1 خطاب الكراهية وتمزيق الوعي
صباح ناهي العرب بريطانيا
قلت لهم إنكم بهذا الخطاب تساهمون في شرذمة الوعي الجمعي وتجعلون المجتمع منقسما ومتناحرا ومنشطرا إلى أحزاب شيع، يسير نحو التفرقة والخذلان والتبلد وفقدان العزيمة والروح الوطنية الموّحدة.
كنت أخاطب عشرات المجموعات التي تبث رسائلها كل دقيقة حتى صارت مهنة تتدخل فيها قوى وجيوش وفرق من موظفي الأحزاب والميليشيات المتقاتلة.
وجدتني مضطرا إلى تحليل خطابات يومية تبث أفكارها في المجتمع وتعّظم الفجوة بين الوطن والمواطن وتكرس وعيا زائفا مستغلة نعمة التكنولوجيا ومجتمع وسائط التواصل الاجتماعي.
مجموعات غير مسؤولة تحشد الذاكرة الجمعية لتكريس حالة العداء المجتمعي وصرف الاهتمام عن القضايا الجوهرية التي تكشف الفساد المستشري وتفضح المتلاعبين بعقول الناس.
وقد خلصت من أسابيع الرصد لما تنشره المجموعات العراقية التي أتابعها إلى أنها ذات توجهات ومضامين تتسم بالشجار السياسي بعيدا عن العقلانية وتغليب المصلحة الفئوية على حساب المصلحة الوطنية، وثمة طروحات غير واقعية تعتمد الإشاعة والتمنيات وتغليب المنطق الذاتي على كل ما هو واقعي علمي مدروس، بالإضافة إلى خطاب إلغائي يتمثل في قوى تتصارع على مصالح مؤذية للمشروع الوطني الذي يهدف إلى ترميم الجراح ووقف النزف في الجسد والفكر العراقي.
مع تكرار مقولات وقوالب من أغلب الأطراف بهدف تكريس مفاهيم الفرقة التي تسعى إليها استراتيجية القوى الخارجية يزيدها ابتلاء عدم وضوح التحالفات وفصل الخنادق عن بعضها لكي يدرك الجيل الجديد مع من يحسم الولاء؟ مع تغليب الحس والخطاب الذي يديم زخم محرك الطائفية والفرقة في الثقافة السائدة حاليا.
ولمست غياب شجاعة الاعتراف بارتكاب الأخطاء والخطايا وتسليم زمام الأمور لأشخاص أو مؤسسات أساءت للشعب وتاريخه، ولم تتمكن من تبييض وجهها أمامه كي يقبلها لإدارته أو قيادته مجددا.
إن فوضى الخطاب السياسي والإعلامي والدعائي في العراق ووجود أماكن ومنصات مهمتها إثارة انشطار الوعي الجمعي الهادف إلى إعادة تغليب المشتركات بين الفئات المجتمعية المختلفة وغير الموحدة بنظام قيمي غالب، يزيدها وهم تصور سائد بأن الأطراف المختلفة تملك الحقيقة كاملة وتستحوذ عليها من خلال مسك السلطة واللجوء إلى تخوين الآخر أي آخر بنزعات تبريرية نفعية.
إن قصور الوعي الجمعي الذي يُرجح المشتركات والتوافقات على القضايا الخلافية التي تتسع ببن ما يطلق عليه خطأ بالمكونات أدى إلى تصادم رهيب للمصالح في الداخل وفق المنافع المادية التي غذتها الأثرة والجوع المستحكم في عقول ونفوس أطراف تتحكم في المجتمع السائد لاسيما المتعامل مع السلطة.
2 ما بعد الإسلام السياسي: “الإسلام السياسي”!
زيد بن رفاعة
العرب بريطانيا
طُرحت مفاهيم ومصطلحات محيّرة، في أكثر من مجال، تجعل للظاهرة “ما بعد”! وكأنها تحققت ولم يبق إلا بروز “ما بعدها”، من مثل: الحداثة وما بعد الحداثة، وحتى هذه اللحظة لم يُعرف شكل غير الحداثة، فما هي ما بعد الحداثة؟ هل العودة إلى ما قبلها مثلا؟! هذا بسحب ما يُطرح قبل فترة من الزمن عن ظاهرة الإسلام السياسي، لتلحق بها ظاهرة “ما بعد الإسلام السياسي”!
على ما يبدو فإن هذا الطرح جاء من أصحاب قناعات، في أن الأحزاب الدينية، وفي مقدمتها الإخوان المسلمون، قد تغيرت وتبنّت الديمقراطية والتعددية السياسية، وهذا ما يُشجع الحوار معها والعمل على فسح المجال لها في الحياة السياسية.
بنى هؤلاء اعتقادهم هذا على التغييرات التي تبناها حزب النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية التركي وأحزاب وجماعات أخرى، كذلك لم يستثنوا المراجعات التي قدمها بقية الإسلاميين حتى من الجهاديين السلفيين، فهم يعتبرون قبول طالبان بالتفاوض مع السلطة الأفغانية وإشراكها في العمل السياسي العلني واحدة من تنبّئهم في وجود حقيقة ظاهرة “ما بعد الإسلام السياسي”.
غير أنهم لم يلاحظوا جماعات الإسلام السياسي كيف استغلت الديمقراطية، لأنها كانت لصالحها باستغلال المشاعر الدينية، فهناك فرق كبير في المجتمعات الإسلامية بين أن يكون المسجد مقرا للحزب ومكانا للدعاية الانتخابية، ويدخل في منافسة مع بقية الأحزاب، وهذا ما أشار إليه مبكرا رئيس حزب الوفد سراج الدين عندما سأله حسن البنا عن استغلال الدين في الداعية الانتخابية، وأن حزبه ليست له تلك السطوة الدينية، فنفى البنا أن يكونوا يعملون ذلك، لكن ما ثبت أن السياسة ركن أساسي لأي جماعة دينية منتظمة في حزب.
إن القبول بالديمقراطية وتداول السلطة لا يكفي أن تتحول ظاهرة الإسلام السياسي إلى ما بعد الإسلام السياسي، فلو دققنا في نهج الأحزاب الإسلامية والشيعية والسنية، فإنها لم تتخل عن مطلب “الدولة الإسلامية”، وهي عقيدتها الأساسية. كذلك فإن الانفتاح على بقية الأحزاب لا يعني إذابة التنظيمات الإسلامية، إنما طريق أو أسلوب آخر للعمل السياسي الحزبي.
فربما مما لا يعرفه دعاة مصطلح “ما بعد الإسلام السياسي” أن الجماعات الدينية أخذت تنتج أحزابا من داخلها بأسماء وعناوين لا تشير إلى طابعها الديني، مثل العدالة والتنمية أو النهضة، ويمكن أن يرفعوا عنها “الإسلامية” كلفظة. بينما تبقى الجماعات على حالها صناديق مغلقة، وما الحزب إلا ذراع سياسية لها، لا يعمل من دون توجيه مرشد الجماعة.
فقد تبيّن أن العام الذي حكم فيه مرسي كان الرئيس الحقيقي هو المرشد، وكذلك في حزب الدعوة الإسلامية في العراق، إن “دولة القانون”، أو أي مسمّى آخر مثلا، ما هي إلى واجهة لحزب الدعوة نفسه، فالحزب جزء من كيان مغلق تنظيميا وفكريا، يحافظ على الهدف الأساسي وهو إقامة دولة إسلامية آجلا أم عاجلا.
