، بانشغاله بمقاتلة واستنزاف قوى المعارضة السورية، وقضم المناطق التي كانت تسيطر عليها.
سادسا، وأخيرا، فإن ظاهرة “داعش” (وجبهة “النصرة”) أدت في ما أدت إليه إلى تقويض صورة وشرعية التيارات الإسلامية المدنية والمعتدلة، لاسيما أن هذه التيارات لم تشتغل على نزع شرعية جماعات السلفية الجهادية المتطرفة والإرهابية، ولم تشتغل على تمييز نفسها عنها، بتفنيد منطلقاتها، المتعلقة بالجهاد والتكفير والجاهلية والحدود والخلافة والحاكمية. وطبعا، فإن تفسّخ التيارات الإسلامية الجهادية والتكفيرية، إن على شكل “القاعدة” أو “داعش” وأي من أخواتهما، لا يقتصر على التيارات الإسلامية التكفيرية والعنفية “السنّية”، إذ هو يشمل الجماعات الإسلامية الميلشياوية “الشيعية”، أيضا، بخاصة أن هذه لديها دولة مركز (إيران)، ومرجعية دينية (الولي الفقيه)، وتراتبية دينية، في حين أن الإسلام السياسي “السني” يفتقد إلى كل ذلك، إذ ليست لديه دولة ـ مركز، ولا حزب، ولا زعيم أو إمام، بل إن “السنّة” لا يعرفون أنفسهم كطائفة. والمعنى أن ما فعلته ميليشيات حزب الله وكتائب أبوالفضل العباس وبدر والنجباء وزينبيون وفاطميون وعصائب الحق والحرس الثوري الإيراني في سوريا والعراق لا يقل وحشية عما فعله “داعش” وأخواته، علما أن “داعش” استهدف البيئات الشعبية “السنّية”، أكثر من أي بيئة أخرى.
هل انتهى “داعش”؟ أو هل انتهت التوظيفات التي أنشأته أو سهلته؟ وهل آن أوان حل الصراع السوري؟ هذا ما يفترض معرفته في الأشهر القليلة القادمة.
3 الإسلام السياسي والاغتيالات السياسية!
فهد المضحكي
الايام البحرينية
الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي يتخذ من الاغتيالات السياسية منهجًا مرتبطًا بالكراهية والعداء للثقافة النيرة.
ومن أجل ذلك راح القتلة في العراق وبأوامر من طهران بتصفية الروائي علاء المشذوب وغيره من المبدعين، كما حصل للكاتب المسرحي هادي المهدي، والكاتب المفكر التقدمي كامل شياع، وغيرهم من علماء وصحفيين ومهندسين وفنانين!
تقول الكاتبة المغربية المستنيرة ليلى أبو رقعة آخرهم العراقي علاء مشذوب.. وتتواصل «محاكمات الفكر والإبداع» اغتيال المثقفين برصاص المفتين!
لا زال الموت يتربص بأهل الفكر والإبداع طالما الرصاص في أيدي المسلحين الخارجين عن القانون أو المتواطئين مع الحكام الجبابرة.. ولكن يحدث أن تستحيل حادثة الاغتيال إلى صرخة حية تستفز النيام للوقوف في وجه الظلم والظلام بكل أشكاله.. في مدينة لم تعرف استقرارًا ولم تجد الأمان طريقًا مستقرًا، يعربد الرصاص بلا رقيب، ويسيل دم الاغتيالات تحت جنح الظلام وفي وضح النهار.. ولكن الكاتب علاء مشذوب لم يهاجر هذه المدينة وبقي يعيش على ذكرياتها، ويرسم لها بخياله صورة أجمل على أمل أن يغدو الحلم واقعًا ذات يوم. وقد كان آخر ما كتب الروائي علاء ابن كربلاء عن المدينة التي اغتيل في شوارعها وكأنه يودّعها، ما يلي: «صباح الأزقة والشوارع الفرعية لمدينة لم تنعم بالاستقرار أبدًا، في كل مرة أصل إلى رأس شارع (أبو ديه) أقف بحبور عنده واضعًا يدي اليمنى تحت حنكي وأتفكر به فيرتسم بذهني كسفينة راسية، ومرة خليجًا واسعًا، مرة أراه فكرة مجردة، ومرة حقيقة، أية غمامة صيفية بيضاء هذا الذي أقف في حضرته».
