1 متى سننتهي من آثار معارك الجَمَل وصِفِّين وكربلاء.. د. عبد الحميد سلوم
القدس العربي
حينما كنتُ عضوا في وفد بلادي للأمم المتحدة في نيويورك أوائل ثمانينيات القرن الماضي، كان قد مضى على الحرب العراقية ــ الإيرانية سنتين أو أقل..
كنتُ أنظُر لتلك الحرب من خلال موقف حكومتي الرسمي الذي استهجنَ تلك الحرب واعتبرها إضعافا للصف العربي والإسلامي المناهض والمعادي لإسرائيل، وأن إسرائيل هي الوحيدة التي كانت مستفيدة منها ، لاسيما بعد أن أعلن قادة الثورة الإسلامية في إيران موقفهم الداعم للقضية الفلسطينية واستبدال سفارة العدو الإسرائيلي بسفارة فلسطين ، ورَفعِ علَم فلسطين في سماء طهران بدل علَم العدو الإسرائيلي.. وهذا الموقف هو الذي جعلنا نتفاعل حينها مع تلك الثورة، وليس إسلاموية هذه الثورة، إذ انطلاقا من مبادئي العَلمانية فلستُ مع أي نظام حُكم يقوم على آيديولوجيات دينية في أي مكان، وخاصّة إن كانت تلك الآيديولوجيات ثورية وعابرة للحدود.. ولكن علينا أن نقرأ كم كان علاقة نظام شاه إيران السابق قوية بإسرائيل، وكمْ كانت بينهما اتفاقات سرية ذات طابع أمني وخطير على المنطقة وفلسطين، وكانت إسرائيل تحرص على إبقائها سرية..
ويُروى عن ( موشي شاريت) الذي كان وزير خارجية إسرائيل ثم رئيس وزرائها ما بين 1953 و 1955 ، أنه حينما طلبَ منهم نظام الشاه إعلان العلاقات بينهما للملأ وإخراجها من دائرة السرية والكتمان إلى دائرة العلنية، رفضَ ذلك وقال لهم دعُونا نبقيها سرية “فالعشق أحلى من الزواج”..
إذا هكذا كانت نظرَتي للحرب العراقية ــ الإيرانية.، أنها خدمة للعدو الإسرائيلي.. ولكن كيف كانت نظرة زميلٍ لي في الوفد الأردني وكان يدعى (موسى بر… ) ؟.
خلال نقاشٍ حامٍ بيني وبينه في صالة الوفود في الأمم المتحدة ( delegates lounge ) ، كان يسعى جاهدا لإقناعي أن هذه الحرب هي حربا طائفية في المنطقة بين السُنّة والشيعة.. وبالتأكيد موقفه هذا كان يعكس أيضا موقف حكومته.. ولكنني رفضتُ وجهة نظره ودافعتُ عن وجهة نظري المتمثلة في أن هذه الحرب لا تخدم إلا العدو الإسرائيلي وأن من ينظر لها من منظور طائفي إنما يخدم مخططات العدو الإسرائيلي ويخدم مشاريع التفتيت بالمنطقة..
قِسمٌ من العرب ( وأعني الأنظمة العربية) وقف بقوة لجانب الرئيس صدّام حسين ، وهناك أنظمة أخرى كانت مُحرجَة جدا، فهي لا تستطيع أن تدعم صدّام حسين كي لا تتورط بلاده أكثر في هذه الحرب وتجلب للعراق المآسي والويلات، ولا هي كانت قادرة على دعم إيران حتى لا يُقال أنها وقفت ضد العروبة..
بعض الشامتين بالعروبة والإسلام كانوا يقولون لي بسخرية حينما نتناقش، أن هذه الحرب هي حربٌ بين العروبة والإسلام.. وذلك في إشارة إلى شماتتهم بكلِّ من يطرح الرّبط بين العروبة والإسلام من منظور تاريخي ، لكن هذا الرّبطْ ليس على حساب الإيمان العَلماني الإيماني أو الأخلاقي الذي يطرح الفصل بين الدين والدولة في زمننا هذا..
قد لا يفاجئني حديث شخصٍ جاهلٍ مُنغلقٍ محدود العقل والتفكير إن عزا كل شكل من أشكال الصراع في المنطقة لأسباب طائفية ودينية ومذهبية، فهو جاهلٌ ولا عتَبَا على الجهلَة. ولكن يفاجئني، ويُحيِّرني أن أرى نُخبَا ومثقفين لا ينظرون لأي صراع وخلاف إلا من زاوية طائفية دينية ومذهبية ضيقة جدا.
ما قالهُ الدبلوماسي الأردني (من أن تلك الحرب هي حربا طائفية)لم يكُن يخطُر ببالي على الإطلاق.. ورغمَ أنني كنت من المتابعين لتطورات تلك الحرب ولكن لم يتهيأ لي في يوم من الأيام ولو لثانية واحدة أن هناك بُعدا طائفيا لها ، وإنما هي حربَا ذات أبعاد سياسية، تماما كما كانت حرب الجَمل وحرب صفِّين، وكربلاء، كلها كانت حروبا سياسية باسم الإسلام، والإسلام لا علاقة له بها، وإنما كان يُستخدَم كوسيلة للتغطية على تلك الحروب وإعطائها طابعا من التبرير.. ولم أفهم معنى الفرحة الشديدة لدى بعض “المثقفين” حينما كانت قوات صدّام حسين تتقدم، إلا بعد انتهاء تلك الحرب بأمرٍ من الراحل الخميني، وحينما شاهدتُ الفرحة والضحكة على وجوه البعض ( حتى من زملائي) وفرحتهم العارمة من “انتصار” الرئيس صدّام حسين على إيران، كما كانوا يعتقدون.. وكأنه كان هناك كابوسا على صدْرِ واحدهم ثم أُزِيح هذا الكابوس ..
لقد استلهمتُ من الماضي كي انتقل للحاضر.. فللأسف الشديد ما تزال الكثير من القِوى والأنظمة والشرائح الاجتماعية (وخاصة على الساحة العربية) تنظر بِمنظورٍ طائفي وديني لكل صراعات اليوم.. من لبنان وسورية إلى العراق واليمن.. بينما هي في الحقيقة كلها صراعات سياسية حتى لو ألبسها البعض لباس الطائفية والدِّين ..
علينا أن نعترف أن منطقة الشرق الأوسط اليوم غارقة بالأحقاد الطائفية.. والتفرقة والانقسام والتشرذم والاصطفاف على أساس طائفي لا يمكن أن ينكرهُ إلا كل من لديهِ حوَلٌ عقلي ..
ولكن ما السبيل إلى إزالة تلك الأحقاد ، التي هي أساسا مُتوارَثة منذ ألف وأربعمائة عام، ولم تتمكن النُخب المثقفة العربية والإسلامية من إزالتها ومحوها، من الأذهان، ومن كتُب التاريخ ، وتَحضُر بسرعة كلما ضرب (الكوس بالجرّة) ، وتعودُ من جديد الفتنة النائمة، وتعودُ العقول لتعيش مُجدّدا في بيئة مضى عليها ألف وأربعمائة سنَة، وكأنها حصلت منذ أربعين يوما، وأننا بِصدِدِ إقامة حفل الأربعين التأبيني لها اليوم؟!.
الاعتراف بهذه المصيبة هو الخطوة الأولى لِوضعِ الحلول لها.. وعدم الاعتراف بذلك هو مُكابرة وقفزٌ فوق الواقع .. حينما يُصابُ الجسدُ بالمرض ويُكابِر صاحب هذا الجسَد ويرفض الاعتراف بأنه مريضا، ولا يلجأ للعلاج والأدوية فإن المرض سوف يشتد ويفتك بكل الجسد..
النُخب العربية والإسلامية ، أمام تحدٍّ تاريخي .. لم يفعلوا شيئا على مرِّ هذه العقود الطوية ليضعوا هذه الأمة على سكّة صحيحة وسليمة تُنسيها أوقات الماضي المريرة وتُقيم بين أبنائها علاقات جديدة تقوم على أسسٍ حضارية ومتنورة وحداثية، وكلٍّ يعترف بالآخر كإنسان بشري متساوٍ مثلهُ بالحقوق والواجبات، بغضِّ النظر عن عقيدتهِ وطائفتهِ ومذهبهِ ودينهِ.. في أول سورة بفاتحة القرآن الكريم ( الحمد لله رب العالمين) ولم يقُل رب المسلمين، ولا رب الشيعة ولا رب السنّة..
للأسف الشروخات المذهبية والطائفية اتّسعت في العقود الأخيرة من عُمر الأمتين ، العربية والإسلامية، والأهداف والغايات والمطامع السياسية أقحمَت الدين بالسياسة ، وأقحمت الدين بالدولة، واختلطت الأمور كثيرا، وسادت الفوضى في كل المنطقة، بين الدول ، وداخل الدول، بينما العدو الإسرائيلي، وكافة الطامعين بهذه المنطقة وثرواتها، ينظرون إليها بعين السعادة والسرور والشماتة والتشفِّي ويصبُّون الزيت على النيران، ويُعمِّقون الصراعات والخلافات بين أبنائها.. ونحن نسير خلفهم كما النِعاج ..
ثروات هذه المنطقة الهائلة من النفط والغاز كان يجب أن تكون مصدر رخاء لكل شعوب المنطقة، ولكنها للأسف باتت مصدر شقاء بدلا من ذلك، وجعلت القوى الغربية تُركِّز على هذه المنطقة وتتربّص بهذه الثروة الهائلة وتستأثر بها.. وباتت سياسة الغرب في المنطقة تقوم على عاملين : أمنْ إسرائيل والنفط..
حينما كنتُ عضوا في وفد بلادي للأمم المتحدة في جنيف في أوائل التسعينيات، جاء الوزير الفرنسي حينها ( برنار كوشنير ) إلى لجنة حقوق الإنسان قبل أن تتحوّل إلى ( مجلس حقوق الإنسان) وبعدها التقى على الغداء مع العديد من السفراء، وحينما سألهُ أحدهم، لماذا لا تهتمون بإيقاف الحرب في الصومال، فكان جوابه بكل وضوح: في الصومال لا يوجد نفطْ ..
وبعد ذلك بسنوات كان هناك تصريحا مُسرّبا للرئيس الفرنسي ” ساركوزي” يقول فيه : من سوء حظ الغرب أن نفطهم وُجِدَ تحت رمال العرب !..
بل أن وزير خارجية للهند (سابقا) ألقى محاضرة في (مركز زايد) في أبو ظبي، وذلك بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ونقلَ للحضور ( وكنتُ من بينهم) ما سمِعهُ من الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلنتون) حينما قال : ( إن حضارة الغرب كلها تقوم على نفط هذه المنطقة، ولن نسمح لشيطان أن يتربّع فوقه) .. وكان كلنتون يقصد بذلك الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين ..
