ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
1 هل يعيد التاريخ نفسه ويصبح العراق ساحة معركة بين أطراف خارجية ليس للعراقيين اية مصلحة فيها؟ د. سعد ناجي جواد
راي اليوم بريطانيا
لفترات طويلة أمتدت من القرن الخامس عشر وحتى بداية العشرين، عندما احتلت بريطانيا بغداد (1917)، كان العراق ساحة صراع وتنافس بين الدولتين العثمانية والصفوية. صراع جيو-ستراتيجي، اقتصادي ، عسكري ويتعلق بنفوذ الدولتين في الاقليم بصورة عامة، ولكنه أُلبِس ثوبا طائفيا كي يثير العراقيين، ويدفعهم لان يكونوا أطرافا في هذا الصراع. في هذه الأيام يعيد التاريخ نفسه، حيث ان العراق اصبح مهددا بشكل جدي في ان يصبح ساحة حرب بين الولايات المتحدة وايران، وسيدفع العراق ثمنا غاليا من دماء آبناءه وبنيته التحتية وموارد كوقود لهذه الحرب. وهذا الكلام لا يطلق جزافا او انه محض تخيلات. بل هناك من الشواهد والاحداث ما يدعمه.
اول هذه الشواهد هو انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات من جديد على ايران. والاهم تحذير العراق من اي محاولة لكسر العقوبات مع ايران لتخفيف الضغط الاقتصادي عليها. وبتحريض ودفع من ايران انبرت الأحزاب والشخصيات والمليشيات الموالية لها في العراق، للإعلان عن تحديها ورفضها، لا بل وصل الامر ببعض هذه الأطراف للإعلان بأنها ستحارب الى جانب ايران وستهاجم القوات والمصالح الامريكية، بل وستعمل على إصدار تشريع برلماني. يطالب القوات الامريكية بالرحيل.
الدليل الثاني تمثل في الجسر الجوي شبه السري الذي إقامته الادارة الامريكية والذي نقلت، ولا تزال تنقل، فيه المعدات الى منطقة كردستان العراق، وخاصة أربيل، والقواعد العسكرية الامريكية فيها، لكي تُستَخدَم في اية عملية عسكرية تستهدف ايران، أو ربما اي دعم تفكر الادارة الامريكية في تقديمه الى الحركات المعارضة فيها.
الشاهد الثالث والاهم هو نقل القوات الامريكية المنسحبة من سوريا الى القواعد العسكرية الامريكية في منطقة كردستان العراق، مضيفة العنصر البشري للمعدات التي دابت على نقلها الى هناك منذ مدة ليست بالقصيرة.
اما الدليل الرابع فيتمثل في عدة جوانب: اولا زيارة الرئيس ترامب المفاجئة والسرية للقاعدة العسكرية في العراق التي اطلق منها تهديدات مباشرة لإيران، كما تحدث عن جهود ادارته على إنهاء نفوذ ايران في العراق وسوريا. وفِي الوقت الذي تشير فيه دلائل كثيرة على محدودية قدرة الولايات المتحدة على فعل ذلك في سوريا، فان قدرتها في العراق اكبر وأكثر. ثانيا زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة بومبيو، المفاجئة ايضا لبغداد، وحديثة بنفس النبرة عن ايران مع المسؤولين العراقيين الذين التقى بهم، وخاصة ما قيل عن تقديمه قائمة لرئيس الوزراء العراقي بأسماء 67 فصيلا مسلحا تابعا للحشد الشعبي وموالية لايران طالبا حلها. ثم تحذيره العلني للبرلمان العراقي من إصدار اي قرار ضد وجود القوات الامريكية في العراق او يطالب برحيلها. ثالثا زيارة وزير خارجية ايران للعراق و إطلاقه كلمات التحدي للولايات المتحدة من هناك، كما ان طول مدة الزيارة واللقاءات الكثيرة التي اجراها هناك، وخاصة مع الأطراف الموالية لإيران في الحكومة العراقية وعلى مستوى التنظيمات المسلحة والأحزاب. و الكلام الخطير الذي قاله و لخصه بالجملة التي اهانت المشاعر الوطنية للعراقيين، والتي خاطب فيها الادارة الامريكية قائلا: (أنتم سترحلون ونحن باقون لأن الارض لنا). و زيارة الوزيرين تظهر بوضوح ان العراق اصبح مركز الصراع والتنافس بين دولتيهما.
الحدث او الدليل الاخر هو الخبر الذي نشرته صحيفة الجوروزاليم بوست الصهيونية قبل ايام والذي قالت فيه ( بان بومبيو اخبر عادل عبد المهدي، رئيس وزراء العراق، بان الولايات المتحدة سوف لن تتدخل في حالة قررت اسرائيل مهاجمة المليشيات التابعة لإيران في العراق)، والذي قال عنها ان ايران زودتها، وتزودها بصواريخ و أسلحة متقدمة. طبعا من قرأ او سمع خطاب بومبيو في الجامعة الامريكية في القاهرة لا يمكن ان ينسى العبارات التي تعهد فيها بإبقاء اسرائيل الطرف الاقوى في المنطقة، وان الولايات المتحدة ملتزمة بالكامل بالحفاظ على أمن اسرائيل.
اما اخر الشواهد والدلائل هو ما نقله لي مصدر اثق به، قال انه منقول عن شهود عيان، ان قوات أمريكية برية قد وصلت الى قاعدة في منطقة الطارمية شمال بغداد. طبعا انا لا أستطيع ان اؤكد او انفي هذا الخبر. ولكن اذا ما صح هذا الخبر فانه يحمل دلالات خطيرة، ربما تظهر نتائجها في الأيام القادمة.