لا نعتقد أن الإسلام السياسي سيتحول، مع بعض الرتوش، إلى “ما بعد الإسلام السياسي”، لأن الظاهرة واحدة، والاختلاف مرحلي أو مجرد تكتيك حزبي. وهذا ما أغرى البعض بطرح الحوار مع القوى الإسلامية، في مصر مثلا، على أن تلك القوى قد تغيّرت وتخلت عن مفاهيمها، من دون الأخذ بعين الاعتبار أن الظروف السياسية دفعتها إلى تغيير شيء من الشكل، دون مسّ الجوهر بشكل من الأشكال.
فالعديد من الأحزاب الاشتراكية والقومية قد انتقلت شكلا وجوهرا إلى أحزاب وطنية، خالية من أيديولوجية أو عقيدة، ومَن بقى على وضعه أخذ وجوده ينحسر شيئا فشيئا. غير أن الأحزاب الدينية لم تقدم على هذه الخطوة، لأن وجودها، حتى في حال تغيير الاسم أو الشكل، مرتبط بالعقيدة الدينية نفسها، فهي ليس بمقدورها التخلي عن الهدف الأعلى دولة الخلافة أو دولة ولاية الفقيه، لأنه إسلام سياسي لا غير.
3 هل تُخطّط أمريكا لإشعال فتيل فتنة طائفيّة سنيّة شيعيّة في العِراق؟ ولماذا تُريد إقامة قاعدة عسكريّة مُتطوّرة جدًّا في المُثلّث الحُدوديّ السوريّ العراقيّ الأُردني؟ وكيف سيَكون رد إيران المُستَهدفة بهذا المُخطّط؟ وهل ستَرضخ حُكومة المهدي الحاليّة للضّغوط؟
افتتاحية “رأي اليوم”بريطانيا
بعد التّصريح المُفاجِئ والمُستفز الذي أدلى به الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب قبل بضعَة أسابيع وكشف فيه عن احتِفاظ بلاده بوجود قوّاتها في العِراق بهدف مُراقبة إيران، تزايَدت زيارات المَسؤولين الأمريكيّين السريّة لبغداد، مِثلما تزايدت في الوَقت نفسه الأنباء عن عزم واشنطن إقامَة المزيد من القواعد الأمريكيّة البريّة والجويّة.
أحدث الزّائرين لبغداد باتريك شاناهان وزير الدّفاع الأمريكيّ بالنّيابة الذي اجتَمع بالسيّد عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقيّ، وعدد من مُستشاريه العسكريّين أمس، ولم يكشف عن طبيعة هذه الزيارة السريّة، ولكن التّصريح الذي أدلى به السيد عبد المهدي وقال فيه إنّ حُكومته تُريد إقامة علاقات جيّدة مع أمريكا وإيران في الوقت نفسه، والحِفاظ على سيادتها الوطنيّة يُؤكّد مَخاوفنا السّابق ذكرها.
لا نعرف كيف سيُطبّق السيد عبد المهدي مُعادلته هذه، أيّ الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع أكبر عدوّين، أمريكا وإيران، حيث تُحاصر الأُولى الثّانية، وتَحشِد لإقامة تحالف عسكريّ عربيّ إسرائيليّ غربيّ لشن عُدوان عليها، فالسيد عبد المهدي يُحاول أن يجمع بين الزّيت والنار في إناءٍ واحِدٍ.
أحدث التّسريبات القادِمة من العراق تقول إنّ الإدارة الأمريكيّة تُريد إقامة قاعدة عسكريّة جديدة، بأسلحة مُتطوّرة، وأجهزة مراقبة مُتقدّمة جدًّا، في المُثلّث الحدوديّ العراقيّ السوريّ الأُردنيّ، غرب الأنبار، ونقل القوّات الأمريكيّة المُنسَحبة مِن سورية إليها، الأمر الذي يكشِف عن مُخطّط لإثارة فتنة طائفيّة سنيّة شيعيّة في العِراق.
بدايةً وقبل شرح بعض التفاصيل، لا بُد من التّذكير بأنّ التواجد العسكريّ الأمريكيّ في العِراق محكوم بمُعاهدة أمريكيّة عراقيّة جرى توقيعها عام 2010، وبهذا يُعتبر الجِنرال شاناهان وجود القوات الأمريكيّة في العِراق يتّسم بالشرعيّة، ولكنّه لا يعلم، أو يتجاهل وجود تحرّك قويّ في البرلمان العراقيّ حاليًّا يتجسّد من خِلال مشروع قانون يُطالب بإلغاء هذه المُعاهدة، ونزع الشرعيّة عن هذا الوجود الأمريكيّ المُنتَهك للسّيادة، ومن أبرز الدّاعمين لهذه الخُطوة، أي مشروع القانون، السيد محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان المُنتخب، والكُتلتان الرئيسيّتان في البرلمان.
الإدارة الأمريكيّة تذرّعت بأنّ وجود قوّاتها في العراق كان بهدف مُحاربة تنظيم “الدولة الإسلاميّة” أو “داعش” وإنهاء وجوده في العراق وسورية، ولكن هذه الذّريعة انتَفت بإعلان الرئيس ترامب رسميًّا هزيمة هذا التّنظيم، واستخدام هذا النّصر لتبرير سحب قوّاته (2000 جندي) من سورية، فلماذا لا تنطبِق القاعدة نفسها على العِراق؟ ولماذا تبقَى هذه القُوّات الأمريكيّة على أرضِه؟ ولماذا تَبنِي أمريكا قواعِد بريّة وجويّة جديدة؟
أمريكا وباختِصارٍ شديدٍ تُريد تحويل العِراق كله إلى ساحة حرب ضد إيران، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، وليس إلى قاعدة مُراقبة فقط، مِثلما قال الرئيس ترامب، الأمر الذي يُهدّد بشكلٍ جديّ استقرار العِراق ووحدتيه الترابيّة والديمغرافيّة، واستِشهاد مِئات الآلاف، وربّما الملايين من مُواطنيه من مُختلف المَذاهب والأعراق من جرّائها، وهو الذي يتعافى مِن مآسي الحُروب السابقة.
نُدرك جيّدًا في هذه الصحيفة “رأي اليوم” أنّ هُناك حُلفاء لأمريكا في العِراق يكنون العداء لإيران، بعضهم لأسباب طائفيّة والبعض الآخر لأسبابٍ سياسيّة، ولكن حُلفاء إيران في المُقابل أضخم عددًا وأكثر فاعليّة، ومثلما وقفت أمريكا مع أبناء الطائفة الشيعيّة ووظّفت “مظالمهم” في التّمهيد لغزوها للعِراق واحتلاله عام 2003، فإنّها من غير المُستبعد أن تُوظّف حاليًّا “مظالم” بعض السنة من العرب والأكراد لتثبيت وجودها في العراق، وتحويله إلى قاعدة لحربها المُفتَرضة ضد إيران، وذريعة لغزوها، وما يجعلنا نذهب إلى هذه الفريضة تحذير أحد أبرز أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكيّ من الدّور الذي يلعبه حاليًّا جون بولتون لإطلاق هذا الغزو.
أمريكا تُطبّق مُخَطّطًا إسرائيليًّا يُريد إضعاف العراق وتقسيمه وتفتيته وكل دول محور المُقاومة، وعدم السّماح له بالاستِقرار والتّعافي، وتبحث الآن عن الذرائع، ولا نستبعِد تسليح بعض الجهات المُعارضة لإيران في العِراق مجددًا وإشعال فتيل الحرب الأهليّة في إطار هذا المُخطّط.