هُم لا يخفون مخططاتهم وإنما يُفصِحون عنها علَنا، ومع ذلك العرب يقعون دوما بالحُفرة كما العميان .. هُم يعتبرون أنفسهم أصحاب النفط في المنطقة لأنهم هُم من اكتشفوه ولولا أن يكتشفوهُ لكان العرب حتى اليوم يتبولون فوقه ولا يعرفون ما هذا، وذلك كما جاء في مسرحية (باي باي لندن) الكويتية ..
بعد هذا السّرد أودُّ القول أنه لن تنعم هذه المنطقة بالاستقرار إلا بسلوكِ ذات الطريق الذي سلكتهُ أوروبا منذ عام 1648 بعد اتفاقية ” ويستفاليا”..
قبل هذه الاتفاقية عانت أوروبا من حروب مذهبية ودينية طاحنة، ومذابح ومجازر يندى لها الجبين بين الكاثوليك والبروتستانت..
في فرنسا لوحدها كانت هناك ثمانية حروب بين عامي 1560 و 1598 .. تخللتها مذابح شنيعة ..
في الإمبراطورية الرومانية المقدسة (معظم أراضي ألمانيا اليوم) كانت هناك حرب الثلاثين عاما بين عامي 1618 و 1648 .. بين البروتستانت والكاثوليك..
وكانت هناك حرب الثمانين عاما بين أسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة (هولندا وبلجيكا واللوكسمبرغ) ..
وقبل كل ذلك كانت هناك حرب المائة عام بين انكلترا وفرنسا والتي دامت 116 سنة من عام 1337 وحتى 1453 ، ولكن يسمونها حرب المائة عام، حيث إدّعى الملوك الإنكليز حقهم بالعرش الفرنسي وكافحوا من أجله، وانتهت بطرد الإنكليز من فرنسا ..
كل هذه الحروب (العبثية) التي أبادت البشر والحجر والشجر، كان لا بُدّ من وقفها ووضع حدٍّ نهائيٍ لأنهار الدماء، فالتقى الجميع في ويستفاليا الألمانية وعقدوا الصلح الشهير بالتاريخ، المعروف بـٍ ” صلح ويستفاليا” عام 1648 .. وكان هذا أول اتفاق دبلوماسي بالعصور الحديثة.. وهو من مهّد لِفصل الدين عن الدولة ، وإتباع النهج العَلماني في أوروبا الذي أنقذها وأنقذ شعوبها وأوصلها إلى هذا المستوى الرفيع والراقي من التطور..
ما يجري في منطقتنا منذ ألف واربعمائة عام هو أشبه بالحروب الدينية في أوروبا، وقد آن الأوان إلى ويستفاليا إسلامية على غرار ويستفاليا الأوروبية تفصل الدين عن الدولة وعن الحكومة وعن السياسة، وتنهج النهج العَلماني.
طريق النجاح واضح جرّبهُ الغربُ قبلنا بزمنٍ طويلٍ وثبتَ نجاحهُ حتى اليوم.. وطريق الفشل واضح ما زلنا نُجرّبهُ منذ قرونٍ وثبتَ فشلهُ حتى اليوم.
أحترمُ كل الأديان، وأنا مُسلِم، ولكن أدعو إلى اقتفاء طريق الغرب بالفصل بين الدين والدولة، أي عدَم السماح للدين بالتدخل بالحكومة والسياسة، ولولا أن فعلوا ذلك لكانوا حتى اليوم غارقون في دماء حروبهم وأحقادهم الدينية، كما المسلمين..
لقد برزتْ بالماضي، وخلال مؤتمرات وندوات ومنتديات دولية، طروحات عديدة حول كيفية التغلب على الصراعات في المنطقة ووضْع حدٍّ لها..
أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أشار في الندوة التي عُقِدت على هامش مؤتمر ميونخ للأمن عام 2017 أن الواقع القائم حاليا في منطقة الشرق الأوسط، يحتاج لتطبيق مبادئ معاهدة ويستفاليا ..
أما في الحوار المتوسطي في كانون أول 2016 في روما، فقد تمّت الإشارة إلى مبادئ هلسنكي التي تعود لفترة الحرب الباردة في السبعينيات، وإمكانية تطبيقها في الشرق الأوسط..
وفي حوار ” المنامة” في كانون أول 2016 أيضا، طرحَ وزير خارجة ألمانيا حينها، شتاينمير، بعض الأفكار المستوحاة من مبادئ هلسنكي لتطبيقها في المنطقة..
علينا أن ندرك أن الصراعات في المنطقة ليست فقط بين الدول وإنما هي أيضا داخل الدول بين الحكومات والشعوب .. ومن هنا فإن العالم العربي خصوصا، ومنطقة الشرق الأوسط عموما، وبعدما وصل الجحيم إلى هذا المستوى الحارق، فإنها تحتاج على الصعيدين الخارجي والداخلي، إلى استلهام كافة التجارب الأوروبية القديمة والحديثة، أي أنها تحتاج إلى ما يلي:
أولا: تحتاج إلى استلهام مبادئ ويستفاليا لوضعِ حدّ لكافة الصراعات الدينية في المنطقة، وتطبيق العلمانية الجزئية (أو العَلمانية الأخلاقية أو العَلمانية الإنسانية أو العَلمانية الإيمانية)، أي فصل الدين عن الحكومة والسياسة، ويكون الدين للأفراد والمجتمع يعبِدون ويتعبدون كيفما يشاؤون، ولكن تبقى الدولة بقوانينها وأنشطتها وأنظمتها وممارساتها ومعاملاتها بمنأى عن الدِّين.. فالدولة ليس لها دِينا، ولا تفرضُ دينا على أحد، ويجب أن يتساوى فيها كافة المواطنين مساواة كاملة على أساس المواطَنة بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وأجناسهم وغير ذلك .. فالدين لله والوطن للجميع..
بمعنى آخرا أن تتخذ الدولة موقفا محايدا في مسائل العقيدة، إذ أنّ أنشطة الدولة وقراراتها وقوانينها يجب أن تجاري دوما تطورات الحياة، ولا تعتمد على مفاهيم غيبية مُطلقَة لا يجوز مخالفتها ولا التشكيك بها .
وتجدر الإشارة أن مصطلح ” العَلمانية” (secularism) أول ما ظهرَ مع اتفاقية أو صِلح ويستفاليا، الذي أنهى الحروب الدينية في أوروبا عام 1648، ويعني عَلمَنة ممتلكات الكنيسة، أي نقلِها إلى سلطات غير دينية،أي لِسلطة الدولة المدنية، وإبعاد سلطة الكنيسة (يعني الدِّين)عن الحكومة والسياسة..
وثانيا: تحتاج إلى استلهام مبادئ وثيقة، أو اتفاقية هلسنكي لعام 1975، المنبثقة عن مؤتمر هلسنكي الذي ضمّ الكتلتين الشرقية والغربية إضافة للولايات المتحدة وكندا، وذلك في ذروة الحرب الباردة.
وقد حددت الوثيقة المبادئ التالية أساساً لإقامة علاقات جديدة في القارة الأوربية وهي: المساواة في السيادة، واحترام حقوق السيادة الوطنية لكل دولة، وحصانة حدودها ووحدة أراضيها وسلامتها، وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم استخدام القوة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية بما فيها حرية التفكير والمعتقدات، والمساواة بين الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وترسيخ مظاهر التعاون بين الدول وتنفيذ الالتزامات والتعهدات الدولية بما ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي.
وثالثا: تحتاج إلى استلهام مبدأ الديمقراطية التمثيلية التي نشأت في أوروبا من خلال الأفكار والمؤسسات التي ظهرت خلال العصور الأوروبية الوسطى، وعصر الإصلاح، وعصر التنوير، ومبادئ الثورتين الفرنسية والأمريكية، ثم تطورت إلى هذا المستوى الراقي الذي تعيشه شعوب وبُلدان الغرب اليوم .. وعلى الحكومات العربية والشرق أوسطية الاستفادة من هذه التجربة الأوروبية العظيمة..
ورابعا: تحتاج إلى احترام مبادئ الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، كما مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، ومبادئ مؤتمر طهران لحقوق الإنسان عام 1968 ، والعهدين الدوليين حول الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومبادئ مؤتمر فيينا حول حقوق الإنسان لعام 1993 ..
يقول أبو العلاء المعري : إن الشرائع ألقَتْ بيننا إحَنَاً + وعلمتنا أفانين العداوات..
ويقول (توماس بِين): “أعظم الآلام التي أصابت الجنس البشري هي تلك التي كانت لها جذور دينية”..
وقد صدقَ أبو العلاء ، ابن الشرق ، وصدقَ توماس بِين ، ابن الغرب..
لا يوجد طريقا آخرا لخروجنا من مستنقع الجهل والتخلف والظلم والتعصب والطائفية والتشرذم والفرقة، وضعف الشعور بالمسؤولية، والحروب الدينية، والأنانية والاستبداد وثقافة المزارِع واحتكار السُلطة، والتحارُب بين الدول، وداخل الدول، وانعدام الاستقرار، ومحاربة الفساد والفقر والبطالة، وكل ذلك، لا يمكن وضع حدٍّ له إلا باستلهام واستحضار القيم والمبادئ المُتَضَمنّة في البنود الأربعة المُشار إليها أعلاه . وإلا فنحنُ سنبقى نرجِع من الوراء إلى الوراء.. وسنبقى غارقون بدمائنا إلى أن يأتي يوم الحشر ويقضي الله أمرا كان مفعولا..
2 متحف الغزو العراقي وتحرير الكويت وليد عبدالله الغانم
الجريدة الكويتية
من غير المعقول بعد مضي 28 عاماً على تحرير بلادنا الغالية من الاحتلال العراقي ألا يوجد فيها حتى اليوم متحف تاريخي متكامل ومتخصص، يجسد كل تاريخ الغزو من بدايته حتى نهايته، مشتملاً على بانوراما الأحداث والوقائع لتعرض على الزوار بالصورة اللائقة في صالات عرض الصور وقاعات الإفلام الوثائقية وجداريات للشهداء، ولوحات للأسرى. تمر علينا هذه الأيام الذكرى العظيمة لتحرير الكويت من الغزو العراقي الغادر (2-8-1990/ 26-2-1991) حيث كُتب تاريخ الكويت من جديد، وسجل أبناء الوطن بطولاتهم بأحرف من نور لتخلّد في ذاكرة الأمة كدليلٍ لامعٍ للفداء والتضحية.