أعتقد جازمًا بأن استقرار العراق وتحقيق الأمن والسلام فيه سيبقى غائبًا في ظل هيمنة حكم الإسلام السياسي في العراق!.
وبهذا الرأي راح الكاتب صادق محمد عبدالكريم الدبش في «طريق الشعب» العراقية يتساءل هل يستقر العراق ببقاء الإسلام السياسي تصدّره إدارة الحكم؟..
ومن هنا تحدث وهو على حق قائلاً: «لا يوجد أي اختلاف في نهج وفلسفة قوى الإسلام السياسي بين الأحزاب الطائفية، من القوى الشيعية والسنية على حد سواء».
وعلى هذا الأساس ليس بإمكانهم ان يكونوا جزءًا فاعلاً وإيجابيًا في استقرار العراق وتقدمه وازدهاره، ولا يمكنهم وضع حد للتدهور الحاصل في الكيان السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي.
وبالإضافة إلى هذا وذاك، يذكر الدبش لن يتوقف نهجهم الطائفي واحتكار السلطة، ولن يتوقف العنف والعنصرية والمحاصصة والطائفية والتمييز بين الناس والقتل للرموز الثقافية والاجتماعية والسياسية لمجرد الاختلاف في الرؤية والثقافة، ولن يتم لجم الميليشيات الطائفية وتصفيتها على أيديهم والحد من أنشطتها وأنشطة العصابات الإجرامية والمخدرات وتجار السلاح والبشر.. إنهم جزء من المشكلة القائمة ومنذ زمن، ولن يكونوا يومًا جزءًا من الحل أبدًا، والحياة أثبتت صحة وصواب هذا الاستنتاج عبر سنوات عجاف، مريرة كارثية مظلمة سوداء مكفهرة صادمة.
وإذا كان -كما يذكر- د. شاكر نوري في مقال «ظاهرة اغتيال الأدباء والمثقفين في العراق» إن قتل الروائي والأستاذ الجامعي الدكتور علاء مشذوب بدمٍ بارد وعلى يد مسلحين مجهولين، وذلك على اثر تغريداته ومقالاته وآرائه، وخاصة في نقد الميلشيات والنظام الإيراني فإن أصابع الاتهام موجهة إلى إيران التي نشرت مؤخرًا فرق اغتيالات لإسكات منتقديها. كما ظهرت من خلال الخطابات المتطرفة للميلشيات المناصرة لها مثل سرايا الخراساني وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وغيرها من الميليشيات التي وصلت إلى 67 مليشيا!.
إن رصاص التعصب والجهل التي اغتيل بها مشذوب هي ذات الرصاص التي اغتالت المفكر حسين مروة عام 1987 وهو على سرير المرض، وقد ناهز الثمانين من العمر، وهو لم يكمل الجزء الثالث من ملحمته «النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية» الملحمة الفكرية التاريخية التي قال عنها المفكر الراحل محمود أمين العالم: تمثل تلاقيًا خلاقًا نقديًا واعيًا بين أرقى ما بلغه استيعابنا العربي لمناهج البحث الحديثة، مع زبدة ما بلغه التراث الفكري العربي الإسلامي في العصر الوسيط.
وبذات السلاح اغتيل المفكر التنويري مهدي عامل عام 1987؛ لأن عامل – كما يقول أمين – كان فاضحًا لحقيقة قوى الطائفية والاستغلال الطبقي والتبعية للإمبريالية، كاشفًا الطريق الصحيح لمصارعتها والانتصار عليها.