العراق تغيّر كثيرًا، ومنذ توقيع مُعاهدة تنظيم الوجود الأمريكيّ عام 2010، أي قبل عشرة أعوام تقريبًا، بدأ العراق يتعافى، وبات النّفوذ الإيرانيّ على أرضه أكثر قوّة وصلابة بفضل التدخّل الأمريكيّ، والأهم من كُل ذلك أن هُناك 60 فصيلًا مُسلّحًا ومُدرّبًا بشكلٍ جيّد تحت مِظلّة الحشد الشعبيّ، ومجموع تِعداد مُقاتليها أكثر من 140 ألفًا من المُقاتلين الأشدّاء، ومُعظم هذه الفصائل، إن لم يكُن كلها، حصلت على سلاحها وتدريبها من إيران، وشارَكت بفاعليّة في الحرب ضِد “داعش”.
أمريكا أخطأت بغزوها للعِراق واحتِلاله وخسِرت باعتراف الرئيس ترامب نفسه حواليّ ستّة تريليونات دولار، وانسَحبت منه مهزومةً، تمامًا مِثلَما انسحبت جُزئيًّا، تستجدي “الطالبان” لانسِحاب كُلّي آمِن حاليًّا من أفغانستان.
أخطر ورقة في يَد أمريكا وإسرائيل هي الورقة الطائفيّة، وهُناك مَن يدفع باتُجاه حرب بين السنّة والشيعة في العِراق بدعمٍ أمريكيٍّ، ويَجِد أنصارًا في الدّاخل والخارِج، وعدم الوعي بهذا المُخطّط سيَعني انتِقال الحرب من سورية إلى العِراق، وفق نظريّة أحجار الدّومينو.. واللهُ أعلَم.
4 تقليم أظفار إيران ليلى بن هدنة البيان الاماراتية
لطالما لاقت ميليشيا الحشد الشعبي في العراق دعوات لحل فصائله وآخرها دعوة أمريكية صريحة، دعت فيها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى حل هذه الفصائل التي تمثل امتداداً للنفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، كما تنامت في الفترة الأخيرة الأصوات العراقية المطالبة بدولة ذات سيادة، بعيدة عن المخلب الإيراني، لكن ماذا يمكن لترامب أن يفعل في العراق لتقليم أظفار إيران، وهو الذي أقرَّ بأن إيران قد ابتلعت العراق أمام أنظار الأمريكان ولم يحركوا ساكناً.
تاريخ من الحقد الأسود المغلف بالدفاع عن العراق، من قِبَل ميليشيا الحشد الشعبي التي عاثت في الأرض فساداً وقتلاً ودماراً، وأصبحت وكيلاً قوياً لإيران وربما قوة تخريبية أولى في بلدٍ عانى العنف المروّع على مدار السنوات الماضية، ويرى جلّ المسؤولين العراقيين والغربيين أنَّ المجموعات شبه العسكرية قد تصبح قوة ظل، على غِرار الحرس الثوري الإيراني أو «حزب الله» اللبناني، وتسخير العراق لتحقيق طموحات إيران الإقليمية والدخول في الصراعات على الطريقة التي تستخدم فيها إيران حزب الله.
لكن تبقى أهم معضلة في العراق هي كيفية إلغاء قرار دمج هذه الميليشيا مع الجيش النظامي علماً بأن القوانين بمجرد أن تشرع، يصبح من الصعب جداً إلغاؤها؛ لأنه سيكون لها على الدوام أنصار أقوياء من بين الزعامات والمرجعيات والأحزاب الأكثر سيطرة داخل الحكومة والبرلمان.
التطور اللافت في جهود قيادات «الحرس الثوري» الإيراني في العراق يصبّ في خانة فرض مشروعية النموذج الذي أنتجته الثورة الإيرانية، وهو تزاوج الجيش النظامي مع المنظومة العسكرية الموازية له، بحيث يكون «الحشد الشعبي» في العراق القوة العسكرية الموازية للجيش العراقي، بالتوازي مع إضعاف دور الحكومة العراقية، حيث وجدت طهران أن العراق هي الوجهة الأنسب والأقرب لحدودها لتحويله إلى ساحة للمواجهة ضد حصارها الاقتصادي والسياسي، وتتمثل أولى مظاهر المواجهة بمحاربتها لرئيس الوزراء عادل عبدالمهدي بالإبقاء على الأزمة الحكومية، ثم دعمها لحلفاء الحشد الشعبي وجعلهم قوة تتبع لها داخل الساحة العراقية.
ويمكن للولايات المتحدة تغيير مسار الأحداث إذا التزمت بمراقبة نشاطات طهران من العراق، فإن نجحت في تفكيك هذه الميليشيا التي استثمرت فيها طهران كثيراً ووفرت لها تدريباً جيداً يعتبر ضربة قوية لإيران، وسيمهد الأرض لتفكيك الجيوش والميليشيا التي تدور في الفلك الإيراني.
5 منعاً لعودة «داعش» جيمس ستافريديس واشنطن بوست
في البحرية الأميركية، نقول إن كل بحار هو «رجل مطافئ». وذلك لأنه عندما يندلع حريق في إحدى السفن بعرض البحر، يكون هناك تهديد حقيقي في ضوء مزيج قابل للاشتعال من الوقود والذخيرة والدوائر الكهربائية والمؤن المخزّنة، والطاقم بأسره مدرب على السيطرة عليه وإخماده. ولا يمكنك الابتعاد إلى مكان آمن وترك الحريق حتى تأكل النيران نفسها. ولعلها الطريقة الملائمة للنظر إلى تنظيم «داعش» في الوقت الراهن، ففي غضون السنوات الماضية، وفي ظل إدارتين، دمرت الولايات المتحدة وقوات التحالف 95? على الأقل من عتاد «داعش». لكن من دون مراقبة عودته للظهور، تبقى هناك فرصة لأن يجدد التنظيم صفوفه. وخير من يعلم ذلك هو رئيس القيادة المركزية الأميركية الجنرال «جو فوتيل»، وهو قائد قوات خاصة قاد المعركة منذ 2016. وقد أوضح الجنرال للكونجرس مؤخراً؛ أنه إذا انشغلت القوى الفاعلة الرئيسة ووكلاؤها على الأرض بالمنافسة على النفوذ في سوريا، فإن ذلك قد يخلق فراغاً لعمل فلول تنظيم «داعش» والجماعات الإرهابية الأخرى وإعادة تنظيم صفوفهم. وكرّر بذلك وجهة نظر وزير الدفاع الأميركي السابق «جيمس ماتيس»، الذي استقال إثر إعلان الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية بشكل كامل من سوريا.
ولا تشكل الأراضي وحدها مصدر القلق، فـ«داعش» لا يزال يتمتع بقدرات في الفضاء الرقمي. وقد استغل وسائل التواصل الاجتماعي بدهاء لجذب مجندين جدد، وجمع الأموال وإنشاء شبكة قيادة وتحكم. ويواصل شنّ هجمات إرهابية في أنحاء العالم، ومن بينها تفجير أدى إلى سقوط ضحايا الشهر الماضي في كاتدرائية بجنوب الفلبين.
وإذا ما أخذنا في الحسبان أن التنظيم الإرهابي خرج من رحم انهيار حركة التمرد في العراق، والتسرّع في سحب القوات الأميركية كافة في عام 2011 من دون ترك قوة طارئة لضمان مرحلة انتقالية مستقرة، يمكننا أن نستنبط الدرس المستفاد من العلاقة بين الانسحاب المتسرع وتنظيم «داعش» الذي لا يزال خطيراً وخبيثاً في سوريا حتى يومنا هذا. فلماذا نكرر الخطأ ذاته؟
لكن كيف يمكننا منع «داعش» من العودة وترتيب صفوفه من جديد؟ أولاً: لابد من إبقاء ما يتراوح بين 7000 و10000 جندي أميركي بين العراق وسوريا من أجل العمليات الخاصة وجمع المعلومات ومساندة الحلفاء في المنطقة. وعلى واشنطن أن تُنعش تحالفها العالمي ضد «داعش»، بعد أن بدأ يفقد زخمه باستقالة المبعوث الخاص الأميركي «بريت ماكجورك» الذي رحل في أعقاب رحيل «ماتيس». وعلى البنتاجون أن يؤكد مجدداً التعاون المتكامل مع وكالات الاستخبارات ووزارة الخارجية وإدارة مكافحة المخدرات، إذ أن لكل من هذه الوكالات أدوات مختلفة في المعركة. وفي حين تبذل القيادة الإلكترونية الأميركية ما بوسعها لحماية الشبكات، فعليها أن تُقدم على الهجوم.