حادثة كبرى مثل كارثة الغزو العراقي للكويت يجب أن تأخذ مكانها المستحق في مسيرة البلد، وإذا كانت الكويت حالياً عامرة بمئات الألوف من أبنائها ممن شهدوا تلك الجريمة النكراء، وأدركوا نعمة التحرير، فإن أبسط واجباتنا هو توثيق وتثبيت تلك الكارثة بكل تفاصيلها وأحداثها ويومياتها، ونقلها حرفياً بالصوت والصورة والوثائق والأسماء واللحظات للأجيال اللاحقة؛ لتعرف وتطلع على هوْل ما نُكبَت به الكويت خاصة والأمة العربية عامة من تلك الكارثة، ولتخليد ذكرى أبطال الوطن من رجاله ونسائه وإنصافهم، وكذلك لضمان عدم تحريف هذه الوقائع مستقبلاً من أي جهة كانت داخل أو البلاد خارجها.
لدينا كل المعلومات اليقينية والبراهين الموثقة لتلك الحقبة من القرارات الأممية والمشاركات الدولية والوثائق العراقية التي صدرت داخل الكويت من سلطة الاحتلال والكتب والصحف وبرامج التلفزيون المخصصة لتلك الجريمة العالمية، ولدينا أكثر من ذلك شهادة الصامدين وحكايات آلاف الأسرى وقصص مئات الشهداء بإذن الله ممن ارتوت الكويت بدمائهم الزكية، وتطهر ترابها بأجسادهم النقية، ثم المخزون المليوني الهائل من الصور والأخبار والتقارير الإعلامية التي غطت تلك الكارثة من إرهاصاتها المبكرة في يوليو 1990 حتى فجرها الصادق في فبراير 1991 من كل وسائل الإعلام والوكالات الإخبارية حول العالم.
إنه لمن غير المعقول وبعد مضي 28 عاماً على تحرير بلادنا الغالية من الاحتلال العراقي ألا يوجد في الكويت حتى اليوم متحف تاريخي متكامل ومتخصص، يجسد كل تاريخ الغزو من بدايته حتى نهايته، مشتملاً على بانوراما الأحداث والوقائع لتعرض على الزوار بالصورة اللائقة في صالات عرض الصور وقاعات الإفلام الوثائقية وجداريات للشهداء، ولوحات للأسرى، وقسم خاص للقرارات الأممية، وآخر للسلطة الإدارية المحتلة داخل الكويت، وقسم للدول المشاركة في قوات التحالف، وقسم للكويتيين في الخارج، ومعرض واسع لمخلفات الحرب من المواد والخرائط والمعدات، وموقع خاص للإصدارات والكتب والمجلات التي رصدت الكارثة، وهكذا ينشأ مجمع تاريخي وتعليمي ومعلم حضاري مشرف يروي قصة الغزو والتحرير، وسيكون بلا شك مزاراً لضيوف البلاد، وفرصة للتعبير عن شكرنا لكل من ناصرنا وساندنا في تلك الأيام العصيبة.
إننا نناشد مجلس الوزراء الموقر المبادرة لإنشاء ذلك المتحف الوطني المنتظر، ولن نملّ كشهودٍ أحياء على جريمة الغزو العراقي، وشاكرين نعمة التحرير الإلهية عن إعادة ورواية ما شاهدناه في تلك الأيام، حتى نرسخها في تاريخ بلادنا الغالية، والحمدلله من قبل ومن بعد.
3 الصراع على العراق
غسان شربل
الشرق الأوسط
التوجس ضيف دائم في العلاقات العراقية – الإيرانية. ومع التوجس شكوك متبادلة ومخاوف تؤكد أن ما بين البلدين يتخطى الخلافات الحدودية. ولطالما قدَّم العراق نفسَه بوصفه الجدار الذي يمنع تدفق النفوذ الإيراني في اتجاه الأرض العربية. ولطالما نظرت إيران إلى العراق كعائق يعترض توسيع دورها وحركتها. وفي هذا المناخ سعى كل طرف إلى امتلاك أوراق على أرض الآخر. اعتبرت إيران أن تركيبة العراق هشَّة يمكن اختراقها عبر المكونين الشيعي والكردي. ولم يتردد العراق في إثارة موضوع عربستان والتعاطف مع أكراد ما وراء الحدود رغم قمعه الأكراد داخل خريطته.
جملة محطات تؤكد الطبيعة الشائكة للعلاقات بين طهران وبغداد. في 6 مارس (آذار) 1975، وقع شاه إيران محمد رضا بهلوي ونائب الرئيس العراقي صدام حسين «اتفاق الجزائر» برعاية الرئيس هواري بومدين. قدم صدام تنازلات حدودية لإيران في مقابل توقفها عن دعم الثورة الكردية التي انهارت بفعل هذا الاتفاق. وشكَّلت تلك التنازلات جرحاً في نفس صدام حسين وكانت بين الأسباب التي دفعته إلى خوض حرب ضد إيران.
قبل عام من انطلاق الحرب وتحديداً في سبتمبر (أيلول) 1979، شارك الرئيس صدام في قمة عدم الانحياز التي عقدت في هافانا. استقبل هناك وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي. بعد اللقاء حاول مندوب العراق الدائم لدى الأمم المتحدة عضو القيادة القطرية لحزب «البعث» صلاح عمر العلي تشجيع صدام على تعميق الحوار مع إيران الخميني التي كانت تجتاز فترة اضطراب. كان رد صدام قاطعاً: «هذه الفرصة قد لا تتاح مرة كل مائة سنة. الفرصة متاحة اليوم. سنكسر رؤوس الإيرانيين وسنعيد كل شبر احتلوه. وسنعيد شط العرب». وكان صدام افتتح عقد السبعينات بإحباط ما عرف بـ«مؤامرة الراوي» التي رعتها الأجهزة الإيرانية وبعلم الشاه نفسه.
الفرصة التي قد لا تأتي مرة كل مائة سنة قدمت لإيران على طبق من ذهب وربما من دون تعمد. جاءت الفرصة عبر اقتلاع الأميركيين نظام صدام وحل الجيش العراقي والذهاب بعيداً في «اجتثاث البعث». وأدركت طهران أن الفرصة قد لا تتكرر لهذا قررت التوغل في البنية العراقية، ليس فقط لمنع احتمال قيام عراق معادٍ لها، بل لضمان قيام عراق يدور في فلكها. ستتعبد الطريق أمام هذه الفرصة حين ينفذ الرئيس باراك أوباما قراره بسحب الجيش الأميركي من العراق، علماً أن قسماً كبيراً من النفوذ الأميركي انسحب من بلاد الرافدين قبل انسحاب الجنود.
مأساة عراقية جديدة ستنجح إيران في تحويلها فرصة. في يونيو (حزيران) 2014، سقطت الموصل بيد «داعش». لم يكن أمام حكومة نوري المالكي غير طلب المساعدة من الأميركيين. في هذا الوقت أطلقت المرجعية الشيعية ممثلة بآية الله علي السيستاني نداء «الجهاد الكفائي» ضد «داعش». اغتنمت الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران هذا المناخ لتنخرط في «الحشد الشعبي». وفي 2016 وفي ظل حكومة حيدر العبادي وبضغط من إيران تمت شرعنة «هيئة الحشد الشعبي» وباتت جزءاً من المؤسسات الأمنية للدولة.
لم يعد ممكناً اليوم الحديث عن صراع عراقي – إيراني. إيران تقيم داخل العراق. في نسيجه وقراره ويومياته. إنها معبر إلزامي في اختيار الرئاسات وأصحاب المواقع الأمنية الحساسة. وإذا تفادت المجاهرة بحق التعيين، فإنها تملك بالتأكيد حق النقض ضد الأسماء التي لا تنسجم وتوجهاتها. إنها تتمتع بحضور حاسم داخل المكون الشيعي مع تحقيق اختراقات داخل المكونين العربي السني والكردي. وخير دليل أن الجنرال قاسم سليماني هو من تدخل كي لا تذهب بغداد أبعد في معاقبة الأكراد بعدما اقترعوا بـ«نعم» في استفتاء حق تقرير المصير الذي دعا إليه مسعود بارزاني في سبتمبر 2017.
ما يمكن الحديث عنه اليوم هو ملامح فصل من الصراع على العراق بين أميركا وإيران. فرضت اعتبارات كثيرة نوعاً من التعايش بين النفوذين الأميركي والإيراني في عهد حكومتي المالكي والعبادي. اختلفت الظروف اليوم خصوصاً بعد خروج إدارة دونالد ترمب من الاتفاق النووي مع إيران وعودة واشنطن إلى فرض عقوبات «غير مسبوقة» على طهران.
مقارنة سريعة ذات دلالات. زار ترمب القوات الأميركية في العراق من دون إعلان مسبق ولم يذهب إلى بغداد. ووصل وزير خارجيته مايك بومبيو إلى بغداد من دون إعلان مسبق عن الزيارة. هذا في بلد أنفقت أميركا فيه دماء آلاف الجنود ومليارات الدولارات، وتوهمت أنها ستنشئ فيه نظاماً ديمقراطياً موالياً لها أو صديقاً في أسوأ الأحوال.
وبعد زيارة بومبيو، جاء وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وجال بين كردستان وبغداد والجنوب. التقى ظريف المسؤولين، لكنه التقى أيضاً قادة من «الحشد» وزعماء عشائر ورجال أعمال. قال ظريف إنه ليس من حق بومبيو «إطلاقاً أن يتدخل في قضايا إيران والعراق». وذهب أبعد في التوضيح قائلاً: «نحن والعراق لدينا علاقات قبل وجود الولايات المتحدة وسنواصل تلك العلاقات»، لافتاً إلى أن زيارته إلى العراق «أطول رحلة أقوم بها لبلد في العالم».
تواكبت زيارة ظريف مع تصريحات متكررة لنواب عراقيين يدعون فيها إلى صوغ قانون يطالب بخروج «القوات الأجنبية» والمقصود القوات الأميركية، ذلك أن شيئاً من التسامح ظهر حيال الوجود العسكري التركي بعدما اقتربت أنقرة من موسكو وطهران في الملف السوري. وثمة من يعتقد أن التعجيل بخروج الأميركيين قد يستدعي التحرش بهم عبر منظمات «مجهولة»، وهو ما لمَّح إليه تقرير لـ«مجموعة الأزمات الدولية» نقلاً عن مسؤول إيراني رفيع المستوى في مجال الأمن القومي اعتبر أن المسرح الأكثر احتمالاً للمواجهة مع أميركا هو العراق.
وثمة من يعتقد أن إيران تصرُّ على حسم الوضع العراقي لمصلحتها بالكامل، متخوفة من ضبط تدريجي لحدود دورها في سوريا التي يكاد العالم يسلم بإيكال مصيرها إلى روسيا، فضلاً عن أن التطورات الميدانية في اليمن لا تسير لمصلحة الحوثيين. وفي الصراع على العراق، لم تستطع تركيا أن تحجز لنفسها دوراً بارزاً على غرار ما تحاول في سوريا. أما العرب فالخيار المتاح أمامهم هو الانخراط مع النظام العراقي الحالي لتشجيعه على إدراك أهمية الحضن العربي ولو كعامل توازن.