الاسئلة التي يجب ان تطرح الان هي ماذا يدور في ذهن صانعي القرار في واشنطن؟ و ماذا تنوي الولايات المتحدة ان تفعله، او بصورة ادق ماذا يمكن ان تفعله؟ وماذا سيكون الرد الايراني؟
الكل يعلم ان التنافس الامريكي – الايراني كان واضحا في العراق اثناء الانتخابات الاخيرة التي شابها تزوير كبير، وبالنتيجة، وهذا هو المضحك، انها أنتجت تركيبة حكومية نالت رضا الطرفين. و كل منهما يعتقد ان الرئاسات الثلاثة موالية له. وبالتكيد إنهما سمعا من هذه الرئاسات ما طمأنهما. وهذا هو ديدن غالبية الفئات الحاكمة في العراق منذ الاحتلال، تطيع الطرفين وتنتظر حتى ترى من هو الطرف الاقوى كي تصطف معه. ولكن يظل نفوذ ايران أقوى بسبب ما تمتلكه من قوة على الارض، وهذا يفسر قول وزير خارجية ايران من ناحية و يفسر زيادة عدة القوات الامريكية في العراق في الآونة الاخيرة و تحسبًا لأي مواجهة عسكرية مع المليشيات الموالية لايران، التي ربما أصبحت شبه حتمية اذا ما اخذنا طلب وزير الخارجية الامريكي وتصريحاته على محمل الجد، وتذكرنا رغبة اسرائيل في ذلك. ( طبعا بالمناسبة محللين وقادة اسرائيلين أبدوا موخرا تخوفهم من زيادة القدرات العسكرية العراقية، وهم بالتأكيد لا يقصدون الجيش العراقي وإنما الحشد الشعبي الذي توالي الغالبية العظمى من فصائله ايران).
ثم هل ستقدم الولايات المتحدة على عمل عسكري جديد تعيد فيه احتلال العراق، علما بان هناك من الساسة العراقيين، عربا واكرادا، من يشجعها على ذلك؟ ام ان ايران ستوعز للحشد في ان يبادر الى مضايقة الوجود الامريكي كي تجبره على الانسحاب قبل ان يتمكن من تثبيت نفسه بقوة في العراق؟ واخيرا هل ستلجأ الولايات المتحدة الى تشجيع فكرة الانقلاب العسكري الذي فكرت فيه اكثر من مرة واعدت له بلقاءات كثيرة مع قيادات سابقة وحالية في الجيش العراقي؟ كل هذه أسئلة سيتم الإجابة عليها في قادم الأيام و في فترة ليست ببعيدة.
ومهما تصور المرء من سيناريوهات ، وهي كثيرة، فان الدلائل تشير بأنها ستكون كارثية على العراق و شعبه المسكين الذي ابتلي بالاحتلال ومن ثم بالحكومات والأحزاب الطائفية والفاسدة، والتي لا راي او موقف واضح لها في كل ما يجري، وبنفوذ واطماع دول الجوار التي وصلت الى الحد الذي اصبح لها فيه قواعد وتواجد عسكري كبير و مؤثر وعملاء حاكمين، وستكون مدن العراق ساحة للمواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة وايران، مواجهة كارثية للعراقيين الذين ليس للغالبية العظمى منهم فيها لا ناقة ولا جمل. واخيرا وليس آخراً، وهذا امر مؤلم اخر، فان أطرافا عربية تريد وتشجع لهذه المواجهة ان تحدث في العراق لكي تبعد الخطر عن أراضيها ولتمعن في تدمير العراق و إضعافه، وهي تتغافل عن حقيقة ان هذه الكارثة اذا ما حلَّت فانها ستشملهم بتبعاتها. وهكذا فان جميع الأطراف تريد ان تستخدم العراق ساحة حرب لها وبدماء العراقيين. اما حكومة العراق وسياسي الاحتلال وممثلي دول الجوار فلا هم لهم سوى نهب ثروات العراق والاستعداد للذهاب الى الدول التي يحملون جنسياتها اذا ما حدث ما يهدد حياتهم او السحت الحرام الذي حصلوا عليه منذ بداية الاحتلال المشئوم ولحد اليوم. نسال الله ان يحفظ العراق وشعبه.
ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
2 العراق يبقى الجائزة الكبرى
خيرالله خيرالله
الراي الكويتية
هناك جائزة كبرى تسعى إيران الى الاستحواذ عليها نهائياً. هذه الجائزة اسمها العراق. هل مسموح في نهاية المطاف ان تسيطر إيران على العراق وان تعتبره جرما يدور في فلكها محققة ما عجزت عنه في مرحلة ما بعد انتصار سقوط الشاه وقيام «الجمهورية الإسلامية» في العام 1979 بقيادة آية الله الخميني؟
لم يكن لدى الخميني وقتذاك من حلم سوى السيطرة على العراق الذي فاجأ الايرانيين بسنتّه وشيعته عندما استطاع تحقيق شبه انتصار في حرب استمرت بين 1980 و1988 وقف فيها شيعة الجنوب العراقي، خصوصا، سدّا امام التمدّد الايراني.
تمثّل سيطرة ايران على العراق، بعد العام 2003، التحوّل الابرز الذي طرأ على التوازن في الاقليم كلّه. أي على المنطقة الممتدة من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي مرورا بمنطقة الهلال الخصيب الذي تريد ايران استخدامه لربط طهران بالبحر المتوسط، أي ببيروت. لم يكن لهذا التحوّل ان يتحقّق لولا الولايات المتحدة التي قرّرت في عهد بوش الابن التخلّص من النظام العراقي عبر حرب شاملة على العراق.
خرج من هذه الحرب منتصر واحد، هو ايران التي اعتبرت ان مشروعها التوسّعي في المنطقة صار قابلا للتحقيق في ظلّ العلاقة الوثيقة التي اقامتها مع النظام السوري ذي الطبيعة الاقلّوية، وهي علاقة وجدت ترجمة لها في لبنان حيث جرى التخلّص من رفيق الحريري بصفة كونه انتقل من مرحلة الزعيم السنّي اللبناني الى مرحلة الشخصية العربية القادرة على إيجاد مكان لها بين كبار هذا العالم.
في الإمكان، على هامش ما يجري في العراق، الخوض طويلا في موضوع عنوانه ما يدور في لبنان الذي تبيّن انّه بات عاجزا في السنة 2019 عن تشكيل حكومة، علما انّ الانتخابات النيابية فيه اجريت قبل ما يزيد على ثمانية اشهر. يتبيّن يوميا ان الحكومة اللبنانية رهينة لدى ايران، بل ان البلد كلّه صار في الاسر الايراني.