وعلى الجيش الأميركي أن يُفكّر بصورة أكثر اتساقاً بشأن التعاون بين القطاعين العام والخاص. ويشمل ذلك التعاونَ مع شركاء مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر ومنظمات التعليم غير الحكومية، مثلما فعل عند تقديم المساعدات الإنسانية و«الدبلوماسية الطبية» في أميركا اللاتينية والدول الكاريبية، في الفترة التي كنت أتولى فيها القيادة الجنوبية الأميركية. وإلى ذلك، لابد من حمل الشركات التكنولوجية وشبكات التواصل الاجتماعي الكبرى التي يستغلها التنظيم الإرهابي على التعاون. فحتى جوجل، التي امتنعت في بعض الأحيان عن التعاون مع وزارة الدفاع، حققت نتائج مؤثرة في مواجهة التطرف العنيف من خلال مشاريع مثل «جيجسو» الذي كان يُعرف في السابق بـ«أفكار جوجل». ولا شك في أن شركات التكنولوجيا العملاقة، إذا ما تعاونت، يمكنها تحقيق نتائج أكبر بكثير.
وأخيراً: سيكون من الحكمة ألا تبالغ الولايات المتحدة ودول التحالف في إعلان الانتصار على «داعش». وبرغم أنه يحق للجميع الفخر بالتقدم الذي تم إحرازه ضد هذا الخصم العنيد والحاقد، فإن المهمة لم تنته بعد!
6 «التقويم».. عِلمٌ عراقيُّ المولِد
محمد عارف
الاتحاد الاماراتية
كُلّما نسيتَ العراق أو أجبرك على نسيانه، جاءت الأحداث لتعيده بقوة أكبر كصفعة، أو «كفخة» على الرأس، حسب التعبير العراقي. فاحتفال الصين، الأسبوع الماضي، بعامها الجديد 4717، يصادف العام 2758 في التقويم البابلي في العراق القديم، حيث ولد علم التقويم. تفاصيل ذلك في كتاب «التقويم» الصادر بالإنجليزية، والذي يذكر أن الشهر في التقويم القمري، الذي ورثه البابليون عن السومريين، يتكون من 30 يوماً، والسنة 360 يوماً، وأنهم استقوا ذلك من ضرب رقمي 6 و60، والحاصل 360، وهو الرقم المستخدم حتى اليوم في تقسيم السماء وكل سطح دائري. ولا يُعرفُ، حسب كتاب «التقويم» The Calendar لماذا اختار علماء «سومر» هذه الأرقام، التي ما تزال حتى اليوم القاعدة العددية لكل شيء، من تحديد موقع الشخص في البحر وحتى المسافة بين كوكبنا الأرضي والمجرات. وطوّر البابليون ميراث الأعداد السومرية في تقسيم اليوم إلى 24 ساعة، والرقم قابل للقسمة على 6 والمضاعفة دون باق إلى 360 يوماً. ويُدهشُ الرقمُ 24 مؤلفَ الكتاب «ديفيد دنكان» ولا يجد تفسيراً له سوى ولع العراقيين القدماء بالأبراج وقراءة الحظ. ويُحتملُ أنهم قسموا كلاً من النهار والليل إلى 12 ساعة، ليوافق ذلك علامات دائرة الأبراج، ثم جمعوهما للحصول على عدد ساعات اليوم 24.
ويكشف كتاب «التقويم» عن أن الأرقام، التي تُسمى عربية، المستخدمة اليوم في جميع أنحاء العالم، هي عربية حقاً، وليست هندية، كما يُعتقدُ، ويتابع انطلاقَ ملحمة الوقت من بلاد ما بين النهرين قبل ستة آلاف عام، ودورتها حول الهند واليونان وعودتها من جديد إلى المنطقة العربية في عصر النهضة الإسلامية. يذكر ذلك فصل في الكتاب عنوانه «من بيت الحكمة إلى أوروبا الجاهلة»، يعرض تفاصيلَ الثورة التي أحدثها في علم التقويم علماء الفلك والرياضيات، الخوارزمي والإقليدي والبتاني والبيروني، وكيف انطلقت الثورة من جديد، عبر سوريا وإسبانيا إلى أوروبا، حيث ساهمت في تأسيس علوم عصر النهضة الأوروبية.
واليوم يستخدم الصينيون والعرب ومعظم سكان العالم التقويم الميلادي، الذي يؤرخ لميلاد السيد المسيح في المنطقة العربية. ولعب العلماءُ العرب دوراً أساسياً في إصلاحه. ويستعيد كتاب «التقويم» وثيقة الإصلاح التاريخية للتقويم الميلادي، والتي وضعها بالعربية «أغناطيوس»، وهو عالم سوري بالرياضيات والطب شغل كرسي بطريرك «أنطاكيا»، ثُم ترجمت الوثيقة إلى اللاتينية. ويظهر «أغناطيوس» في لوحة زيتية تاريخية يشرح تفاصيل وثيقة الإصلاح لرئيس الكنيسة الكاثوليكة آنذاك البابا «غريغوري» الذي يحمل اسمَه التقويمُ الميلادي الحالي، وساهم في التوقيع على وثيقة الإصلاح ثمانية علماء فلك ورياضيات وجغرافيا ورسامين، وشخص من «مالطا» اسمه «ليوناردو أبيل» يتقن العربية بما يكفي للمصادقة على توقيع «أغناطيوس»!
ويحتاج قياس الوقت إلى ظاهرة طبيعية تتكرر بانتظام، وأول معيار استخدمه البشر لقياس الوقت تعاقب الليل والنهار وتوالي الفصول. ويستخدم علم التقويم الحديث دورة الذرات في قياس الوقت. فالذرات التي تتكون منها كل المواد في الطبيعة تنبض بانتظام دقيق خلال امتصاصها وإطلاقها للطاقة. و«الدعوة إلى تقويم جديد يبدأ مع نهاية العصر الجليدي» عنوان تقرير كتبته عام 1999 عن «الساعة الذرية» التي تعتمد نبض معدن «السيزيوم» النادر. ولم يتوقف حتى اليوم السباق العالمي في تطوير ساعات ذرية تُستخدمُ في شتى الأغراض، من تنظيم ترددات الفضائيات العالمية، وحتى أنظمة الأقمار الاصطناعية للملاحة، مثل «النظام العالمي للمواقع» GPS. وعام جديد سعيد «شاغ هول زاك موك» باللغة السومرية، و«شينيانغ كوايلو» بالصينية، ويمكن العثور على كتابتهما الرشيقة بالحروف السومرية والصينية، المتشابهة بشكل فريد، عن طريق «غوغل» الذي يستخدم النظام العالمي لتحديد المواقع.
7 مؤتمر وارسو وضرورة دعم المقاومة الإيرانية جوليو تيرتسي
الوطن السعودية
وفقا لبيان مشترك صادر عن وزارة الخارجية الأميركية وجمهورية بولندا، سيعقد مؤتمر وارسو في 13-14 فبراير. تمت دعوة وزراء الخارجية من جميع أنحاء العالم لحضور المؤتمر، ومن المتوقع حضور حوالي 70 دولة.