في العقود الماضية كان الكلام يدور حول الصراع على سوريا. نتحدث الآن عن الصراع على العراق. وبين السياسيين العراقيين من يعتقد أن أميركا المهتمة بمحاصرة إيران اقتصادياً لم تعد مستعدة لاستثمارات كبيرة في المصير العراقي، وتفضل نقل هذه الإمكانات والجهود لاحتواء الصعود الصيني.
4 لماذا فشل عراق ما بعد صدام؟
عدنان حسين
الشرق الاوسط
كيف حصل أن يفشل العراق، بعد ستَ عشرةَ سنةً من إطاحة نظام صدام، في إقامة دولة مستقرَّة ونامية، فيما لديه أهم العناصر المطلوبة، وبخاصة الثروة المادية (النفط والغاز والماء) والثروة البشرية (المتعلّمة والمُدرَّبة)؟
هذا السؤال يواجهه كثير من العراقيين العائشين في الخارج أو الذين يزورون بلدان الخارج. بل كثير من العراقيين في الداخل يوجّهونه إلى أنفسهم وبعضهم إلى بعض يومياً في المقاهي والمطاعم ووسائل النقل العام. والسؤال عينه تضجُّ به حسابات التواصل الاجتماعي والحوارات الدائرة بين أصحابها، وكتابات الرأي في الصحف المحلية، فضلاً عن البرامج الحوارية عبر محطات التلفزيون والإذاعة.
هو سؤال في محلّه وله ما يبرِّره، فقد كان مأمولاً أن يتعافى العراق من عقابيل حقبة صدام المأساوية في غضون 5 – 10 سنوات، بيد أن الذين تولّوا الحكم بعد صدام ما أحسنوا الإدارة ولا التصرّف في الموارد المالية والبشرية المتاحة لهم، فتنازعوا على السلطة والنفوذ والمال وهيّأوا الظروف والميادين لحرب أهلية طائفية فتحت الطريق لانتشار جماعات الإرهاب المتطرّفة (القاعدة وداعش وسواهما) ممن حظي بعضها بدعم لوجيستي ومالي من هذه القوى المتنافسة على السلطة والمال نفسها. وغالباً ما يُلقي زعماء هذه القوى باللائمة على الإرهاب لتبرير فشلهم في تحقيق الاستقرار وإقامة دولة قوية، لكنّه تبرير غير واقعي وغير قابل لأن يحمله عاقل على محمل الجدّ، فما كان لجماعات الإرهاب أن تجتاح نحو ثلث مساحة العراق وتحتلّ مدناً رئيسة فيه (الموصل وتكريت والفلوجة والرمادي وسواها، وصولاً إلى مشارف العاصمة بغداد) ملحقة هزيمة مدوّية بالقوات الحكومية المدجّجة بأحدث الأسلحة وأشدّها، في غضون أيام قلائل، لو كانت القوى السياسية المتنفّذة تتمتّع بمستوى متوسط في الأقل من الحساسية الوطنية.
في اللحظة التي دخلت فيها قوات «داعش» إلى الموصل لتعلنها عاصمة لـ«الدولة الإسلامية» المزعومة، قبل أن تتمدّد بسرعة فائقة حتى تخوم بغداد، كانت هذه القوى تتناهش في ما بينها ويتآمر بعضها ضد بعض، من أجل إزاحتها من المشهد السياسي والاستئثار بالكعكة لنفسها وحلفائها.
هذا الصراع الضاري على السلطة والنفوذ والمال انطلق مع بداية العهد الجديد، بخاصة بعد إقرار الدستور (2005) وإجراء أول انتخابات برلمانية (2006)، فالقوى الشيعية وجدت أن الدستور ونتائج الانتخابات فوّضتها سلطة حكم البلاد، بوصفها الأكثرية بينما القوى السنية اتّخذ معظمها موقفاً عبثياً لا يعترف بالدستور ولا بنتائج الانتخابات، قبل أن تتراجع لاحقاً لتقيم تحالفاً مع أحزاب شيعية على أساس نظام المحاصصة، الذي وضع الدستور جانباً وعطّل حتى اليوم كل إمكانية لتعديله وتصحيح أحكامه المتعارضة مع مبادئ الديمقراطية… أحزاب شيعية بعينها وأحزاب سُنية بعينها تقاسمت في ما بينها مصادر السلطة والنفوذ والمال: هذه لك، وتلك لي، فأصبحت كل جماعة بما كسبت رهينة، بل ظلّت دائماً تعمل لكسب المزيد، فانفتحت هذه القوى، وهي في معظمها من جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسنية، على فلول النظام السابق وعلى جماعات مُستَحدثة ساعية للحصول على حصة من الكعكة.
الدورات الانتخابية (لمجالس المحافظات والبرلمان الاتحادي) كانت دائماً مناسبات لإزاحة المنافسين (من المذهب نفسه في الغالب)، أو لتقليص نفوذه، أو للمساومة على توزيع مصادر النفوذ والسلطة والمال (المناصب)، فحدث تهافت حماسي على مناصب الدولة التي صارت تُشترى بالملايين من الدولارات في الكثير من الأحيان، وتولى السلطة (التشريعية والتنفيذية) في الغالب أشخاص لا كفاءة لهم ولا خبرة ولا معرفة بفن الحكم وأصوله (كثير منهم مُنحوا الوظائف والمناصب بموجب شهادات دراسية مزوّرة داخل العراق، وفي بعض دول الجوار وبخاصة إيران). هؤلاء بدورهم صاروا صنيعة لمن هم أقل كفاءة وموهبة منهم، من ممثلي الأحزاب التي كوّنت لجاناً اقتصادية في الوزارات والمحافظات والدوائر الحكومية والهيئات الموصوفة بـ«المستقلة»، وهي ليست كذلك في الواقع. وظيفة هذه اللجان بيع المناصب لطلابها مقابل المال الذي تذهب الحصة الأكبر منه إلى القيادات الحزبية، التي أثْرت ثراءً فاحشاً في غضون سنوات قليلة. واللجان الاقتصادية (الحزبية) هي المسؤولة عن ترسية المشاريع على الشركات والمقاولين مقابل حصص مالية كبيرة من تخصيصات هذه المشاريع، وأظهرت وقائع أن هذه اللجان وممثلي الأحزاب كانوا يستأثرون في بعض الأحيان بما يزيد على نصف التخصيصات، يقبضونها مقدماً وتبقى الشركات والمقاولون المكلفون إنجاز المشاريع يصارعون، كلٌّ بمفرده، للحصول على النصف غير المستحوذ عليه، وغالباً ما تتنصل الدوائر الحكومية من الدفع، بحجة عدم وجود المال الكافي لصرفه للشركات والمقاولين فتتعطل المشاريع، وتتراوح تقديرات المشاريع المتعطلة بين 4 آلاف و30 ألفاً بقيمة تصل إلى 250 مليار دولار، حسب المستشار الاقتصادي السابق لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح.
القيادات الحزبية التي أدارت هذه العملية وجدت في هذه العناصر التي اختارتها لمناصب السلطة التنفيذية ولمقاعد البرلمان، قاعدة وسنداً لها لضمان بقائها في السلطة ولتدفّق الثروة عليها. وهكذا ظلّت هذه القيادات تعيد إنتاج نفسها وإنتاج فشلها في إدارة الدولة والمجتمع، وتحمي نفسها من كل مساءلة وملاحقة بالحصانة التي تتمتّع بها، وبقوانين العفو العام التي توقف كل ملاحقة في حق الذين استحوذوا على أموال المشاريع المعطّلة التي استحالت إلى أكوام من الحجارة والخردة المتوزعة على أنحاء العراق، شاهدةً على فساد أحزاب الإسلام السياسي وفشلها في إقامة دولة في عراق ما بعد صدام.
5
تركيا والانسحاب الأميركي العسكري من سورية
بشير عبد الفتاح الحياة السعودية
ما إن باغت الرئيس الأميركي دونالد ترامب العالم بإعلانه سحب ألفي جندي أميركي من شمال شرق سورية، حتى انتعشت آمال الأتراك في أن يرفع هذا القرار الغطاء السياسي والعسكري عن «قوات سورية الديموقراطية»، ويوفر ظروفاً مواتية لعمليتهم العسكرية المزمعة ضد المسلحين الأكراد في شرق الفرات، غير متخوفين من تداعياتها السلبية المحتملة على علاقاتهم القلقة بواشنطن.
فمثلما كان متوقعاً، لم تتوان تركيا، التي كانت تعد العدة منذ فترة لهكذا عملية، في انتهاز فرصة الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، والذي يتزامن مع مواصلة الجيش التركي إرسال تعزيزات جديدة لقواته المنتشرة قرب الحدود السورية حتى بلغت ولاية غازي عنتاب ثم ولاية هطاي، في إطار الاستعدادات لشن عملية جديدة تستهدف منبج وشرق الفرات. وبمجرد إعلان ترامب سحب قواته، انهالت التهديدات التركية على «قوات سورية الديموقراطية» بدفنهم في خنادقهم من خلال حملة عسكرية ضارية تجهز على المسلحين الكرد في منبج وشرق الفرات.
ولم تتورع جهات تركية عن اعتبار الانسحاب الأميركي من سورية انصياعاً لإرادة أنقرة بعد ضغوط هائلة مارسها الرئيس رجب طيب أردوغان على ترامب لوقف الدعم العسكري واللوجستي والسياسي لـ»قوات سورية الديموقراطية»، مستشهدة بمبادرات أطلقتها إدارة ترامب «لاسترضاء تركيا»، كقرار البنتاغون بيع تركيا منظومة باتريوت الصاروخية، بالتزامن مع ادعاءات تركية بإمكانية تسليم الداعية فتح الله غولن، المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016 لأنقرة، إضافة إلى الإعلان عن جوائز مالية لمن يدلي بمعلومات عن قيادات ثلاث من حزب العمال الكردستاني. غير أن الانسحاب الأميركي المرتقب من سورية لم يحل دون بروز تحديات عديدة أمام التحرك العسكري التركي المزمع في شرق الفرات، لعل أبرزها: اعتبار نظام الأسد وحلفائه الوجود العسكري التركي في سورية غير شرعي، ما قد يضع القوات التركية هناك في مواجهة مع قوات سورية أو إيرانية أو كردية، خصوصاً مع مطالبة «قسد» نظام الأسد بالتصدي للعدوان التركي المحتمل، فيما يحرم انسحاب القوات الأميركية تركيا من حليف مهم طالما نسَّقت معه داخل سورية. كذلك، تتحفز قوات النظام السوري لبسط سيطرتها على شرقي الفرات، ذي الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية والقريب من حقول النفط. الأمر الذي من شأنه أن يطيل أمد العملية العسكرية التركية المرتقبة في شرق سورية كما يزيد من صعوبتها ويرفع من كلفتها البشرية والمادية، في وقت تتسع رقعة الاحتجاجات الشعبية داخل تركيا جراء الركود الاقتصادي وتراجع الوضع المعيشي.
