1 دلالات الانسحاب الأميركي من شرق سورية
د. زياد حافظ
راي اليوم بريطانيا
أثار قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سورية بعد إعلانه “انتصار” الولايات المتحدة على الدولة الإسلامية في بلاد العراق والشام سلسلة من التعليقات تراوحت بين النقد اللاذع والتشكيك المدروس والترحيب الصريح. فالنخب الأميركية منقسمة في كافة الملفّات المطروحة بما فيها العدوان الكوني على سورية التي قادته الولايات المتحدة بمؤازرة بلاد الحرمين وقطر ودولة الإمارات العربية، وطبعا بترحيب الكيان الصهيوني. وفي سياق الانقسام بين النخب الأميركية هناك ثلاثة محاور تغطّي تلك الانقسامات.
المحور الأول يقوده المحافظون الجدد، والمتدخلّون الليبراليون الذين شنّوا العدوان على سورية منذ الولاية الأولى للرئيس السابق باراك أوباما بقيادة وزيرة الخارجين آنذاك هيلاري كلنتون، والاعلام المهيمن الذي يسيطر عليه بشكل عام ومطبق اللوبي الصهيوني. هذا المحور يندّد بشدّة الانسحاب “غير المدروس″ و”المتهور” الذي سيخلف فراغا في شرق سورية يستفيد منه الرئيس السوري بشّار الأسد!!! وكل من الجمهورية الإسلامية في إيران وروسيا! وبطبيعة الحال هناك اعتراض على القرار الرئاسي من اللوبي الصهيوني ورموزه داخل الكونغرس الأميركي. فينتقد الشيخ المتشدّد عن ولاية فلوريدا مارك روبيو (المرشح للحزب الجمهوري الذي هزمه دونالد ترامب) وليندسي غراهام شريك الشيخ الراحل جون ماكين قرار الرئيس الأميركي. غير أن رأيهما لا يمثّل بالضرورة رأي الحزب الجمهوري وبالتالي قد يشكّل فقط عنصر إزعاج لترامب دون إمكانية في الظرف الراهن للضغط عليه لتغيير قراره بالانسحاب.
المحور الثاني يشكّك بجدّية القرار وأهميته ويقوده مجموعة من المعلّقين كباتريك لورنس مراسل في صحيفة “الإنترناشيونال هيرالد تريبون” والكاتب في الشؤون السياسة الخارجية الأميركية. يعتبر لورنس أن القرار عير جدّي خاصة أن العدد المرتقب للقوّات الأميركية للانسحاب من سورية ليس 2000 بل هناك تواجد يتراوح بين 4000 و7000 جندي و”مقاول” أي مرتزقة من الشركات الأمنية الأميركية. أضافة إلى ذلك، يشير لورنس إلى التحصينات التي أقامتها القوّات الأميركية في مدينة الرقّة تحت السيطرة الاسمية لقوّات سورية الديمقراطية (قسد) والتي تدلّ على رغبة التخندق في سورية لفترة طويلة كما صرّح وما زال المسؤول الأميركي عن الملفّ السوري جيمس جيفري (الذي فوجئ بالمناسبة بقرار الرئيس الأمريكي). فقد استبعد المسؤول الأميركي أي انسحاب طالما لم تنسحب الجمهورية الإسلامية في إيران وطالما الرئيس الأسد لم يرحل! فهناك تناقض واضح بين قرار الرئيس الأميركي وبعض المسؤولين.
هناك طيف آخر من المشكّكين الذين يعتبرون القرار الرئاسي مزاجيا وقد يغيّر رايه بعد موجة الاحتجاجات التي بدأت على ذلك القرار من قبل قوى وازنة في الكونغرس الأميركي والاعلام المهيمن والحلفاء كالكيان الصهيوني. إضافة إلى كل ذلك فهناك التباس في مدى الفترة التي ستنسحب القوّات الأميركية. فالمدّة تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر والله أعلم!
المحور الثالث يدعم قرار ترامب بدون تحفّظ ويرحّب به. ويضمّ ذلك المحور مجموعة من الضباط والديبلوماسيين السابقين كروبرت فورد السفير الأميركي في سورية وعدد من الشيوخ والمحلّلين الجمهوريين كباتريك بيوكانان وعدد من ضباّط الاستخبارات كراي مكغوفرن وفيليب جيرالدي على سيبل المثال، ومواقع الإلكترونية معادية للحرب كموقع “انتي وار. كوم” و”قمر الاباما”. كما أن خبراء مرموقين كستيفن والط الذي شاركه جون ميرشهايمر في كتابة الكتاب عن دور اللوبي الصهيوني في أميركا يعتبر في مقال نشره على موقع مجلّة “فورين بوليسي” المحافظة والمملوكة من روبرت مردوك أن لا جدوى في البقاء في سورية. لذلك لا يمكن القول إن هناك اجماعا على التنديد بقرار ترامب وخلافا لما يشاع فإن وزير الدفاع الأميركي الذي استقال بعد قرار ترامب لا يمثّل كل البنتاغون.