لا يدلّ على مدى تدهور الوضع في لبنان اكثر من هزالة القمة العربية الاقتصادية التي تستضيفها بيروت. لم يسبق لأي قمّة عربية من أيّ نوع ان واجهت الصعوبات التي تواجهها قمّة بيروت حيث وجد من يعترض على مشاركة ليبيا التي تخلّصت من معمّر القذافي، في حين استضاف في العام 2002 قمّة عربية حضرها ممثل شخصي للقذّافي!
المطلوب، في ما يبدو، تحويل لبنان كلّه الى مهزلة لا اكثر. لا شكّ ان ايران نجحت في ذلك الى حدّ كبير.
نجحت خصوصا في عزل لبنان عن محيطه العربي وعن أهل الخليج تحديداً. لم يعد ينقص سوى اليوم الذي تتمكن فيه إيران من نسف اتفاق الطائف من جذوره واحلال اتفاق آخر مكانه يجعل منها بطريقة شرعية السلطة الفعلية في لبنان.
تخوض ايران حالياً معركة كسر عظم مع الولايات المتحدة في العراق. هذا ما يفسّر الى حد كبير ذلك الإصرار على التحكّم بمفاصل السلطة في العراق والانتهاء من ايّ وجود عربي فيه. ان يقوم العاهل الأردني عبدالله الثاني بزيارة سريعة لبغداد امرّ اكثر من ضروري. تسمح مثل هذه الزيارة التي ترافقت مع تلك التي قام بها للعراق وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف بمعرفة هل لا يزال هناك مجال لترميم الجسور بين بغداد والعواصم العربية؟
عاد عبدالله الثاني الى عمّان في اليوم ذاته، في حين بقي ظريف على رأس وفد كبير في العراق حيث تصرّف كأنّه صاحب البيت في حين كان المسؤولون العراقيون الذين استقبلوه اشبه بالضيوف.
هناك مشروع إيراني واضح بالنسبة الى العراق. تنوي ايران بكلّ بساطة نقل تجربة «الحرس الثوري» الى العراق كي تكون في يدها أداة تتحكّم بواسطتها بالبلد. هذا ما يفسّر ذلك الإصرار على ان يكون فالح الفيّاض وزيرا للداخلية بصفة كونه رمزاً لتكريس شرعية «الحشد الشعبي» بكلّ ما يمثله من حكم للميليشيات المذهبية للعراق وامتداد لـ«الحرس الثوري» الايراني.
حرص وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو على زيارة بغداد خلال جولته الأخيرة في المنطقة. لم يكد وزير الخارجية الاميركي، الذي يعتبر من صقور إدارة دونالد ترامب، يغادر العاصمة العراق حتّى علت أصوات تطالب بانهاء الوجود العسكري الاميركي في العراق. هناك جوقة إيرانية في العراق، تضمّ ميليشيات مذهبية تنادي بكلّ ما تطالب به ايران. معظم افراد هذه الجوقة عادوا الى بغداد من طهران على ظهر دبابة أميركية. يمثّل هؤلاء رأس الحربة في جعل الحكومة العراقية تدار من طهران وتحويل العراق مجرّد مستعمرة تستخدم في اطار التحايل على العقوبات الأميركية على ايران.
كانت اميركا في أساس الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الايراني. كانت هذه الانطلاقة من العراق وليس من مكان آخر. كلّف العراق الخزينة الأميركية عشرات مليارات الدولارات. ظهر بوضوح ان اميركا لا تعرف شيئا عن العراق ولا عن الاطماع الايرانية في العراق. كانت تبشّر بعراق ديموقراطي يكون نموذجا للدول الأخرى في المنطقة. استطاعت ايران إخراجها شيئا فشيئا من العراق بعدما قرّر باراك أوباما ان يكون حليفا لها ودخل معها في صفقات كان من اهمّها على الاطلاق تولّي نوري المالكي موقع رئيس الوزراء بعد انتخابات العام 2010 وسحب القوات الأميركية من العراق في الوقت ذاته.
امتلكت الولايات المتحدة في الأصل الموارد الكفيلة بانجاح مشروعها العراقي الى ان ظهر انّ هذا المشروع مبني على أوهام وأفكار ساذجة اكثر من أيّ شيء آخر. في المقابل، امتلكت ايران ما يكفي من الدهاء لجعل المشروع الاميركي في مصلحتها وصولا الى مرحلة استطاعت فيها تجيير ثروات العراق وجعلها تصبّ في اطار أوسع هو مشروعها التوسّعي الذي يغطي الاقليم كلّه. الفارق بين ايران وأميركا ان ايران لا تمتلك الموارد الأميركية لكنهّا تمتلك ادواتها العراقية فضلا، في طبيعة الحال، المعرفة بأدق التفاصيل الداخلية في بلد تعرف تماما ان معظم الشيعة فيه لديهم انتماء وطني للعراق مطلوب الانتهاء منه بكلّ الوسائل المتاحة.
هل لا يزال لدى الولايات المتحدة ما تراهن عليه في العراق؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لكن ما قد يخدمها في الجولة الجديدة التي تخوضها مع ايران الوضع الداخلي في ايران حيث نظام فشل بعد أربعين سنة على قيامه في توفير أي نوع من الحياة الأفضل للايرانيين التائقين، في معظمهم، الى العودة الى ثقافة الحياة في ظلّ حنين الى ما كانت عليه ايران أيام الشاه بحسناته الكثيرة ومساوئه التي توازي هذه الحسنات.
ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
3 المستنقع وميليشياته
علي الصراف العرب بريطانيا
أفضل حلفاء الرئيس السوري ليسوا هم الروس ولا الإيرانيون ولا حتى ميليشيات حزب الله ممن قاتلوا إلى جانب قواته، بل هم معارضوه. وذلك ليس لأنهم انزلقوا إلى رفع السلاح، وليس لأنهم فتحوا الطرق لدخول إرهابيين من كل أرجاء الأرض، وليس لأنهم حوّلوا الصراع من معركة وطنية ضد الطغيان إلى معركة طائفية، ولكن لأنهم لا يعرفون ماذا يريدون، ولم يكن بوسعهم أن يتوصّلوا إلى رؤية مشتركة حول ما يجب أن تكون سوريا عليه، “بعد سقوط النظام”.