وبرأسها تطل تداعيات الارتباك الجيواستراتيجي الناجم عن الانسحاب الأميركي المفاجئ وغير المدروس من شرق سورية، كونه سيعرض حلفاء لواشنطن كإسرائيل و»قسد» لانكشاف استراتيجي خطير. فمن جهة، سيرفع عن الأولى غطاءً استراتيجياً وسياسياً مهماً لتدخلها العسكري المتواصل في سورية بغية الحيلولة دون تنامي قدراتها العسكرية وتقويض النفوذ الإيراني المتفاقم هناك، بينما يعرض الأخيرة لمخاطر العمليات العسكرية التركية العنيفة على مسرح عمليات كردي شاسع ومرتفع الكثافة السكانية. ومن جهة أخرى، سيطلق الانسحاب الأميركي من سورية أيادي روسيا وإيران هناك، كما سيفتح الباب لعودة «داعش» بكل قوة، خصوصاً مع تأكيد تقارير غربية وجود بقايا وجيوب للتنظيم في سورية والعراق في الوقت الذي لا يتورع عن مهاجمة معاقل «قسد» لقضم مزيد من الأراضي، بينما يستعد الأميركيون للرحيل. وبينما تتطلع إيران لاستغلال تحالفها مع نظام دمشق لمواصلة مشروعها الهادف لإقامة ممر استراتيجى يمتد من طهران إلى بغداد فسورية ثم لبنان وصولاً إلى البحر المتوسط، بما يعظم نفوذها الإقليمي ويهدد حلفاء واشنطن فيها، بدأت روسيا في حشد قوات ونقل ذخائر إلى دير الزور، التي تحوي حقولاً نفطية كثيرة أهمها حقلا «العمر» و»التنك»، فيما يتوقع خبراء اندلاع تنافس روسي إيراني سوري على ملء الفراغ الجيواستراتيجي الناجم عن الانسحاب العسكري الأميركي من شرق الفرات. بدوره، يحاول تنظيم «داعش» إعادة رص صفوفه مجدداً توطئة لاستعادة المناطق التي انسحب منها، بل والتمدد إلى مناطق جديدة، مستغلاً انسحاب القوات الأميركية وانكشاف «قوات سورية الديموقراطية» استراتيجياً على إثر ذلك. ويشن التنظيم الإرهابي هجمات على نقاط «قوات سوريةو الديموقراطية» بقرى وبلدات عدة في دير الزور بعد ساعات من إعلان ترامب سحب قواته من سورية.
ولا يبدو أن «قوات سورية الديموقراطية» ستغدو صيداً سهلاً للأتراك بعد الانسحاب الأميركي، فقد هرعت «قسد» إلى البحث عن حليف بديل لواشنطن للحفاظ على الحد الأدنى من مغانمها. فمن جهة، عمدت إلى مطالبة نظام الأسد والجيش السوري الاضطلاع بمهمة حماية حدود سورية من أي عدوان تركي مرتقب، معتمدة في ذلك على عدم وجود تجارب أو خبرات صراعية مريرة مع دمشق، إذ تفاوضت معه مراراً بشأن تفاهمات سابقة.
بيد أن الأسد المتحفظ على تحالف «قسد» مع واشنطن وسعيها لإقامة كيان مستقل برعاية أميركية، يتطلع إلى استعادة سيادته على شرق الفرات والمناطق التى انتزعها الأكراد من «داعش». بموازاة ذلك، طالبت «قسد» المجتمع الدولي بإعلان شرق الفرات منطقة آمنة، واستنجدت بالدعم الفرنسي، كما هددت بوقف الحرب على «داعش» إذا لم تتراجع تركيا عن عمليتها العسكرية المرتقبة ضدها. وبينما لم يبد الأسد رداً على المطالب الكردية، أعلنت فرنسا استعدادها لتقديم الدعم السياسي والعسكري لـ»قوات سورية الديموقراطية» في محاربة «داعش» مع السعي لإقناع واشنطن بتأجيل سحب قواتها من شرق الفرات، إذ سيواكب إعادة الانتشار الأميركي في سورية تغيير في مواقع القوات الفرنسية و»قوات سورية الديموقراطية»، في المنطقة الشرقية من سورية، التي تحاذي الحدود العراقية غرباً.
ولا يزال الجدل محتدماً بشأن مستقبل الوجود الأميركي في المنطقة، فبينما ترى دوائر استراتيجية إعلان الانسحاب الأميركي من سورية مجرد عملية إعادة انتشار مشروطة باحتفاظ الولايات المتحدة بحقها للتدخل في سورية في أي وقت ضد تنظيم «داعش»، أو لحماية مصالحها هناك، تؤكد جهات أميركية إصرار واشنطن على مواصلة الحرب ضد الإرهاب، سواء من خلال فرق العمليات الخاصة المتمركزة في العراق، أو عبر نقل قواتها من سورية إلى مدينة أربيل الكردية العراقية ضمن خطة لإشراك القوات العراقية وقوات البيشمركة الكردية في ملء الفراغ الجيواستراتيجي الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي في شرق الفرات، وتأمين الشريط الحدودي العراقي- السوري.
ويمكن الادعاء بأن فرص شن عملية عسكرية تركية في شرق الفرات كانت أوفر، ولو بقيود، حال استمرار الوجود العسكري الأميركي هناك، فتحت وطأة ضغوط البنتاغون والكونغرس، اضطر ترامب إلى تأكيد التزامه محاربة «داعش» والإرهاب في سورية والعراق، رغم إعلانه سحب القوات الأميركية من سورية، ومن ثم أجبر تركيا على التحول من التركيز على محاربة المسلحين الأكراد إلى استهداف «داعش» داخل سورية مستقبلاً. وهو ما يفسر إعلان إردوغان عقب اتصال بنظيره الأميركى قبل قليل عن تأجيل العملية العسكرية التركية المزمعة في شرق الفرات، ملوحاً بالتزام بلاده بالقضاء على «داعش»، فيما يعد تحولاً استراتيجياً اضطرارياً، ولو مرحلياً، في الاستراتيجية العسكرية التركية حيال سورية بعد الانسحاب الأميركي منها.
ورغم تبرير إردوغان قراره تأجيل عمليته العسكرية المرتقبة في شرق الفرات برغبته في تجنب تفشي الفوضى، وتلاشي النيران الصديقة، علاوة على إفساح المجال لتأمين الانسحاب الأميركي من سورية، يصعب تجاهل تأثير نظيره الأميركي على قراره في هذا الصدد، خصوصاً بعدما تعرض ترامب بدوره لضغوط من دوائر أميركية نافذة تزامنت مع تهديدات من «قوات سورية الديموقراطية» بوقف الحرب على «داعش» حال شنت تركيا حملتها المزمعة ضد «قسد». وبناء عليه، أعلن وزير الخارجية التركي إرجاء الحديث عن تلك الحملة إلى ما بعد التقاء مسؤولين أتراك بنظرائهم الأميركيين في واشنطن يوم الثامن من الشهر المقبل للتنسيق بشأن انسحاب القوات الأميركية من سورية، والذي سيستغرق ما يربو على مئة يوم، ربما تكون حبلى بمفاجآت استراتيجية، على شاكلة انبعاث الخطر الداعشي، أو اندلاع مواجهات عسكرية بين القوات الأجنبية المتموضعة على المسرح السوري والمتنافسة على ملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، بما قد يزج بمتغيرات ومعطيات جديدة إلى المسار الحالي للأحداث، أو يحمل ترامب وإردوغان على مراجعة سياساتهما الصادمة إزاء الأزمة السورية.
6 زيادة احتياط النفط العراقي من 47 بليون برميل إلى 158 بليوناً: كيف ولماذا؟ وليد خدوري الحياة السعودية
يشكل النفط قطاعاً اقتصادياً أساسياً للعراق ومحوراً لسياساته الخارجية. وأعارت الدول الصناعية اهتمامها بالاحتياطات العراقية منذ نهاية القرن الـ19 ، ثم فرضت معاهدات واتفاقات صارمة على العراق بعيد الحرب العالمية الأولى، ما أهلها لبسط سيطرتها من خلال مساهمة شركاتها في شركة نفط العراق، ثم استلم الكادر الوطني تطوير الصناعة منذ ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث لعب من خلال شركة النفط الوطنية دوراً حاسماً في نمو الصناعة.
وابتعث العراق المئات من الطلبة المتفوقين للدراسات العليا في الخارج للتخصص، شكلوا نواة الكادر الوطني الذي أشرف على الصناعة النفطية بعد فشل المفاوضات مع شركات الامتياز وتشريع قانون رقم 80 لعام 1961 الذي استعاد للدولة أراضي شركات الامتياز غير المطورة او المنتجة. وتأسست شركة النفط الوطنية عام 1961 ومن بعدها قرار التأميم الذي بدأ عام 1972.
ومن هؤلاء الخريجين الذين ساهموا في إدارة الصناعة النفطية العراقية المهندس الميكانيكي عصام الجلبي الذي استلم مهمات عدة في الصناعة، منها وزير النفط. ونشر مرجعاً حول الصناعة النقطية العراقية خلال القرن العشرين: «50 عاماً في عالم النفط: سيرة ومذكرات»، تداخلت فيه الذكريات والمذكرات والوثائق والابحاث والوثائق والاحصاءات.
وذكر الجلبي: «قام العراق بالإعلان أوائل الثمانينات بأنه سيبدأ بأعطاء معلومات عن احتياطاته وبقية حقائق صناعته النفطية بشكل رسمي، وذلك بعدما ترسخت تجربته الرائدة في التأميم والاستثمار الوطني المباشر، ولم يعد هناك ما يبرر احجامه عن التصريح بها واعتبارها سراً ينبغي كتمانه». فعلى ضوء هذه السياسة الجديدة التي تم تبنيها تغيرت ارقام الاحتياط سنوياً من نحو 47 بليون برميل الذي كانت تنشره شركات الامتياز التي كانت تعمل في العراق قبل التأميم، وتم تحديث المعلومات مع التوجه في الحفر نحو طبقات الحقول العميقة وزيادة معامل الاستخلاص إلى ما بين 10 و35 في المئة. وبادرت الوزارة أيضاً إلى تحديث المعلومات سنوياً ليصل إلى الرقم الحالي إلى نحو 158 بليون برميل. وتركت هذه الشفافية ردود فعل إيجابية في «أوبك» والاعلام النفطي، نظرا لصعوبة الحصول على معلومات نفطية عراقية دقيقة سابقاً. ووصلت الطاقة الإنتاجية إلى أكثر من 4 ملايين برميل يومياً أوائل الثمانينات، بحسب الجلبي، الذي ذكر أن الاعمال الاستكشافية تكثفت خلال السبعينات.