إن تاريخ الإسلام السياسي حافل بالاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي تهدف إلى إسكات الاصوات التنويرية الداعية إلى سلطة العقل المنفتح لا النص، ومن بين ضحايا الإسلام السياسي فرج فوده الذي انتقد العقل الماضوي وتسييس الدين، وعمر بن جلون الذي اغتيل عام 1975 على يد الشبيبة الإسلامية المغربية، لأن ومن وجهة نظرهم الانتماء إلى اليسار تهمة تبرر القتل، وبذات الحجة اغتيل شكري بلعيد ومحمد البراهمي!
وإذا كان كما يقول بعض المحللين إن الانظمة الرأسمالية الاستعمارية دعمت تيارات الإسلام السياسي لخلق حالة عدم الاستقرار داخل المجتمعات المناوئة لمصالحها الاستراتيجية، فإن الأنظمة الرجعية طيلة عقود من القرن الماضي لم تتردد في دعم تلك التيارات لمواجهة قوى الديمقراطية واليسار الرافضة لمشاريع الاستبداد والتخلف
4 إياد علاوي بين النيران
عبد الرحمن شلقم
الشرق الاوسط السعودية
كل عراقي هو «موقعة»، كل الزمان وقتها وكل مكان أرضها. العراق حِقب تصنع ذاتها وتعيد، لكن هناك حزمات من الأحداث هي عصارة تكثف وتختزل كل التاريخ العراقي تقريباً… السياسي العراقي المخضرم الدكتور إياد علاوي أصدر مؤخراً جزأين من مذكراته وننتظر الثالث. الكتاب بعنوان «بين النيران»، يسرد سيرة ذاتية للمؤلف يحمل في صفحاته أحداثاً متعددة الألوان، الأوقات والأماكن، لكنه يرسم لوحة العراق التي تنطق ألوانها، تكاد تلمس بيديك طوبوغرافيا الدم والعذاب والتعذيب وأدغال الخطر. الطغيان والاستبداد له جيوش ومهندسون وآيديولوجيا تتوالد وتتقاتل وتخترع آلات يشحذها وهم العظمة الذي لا سقف له. مذكرات علاوي كأنها كُتبت في كل العصور العراقية البعيدة والقريبة وما بينهما.
حزب البعث العربي الاشتراكي، كان له يد في تشكيل حلقة من التاريخ العربي الحديث فكراً وسلطة. شعاراته طافت العالم العربي من مغربه إلى مشرقه، لكن سلطته في الحكم لم تتعد العراق وسوريا. هناك كان الوعد صوتاً والوعيد سوطاً. الآيديولوجيا نار تجذب الفراشات الغضة، فإذا وصلت إلى حومة كرسي السلطة حرقت واحترقت. انضم علاوي إلى حزب البعث العراقي وهو يافع حالماً بالمشاركة في تجسيد الأمل الوطني العراقي والقومي العربي في الوحدة والحرية. بدأت رحلة طويلة «بين النيران».
كل الكتاب يستحق أن تكون صفحاته سلسلة مقالات طويلة، فيها من الأحداث المأساوية والرحلات الطويلة، والمحطات الموشاة بالدم، وأصوات الموت والملاحقات المرعبة التي كانت مسافة الموت فيها أقرب من حبل الوريد. كان فاعلاً في حركة الحزب وهو طالب طب في الجامعة، حكمت الأقدار والاختيار أن يعيش أخطر حلقات تاريخ العراق في العقود الأخيرة. بلا شك أن قيادة الحزب، بل كل الحزب عندما صار مادة في قبضة صدام حسين أصبح العراق غير العراق، وكذلك المنطقة كلها. حادثة يوردها الدكتور إياد ترسم صورة قلمية لشخصية صدام وهو لم يضع الحزب بعد في قبضة يده.