يعتقد المراقبون السياسيون أن التوقيت تم اختياره عمدا ليتزامن مع الذكرى الأربعين لمجيء آية الله الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979 والإطاحة بالشاه.
انتقد النظام الإيراني بولندا بشدة لاستضافتها القمة. زعمت طهران أنه خلال الحرب العالمية الثانية، من بين ملايين اللاجئين الهاربين من الدول الأوروبية بسبب الحرب، جاء أكثر من 100.000 بولندي عبر الاتحاد السوفياتي السابق إلى إيران، واستقروا في البلاد.
في خطوة أخرى، في مهرجان الأفلام البولندية الذي سيعقد في طهران بمناسبة الذكرى الأربعين لولادة نظام الملالي، أزالت إدارة المهرجان قسم السينما البولندية من البرنامج، احتجاجًا على مؤتمر وارسو.
عباس عراقجي، نائب وزير الخارجية الإيراني، ذهب أبعد من ذلك. في إشارة إلى المقبرة البولندية، غرد على تويتر قائلا: «تم دفن حوالي 1900 بولندي في المقبرة البولندية في طهران. فيما يتعلق بالشعب البولندي، بقيت هذه المقبرة على حالها منذ أكثر من 70 عامًا».
إن الإشارة العجيبة وغير المبررة إلى أشخاص ماتوا منذ أكثر من سبعين سنة – ممن يستحقون الاحترام فقط، والذاكرة العزيزة وصلوات عائلاتهم، ويجب أن يستمر تكريمهم في تلك المقبرة- إظهار کل ما يتعارض مع ذلك، إلى جانب الغطرسة والعنجهية في الإعراب عن المشاعر والمواقف، في الوقت نفسه يظهر الضعف العميق لهذا النظام الفاشي الديني في مواجهة التحديات والأزمات التي تتزايد وتتضاعف يوما بعد يوم.
الملالي، غير القادرين على الحفاظ على وجودهم، يتشبثون ببلدان أوروبية مستعدة للمساعدة، إن النظام الإيراني يعرف جيداً أنه لا يمتلك شرعية ولا قاعدة شعبية. لذلك يعتقد أن التشبث بحكومات الاتحاد الأوروبي التي برأي النظام لا توجد عندها صرامة سياسية في فرض العزلة على النظام، کما فعلت الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن باعتقادي، كما قالت السيدة مريم رجوي، ستدرك أوروبا أن الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة – بدلاً من إرضاء ديكتاتورية دينية منبوذة – هو في مصلحتها الوطنية الخاصة.
على هذه الخلفية، يمكن اعتبار شهر شباط (فبراير) 2019 علامة جيدة للغاية على نهاية صفحة طويلة مأساوية من تاريخ العالم، والتي بدأت في عام 1979 بقمة غوادلوب، وسوف تختفي مع مؤتمر وارسو.
وقالت السيدة مريم رجوي، في اجتماع المقاومة الإيرانية السنوي في فيلبينت بالقرب من باريس في يوليو 2017: خلال هذه السنوات الـ38، ظل الملالي في حالة حرب لمدة ثماني سنوات مع العراق وستة أعوام مع الشعب السوري، وكانوا يواجهون المجتمع الدولي منذ أكثر من 10 سنوات لبناء قنبلة نووية. في الآونة الأخيرة، رأينا أن علي أكبر صالحي، رئيس منظمة الطاقة الذرية اعترف بشكل مباشر في 22 يناير في التلفزيون الإيراني الرسمي بأنه كذب على المجتمع الدولي وخدع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن مشروع آراك النووي.
يلجأ النظام إلى أي عمل يمكن تخيله من أجل البقاء. قمع دموي داخل البلاد، مشاريع نووية، برامج صاروخية بعيدة المدى، دعم رسمي صريح للإرهاب، تسليح الميليشيات والجماعات التابعة له في جميع أنحاء المنطقة، دعم الدكتاتور السوري بشار الأسد، قتل وتشريد ملايين السوريين، مساعدات هائلة إلى حزب الله اللبناني، والتدخل في الشؤون الداخلية للعراق، ومساعدة الحوثيين في اليمن ضد حكومة شرعية، ومساعدة طالبان في أفغانستان، كلها أمثلة واضحة على السياسة المشبوهة التي يمارسها النظام الإيراني في المنطقة. ولكن لا أحد من هذه الأعمال يجعل من الفاشية الدينية أقوى. على العكس، تشير كل الدلائل إلى أن زمن الملالي قد انتهى. ومن ثم فإن مؤتمر وارسو بحاجة إلى قرار حاسم وملزم ضد النظام، من أجل المساهمة في السلام والأمن في الشرق الأوسط.
إن أفضل حل سياسي لإعادة الشعب الإيراني إلى الحرية والعدالة والازدهار الاقتصادي يكمن في دور ومكانة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية (NCRI)، الذي يمكن الاعتماد عليه في رؤيته لمجتمع تعددي وديمقراطية ذات مصداقية منظمة بشكل ملحوظ ومخلص لجميع الالتزامات التي تم التعهد بها على مدى العقود الثلاثة الماضية. كحركة مقاومة، حافظت دائما على مبادئها الواضحة، وقد دفعت أسعارا باهظة لأن تبقى متماسكة وجديرة بالثقة.
لقد لجأ النظام الإيراني إلى كل تدبير ممكن لتدمير هذا البديل. على وجه الخصوص، حاول الحيلولة دون قيام تجمع إيراني كبير في 30 يونيو 2018، وذلك من خلال التخطيط لعملية إرهابية بمساعدة دبلوماسي-إرهابي في النمسا وعملائه في بلجيكا وفي العديد من الدول الأوروبية الأخرى. بعد يومين من تجمع فيلبينت، تحول الإعلان عن اعتقال المتهم وإحباط العملية الإرهابية المزمعة إلى فضيحة عالمية للملالي.
* وزير الخارجية الإيطالي السابق
8 العراق الواعد… مسؤولية أبنائه
د. عبد العزيز بن عثمان بن صقر
الشرق الاوسط السعودية
العراق، القطر العربي الشقيق له مكانة عظيمة في قلوبنا جميعاً، عُدت إليه زائراً في الرابع من فبراير (شباط) الحالي بعد غياب طويل، لحضور «ملتقى الرافدين للحوار» الذي نظمه «مركز الرافدين للحوار»، بمشاركة كبار المسؤولين العراقيين، وعلى رأسهم الرئيس العراقي الدكتور برهم صالح، بالإضافة إلى مسؤولين وممثلين لجهات دولية وإقليمية وباحثين ومفكرين من مختلف المشارب، ناقش المشاركون واقع منطقة الشرق الأوسط، ومنها العراق، وما يعانيه، وأسباب هذه المعاناة، وكيفية خروجه مما انزلق إليه منذ أحداث عام 2003، وحتى الآن.