ولو أن النظام كان قد سقط فعلا بعد أن تمّ طرده من ثلاثة أرباع مساحة البلاد، فإن التنازع الدموي ما كان ليهدأ على الإطلاق. بل لربما كنا قد رأينا من المجازر ما لم نره من قبل.
بانحسار ماكينة القمع وانسحاب الدكتاتورية من مناطق واسعة، نشأ بديل تلقائي، إلّا أنه لم يكن ديمقراطيا، بل ميليشيوي. واحتكرت كل جماعة قطعة أرض خاصة بها لتمارس عليها سلطتها. وبدلا من طاغية واحد، صار لدينا العشرات من الطغاة. وكان من الطبيعي لذلك الطاغية الواحد أن يكسب، ليس لأنه عبقري، بل لأن خصومه أصحاب هويات متنازعة.
لماذا لم تنشأ صورة، أي صورة، للديمقراطية في سوريا “المحررة”؟ ولماذا انقلب “التحرر” من سلطة الاستبداد إلى سلطة استبداد ليست أقل سوءا؟ ولماذا غلبت العقلية الميليشيوية على المسعى الوطني لبناء سوريا جديدة؟
السبب لا علاقة له بالضرورة مع السوريين أنفسهم كأفراد، أو بثقافتهم، أو بمستوى وعيهم السياسي. وفي الحقيقة فإن فيهم، كما في كل شعب آخر، من يحسن أن ننحني احتراما لعمق وعيه وسعة علمه. إلا أن تكوينهم الاجتماعي لم ينضج إلى الحد الذي يجعل من خلائطهم “مجتمعا” حقيقيا.
هناك، في الغالب، خطوط عامة، عريضة، ومشتركة، هي ما يصوغ الوعي الاجتماعي. فيجعل الكل نوعا من أنا، والأنا نوعا من كل. إنه شيء يعمل عمل الإسمنت. كما أنه شيء يجعل المجتمع يعرف نفسه، كما يعرف ماذا يريد. إنه ذلك الشيء الذي يجعل المجتمع يعرف ممنوعاته أيضا، فلا ينزلق في متاهات مظلمة، أو يغرق في مستنقعات فوضى.
واضح الآن، أن هذا المجتمع غير موجود في سوريا. كما أنه غير موجود في العراق، ولا هو موجود في بلدان شتى من العالم العربي. وكل كلام عنه هو مجرد مزاعم تكاد لا ترقى حتى إلى “واقع افتراضي”.
لقد سعى النظام الملكي في العراق إلى بناء مجتمع. إلا أنه فشل فشلا ذريعا. وظلت العشائرية والطائفية قوة غالبة في بناء “الصورة” الذاتية لكل شرخ من شروخ التكوينات الاجتماعية.
وقفزت الحكومات التالية، ذات الدوافع الأيديولوجية المختلفة عن هذه المشكلة، بأن حاولت توحيد العراقيين، ليس مع بعضهم البعض، بل مع كيان افتراضي آخر، أعلى. القوميون ذهبوا بهم إلى “الأمة العربية”، والشيوعيون ذهبوا بهم إلى “الأممية البروليتارية”. لقد أرادوا أن يرتقوا الخرق بخيوط من نسيج آخر.
هناك اليوم من يتحدث عن “مجتمع مدني” أيضا، ويُنشئ منظمات تحت هذه اليافطة. ليس من أجل أن يبدو طريفا أو “حداثيا”، بل لأنه يعتقد تماما بوجود “مجتمع”، و”مدني”.
ولكن هذا “المجتمع” المزعوم لم يفعل فعله على الإطلاق في بناء رؤية اجتماعية أو مدنية للسلوك السياسي ولا لطبيعة السلطة. ولم يشكل حائلا دون كل أوجه الانحطاط الذي تغرق فيه البلاد. وبدا وكأنه مجرد مشروع هزلي على مسرح لا يعرف فيه أحدٌ حتى نفسه.
الذين يتغنون بالمطالب الديمقراطية لم يلاحظوا هذا الشرخ الخطير. ولهذا السبب، فإنهم لا يستطيعون أن يفسروا كيف أن فسحة الحرية التي أتيحت لمعارضي الاستبداد في سوريا تحولت إلى فسحة لبناء ميليشيات وعصابات.
الأمر نفسه حدث في العراق. إذ سرعان ما غلبت المليشيات على النظام “الجديد” ولكن ليس بسبب دعم إيران لها فقط، وإنما لأن “مجتمع” الشروخ العراقي سمح لها بذلك أيضا. ولو كان هناك مجتمع جدير بهذه التسمية لما غطس في مستنقع الطائفية ولا ركب طشت إيران فيه.
وجود “وعي اجتماعي” يعني وجود قائمة ممنوعات ومقبولات اجتماعية. هذا هو أبسط وجوه الهوية. إنها ما يعرفه المجتمع عن نفسه. إنها صورته التي لا يستطيع لها تبديلا إلّا عبر مسار تاريخي طويل يعيد تشكيل تلك الصورة بإضافات أو تحسينات تلائم تغيّرا ماديا ما.
أستطيع الزعم أن أي فسحة للتحرر من الاستبداد في بيئات مأزومة كهذه، لن توفر نموذجا للحرية ولا لبناء تجربة ديمقراطية، ولكنها سوف تفتح الطريق إلى المستنقع، حيث تتفسخ الشروخ الاجتماعية وتتحول إلى ميليشيات. وسواء أكانت مسلحة أم غير مسلحة، فإنها في النهاية ميليشيات، تقود الجميع إلى الجحيم.