وأضاف أن الوزارة كانت خططت منذ 1978 وما بعدها برنامجاً لتطوير نحو 25 حقلاً «بانتظار توفر المناخ السياسي والاقتصادي والمالي اللازم لها، بينها 11 حقلاً في الجنوب بطاقة إنتاجية 3 ملايين برميل يومياً و11 حقلاً في الشمال بطاقة إنتاجية 500 ألف برميل يومياً، و3 حقول في الوسط بطاقة إنتاجية 300 ألف برميل يومياً. ولكن ذلك توقف بعد اعام 1990 بسبب حرب الخليج والحصار».
وواجهت شركة النفط الوطنية تحديات إنتاجية عدة، بحسب الجلبي، منها «التكنولوجيا وأسس التقييم وأساليب الحفر المعتمدة في تخمين حجم المخزون النفطي واحتياجات العراق وحقوله، وتعثر الحصول على التكنولوجيا الحديثة منذ أوائل الثمانينات حتى عام 2003 وربما حتى عام 2010 حين عادت الشركات الأجنبية للعمل، وذلك بسبب الحروب والحصار والظروف المالية الصعبة التي مر بها العراق منذ تلك الفترة، ثم انحسار القدرات الفنية العراقية بسبب الهجرة وضعف التدريب، إضافة الى استمرار الاعتماد على التقنيات القديمة، مثل الحفر العمودي بدلا من الآبار المائلة، الأمر الذي أدى الى عدم التمكن من الحفر لطبقات منتجة عميقة، ما أبقى الإنتاج محصورا في مكامن عصري التيريشيري والطباشيري، من دون استكشاف وتطوير الإنتاج من العصور الجيولوجيا الأخرى مثل الجيوراسي والترباسي».
واجه العراق منذ بداية تصديره النفط تحديات جغرافية وجيوسياسية، ما أدى ومايزال يؤدي الى تشييد منافذ تصديرية متعددة لتأمين صادراته. وكان الاعتماد الأساسي حتى عام 1972 في الخطط العراقية «على نقل الخطوط المتجهة باتجاه البحر الأبيض المتوسط حصراً، لاعتبارات اقتصادية وفنية، إضافة لجوانب تتعلق بالبعد القومي العربي وارتباط العراق بسورية، ولكن بعد تعثر طويل لضخ النفط غرباً إلى سورية، قرر القيادة عام 1971 وقبل فترة قصيرة من اصدار قرار تأميم عمليات شركة نفط العراق، بإيجاد بدائل تعتمد على التوجه جنوباً نحو مياه الخليج العربي، وشمالاً عبر تركيا الى البحر الأبيض المتوسط، ما نجم عنه مشاريع خطوط عديدة، منها الخط الاستراتيجي للضخ باتجاهين، شمالا عبر تركيا وجنوبا الى الخليج العربي. فالخط العراقي التركي الأول كركوك – جيهان، والخط العراقي – التركي الثاني كركوك – جيهان.
وشكلت قرارات التحول من التصدير عبر سورية الى تركيا او عبر الخليج العربي نقلة نوعية ذات بعدين جيواستراتيجيين، الأول انتكاساً لسياسة التصدير عبور الترانزيت لدولة عربية (سورية) واستبدالها بدولة مجاورة غير عربية (تركيا). واعتبرت هذه السياسة في حينه ضربة مهمة للتعاون العربي، كما شكل التصدير عبر الخليج العربي، اعترافاً بأهمية أسواق النفط الشرق آسيوية (اليابان في حينه).
ولعبت العوامل الجيوسياسية دوراً منذ بدء التصدير في الثلاثينات، إذ ضغطت كلا من دول الانتداب بريطانيا وفرنسا في تصدير نفط كركوك عبر فلسطين (تحت الانتداب البريطاني) خط كركوك – حيفا، وعبر لبنان وسورية (تحت الانتداب الفرنسي) كركوك –طرابلس – بانياس. وأوقف العراق التصدير عبر حيفا عام 1948 نظرا للأحداث السياسية في فلسطين وفكك الخط. ولكن على رغم ذلك استمرت إسرائيل تطمح في إعادة تصدير النفط العراقي عبر حيفا كما تبين ذلك كأحد اهداف احتلال عام 2003 لتغيير ميزان القوى الاقتصادي بينها وبين سورية.
ومع نشوب الحرب الإيرانية – العراقية في الثمانينات والتحديات التي واجهها تصدير النفط العراقي من قبل ايران في الخليج، اتخذت إجراءات أولا لشحن النفط بطريق البر عبر تركيا والأردن ثم بدأ التفكير للتصدير عبر البحر الأحمر، إما من طريق الأردن أو السعودية، وبعد مفاوضات طويلة تم الاتفاق مع السعودية لتشييد خط أنابيب إلى ميناء المعجز السعودي على البحر الأحمر. ونشر الجلبي عدداً كبيراً من الوثائق والمعلومات للمرة الأولى عن هذا الخط الجديد وغيره، فذكر: «في 10 حزيران (يونيو) 2000 صدر أمر سعودي بوضع اليد على سائر منشآت الخط داخل أراضي المملكة لتوقف العراق عن تنفيذ التزاماته (ربما المقصود هو الدفعات الشهرية لشركة «أرامكو السعودية») وخرقه الأعراف والمواثيق (ربما المقصود هو احتلال الكويت). وحسب علمي، فإن العراق لم يقم بمفاتحة المملكة حول ذلك الأمر لغاية احتلال العراق عام 2003. وينطبق الأمر ذاته على النظام العراقي الحالي، وربما كان فقط من خلال بعض الأنباء الصحافية التي أشارت إلى رغبة العراق بإعادة تشغيل المشروع، والذي قررت المملكة ان تستخدم الجزء الممتد عبر المرحلة الثانية للمشروع لأغراض نقل النفط السعودي من شرق المملكة الى موانئ المملكة على البحر الأحمر».
7 العراق… الفرهود الاكبر!
جورج منصور الحياة السعودية
لا ادري لماذ استخدمت تسمية «فرهود» وتداولها الناس في العراق، لوصف احداث السلب والنهب والعنف وانتزاع الملكية التي تعرض لها اليهود العراقيون ببغداد في الاول من حزيران 1941 بعد الفوضى التي اعقبت سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني، قبل ان تتمكن القوات البريطانية من السيطرة على العاصمة؟ إذ ليس في معاجم اللغة العربية مرادفا لها يعني ذلك. وكلمة فرهود (الجمع: فراهيد) تعني: ولد الوعل او ولد الاسد او الحادر الغليظ او ما شابه.
بدأت ملامح الفرهود الاكبر في العراق بعد عام 2003 عندما قامت مجاميع مسلحة بالتنسيق مع موظفين في دوائر التسجيل العقاري بالاستيلاء على عقارات وممتلكات ومنازل واراضي المواطنين.
ولم تقتصرعمليات السلب والنهب والنصب والاحتيال، على المجاميع المسلحة، بل ان مسؤولين في الدولة ومتنفذين في الساحة السياسية ومليشيات سائبة اظهرت خبرة ودراية كبيرة في عمليات الفساد المشرعن بالتجاوز والاستيلاء على عقارات العراقيين، ومنهم المهاجرين والمغتربين، وعلى ممتلكات رموز اللنظام السابق واركانه، شملت العمارات والمرافق الحكومية والبنايات التابعة للدولة، من خلال استغلال بعض القرارات الحكومية لجهة تسجيل ملكيتها، او استخدام وثائق مزورة في عمليات البيع والشراء وتغيير الملكية.
لقد اجبرت عائلات مسيحية على السفر الى خارج العراق وترك وطنها الاصلي، بعد ان تعرض المسيحيون الى سلسلة من الاستهدافات، حيث تم اتهامهم بالعمالة للمحتل الاميركي وفجرت كنائسهم. وكان القتل على الهوية نصيبهم، في عمليات اغتيالات استهدفتهم في وضح النهار، ما زرع الخوف والرعب في نفوسهم.
كما تعرضوا الى تهديدات وابتزازات وعمليات ترهيب للحيلولة دون رفع الشكاوى الى الجهات المختصة لإسترداد ممتلكاتهم، أو لإجبارهم على بيع منازلهم وعقاراتهم وبساتينهم واراضيهم باسعار بخسة، خاصة اللاجئين منهم او المهاجرين بعد حملات الارهاب الذي طالهم والاستهداف المقصود ضدهم في بغداد والموصل. وحسب مصدر رفيع في البطريركية الكلدانية ببغداد لكاتب المقال، ان هناك 40 قضية استيلاء على ملكية مسيحيين رفعها اصحابها الى الكنيسة من اجل متابعتها مع المسؤولين، واكثر من 350 عملية مناقلة بيع مزورة.
ان العديد من عمليات الاستحواذ على املاك المسيحيين حصل من جهات سياسية متنفذة، احيانا بعلم الحكومة، وان الاجراءات القضائية للحد من الفرهود المنظم خجولة لا ترقى الى مستوى الجريمة.
ولم تتخذ اجراءات صارمة بحق المتهمين او المتلاعبين بسندات الملكية. بينما تصدر، بين فينة واخرى، تصريحات من جهات حكومية وتطلق وعودا باتخاذ اجراءات صارمة بحق المتجاوزين، لكنها تبقى حبرا على ورق.
في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 اعلنت هيئة النزاهة استعادة ملكية عقار بمدينة الكاظمية استولى عليه مسؤول في الحكومة وسجله بإسم زوجته: “ان المتابعة المستمرة اسفرت عن اصدار محكمة إستئناف بغداد الكرح الاتتحادية قرارا بإعادة ملكية العقار البالغ مساحته 12.642 متر مربع من زوجة مسؤول كبير في الحكومة السابقة، وإعادة تسجيله بإسم أمانة بغداد بالمساحة نفسها”.
وعلى رغم ان المادة 23 من الدستور العراقي تؤكد على ان الملكية الخاصة مصونة لجميع العراقيين، وان فتاوى صدرت من المراجع الدينية حول تحريم الاستيلاء على اموال وممتلكات المسيحيين، وان مجلس القضاء الاعلى قد سن بعد عام 2003 قانون هيئة دعاوى الملكية رقم 13 لسنة 2010 لضمان حقوق المواطنين الذين انتزعت منهم عقاراتهم بصورة غير شرعية مؤكدا ان “العقارات المشمولة بالقانون تلك التي تم مصادرتها او المحجوزة او انتزعت ملكيتها لاسباب عرقية او دينية او خلافا للاجراءات القانونية”.