مشاركتي التي طرحتها في الجلسة، التي كانت تحت عنوان «الشرق الأوسط: أرض الصراع وقبلة السياسة العالمية»، تضمنت رؤيتي لواقع منطقة الشرق الأوسط وكيفية تجاوز المعضلات الموجودة، وكذلك عودة العراق إلى دوره العربي والإقليمي، في أربع نقاط رئيسية تتلخص فيما يلي:
مشكلات المنطقة، ومنها العراق، تتمثل في وجود الميليشيات المسلحة خارج سلطة الدولة، التي تعمل لمصالحها، وليست لمصالح الدولة العليا، وإن اتخذت هذه الميليشيات أشكالاً وصيغاً مختلفة إلا أنها تمثل تهديداً للاستقرار والأمن الإقليمي، وتعيث فساداً وتقود نحو هاوية الحروب الأهلية. والنقطة الثانية تتمثل في نزعة بعض الدول الإقليمية إلى فرض هيمنتها الإقليمية، وتوظيف آليات متعددة لتحقيق أهدافها غير المشروعة عبر توظيف الأوراق الدينية، الطائفية، القومية والإثنية. والنقطة الثالثة تتمثل في تدخلات الدول الخارجية، خصوصاً الدول الكبرى في شؤون دول المنطقة، ما يزعزع الاستقرار والأمن الإقليميين، ويحول المنطقة إلى ساحة للحرب الباردة. وأخيراً استمرار الاحتلال واغتصاب الأرض بالقوة وفرض السيطرة على السكان بصورة غير شرعية لا تتوافق مع حقوق الإنسان والقوانين الدولية، ورفض مبدأ التفاوض لتسوية الخلافات بالطرق السلمية، وهو ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبالعودة إلى العراق، وجدت الحالة الأمنية خلال هذه الزيارة أفضل مما كانت عليه في السنوات السابقة التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين عام 2003، حيث قلت الحواجز الأمنية ونقاط التفتيش في بغداد، مع تدفق مسؤولين وباحثين من مختلف الدول، كما وجدت في نبرة الزعماء المحليين رغبة في إعادة بناء العراق ولم شمل أبناء الوطن، والعودة إلى الجذور العربية والانتماء الإقليمي بعد سنوات طويلة أهدرت الكثير من مقدرات الشعب العراقي وموارده، وأثرت سلباً على المواطنة والانتماء، وأعلت من شأن الطائفية والعرقية على حساب هوية الوطن، وأبعدت العراق عن محيطه العربي بشكل تعسفي، وما تبع ذلك من حروب أهلية، وانتشار العنف وتمدد الجماعات الإرهابية في هذا البلد الشقيق.
طرحت رؤيتي ووجهة نظري حول عراق المستقبل، سواء مع القيادات العراقية الذين التقيتهم، أو من خلال المناقشات الجانبية على هامش المنتدى، أو عبر وسائل الإعلام ومفادها:
– المصالحة الشعبية العامة والشاملة وقبول جميع مكونات الدولة العراقية المتعايشة منذ آلاف السنين دون تفرقة أو اضطهاد أو شعور فئة بالتميز على الأخرى، ليعود التسامح وقبول الآخر كما كان العراق عبر التاريخ.
– العراق مسؤولية أبنائه، وليس مسؤولية أي دولة خارج حدوده مهما كانت المبررات، فالشعب العراقي صاحب الحضارة والمتمرس على أسس إدارة الدولة منذ قديم الزمن، يستطيع إدارة دولته وإعادة بناء ما تهدم منها بسبب الحروب والصراعات الأهلية التي جاءت رد فعل للتدخل الخارجي، ولتحول العراق ولفترة طويلة لدولة رخوة تمدد فيها الفساد والإرهاب، وعليه من الضروري ترك العراق لأبنائه وخروج أو انسحاب جميع القوى الخارجية من الأراضي العراقية دون تسويف أو ادعاءات أو مبررات مهما كانت، مع قناعة كل الأطراف الدولية والإقليمية أن الشعب العراقي ليس في حاجة للوصاية عليه من أي دولة خارج حدود بلاده.
– ضرورة أن تكون المرجعيات في العراق، مرجعيات عربية وليست من الخارج، والعراق لديه من المرجعيات العربية ما تستطيع القيام بمهامها على أفضل وجه، وبما يتناسب مع طبيعة الشعب العراقي واحتياجاته وتحقيق أهدافه.
– قيام دولة مدنية تعتمد على الفصل بين السلطات، وإعادة بناء الجيش العراقي على أسس عسكرية حديثة، أي جيش نظامي مدرب ومحترف لحماية الشعب والدولة المدنية التي تقوم على أسس المواطنة فقط، وليس المحاصصة أو الطائفية.
– حل جميع الميليشيات المسلحة وتسليم سلاحها للدولة المركزية تحت إدارة حكومة قادرة على حماية الاختلاف وفسيفساء المجتمع العراقي ضمن حرية مضبوطة ومشروعة، وفي إطار حقوق الإنسان، وعدم الجور على حقوق أي مكون من مكونات المجتمع العراقي.
– إخلاء العراق من جميع المنظمات والجماعات الإرهابية بمساعدة المجتمع الدولي وبتضامن الشعب العراقي وتوحيد أجهزته لاستئصال هذه الآفة التي استشرت في الجسد العراقي ولسنوات طويلة ما أنهك الدولة وفتت الشعب.
– توافق دولي وإقليمي على إعادة بناء العراق الحديث بما يتناسب مع احتياجاته ودخله الوطني ورؤيته لمستقبله.
هذه العناصر وغيرها كفيلة بإعادة العراق إلى محيطه الإقليمي، وجذوره العربية ودوره العالمي، ويعود قوة إقليمية لحفظ التوازن الإقليمي دون تهور أو تطرف أو مغامرات عسكرية غير محسوبة العواقب، وكذلك عودة الدولة العراقية لتبسط نفوذها على كامل تراب الوطن لفرض الأمن وطرد الإرهاب، وإقامة علاقات خارجية متوازنة، سواء مع دول الجوار، أو مع بقية دول العالم، وفقاً لمصالح العراق وشعبه، وألا يكون العراق مطية لدول إقليمية أو منصة لانطلاقها نحو بقية الدول العربية للسيطرة وفرض النفوذ، وهو ما تفعله إيران، أو يكون العراق قاعدة عسكرية خارجية تحت حجج واهية وغير مقنعة كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية.
المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي تريد عودة العراق إلى دوره في المنطقة كما كان، فالعراق العربي القوي الذي يحتضن جميع مكوناته وطوائفه هو مكسب لشعبه ولمحيطه، فلا تريد السعوديةُ العراقَ الممزق المتناحر الضعيف الذي تتفشى فيه الطائفية والمحاصصة التي تهدد كيان الدولة العراقية الموحدة، ولقد بدأت الرياض في اتخاذ خطوات إيجابية للتعاون مع الحكومة العراقية من أجل تحقيق هذه الأهداف والطموحات، فلا مصلحة للسعودية إلا في وجود العراق القوي الموحد الذي يدير شؤونه بنفسه دون تدخل من أي أطرف ودون أي وصاية من أي جهة على شعب الرافدين.
9 السيستاني ورعاية الوطنية العراقية مصطفى فحص
صحيفة الشرق الاوسط السعودية
مع تمسكها بمبدأ فصل الدين عن السياسة ورفضها لولاية الفقيه، إلا أن الحوزة العلمية النجفية تمنح رجل الدين الحق في إعطاء رأيه السياسي من موقعه كمواطن وليس كرجل دين في القضايا الوطنية العامة، هذا الحق في إبداء الرأي أو التنبيه من مخاطر محتملة على البلاد والعباد مارسه المرجع الأعلى للشيعة في العالم السيد علي السيستاني، باعتباره زعيم الحوزة النجفية، وصاحب أكبر عدد من المقلدين والأتباع في العالم، والتي تمنحه – بحق – الزعامة الروحية، وتحرر تأثيره من قيود الجغرافيا أو الانتماء القومي.