انظر إلى فسحة التعبير عن النفس التي أتيحت في الجزائر في أوائل التسعينات من القرن الماضي. فماذا سترى؟ لقد تحولت إلى حرب أهلية. لماذا؟ لأن الطبيعة الميليشيوية للسلطة والمعارضة لم تملك أن تذهب إلّا في هذا الطريق. وحتى عندما غلب أحد هذين الطرفين، فإن الطبيعة الميليشيوية ظلت قائمة في العلاقات بين الأحزاب التي ورثت المنعطف.
ولهذا السبب نفسه، تتحول “الجبهات الوطنية” إلى مهازل. لأنها دائما ما كانت تعبيرا عن احتياجات طارئة، ولم يكن بوسعها أن تكون جبهات رؤية مشتركة راسخة. ذلك لأن كل طرف من أطرافها يتصرف وهو فيها، وكأنه شرخ قائم بذاته. هكذا، يستطيع الرئيس السوري أن يهنأ بطغيانه ما شاء له الهوى، ليس لأن روسيا أو إيران تدعمانه، بل لأنه الشرخ الأقوى وسط شروخ متنازعة مع بعضها، لا تعرف من هي، ولا ماذا تريد.
متى ما يتعرف السوريون على بعضهم البعض كسوريين (أو كأبناء مجتمع واحد)، ومتى ما كانت لهم قائمة ممنوعات ومقبولات مشتركة، فإن مستنقع الطغيان سوف يجف من تلقاء نفسه.
على هذا الأساس أقول: أخي “الديمقراطي” قبل أن تدفعنا إلى الجحيم، أرجوك أن تنظر في حال “المجتمع”، فإذا وجدته زريبة هويات متنازعة، فتريث، ريثما تعثر له على حجر أساس يصلح للبناء فوقه.
وهذا يعني أنك، في الحقيقة، أمام مهمة أخرى أهم: أن يكون المجتمع مجتمعا لا زريبة تصلح لكل أنواع الكائنات. عندما تكون في مستنقع، يحسن أن تجففه أولا، قبل أن تبني فيه عمارة أحلام وأوهام.
ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
4 عرفات والخميني.. كيف انقلب دعم فتح للثورة الإيرانية ضدها
العرب بيطانيا
واشنطن – عند الحديث عن علاقة إيران بالقضية الفلسطينية، يطرح مباشرة ملف تبعية حركة حماس لإيران. لكن، لعلاقة اليوم جانب آخر منسي تأثيراته مازالت ماثلة بعد أربعين عاما من قيام الجمهورية الإسلامية في إيران التي كان لمنظمة التحرير الفلسطينية دور في تطور نظامها ودعم مؤسسها آية الله الخميني، وفي تشكيل الحرس الثوري الإيراني، كما في ترسيخ الدور الإيراني في لبنان منذ الحرب الأهلية.
يكشف عن البعض من هذه التفاصيل، التي ضاعت بين سطور الأجندة الإيرانية في المنطقة وما تتسبّب فيه من صراعات ومشاكل وفوضى، الباحث اللبناني طوني بدران في تحليل نشرته مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، ضمن سلسلة لتغطية الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، وما أحيط بهذا الحدث المفصلي.
يركز التحليل على علاقة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالخميني، ويروي معلومات حول دعم حركة فتح للثورة الإيرانية، ودورها في تسليح الشيعة، وكيف أن حركة أمل وبعض قيادات حزب الله والحرس الثوري الإيراني هم “من خريجي” معسكرات التدريب التابعة لحركة فتح.
عندما وصل ياسر عرفات إلى طهران في 17 فبراير 1979، كأول “زعيم أجنبي” دُعي لزيارة إيران بعد أيام قليلة من انتصار الثورة الإسلامية. وصف عرفات هذه الزيارة بأنها بمثابة زيارة “بيته”. كان عرفات يضمر شيئا من وراء كلماته المنمّقة. فبعد أن أمضى عقدا في تطوير وتعزيز العلاقات مع جميع القوى الكبرى في ذلك الوقت، من الماركسيين إلى الإسلاميين، الذين أطاحوا بالشاه، أصبح لديه سبب وجيه للشعور بأن له دورا في انتصار الثورة.
خلال الأيام العصيبة التي شهدتها إيران بين سنة 1967 و1979، كان الفلسطينيون حاضرين. وكانوا جزءا من الثورة وساهموا في تشكيل نظام الخميني. بالنسبة لياسر عرفات، مثّل النظام الثوري في إيران فرصة لحصول الفلسطينيين على حليف قوي جديد.
بالإضافة إلى ذلك، رأى عرفات فرصة للعب دور الوسيط بين إيران والعرب، وتشجيعهما على تجنّب الصراع مع بعضهما البعض، والعمل لصالح دعم كفاح الفلسطينيين ضد إسرائيل. ومع ذلك، سرعان ما أصبح من الواضح أن طموح عرفات غير قابل للتحقيق، وأنه سيصبح في الواقع خطرا على القضية الفلسطينية.
بدأت العلاقة بين الفصائل الثورية الإيرانية والفلسطينيين في أواخر الستينات بالتوازي مع صعود عرفات في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. في سنة 1963، وبعد حملة القمع التي شنتها الحكومة الإيرانية ضد المعارضة، قررت هذه الأخيرة اعتماد أساليب حرب العصابات ضد الشاه.
ومع نهاية العقد، تواصلت فصائل المعارضة الإيرانية مع ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في دول إقليمية بما فيها قطر وحتى العراق حيث كان آية الله الخميني يعيش منذ 1965. سرعان ما وجدت التنظيمات الماركسية الإيرانية طريقها إلى معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن وجنوب اليمن. بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، جعلت سلسلة من عمليات منظمة التحرير الفلسطينية من عرفات نجما إعلاميا.
كانت ليبيا مصدرا مهما لتمويل الخميني ولحركة مجاهدي خلق. ثم أصبحت حليفا فاعلا مع اندلاع الحرب بين الجمهورية الإسلامية المولودة حديثا وصدام حسين، والذي قدم نفسه على أنه سيف العرب ضد الفرس، وسعى إلى سحق جارته الثورية
وعانت منظمة التحرير من هزيمة عسكرية وسياسية كبيرة في 1970، عندما تصادمت مع الجيش الأردني في الأردن. ثم طردت المنظمات العسكرية الفلسطينية، في ما أصبح يعرف باسم “أيلول الأسود”.