يورد في الصفحة 37 من الجزء الأول من النيران: لم أشهد كقساوة صدام، وبوسعي أن أذكر هنا حادثة مهمة، حيث كان معي من البعثيين شخص من الكرادة اسمه حسين هزبر انشق وعمل مع جناح سوريا للبعث في العراق، وفي أحد الأيام كنا أنا ومجموعة من الأصدقاء البعثيين جالسين نتعشى في حديقة أحد المطاعم، جاء صدام وسعدون شاكر فرحين ويضحكان فسألتهما عما يضحكهما، قالا إنهما تصديا لحسين هزبر على الجسر المعلق وأشبعاه ضرباً بأخمص المسدسات.
يتنقل علاوي في صفحاته بين نيران العراق وهو في الحزب وخارجه، في العراق وخارجه. عشرات، بل مئات من عُذبوا وقُتلوا، السجون هي حظائر الرفاق، القتل غيلة أو في عرس دم يتخلله الهتاف للحزب وللأمة.
يقف إياد علاوي عند حدث جلل رهيب، تابعته البشرية موثقاً باليديو: «جرت الأحداث الدموية بطريقة لم تحدث في تاريخ الحزب والأحزاب الأخرى، ولا تاريخ الديكتاتوريات الأخرى في العالم، فقد تمت تصفية كثير من كوادر الحزب وقيادته من مدنيين وعسكريين، منهم عدد كبير من الذين اتخذ صدام بنفسه القرار بأن يكونوا أعضاء القيادة القطرية، وكذلك من أصدقائه الشخصيين ومن خيرة مناضلي حزب البعث في مسرحية دموية مرعبة قادها صدام في قاعة الخلد قرب القصر الجمهوري. جيء بمحيي عبد الحسين المشهدي ليدلي بـ(اعترافات) مضحكة أمام الكادر الحزبي، وكان كل من يُذكر اسمه من الحضور يسحب فوراً من جانب حمايات معدة ومهيأة لهذا الغرض إلى خارج القاعة، إما إلى غرف التعذيب أو إلى الإعدام، وصدام يدعوهم بنفسه للخروج من الاجتماع متظاهراً بالبكاء، وقلَّده للأسف في البكاء معظم الحاضرين تقريباً من الجالسين في الصفين الأول والثاني مع أنهم كانوا يعلمون أنهم أمام مهزلة وعمل كبير دنيء ومدمر، بعض من نُودي عليهم من الأشخاص البعثيين نهضوا بقوة، والبعض الآخر كانوا متخاذلين».
من كاليجولا إلى نيرون وستالين وهتلر وبول بوت، كان الدم هو السائل الذي يروي حقل جنون الديكتاتور، ومن أجساد القتلى تبنى كراسي الطاغية، لكن مشهد قاعة الخلد كان عرساً مبتكراً للدم غير ذلك الذي رسمه لوركا في شعره عن سيول الدماء في الحرب الأهلية الإسبانية. لقد تفنن صدام حسين في عرسه الرهيب. الدافع هو أن يقول لكل العراقيين: لا أحد منكم يساوي أكثر من قيمة الرصاصة أو قعر الزنزانة أو نوع سوط العذاب، وليتحسس كل مواطن رقبته قبل أن يشهق أو يزفر بنَفَس لا يسبّح بالولاء الأعمى والصامت والناطق لي.