فبعد أشهر على طلبه من وكلائه المعتمدين خصوصاً في مدينة كربلاء عدم التطرق مباشرة إلى الأوضاع السياسية في خطبهم ولقاءاتهم، إلا أن السيد السيستاني كسر حذره وخاطب العراقيين حكومة وشعباً كمواطن عراقي حريص على الدستور والقانون ومصالح الدولة، حيث تناول بشكل لافت الشأن العام العراقي أثناء استقباله السيدة جينين هينيس بلاسخارت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ورئيسة بعثتها في العراق، ووجه رسائل صارمة بعدة اتجاهات داخلية إقليمية ودولية، فقد جدد السيد السيستاني دعوته لإبقاء السلاح بيد الدولة حصراً، ودعا إلى «ضرورة تطبيق القانون على جميع المواطنين والمقيمين بلا استثناء، وحصر السلاح بيد الحكومة والوقوف بوجه التصرفات الخارجة على القانون، ومنها عمليات الاغتيال والخطف، ومحاسبة فاعليها بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية». حيث يعتبر هذا الموقف أول إدانة واضحة وعلنية لعملية اغتيال الكاتب والروائي العراقي علاء مشذوب التي حصلت قبل أقل من أسبوعين في مدينة كربلاء.
فمما لا شك فيه أن بيان السيستاني الصارم صدم الطبقة السياسية وأحرج الحكومة وطالبها بتحقيق تقدم حقيقي على المستوى الداخلي والخدمي، خصوصاً في البصرة تجنباً لغضب المواطنين القادم، والإسراع بإعادة إعمار المناطق التي تضررت نتيجة الحرب على «داعش»، لقطع الطريق على عودة الإرهاب.
في المقابل لم يتطرق السيستاني في بيانه إلى مستقبل القوات الأميركية في العراق باعتبار أنه شأن تقرره الدولة العراقية وحاجة البلد للدعم الدولي من عدمه، لكنه رفض استخدام العراق محطة لتوجيه الأذى لأي بلد آخر، فالمرجعية الدينية في النجف التي رفضت تدخل دول الجوار في شؤون العراق الخاصة، ترفض أيضاً تحويل العراق إلى قاعدة للاعتداء على دول أخرى حيث أكدت في بيانها «أن العراق يطمح إلى أن تكون له علاقات طيبة ومتوازنة مع جميع دول الجوار وسائر الحكومات المحبة للسلام على أساس المصالح المشتركة من دون التدخل في شؤونه الداخلية أو المساس بسيادته واستقلاله». ولا يمكن فصل كلام النجف عن حماية السيادة الوطنية عن التدخلات الإقليمية في العراق، التي أدت إلى رفع حدة الحساسية العراقية تجاه طهران، حيث ربطت أوساط نجفية هذا الموقف بامتعاض المرجعية من التدخلات الإيرانية، وهذا ما ترجم مجدداً برفض السيد السيستاني استقبال وزير الخارجية الإيرانية جواد ظريف في النجف الذي انتظر أربعة أيام على أبوابها دون جدوى، كما أن السيد السيستاني لم يستقبل وزير الخارجية الفرنسية الذي زار النجف أيضاً في ذات الفترة. وفي هذا الصدد يقول الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية الدكتور هشام داود تعليقاً على بيان السيستاني «اليوم، السيد السيستاني يذكر مجدداً بهذه الثوابت، في وقت تجد نفسها، حكومة الدكتور عادل عبد المهدي، وسط رمال متحركة، غير قادرة حقيقة على خلق إجماع وطني والانفلات من الضغوطات الداخلية والإقليمية والدولية. في هذا الوقت بالذات يظهر السيد السيستاني مع ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة ليوجه رسائل واضحة لإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مثلما هي رسالة لدعوة الحكومة العراقية بتبني سياسة الحياد الإيجابي، والابتعاد عن المحاور، ورسالة ثالثة تأتي على شكل تحذير لدول المنطقة من مغبة التدخل في شأن العراق».
وعليه، فإن من الواضح أن المرجعية الدينية تجد نفسها مضطرة لإبداء رأيها علنا في السياسة العامة العراقية حماية للقرار السيادي العراقي، خصوصاً عندما تقصر الطبقة السياسية والحكومة العراقية في حمايته، فالمرجعية النجفية التي تؤمن بولاية الأمة على نفسها، وتحصر دورها بالتوجيه والرعاية، تختار اللحظة المناسبة لإعادة تصويب المسارات الوطنية العراقية وتطالب الجميع بالتمسك بالدستور العراقي وسيادته ووحدته. مرة جديدة يحذر السيد السيستاني الطبقة السياسية من اهتزاز القيم الوطنية عند بعضها، ويبرهن أن المرجعية حاضرة بقوة عندما يتعرض العراق إلى ضغوطات خارجية وإقليمية كبيرة تهدد استقراره، وتتدخل عندما تكون الحكومة المركزية لوحدها غير قادرة على مواجهة هذه الأخطار. وهذا ما جعل من المرجعية صمام أمان بعدما فشلت الطبقة السياسية ليس فقط في تقديم حلول وطنية فعلية، بل أيضا عندما أظهرت عجزاً في الدفاع عن القرار العراقي الحر والمستقل.
10 نقلة فرس على رقعة الشطرنج العراقية
مشرق عباس صحيفة الحياة السعودية
تتخذ الاتهامات السياسية المتبادلة في العراق اخيراً منحاً غير مسبوق، لكنه وهو يشي بتطورات ومتغيرات في خريطة القوى، يعكس في المقابل استمرار التخبط الحزبي الفردي خارج سقف الدولة وبعيداً عن تكريس الدولة باعتبارها صانعاً للسياسات الخارجية.
استمعنا اخيراً الى اتهام صريح لقيادات سياسية شيعية بانها باتت جزءاً من «المشروع الاميركي – العربي»، لأنها ابتعدت في مواقفها عن قيادات أخرى تصنف نفسها باعتبارها «محور المقاومة الإيراني»، كما استمعنا في المقابل إلى اتهامات لقوى وشخصيات سنية عارضت النفوذ الإيراني لسنوات بانها باتت حليفة لطهران، ولا يستثني الجدل المواقف الكردية أيضاً.
لكن ما يمكن تأشيره باعتباره متغيراً عاماً في المعادلة يعود إلى أن صراع القوى في الشرق الأوسط الذي كان ينظر ابتداءً من عام 2003 إلى عراقين أحدهما «شيعي يوالي إيران»، وآخر «سني يتبع منظومة القوى العربية وتركيا»، لم يعد صالحاً باعتباره ستراتيجية عامة للجميع بعد سقوط نحو ثلث العراق بيد تنظيم «داعش»، ويمكن أيضاً وضع خط تحت التاريخ نفسه للقول ان إيران بدأت بشكل جاد بفتح خطوط التواصل مع القوى والشخصيات السنية، في الوقت نفسه الذي بدأت فيه الدول العربية بفتح خطوط الاتصال مع القوى والشخصيات الشيعية. وعلى رغم أن الأمر يبدو للوهلة الأولى وكأنه نقلات بالفرس لدول المنطقة الفاعلة على رقعة الشطرنج العراقية، وفقاً لمعطيات الأزمة السورية وهزات المنطقة المتنقلة، فإنه من زاوية أخرى يمثل استجابة طبيعية لمتغير داخلي في طبيعة قراءة القوى السنية والشيعية والكردية لطبيعة الوضع العراقي ولعلاقاتها وأحلافها المستقبلية. ففيما كان القادة الشيعة يواجهون سخطاً شعبياً هائلاً جراء الفشل في بناء الدولة الذي قاد إلى الجرح العميق الذي مثله «داعش»، كان القادة السنة يعيدون قراءة الواقع في ضوء النتائج التي آلت اليها سياسات ما بعد 2003 والمواجهة المفتوحة التي خاضوها متفقين أو مختلفين مع منظومة الحكم. واقع الحال، أن هزيمة «داعش» هي المناسبة التي ذهب فيها الزعماء السنة لإنتاج استدارة كاملة في العلاقة مع إيران، خصوصاً أن طهران التي أصبحت نافذة في الموصل والأنبار وصلاح الدين، وتسعى إلى نفوذ أكثر رسوخاً، كانت مدت يدها لهم مذللة العقبات وأوامر القبض والاتهامات السابقة في حقهم، بل ومستعدة لمنحهم سلطة القرار وحتى سلطة الفساد على مناطقهم إذا شاءوا، وهذه مرحلة انتقالية، شهدت بالتزامن انقساماً خليجياً وعربياً حاداً، تخلله اقتراب قطر حاملة معظم ملفات أصدقائها في الجبهة السنية العراقية من إيران.