كان لبنان البلد الوحيد الذي قدم للفلسطينيين المهزومين القدرة على العمل بحرية تحت غطاء عربي، وتم ذلك من خلال اتفاق القاهرة سنة 1969. ولأن موقف منظمة التحرير الفلسطينية في هذا البلد الصغير لم يكن له مثيل في أي مكان آخر في العالم العربي خلال السبعينات، فقد أصبح لبنان الموقع الذي وقع فيه الجزء الأكبر من لقاءات الثوريين الإيرانيين مع الفلسطينيين.
حتى قبل انهيار نظام لبنان، واندلاع الحرب الأهلية، والتي تمت تغذيتها في جزء منها بالأسلحة والطموحات الفلسطينية، أصبحت البلاد ساحة تدريب للثوار من جميع أنحاء العالم، ومغناطيسا للكوادر من الفصائل الثورية الإيرانية، من الماركسيين إلى الثيوقراطيين وغيرهم.
عملت الجماعات اليسارية الفلسطينية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع الفصائل الإيرانية اليسارية، مثل الفدائيين الماركسيين، من أمثال منظمة فدائيي خلق الإيرانية المسلحة، وأيضا تعاملت مع جماعات شيوعية صغيرة أخرى.
في المقابل، عملت حركة فتح مع الجميع. كان خليل الوزير، المعروف أيضا باسمه الحركي أبوجهاد، منسق هذه الأنشطة، وكان اليد اليمنى لياسر عرفات والقائد العسكري الرئيسي لحركة فتح.
لبنان همزة الوصل
Thumbnail
لم يكن عدد المقاتلين الذين تدرّبوا في لبنان مع الفلسطينيين كبيرا. لكن الكوادر الإيرانية في لبنان تعلّمت مهارات مفيدة واشترت أسلحة ومعدات وهرّبتها إلى إيران. وأشار تقييم استخباراتي أميركي سنة 1977 إلى “كمية الأسلحة المتطورة المتاحة للإرهابيين”، والتي تضمنت “بنادق هجومية، وصواريخ خفيفة خارقة للدروع (أر.بي.جي)، وربما قذائف هاون، الأمر الذي يتيح لهم مرونة كبيرة في تكتيكاتهم”.
لكن تكتيكات حرب العصابات التي نفذتها الجماعات اليسارية الإيرانية لم يكن لها نجاح يذكر في النضال الثوري داخل إيران. لكن هذه التكتيكات ستلعب دورا في الفترة الانتقالية في أعقاب انهيار نظام الشاه رضا بهلوي.
كانت فصائل المعارضة الإيرانية الرئيسية الثلاثة العاملة في لبنان هي: حركة حرية إيران، التي غالبا ما توصف بأنها حداثية إسلامية؛ وحركة مجاهدي خلق الإيرانية؛ والإسلاميون المنقادون لآية الله الخميني. لكن عمل منظمة التحرير الفلسطينية مع جميعها لا يعني أن ياسر عرفات صنفها على نفس المستوى. لم تطور منظمة التحرير الفلسطينية أي علاقة جديّة مع حركة حرية إيران، حليفة الزعيم الديني الشيعي الإيراني-اللبناني موسى الصدر.
أقامت منظمة التحرير الفلسطينية علاقات عمل وثيقة مع الخميني. وكانت أهم ثلاث شخصيات نشطة في لبنان في تعاملها مع منظمة التحرير الفلسطينية هي محمد صالح الحسيني، الذي كان ناشطا في العراق حيث اتصل مع فتح قبل مجيئه إلى لبنان في 1970، وجلال الدين فارسي، وهو ناشط إسلامي ترشح للرئاسة في 1980 ضمن التيار التقليدي (قبل أن يستبعد بسبب أصله الأفغاني)، ومحمد منتظري، ابن رجل الدين البارز آية الله حسين علي منتظري، الذي كان له دور قيادي في تطوير فكرة إنشاء الحرس الثوري الإسلامي.
وقدم العضو في حركة التحرير الفلسطينية أنيس نقاش، الذي قام بالتنسيق مع هؤلاء الثوريين الإيرانيين الثلاثة، سردا لهذه العلاقة. وتحدث عن خوف حلفائه الخمينيين من انقلاب بعد فوزهم، كقوة دافعة لتأسيس فيلق الحرس الثوري. وقد تبنى الفكرة. وادّعى نقاش أن جلال الدين فارسي اتصل به، وطلب منه صياغة الخطة لتشكيل الدعامة الأساسية للنظام الخميني.
طوني بدران: من خلال إقامة علاقات مع الخمينيين، ساعد عرفات على تحقيق عكس حلمه. حوّلت إيران الفصائل الفلسطينية إلى وكلاء لها وحصرت منظمة التحرير في الهامش الإقليميطوني بدران: من خلال إقامة علاقات مع الخمينيين، ساعد عرفات على تحقيق عكس حلمه. حوّلت إيران الفصائل الفلسطينية إلى وكلاء لها وحصرت منظمة التحرير في الهامش الإقليمي
قد يكون تشكيل الحرس الثوري الإيراني أكبر مساهمة منفردة قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية إلى الثورة الإيرانية. بعد الثورة، طلب منتظري من عرفات إرسال مقاتلي فتح إلى إيران لتدريب المجندين الجدد في الحرس الثوري، لكن ذلك لم يحدث بسبب معارضة أفراد من الحكومة المؤقتة.
بدت التقارير التي تشير إلى وجود فلسطيني كبير في إيران مبالغا فيها. في الوقت الذي قد يتخيل فيه الفلسطينيون، وأعداؤهم، نفوذا كبيرا لمنظمة التحرير الفلسطينية داخل إيران، لا يوجد دليل على حقيقة ذلك.