كل حاكم وصل إلى السلطة بمؤامرة يعتقد جازماً أن هناك من يحيك نفس ما قام به هو للوصول إلى الكرسي الذي يجلس عليه، وأول من يطالهم الشك رفاقه الذين شاركوه في خطته، فهؤلاء في أوهام هذا الحاكم أن رفاقه امتلكوا المهارة في التآمر، وبالتالي هم أول المستهدفين. العامل الثاني أن هؤلاء يريدون أن يكونوا شركاء يجلسون إلى جانبه، بينما الحاكم الفرد يريد أن يكون الجميع تحته. معاملة الحاكم الفرد لرفاقه تكون شاذة، التعالي عليهم وإهانتهم والتقليل من قيمتهم عنوة؛ وذلك يجعله يتوهم دائماً أنهم يخططون لاستهدافه، والوشاة يقتاتون بإيغال صدر الحاكم على من حوله خوفاً وطمعاً وغيرة. وكأن شاعر العراق أبو الطيب المتنبي يصف نفسياً صدام حسين ومن سبقه في حكم العراق:
إذا ساء فعل الفرد ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته
وأصبح في ليل من الشك مظلم
العراق له مكان خاص في التاريخ البشري عند الحديث عن العلاقة بين العنف والسلطة، فمنذ قرون قلما مات حاكم للعراق موتة طبيعية. أوفرهم حظاً من مات مقتولاً دون أن يسحل وتُسمل عيناه ويكون القاتل أقرب الناس إليه. العالم العراقي علي الوردي غاص في تحليل تلك الظاهرة وأرجعها إلى طبيعة أرض العراق ومناخه المتقلب وموقعه، لكن صدام حسين جمع كل فنون العنف وكأنه أبدع مفهوماً خاصاً للبشر تقل فيه قيمة الإنسان عن قيمة التبن والتراب.
إياد علاوي تنقل بين نيرانه عبر محطات داخل العراق وخارجه. قضايا تتعلق بالوطن الذي تحول إلى مسلخ رهيب لا تتوقف فيه وجبات القتل اليومية، مادتها الرجال من داخل حزب البعث وخارجه، والمغامرات من الحرب مع إيران إلى غزو الكويت التي كلفت العراق مئات الآلاف من القتلى ومليارات الدولارات، وساقت المنطقة كلها إلى صراع وتشظٍ غير مسبوق. النيران لاحقته وهو في الخارج وكان اللهب من نوع نار البراكين، الهدف حياته والمكان غرفة نومه ببيته في لندن. كتب المشهد في سيناريو بطيء طويل ومأساوي مرعب.
في ساعة متأخرة ليلاً في غرفة نومه مع زوجته، شبح يهجم عليه بساطور – طبر كما يسمى باللهجة العراقية. ضربه المهاجم بالفأس وضرب زوجته. ألحق به وبها جروحاً وكسوراً بقي بسببها شهوراً بين المستشفيات، حيث أجريت له عمليات جراحية كثيرة. لكن الملاحقات من نظام صدام لم تتوقف. نيران علاوي نيران العراق التي لم تنطفئ بعد. ما زال يلاحقها من داخل بغداد في موقع المسؤولية اليوم علَّه يسكت اللهب… لكننا سنتابع حروفه الملتهبة في الأجزاء الأخرى من السيرة المشتعلة.
5
اللاجئون الفلسطينيون والدواعش إذا قصدوا أوروبا.. هل يستويان؟!
د. أسامة نورالدين الوطن العمانية
أصدر المركز الدولي لدراسة التشدد بجامعة “كينجز كوليدج” في لندن العام الماضي تقريرا رصد فيه الأعداد التقريبية للأجانب المنضمين إلى تنظيم “داعش” في سوريا والعراق في الفترة من إبريل 2013 وحتى يونيو 2018 والمقدر بنحو 41 ألف شخص من 80 بلدا، غطت جنسياتهم معظم دول أوروربا، تتصدرهم فرنسا (1900)، تليها ألمانيا (960)، وبريطانيا في المركز الثالث (850).
ونشرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تقريرا لها هذا الأسبوع تناول كيفية تعامل الدول الأوروبية مع مواطنيها المنتمين لـ”داعش” والعائدين من أراضي سوريا والعراق، وألقى الضوء على تعامل البرلمان الأوروبي مع 6 دول أوروبية عاد مواطنوها، منها بريطانيا التي عاد نصف من غادرها، وألمانيا بعودة نحو ثلث المغادرين، في حين وصلت نسبة العائدين إلى فرنسا حوالي 12%.