ربما كانت القيادات السنية تراقب تودد العرب إلى شيعة العراق، في اللحظة نفسها التي كان القادة الشيعة يراقبون تودد إيران إلى سنته، وكان الكرد الذين قادوا طوال سنوات سياسة توازن ناجحة بين إيران والعرب وتركيا وأميركا، يراقبون بدورهم تلك التنقلات في الخنادق، ويتأثرون بتداعياتها، فتقترب اربيل خطوتين من طهران، فيما تقترب السليمانية خطوة من واشنطن. لكن الفارق الأساسي في حراك إيران وحراك كل دول المنطقة يتعلق في الأهداف على الأرض لا على الورق، فكسب قيادات للمكونات في العراق قد ثبت مراراً انه ستراتيجية غير مكتملة، والشارع اثبت بالأدلة أنه يفكر بمعزل عن القيادات السياسية لأحزابه، وهو شارع غاضب ومستفز من حال التلاعب التي تجري على أرضه وتجازف بمصيره، لهذا يسأل بلا توقف في وسائل التواصل عن الطريقة التي تحول فيها عدو هذه الدولة أو تلك إلى صديق حميم، ويستشيط عندما يتذكر سيل الدماء الذي تسببت به سياسة الاستقطاب نفسها للسنوات السابقة.
ان تتوازن علاقات وانحيازات القيادات الحزبية التي تتحدث باسم المكونات العراقية باعتباره جزءاً من سياق توازن العراق كدولة في علاقاتها الخارجية، فهذا خبر جيد، لكن ذلك مشروط بأن تمنح المكونات عبر زعاماتها الدينية والقبلية والسياسية تلك الدولة المستلبة أولاً حقها الشرعي والحصري في بناء علاقاتها مع محيطها ومع العالم والتأسيس لتوازناتها وفقاً لمصالحها وأولوياتها، وان تغادر بلا عودة مرحلة تسليم سلطة القرار الاستراتيجي إلى زعماء الطوائف المتسببين في الأساس بتحويل بلادهم إلى رقعة شطرنج.
11 الثورة الإيرانية.. بعد أربعين عاماً!!
صالح القلاب
صحيفة الراي الاردنية
بقينا نسمع أن «الثورة» كالقطة المتوحشة تأكل أبناءها وحقيقة أن هذا هو ما جرى مع الثورة الفرنسية ومع ثورات لاحقة أخرى من بينها الثورة الإيرانية (الخمينية) عام 1979 التي تحل في هذه الأيام الذكرى الأربعين لانتصارها والتي بقدر ما راهن عليها كثيرون حتى من العرب بالإضافة إلى الإيرانيين بقدر ما خيبت آمالهم وإلى حدّ أن هؤلاء وغيرهم باتوا يتمنون لو أن عرش الطاووس لم يسقط ولو أن الشاه محمد رضا بهلوي بقي على رأس هذه الدولة، التي نعتبرها «شقيقة» لكننا لم نر ولم نلمس منها إلاّ المنغصات، إلى أن سلَّم الحكم لإبنه الذي يعتبر الآن أحد قادة ورموز المعارضة الإيرانية.
ربما أن بعض الأنظمة العربية التي كانت تربطها علاقات متينة بالشاه محمد رضا بهلوي، رغم تجاوزاته الكثيرة على العرب المجاورين، كانت تتوجس خيفة من هذا «المعمم» القادم وكانت تتمنى لو أنه تجرع «السم الزعاف» بالفعل بعد هزيمته النكراء أمام العراق بقيادة صدام حسين الذي كانت حربه حرب الثمانية أعوام في جوهرها حربا عربية اللهم باستثناء بعض الدول التي كانت تعتبر أنها «ثورية» كسوريا في عهد حافظ الأسد وكـ «جماهيرية» القذافي.. وغيرهما!!.
لقد كنت ضمن الوفد الذي كان على رأسه (أبو عمار) رحمه الله، وكان الرئيس (أبو مازن) الثاني فيه، الذي بادر للذهاب هرولة إلى طهران بعد أيام من انتصار هذه الثورة وكنا نشعر أننا قد إقتربنا من فلسطين كثيراً لكنني شعرت خلال الأيام التي قضيناها هناك أنَّ عرفات ومعه محمود عباس لم يكن مرتاحاً ولقد اكتشفت وهما في مطار «مهرآباد» يستعدان للمغادرة في طائرة الشيخ زايد أن الخميني رفض طلباً بإعادة الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى وأنه قد ردَّ على الطلب الفلسطيني بهذا الخصوص بالقول غاضباً: «إن هذه الجزر إيرانية وهي ستبقى إيرانية وإلى الأبد».
والآن وبعد أربعين عاماً فإنه عليَّ أنْ أشير إلى أن ذهاب (أبو عمار) وبتلك السرعة إلى طهران كان هدفه كسب شيعة الجنوب اللبناني الذين كان بعضهم تنفيذاً لما كان يريده حافظ الأسد يطالب بإخراج المقاومة من الجنوب خلافاً لموقف الإمام موسى الصدر، رحمه الله، وهذا هو ما حصل بعد نحو ثلاثة أعوام أي في عام 1982 وحيث كان ذلك الإجتياح الإسرائيلي الذي وصل حتى إلى القصر الجمهوري في بعبدا بقيادة ذلك المجرم إرئيل شارون.
إن خيبة الأمل بالثورة الخمينية لم تقتصر على الفلسطينيين والقيادة الفلسطينية ولا على بعض العرب الذين راهنوا عليها أكثر كثيراً من اللزوم وإنما أيضاً على معظم أنصارها من الإيرانيين فهي بدأت تأكل أبناءها منذ البدايات وأول هؤلاء حسين منتظري وقبله حركة «مجاهدي خلق» بقيادة مسعود رجوي ثم الرئيس أبو الحسن بني صدر ثم شريعة مداري ومير حسين موسوي ومهدي كروي وقبل هؤلاء جميعاً مهدي بازركان.. وهكذا فقد انتهت الأمور بعد وفاة الخميني إلى ما انتهت إليه وحيث أصبح هذا النظام أسوأ نظام في الكرة الأرضية.
إن إيران، التي كان الرهان عليها في البدايات قد وصل إلى غيوم السماء، انتهت إلى كل هذه الأوضاع المأساوية.. والأسوأ هنا هو أنها قد لجأت إلى تصدير أزماتها المتراكمة إلى الخارج.. إلى العراق وسوريا واليمن ولبنان وحيث أصبح هناك احتلال إيراني عسكري في هذه الدول كلها.. وحيث أن الرئيس حسن روحاني قد أعلن في الذكرى الأربعين لهذه الثورة أنَّ جزءاً كبيراً من الوطن العربي يجب أن يعود إلى إيران لأنه جزء من الدولة الإيرانية التاريخية على إدعائه.