كان لبنان ساحة القتال الرئيسية التي التقى فيها الفلسطينيون والإيرانيون. كان النّشطاء الخمينيون في لبنان معادين لحركة حرية إيران وحليفهم موسى الصدر، الذي تحولت علاقته مع الفلسطينيين إلى عداوة. أدى العداء المتبادل بين الخمينيين والفلسطينيين مع الصدر في سنة 1978 إلى “مقتل” رجل الدين الشيعي اللبناني في ليبيا، وهي الدولة التي أقام الخمينيون علاقات مع زعيمها في ذلك الوقت معمر القذافي، بمساعدة من الأطراف الفلسطينية.
وأوضح مساعد عرفات علي حسن سلامة لضابط وكالة المخابرات المركزية روبرت أيمس، أنه كان من المفترض أن يلتقي الصدر مع آية الله محمد بهشتي، أحد كبار مساعدي الخميني، لتسوية الخلافات تحت رعاية القذافي في طرابلس. وصل الصدر، لكن بهشتي لم يأتِ. ووفقا لسلامة، طلب بهشتي من القذافي أن يحتجز الصدر، الذي وصفه بأنه عميل غربي و”تهديد للخميني”.
في لبنان، وجهت دوائر الصدر أصابع الاتهام إلى حلفاء عرفات، جلال الدين فارسي ومحمد صالح الحسيني. وفقا لهذه الدوائر، قال حسيني لمسؤول من حركة أمل “صديقك لن يعود”.
بالإضافة إلى دورها في تصفية الصدر، كانت ليبيا مصدرا مهما لتمويل الخميني ولحركة مجاهدي خلق في نفس الوقت. ثم أصبحت حليفا فاعلا مع اندلاع الحرب بين الجمهورية الإسلامية المولودة حديثا وصدّام حسين، والذي قدم نفسه على أنه سيف العرب ضد الفرس، وسعى إلى سحق جارته الثورية.
أدّت جملة التحالفات والتّنافسات القاتلة التي تشابكت في لبنان إلى نشوء صراع على السلطة في فترة انتقالية دامت سنتين بعد انتصار الثورة، حيث تحرك الخمينيون لتعزيز قبضتهم على السلطة.
فهم ياسر عرفات أن للخمينيين قدرة على التعبئة الشعبية بين القوى الثورية داخل إيران. لكنه كان يتطلع إلى إبقاء قنوات متعددة مفتوحة، أثناء محاولته الاستفادة من العلاقات المتناقضة. بعد الثورة نفسها، حافظ على صلاته مع حركة مجاهدي خلق، التي كانت تخوض معركة عنيفة مع فصائل الخميني بين 1979 و1981. وتجمّع ذلك في الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي أطلق على نفسه اسم حزب الله.
وأوضح هاني فحص، وهو رجل دين شيعي لبناني عمل مع حركة فتح كحلقة وصل بينها وبين الإيرانيين، أن ياسر عرفات واصل علاقته مع مجاهدي خلق كوسيلة لـ“وخز” النظام الإيراني الجديد إذا أراد شيئا ما أو إذا كان مستاء منهم. كان هزّ الدول العربية أسلوبا راسخا عند ياسر عرفات، واعتقد أنه يمكن أن يتكرّر مع إيران.
قمع النظام الإيراني الجديد التمرّد الكردي في سنة 1980، ولاحظ وزير الدفاع آنذاك، مصطفى تشمران، الذي قضى بعض الوقت في لبنان وكان حليفا مقربا من موسى الصدر، أن نفس أساليب حرب العصابات التي استخدمها الفلسطينيون وحلفاؤهم ضد ميليشيا أمل في لبنان كانت حاضرة في مواجهة الأكراد.
ومع ذلك، فإن تواصل العلاقات بين ياسر عرفات ومجاهدي خلق في الوقت الذي يخوضون فيه معركة دامية مع الحزب الجمهوري الإسلامي، ومحاولاته التدخل في الشؤون الإيرانية الداخلية، لم يعجب الخميني الذي لم يكن راضيا على تصرفات الزعيم الفلسطيني ورأى فيها نوعا من التهديد. وسرعان ما تمّ صد محاولات منظمة التحرير الفلسطينية للتدخل في المجال السياسي الإيراني، بطرق واضحة.
ممنوع التدخل
Thumbnail
يروي هاني فحص طرفة حول المرّة التي قدم فيها رأيه، خلال محادثة بين محمد صالح الحسيني وجلال الدين فارسي عن الشؤون الخارجية الإيرانية، مشيرا إلى أن الحسيني رد عليه بأن المسائل الإيرانية لا تعنيه.
لم تكن حادثة فحص استثناء. امتد هذا الموقف لعرفات وآخرين. وأشارت مذكرة وكالة الاستخبارات المركزية، سنة 1980، إلى عمليات مراقبة مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في إيران. لم يسمح النظام الجديد لعرفات وجماعته بأن يتدخلوا في الشؤون الإيرانية.
لم تكن محاولة عرفات لممارسة السياسة داخل إيران الوحيدة التي أفسدت علاقته مع الخميني. منذ البداية، حاول عرفات الاستفادة من علاقاته مع النظام الجديد بمحاولة التوسط في أزمة رهائن السفارة الأميركية في إيران التي دامت 444 يوما.
أغضب تدخل عرفات الخميني، وزاد من شكوكه في الزعيم الفلسطيني. وعندما أرسل عرفات أحد كبار مساعديه، أبوالوليد (سعد صايل)، إلى طهران للتوسّط بناء على طلب الأميركيين، رفض الخميني استقباله.
عمّقت الحرب العراقية-الإيرانية مأزق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. لم يستطع عرفات الوقوف مع إيران وإدانة العراق. فقد كان من شأن ذلك أن يفقده دعم العرب، وخاصة دول الخليج الغنية التي دعمت صدّام حسين.
مرة أخرى، حاول عرفات التوسط. لم يكلف الخميني، المشغول بخوض حرب قتل فيها نصف مليون جندي معظمهم من الإيرانيين، نفسه عناء التعامل معه. إذا كان عرفات يعتقد أنه يستطيع ركوب حصانين في آن واحد، وتحقيق التوازن بين إيران والعرب، فسرعان ما تم تخليصه من هذه الفكرة.