وذكرت الـ”بي بي سي” في تقريرها أن العائدين من “داعش” في دول الاتحاد الأوروبي تتم معاملتهم بحسب التحقيق الجنائي وتقييم المخاطر، كما يتم توفير برامج إعادة تأهيل وإعادة اندماج سواء داخل السجون أو خارجها، فتواجههم بريطانيا بتحقيقات أمنية مباشرة لمعرفة ما مروا به، وتحديد حجم الخطر الذي يمثلونه وإمكانية إعادة الاستقرار الآمن لهم، ويخضعون لبرامج مكافحة التشدد، حتى يصلوا إلى درجة عدم تهديدهم للأمن القومي البريطاني.
وأبدت فرنسا استعدادها لنقل المزيد من مقاتلي التنظيم الفرنسيين من العراق وسوريا، وأنها ستوفر لهم محاكمة عادلة لهم، وتعاملهم ألمانيا كمعاملة أي مدني مخطئ، فيما تضع لهم الدنمارك برنامجا لإعادة دمجهم في المجتمع يشمل توفير مرشد وإمكانية الحصول على وظائف وتعليم وسكن واستشارة نفسية ورعاية صحية، وذلك بحسب خبراء في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي والذي نقلته الـ”بي بي سي”.
من زاوية مختلفة نجد أن سجلات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تشير إلى أن لديها نحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني مشردين على مستوى العالم، يعيشون حياة المنفى وليس لهم أي حقوق مواطنة أو إنسانية، بل وتنظر لهم الحكومات الغربية على أنهم “عبء ثقيل” يستوجب فض تبعاته، وتراهم المجتمعات الأوروبية بأنهم لا يستحقون الاندماج والانصهار داخل المجتمع، فبريطانيا ـ على سبيل المثال ـ لا تزال في خلاف داخلي مع المؤسسات المحلية وخارجي مع الاتحاد الأوروبي حول حقوق اللاجئين، وكان لتيريزا ماي رئيسة الوزراء رأي وقت أن كانت وزيرة داخلية، حيث طالبت الاتحاد الأوروبي بتشديد قواعد حرية الحركة ومراجعة الرقابة على الحدود بين دول الاتحاد، والمجر شيدت سورا على حدودها مع صربيا لمنع تسلل المهاجرين واللاجئين إليها.
حتى وإن كان هناك اندماج لعدد من اللاجئين داخل المجتمعات الأوروبية بفضل بعض الامتيازات التي حصلوا عليها، إلا أن هذه الامتيازات تعتبر جهودا فردية لهم وليست أمورا تنظيمية من الأوروبيين، ولكن رغم ذلك ما زالوا يعانون من التضييق والتمييز، سواء في الحريات أو في الممارسات الاجتماعية والأمور اليومية، وذلك فضلا عن حقوق الرعاية الصحية والتعليم وبعض الحقوق المدنية الأخرى.
أكاد أشعر أن شخصية الدول الأوروبية لديها شيزوفرينيا في تعاملها مع قضايا اللاجئين الفلسطينيين، فهم يستوعبون سفراء “الإرهاب” ومندوبي الجماعات المتشددة، ويضعون لهم برامج حماية وانصهار مجتمعي تضمن تآكل أفكارهم الشاذة، وفي المقابل يضعون القيود ويزيدون العراقيل أمام اللاجئين الفلسطينيين سواء من يعيش داخل الدول أو من يريد الهجرة إليها، رغم أن هناك إدراكا عالميا أنهم يلجأون لأوروربا هربا من “إرهاب” قوات الاحتلال الإسرائيلي، وأن المخصصات المالية لاحتواء 41 ألف داعشي تكفي لاستقبال عدد أكبر من اللاجئين الفلسطينيين، بل وتتمايل كفة المجتمع لتقييم كلتا الفئتين، ولا يدركون هدر القيم الإنسانية والبشرية في خلطهم بين مصطلحي “العائدون” والفارون” من الإرهاب، فحسب القيم والحقوق الإنسانية لو تعاملت معهم أوروبا بمنطق التساوي فإنها تكون أجحفت وظلمت اللاجئين، لكنها تجاوزت ومنحت الإرهابيين حقا ونزعت عن المظلومين مشروعية.