بيد ان الجهات الحكومية لم تكن قادرة بالفعل على حماية ممتلكاتهم. وقد ادت الفوضى السياسية والوضع الامني غير المستقر في الاعوام الماضية الى اختلاق ذرائع وافتعال حرائق في دوائر الطابو، لجهة إخفاء الوثائق الصحيحة وتزوير المستمسكات الثبوتية الخاصة بملكية الافراد وتحويلها باسماء آخرين، خاصة في المناطق التي يتركز فيها الوجود المسيحي مثل كرادة مريم وبغداد الجديدة والجادرية والمنصور والحارثية وعقد النصارى وكمب سارة. وكانت أمانة بغداد اعلنت عن انشاء 300 منطقة في بغداد لوحدها بشكل غير قانوني من خلال التجاوز على اراضي الحكومة والمواطنين، وقدرت عدد ساكنيها بنحو مليونين ونصف مليون شخص.
كما قدرت قيمة عقارات الدولة التي استحوذ عليها الساسة المتنفذون في محيط المنطقة الخضراء وحدها، بنحو 150 بليون دينار. وقد استحوذ العديد من المسؤولين واعضاء في مجلس النواب على ممتلكات تعود الى ضباط كبار في الجيش العراقي السابق او اقاربهم، عبر تغيير سندات الملكية او الشراء بمبالغ رمزية.
8 جيل القصف الأميركي على العراق
وليد الزبيدي
الوطن العمانية
من خلال رصد ما ينشر في المواقع وشبكة التواصل الاجتماعية، التي أضحت أشبه بالمعيار الذي يعكس اهتمام الرأي العام بقضية ما ومدى تفاعله مع تلك القضية أو القضايا، يمكن رصد ردود أفعال العراقيين على أول قصف أميركي واسع وعنيف طاول غالبية المدن العراقية في حرب العام 1991 أو ما أطلق عليها في وسائل الإعلام “حرب الخليج الثانية” على اعتبار أن تسمية “حرب الخليج الأولى” كانت من حصة الحرب العراقية ـ الإيرانية التي تواصلت لثماني سنوات ابتداء من العام 1980 حتى أغسطس ـ آب من العام 1988، وحصدت تلك الحرب الكثير من الأرواح وأتت على الكثير من الموارد في كلا البلدين.
بالعودة إلى الرصد الذي يمكن تأشيره على تلك الحرب وساعاتها الأولى التي بدأت ليلة السابع عشر من كانون الثاني من العام 1991 في تمام الساعة الثانية والنصف ليلا بتوقيت بغداد، فإن الذين كتبوا أو تذكروا تلك الأيام ودخلوا العقد الرابع أو تجاوزوا ذلك، وهو أمر طبيعي، فبمراجعة بسيطة نكتشف أن الذين كانوا في سنوات حياتهم الأولى عندما دفعت أميركا بصواريخها وقنابلها القاتلة والمدمرة، أصبحوا الآن في أواخر عقدهم الثالث، وهؤلاء لا يتذكرون شيئا من تلك الساعات والأيام الصعبة التي تجاوزت الأربعين يوما من القصف والقتل والتدمير الممنهج والذي شمل كل شيء في هذا البلد.
للتاريخ ولتكون ثمة صورة تفصيلية تنعش ذاكرة الذين أتعبهم الزمان وتمنح الأجيال الجديدة فسحة من التصور ومعايشة الأحداث التي عصفت بهذا البلد، وألقت بظلال شديدة القسوة على المجتمع العراقي بأسره، فإن التذكير ببعض الوقائع أصبح ضرورة لا بد منها، فقد بدأت الحرب في تلك الساعات الشتائية الباردة على خلفية دخول العراق الأراضي الكويتية في خطوة خاطئة وغير محسوبة على الإطلاق، وبدلا من تدارك هذا الخطأ عراقيا وعربيا، فقد أصرت جميع الأطراف على الذهاب إلى الحرب بكل ما تحمل من مآسٍ وأوجاع وويلات، وذهب الجميع إلى “تلة الرمل” لصياغة الخطط الحربية بدلا من اختيار ساحة العقل، ما أفضى إلى دمار وأنهار من الدماء وانهيار في الصف العربي لم يسبق له مثيل على الإطلاق، وباستذكار ما جرى طيلة أشهر الخوف والقلق التي تواصلت لستة أشهر من أغسطس ـ آب 1990 حتى كانون أول من العام 1991، فإن الأحداث التي حصلت قد لخصها خطاب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب الذي ألقاه بعد ثلاثين دقيقة من وصول أول موجة من القاذفات والصواريخ المدن العراقية، أي في الساعة الثالثة فجرا بتوقيت بغداد وبثته مباشرة إذاعة صوت أميركا ونقلته الإذاعات الأخرى، وقال بوش إنهم سيحققون أهدافهم كاملة، وتبين لاحقا أن تلك الأهداف أبعد بكثير من إخراج القوات العراقية من الكويت، كما أنها تستهدف العراق بأهله واقتصاده وتاريخه، وهذا ما نعيشه الآن.
9 تسليم أميركي بمعطيات الواقع بالمنطقة
خميس التوبي
صحيفة الوطن العمانية
باتت الأسباب مفهومة التي دعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرارها بسحب قواتها غير الشرعية من الأراضي السورية، بالنظر إلى الأكلاف الباهظة التي ستتحملها الخزينة الأميركية، بل سيتحملها دافع الضرائب الأميركي لتمويل بقاء هذه القوات خارج القانون الدولي وضد شرعة الأمم المتحدة في دولة أضحت مسلمات استعادة عافيتها واسترجاع كامل أراضيها الملوثة ببؤر الإرهاب والاحتلال تشير إلى دنو ذلك.
على الرغم من الإمكانات العسكرية الهائلة فإن الولايات المتحدة تدرك أن اليوم ليس مثل أمس، وغدًا ليس كما بعده، فالعالم يتغير، وتتغير معه هذه المنطقة الحيوية التي لطالما لعبت دورًا مهمًّا وكبيرًا في تثبيت الولايات المتحدة قوة عظمى وحدى في العالم، حيث صناعة النفط والتأثير على القرار السياسي بدا واضحًا ودليلًا على نجاحها في اتخاذ المنطقة قاعدة سياسية واقتصادية وعسكرية مكَّنتها من تعاظم نموها السياسي والاقتصادي والعسكري، وإزاحتها للاتحاد السوفيتي سابقًا لتهيمن على العالم لعقود.
صحيح أن الولايات المتحدة تحاول جاهدة مقاومة التغيير، والعمل ضد المسلمات بأن “التغيير من سنن الكون، ودوام الحال من المحال”، بيد أن المؤشرات تشير إلى أنها ستكون مجبرة بالتسليم بهذا التغيير، مع العمل على ترتيب الاحتفاظ بما تراه ركائز وثوابت؛ أولها بقاء كيان الاحتلال الإسرائيلي وتأمين بقائه، والاحتفاظ بحصتها من ثروات المنطقة؛ وإزاء ذلك تبذل جهودًا حثيثة لصياغة هذا الاحتفاظ عبر أطراف إقليمية تؤمِّن لها البقاء والدور المؤثر أخذت تضع فيها ثقتها، بالإضافة إلى التعويل على التنظيمات المسلحة والإرهابية لترتيب المشهد بما يحقق ذلك ويحفظ صورتها أمام العالم بأنها قوة عظمى.
اليوم وحسب ما يرشح من تطورات الأحداث في سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها يشي بأن الولايات المتحدة ليس في مقدورها إدارة دفة الحروب والبقاء في هذه الدول وتحمل تكاليفها؛ لأنها تعلم أن بقاء قواتها في هذه الدول يحتاج إلى تمويل كبير، علاوة على أنه يمكن أن يتحول إلى ورقة ضغط بالنسبة إلى القوى المضادة للولايات المتحدة؛ فهذه القوات ـ على سبيل المثال ـ من الممكن أن تكون تحت قبضة الدولة السورية لكونها قوات احتلال، كما أن الانتشار في هذه الدول وليس في سوريا وحدها هو ورقة ضغط يمكن أن تستعمله قوى المواجهة مع أميركا ضدها.
وحين يقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنظيره التركي رجب طيب أردوغان “سوريا كلها لك.. لقد انتهينا”، حسب المقتطفات التي بثتها محطة (سي أن أن) الأميركية للمحادثة الهاتفية التي دارت بينهما، إنما يأتي ذلك من منطلق التسليم بهذه التحديات التي لن تستنزف الولايات المتحدة فحسب، وإنما ستضعها في صورة هزيمة جديدة، وبالتالي لا بد من البحث عن وكيل يتولى المهمة نيابة عنها يمارس ما تريده واشنطن في سوريا، من تقسيم وتدمير واستعمار، وخلخلة في بنية الدولة السورية، بما يحرمها من مكانتها العربية والإقليمية، ويجعلها دولة مضعضعة مهلهلة أمام كيان الاحتلال الإسرائيلي. ويبدو أن المخطَّط له من وراء قرار الانسحاب ـ رغم المحاولات الواضحة لتأخير أو التحايل لبقاء القوات الأميركية غير الشرعية من خلال الدفع بتنظيم “داعش” الإرهابي في مقدمة المشهد، والإيعاز إليه بعملية محدودة تستهدف الوجود الأميركي لاتخاذها ذريعة للتراجع أو تأخير الانسحاب من سوريا، وهذا في عالم الاستخبارات يدخل في صميم عملها ـ هو جعل الدولة السورية تواجه طرفين معًا لاستعادة أراضيها؛ الأول تركيا، والثاني الانفصاليين الأكراد، الأمر الذي سيدخلها في حرب مفتوحة ـ وفق العقل المخطِّط الصهيو ـ أميركي ـ تستنزف فيها طاقاتها وثرواتها ومقدراتها ومعها حلفاؤها، ومن هنا يظهر الموقف الأميركي المطالب من أنقرة بأن لا تقاتل الانفصاليين الأكراد، وتتكفل بحمايتهم والتعاون معهم، لدرجة جعلت الرئيس ترامب يهدد بتدمير الاقتصاد التركي إن اعتدت أنقرة عليهم؛ لأن واضعي المخطط يعلمون يقينًا أن مواجهة أنقرة للانفصاليين الأكراد ستعني عودتهم إلى التفاهم مع الدولة السورية والتوحد معها والعمل تحت رايتها ضد الوجودين التركي والإرهابي في سوريا، وهو ما يعني سرعة الإنجاز السوري في الحرب على الإرهاب التكفيري الاستعماري، واستكمال نصرها المؤزر، ويعني كذلك الهزيمة النكراء لمعشر المتآمرين على سوريا وشعبها وجيشها وقيادتها.