عملت الجماعات اليسارية الفلسطينية مع الفصائل الإيرانية اليسارية، ومع جماعات شيوعية صغيرة أخرى. في المقابل، عملت حركة فتح مع الجميع. كان خليل الوزير، المعروف أيضا باسمه الحركي أبوجهاد، منسق هذه الأنشطة
في نهاية 1981، كان عرفات قد فقد مكانته في طهران. وزاد اغتيال اثنين من أقرب حلفائه الإيرانيين هما محمد منتظري ومحمد صالح الحسيني، تلك السنة من سوء وضعه.
داخل لبنان، كان حزب الله بدأ في دمج نفسه، واستخدم بعض الأطراف، مثل الحسيني علاقاتهم مع حركة فتح لتجنيد كوادر جديدة من الشباب الشيعي اللبناني (من بينهم عماد مغنية). تلقى المجندون تدريبا عسكريا في معسكرات فتح، لكنهم أصبحوا جزءا من تشكيل خمينيّ منفصل، سمّي على اسم سلفه الإيراني.
في سنة 1982، طرد الجيش الإسرائيلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وتحولت قيادتها إلى تونس. وبحلول ذلك الوقت، أقام الإيرانيون بنية بديلة داخل لبنان، وهي المعروفة اليوم باسم حزب الله.
بعد انطلاق الانتفاضة الثانية، تواصل ياسر عرفات مع إيران بحثا عن الأسلحة. قام بشراء ناقلة “كارين أي”، في لبنان، وقام الإيرانيون بتحميلها بـ50 طنا من الأسلحة، ولعب عماد مغنية دورا أساسيا في العملية. ثم اعترض جيش الدفاع الإسرائيلي السفينة في يناير 2002.
إنّ فكرة عرفات بموازنة الإيرانيين والعرب في معسكر كبير معاد للإسرائيليين في الدول الإقليمية لم تلقَ نجاحا على أرض الواقع. ومع ذلك، فإن رغبته في رؤية إيران تدعم الكفاح المسلح الفلسطيني أصبحت حقيقة، حيث أصبحت طهران فعليا الراعي الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للخيار العسكري الفلسطيني من خلال دعمها المباشر لحركة الجهاد الإسلامي وعلاقاتها الاستراتيجية مع حركة حماس.
من خلال إقامة علاقات مع الخمينيين، فقد ساعد عرفات على تحقيق عكس حلمه. حوّلت إيران الفصائل الفلسطينية إلى وكلاء لها، وحصرت منظمة التحرير الفلسطينية في الهامش الإقليمي.
ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
5 علي الشوك السومري
خالد القشطيني
الشرق الاوسط السعودية
فقد العراق والعراقيون في 11 يناير (كانون الثاني) 2019، عالماً ومفكراً فريداً من نوعه في شخص علي الشوك، أحد نجوم الخمسينات الذهبية التي جادت بمعظم النوابغ الذين أصبح العراقيون يمتصون ويتغذون بما خلفوه لهم من تراث في سائر الميادين. وكان هذا الرجل واحداً منهم، ولكنه كان امتداداً أخطبوطياً في معظم ميادين الفكر؛ الموسيقى والأوبرا والتاريخ والفلسفة والرياضيات والاجتماع واللغات القديمة… إلخ. وقد شعر بهذه «الإنسكلوبيديا» التي ملأت حياته، فاضطر إلى سرد ذلك في كتابه الإنسكلوبيدي «الحياة والكتابة». ومع ذلك فهو ينفي أن تكون الكتابة شغله الشاغل. القراءة كما يقول هي شغله الشاغل.
التقيت به أول مرة في «ديوان الكوفة» بلندن قبل عدة سنوات. كان موضوع المحاضرة يتناول الكتابة السومرية والحروف المسمارية. قلت لنفسي: هذا رجل ضائع ويريد أن يضيعنا. انقطعت عنه. ولكنني بعد سنوات اكتشفت سر اهتمامه بهذا الموضوع. لم يكن هو الضائع. الشعب العراقي هو الضائع. كم أضعنا من حياتنا في الانشغال بالمتنبي وهارون الرشيد والبحتري وأبي نواس وكل ذلك التراث. ومن حينها انتبهت لما انتبه إليه علي الشوك. حضارة العراق الحقيقية والجديرة بالدرس هي سومر. علي الشوك، كرائد من رواد الحركة اليسارية في العراق وخمسيناتها الذهبية، انتبه إلى هذه الحقيقة التي أشار إليها الباحث الأميركي د. صامويل كرامر في كتابه الشامل «التاريخ يبدأ في سومر…. تسعة وثلاثون أوائل من التاريخ المدون». من هذه الأوائل المدونة أن سومر أجرت أول تجربة في الاشتراكية الديمقراطية، كما كتب باحث آخر.
«آه!» قلت لنفسي، هذا بيت القصيد لعلي الشوك وسر اهتمامه بسومر. العراق هو الأرض التي قام أهلها بأول تجربة في الاشتراكية الديمقراطية. حسناً يا خالد القشطيني. لقد آن لك أن تجدد معرفتك بعلي الشوك. ركبت السيارة مع عبد الإله توفيق ورحلنا إلى إيلنغ غرب لندن، للقاء علي الشوك. فقضينا ساعات نبحث فيها موضوع سومر وأولوياته.
ولكن هذه التعددية والتنوعية وتشوش الفكر فوتت عليه فرصة التركيز على تراث سومر وبابل. إنه داء العراقيين وجل العرب. سرعان ما انصرف لميدان آخر، ثم آخر، إلى الموسيقى واللغة في كتابه «كيمياء الكلمات وأسرار الموسيقى». وهز صفوف المثقفين العرب بكتابه «الأطروحة الفنطازية». لقد حمل نفسه أكثر مما تستطيع فأخذت الشيخوخة تدب في كيانه وتتجاهل نداءه: «أيتها الأفكار… لا تخذليني. ويا صفاء الذهن هلم إليَّ ولو بجزء من طاقتك» غير أن المرض والتعب تملكاه أخيراً، وختم على ذلك الدماغ النادر. خسرناه، وأهم من كل شيء خسرته سومر وبابل. ويا ما ضيع العراقيون على درب مكة.