وإزاء ذلك، تحاول الولايات المتحدة صياغة المشهد الميسِّر لها لانسحاب سلس ومحقق للأهداف بإتمام ما تريده من أنقرة والانفصاليين الأكراد، حيث أخذت تسترضي تركيا وتتودد لها بالموافقة على ما تسميه أنقرة “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا، لتقبل بوجهة النظر الأميركية بالتعامل مع الانفصاليين الأكراد والتعاون معهم بما يمهد الأرضية لتحقيق ما تسعى إليه أنقرة من ضم أراضٍ سورية في الشمال، في خطوة شبيهة بلواء الأسكندرون، في المقابل عملت واشنطن على امتصاص الغضب الإسرائيلي المزعوم بالسماح لكيان الاحتلال الإسرائيلي باستهداف سوريا واستباحة سيادتها بزعم محاربة الوجود الإيراني.
نعم نجح الأميركي في تعويم التركي ومواقفه وإبعادها عن الدائرة الروسية ـ الإيرانية المتخذة من محادثات سوتشي وأستانة مرتكزًا لها، بدغدغة الأحلام القديمة التي تتملك القيادات التركية تجاه سوريا والعراق، وكذلك تعويم الإسرائيلي بإعطائه الضوء الأخضر في الاعتداء المتكرر على سوريا، ما ينتج عنه تكامل في الأدوار بين التركي والإسرائيلي. لكن في الأفق لا يبدو هناك ما سيبعث على تحقيق الأحلام حتى الآن.
10 زيارة الملك للعراق.. الأبعاد الجيواستراتيجية
د. فايز بصبوص الدوايمة
صحيفة الراي الاردنية
عندما قلنا أن الدور الأردني دور محوري واساسي في أي تطور في المنطقة كنا نقصد بالضبط ان أي تحولات استراتيجية مفاجئة والتي تعتبر في المعايير الدبلوماسية كوارث سياسية كونها تحدث بشكل مفاجئ فهي بالنسبة للدبلوماسية الأردنية فرصة للتذكير بمنهجية جلالة الملك في قراءاته الدقيقة لتلك التحولات واستشرافه الدائم لتبعات تلك التحولات فعندما قال جلالته » نحن يجب ان نحول كل المصاعب والعقبات الى فرص » فقد قصدنا بالضبط ان هذه السياسة قائمة على توظيف كل المفردات السياسية الجديدة والتحولات والتجاذبات الى فرصة يستطيع من خلالها جلالة الملك المفدى ان يوظفها لصالح التنمية الاقتصادية وفتح مساحات جديدة لعلاقات اقتصادية تؤثر بشكل مباشر على نمو الاقتصاد الأردني دون قفزات غير محسوبة العواقب، ولكنها على المدى القريب والبعيد ستؤثر بشكل مباشر على رفع مستوى معيشة الأردنيين وتخفيف الضغط على الموارد وصناعة فرص استثمارية جديدة قادرة على الوصول باقتصادنا الوطني الى نمو حقيقي ينعكس بشكل مباشر على كل أسرة وفرد أردني هذه هي الاستراتيجية العميقة للدبلوماسية الأردنية، وهي كما يروج البعض استراتيجية انتهازية انما هي قراءة موضوعية واستشرافية كما قلنا لمجمل الواقع السياسي والاقتصادي المحيط بالمنطقة وان هذا الواقع يجب تحويله من اجل المصلحة العليا في وطننا الحبيب باننا وكما قال جلالة الملك دفعنا اثماناً باهظة نتيجة للسياسيات الدولية والتحولات الإقليمية ولم نكن في يوم من الأيام جزءاً من عدم استقرار المنطقة ولكننا تحملنا التبعات دائما.
ان ما ذكرناه ليس بجديد لكن الجديد يكمن في ان التوجه شرقا اتجاه توطيد وتوسيع دائرة العلاقات مع الشقيقة العراق يعتبر قرارا حكيما جدا في بعده الاقتصادي أولا والسياسي ثانيا فبعد زيارة الوفد الأردني الموسع برئاسة رئيس الوزراء الى العراق وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وسياسية وحتى اجتماعية وثقافية فكانت زيارتنا للعراق الشقيق من اكثر الزيارات نجاحا في الكم الهائل من الاتفاقيات وفتح المجال امام اغلاق الملفات التاريخية العالقة تأتي زيارة جلالة الملك لتعميق هذه العلاقة ووضعها كأولوية استراتيجية تنموية تكون بمثابة مثالا يحتذى مع بقية دول الإقليم وهذا يذهب بنا الى البعد السياسي للزيارة وخاصة في هذه المرحلة التي تتبلور هنا وهناك تحالفات إقليمية يضغط بشكل شديد على الأردن بان يكون فيها وخاصة في الجانب العسكري كالتحالف ضد ايران او في الجانب الاقتصادي كمشروع غاز شرق المتوسط والذي أدخلت في اطاره الدولة الصهيونية من الشباك الاقتصادي بدعم امريكي واضح استثنيت منه سوريا وتركيا مما وضع علامة استفهام كبرى على ما روج له سابقا بانه تحالف اقتصادي بحت فذهاب جلالة الملك الى العراق تعني ببعدها السياسي ان دائر الدبلوماسية الأردنية متسعة وتملك دينامية قل نظيرها وذلك من خلال الخيط الرفيع التي تجاوزته في ظل التطاحن السياسي الدولي أولا والإقليمي ثانيا والذي طرح شعارا مبطنا اما التعبئة شرقا ضد ايران او لا تكون معنا لكن الأردن يعتبر التعبئة غربا أي القضية الفلسطينية واجهاض مشروع الكيان الصهيوني في المنطقة هو أولى الالويات وهو مبتدأ وخبر السياسة الأردنية المنطلقة من رسالة الهاشميين في المقدسات والحفاظ عليها وعدالة القضية الفلسطينية وافشال صفقة القرن رغم ما نتعرض له من ضغط شديد على البطون الأردنية والتي صمدت مستمدة ذلك العنفوان والقوة والصلابة والصبر من ثوابت النظام السياسي الأردني واثقين بقدرتنا الخلاقة والمبدعة على تحويل كل العقبات الى فرص تخدمنا على الصعيد التنموي والاقتصادي والاهم من ذلك كله لا نتزحزح قيد انملة عن اولوياتنا العربية والقومية والاممية المنطلقة من مبادئ الثورة العربية الكبرى بان الجسد العربي لا يمكن ان يتوحد ويتلاحم الا اذا تم القضاء على مؤامرة صفقة القرن وانهاء القضية الفلسطينية على قاعدة الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير والعودة وعروبة القدس فطوبى لك جلالة الملك الذي صنعت من هذا الوطن نبراسا ومرجعية لكل شريف في هذه الامة ولذلك فان احترام الأردن منتشر بين كل شعوب المنطقة بغض النظر عن مرجعياتها العرقية والطائفية والدينية فاحترام الشعوب للقيادة الهاشمية هو ما فرض على كل القوى هذا الاحترام وهذا التقدير غير المسبوق للأردن ولمسيرته الممتدة على مر التاريخ والتي يقودها باقتدار قل نظيره جلالة الملك المفدى عبدالله الثاني بن الحسين مستشرفين الامل في مستقبل باهر وخاصة عندما نرى ان ولي العهد المحبوب ملاصق لجلالة الملك في كل المراحل يشرب من ينبوع جلالة الملك للوصول الى دمج القيم التاريخية بالتحديث والمعاصرة والمستقبل شكرا لكم فقد صنتم كرامة الأردنيين وجعلتم رؤوسنا شامخة امام كل العالم فعندما يذكر الأردني في أي منطقة في العالم يحترم كونه ابن هذا الوطن العظيم والمعطاء.
11 هل تفكك واشنطن ميليشيات إيران في العراق؟
مشعل أبو الودع الحربي
صحيفة السياسة الكويتية
منذ تولي الرئيس دونالد ترامب زمام الامور في البيت الابيض وهو يصلح كل ما افسده اوباما،خصوصا الملف الايراني الذي كاد ان ينهي الدور الاميركي في الشرق الاوسط بسبب غباء ادارة اوباما في التعامل مع نظام الملالي الارهابي،الذي استطاع في حقبة اوباما تحقيق مكاسب ومد نفوذه الى عدد من دول المنطقة مستغلا بذلك الاتفاق الفاشل الذي تم ابرامه بين الدول الكبري وايران،ودفعت دول المنطقة ثمن هذا الاتفاق الذي ابرمه اوباما مع نظام الملالي الارهابي.
ترامب مازال يواجه نظام الملالي، لكن المواجهة لن تكون سهلة، فالولايات المتحدة امامها تحدي المليشيات التي نجحت ايران في استغلالها ضد اعدائها،وهي تمثل خطرا كبيرا على المصالح الاميركية في المنطقة وعلى حلفاء الولايات المتحدة، لكن ترامب لايخشى هذه المواجهة التي تقتضي اتخاذ القرارت بشجاعة،لذلك طلبت واشنطن من العراق تفكيك المليشيات التابعة لايران وارسلت قائمه تضم 67 ميليشيا الى الحكومة العراقية وطالبت بتجميدها وسحب السلاح منها.
بومبيو زار العراق اوائل هذا العام والتقى بالرئاسات الثلاث لبحث الخطوات القادمة لواشنطن في العراق بعد انسحاب القوات الاميركية من سورية وانشاء قواعد عسكرية جديدة في العراق، وما تخشاه الولايات المتحدة استخدام ايران لهذه المليشيات لاستهداف اهداف اميركية في العراق،بالاضافة الى تهديد حلفاء واشنطن في المنطقة باطلاق الصواريخ عليهم،وهذا ما تخطط له ايران الان للرد على العقوبات القاسية التي فرضتها واشنطن على ايران وزادت من معاناتها وعزلتها.
ايران تحركت بعد هذا الطلب الاميركي وزارمحمد جواد ظريف وزير الخارجية الايراني العراق والتقى قادة الميليشيات التابعة لايران لتحريضهم على رفض الطلب الاميركي وعدم تسليم سلاحهم،وهذا ما قد يجعل العراق فوق صفيح ساخن اذا رفضت هذه المليشيات تسليم سلاحها الى الحكومة العراقية، وقد نشهد مواجهة اميركية مع هذه الميليشيات المدعومة من ايران على ارض العراق.
تسليم المليشيات سلاحها يعني نهاية ايران في العراق،وهذا ما تسعى اليه واشنطن،لكن الجميع في العراق يعرف ان الحكومة العراقية لا تملك القرار، وان هذه المليشيات هي التي تحكم العراق وتتحكم في المشهد السياسي بالعراق كما يفعل “حزب الله “في لبنان.
قرار واشنطن حرك المياه الراكده في الشارع العراقي الذي يطالب منذ فترة طويلة بحل هذه المليشيات التابعة لايران وجعل الشارع العراقي يتفاءل بمستقبل العراق اذا تم حل هذه المليشيات الارهابية والطائفية، والكرة في ملعب حكومة عادل عبد المهدي فهل يستجيب للطلب الاميركي وينجح في تفكيك الميليشيات التابعة لايران؟ هذا ما سوف تكشف عنه الايام المقبلة.