في رأينا نعتقد أن القرار الرئاسي جدّي ولم يكن مفاجئا كما يعتقد الكثيرون. فهو أوضح ذلك خلال حملته الانتخابية ولم يتراجع عن رأيه خلال السنتين الماضيتين من ولايته. كما أن ذلك القرار ليس جديدا ويعكس رغبة المؤسسة الحاكمة بالخروج من المستنقع في المشرق ووسط آسيا والتركيز على شرق آسيا وذلك منذ أكثر من عشر سنوات. نتذكّر هنا لجنة باكير هاملتون عام 2006 والتي شكّلت توافقا جمهوريا وديمقراطيا مدعومة من فعّاليات سياسية وفكرية أميركية بضرورة التوقّف عن التورّط المباشر في المنطقة بعد كارثة الاحتلال الأميركي للعراق من منظور أميركي. كما نذكّر أيضا قرار الرئيس السابق أوباما الشهير بالتوجّه نحو آسيا بعد الانسحاب من العراق والمحاولة للانسحاب من أفغانستان. وتفيد المعلومات الأخيرة أن الرئيس ترامب يبحث جدّيا بتخفيض عدد القوّات في أفغانستان، إن لم يكن الانسحاب مع بقاء بعض القواعد العسكرية، وذلك بعد تصريح قائد القوّات الأميركية في أفغانستان بأنهم ليسوا في موقع الانتصار. ويشكّل ذلك التصريح تحوّلا نحو الواقعية بأن الانتصار في أفغانستان وهم. من هنا نفهم مغزى التفاوض مع حركة الطالبان في كل من دولة الإمارات وسلطنة عمان.
“تمرّد” الرئيس الأميركي على مستشاريه في وزارة الدفاع والخارجية مايك بومبيو والأمن القومي جون بولتون دليل على أنه يملك أوراقا سياسية داخلية، أي داخل المؤسسة الحاكمة، تسمح له بذلك “التمرّد”. لقد لفت نظرنا تسمية الرئيس الأميركي لرئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي قائد القوّات البريّة منذ بضعة أيام وذلك قبل نهاية ولاية رئيس هيئة الأركان الحالي جوزيف دانفورد، أي قبل الخريف عام 2019، الذي أبدى اعتراضه على العديد من قرارا ت ترامب العسكرية. وهناك تقدير أن دانفورد سيرحل قبل نهاية ولايته. أما رئيس هيئة الأركان المرتقب مارك ميلي فهو مقرّب من ترامب وقريب من أفكار الرئيس الأميركي. من جهة أخرى يبدو أن داخل القيادة العسكرية في البنتاغون انقسام بين القيادة الوسطى المسؤولة عن شرق الأوسط وقيادة أوروبا المسؤولة عن أوروبا والكيان الصهيوني. فالأخيرة تدعم الانسحاب من سورية حيث الجدوى من البقاء غير واضح على الأقل بينما القيادة الوسطى تعارض ذلك. إضافة إلى ذلك أجرت صحيفة “ميليتري تايمز” استطلاعا منذ فترة أظهرت أن حوالي 55 بالمائة من الضبّاط الذين خدموا في المناطق الساخنة كأفغانستان والعراق على سبيل المثال خلال السبعة عشر سنة الماضية لا يحبّذون مهمة “بناء أمّة” كما يريده المحافظون الجدد أو المتدخّلون الليبراليون. بمعنى آخر إن الانسحاب من سورية يحظى بتأييد أولئك الضبّاط. أضف إلى كل ذلك فإن كلفة التورّط العسكري الأميركي في المنطقة منذ 2001 تجاوز عتبة الست تريليون دولار دون مردود سياسي يذكر وفقا لمات بربل الكاتب في مجلّة “اميريكان كونسرفاتيف” أي “الأميركي المحافظ” وهي من المجلاّت المرموقة المحافظة في الولايات المتحدة الخارجة عن نفوذ اللوبي الصهيوني.
بعض المعلومات المتداولة في بعض المواقع الإلكترونية تفيد أن وراء ترشيح دونالد ترامب للرئاسة عدد من القيادات العسكرية التي لا تشاطر رأي منافسته هيلاري كلنتون ولا تريد وجودها في البيت الابيض. هذا يعني أن ترامب كان يحظى منذ البداية بدعم من بعض القيادات العسكرية الأميركية المتقاعدة أو التي لم تكن في الصفّ الأوّل. هناك توقّع أنه سيتم تبديل القيادات العسكرية التي تقدّمت في عهد الرئيس بوش الابن والرئيس أوباما بقيادات عسكرية تفكّر بشكل مختلف عن القيادات الحالية والتي تتفهّم الوضع القائم لميزان القوّة في العالم ولكن قبل أي شيء ليست مُستوعبة حتى الآن من المجمّع العسكري الصناعي الذي يقوّد التوجّهات العسكرية في الولايات المتحدة. الأشهر القادمة ستظهر إذا ما كانت هذه التوقّعات صحيحة أم مبالغ بها إذا ما استطاع الرئيس الأميركي تجاوز العاصفة التي أثارها قراره بالانسحاب. وفي رأينا الاحتمال جدّي بتجاوزه للعاصفة، فإن الرئيس ترامب قد يكون بدأ هجومه المضاد على الدولة العميقة التي عرقلت العديد من توجّهاته، وذلك بدعم من قاعدة شعبية لم تتأثر بكل الحملات الدعائية وبدعم بعض الجهات داخل المؤسسة الحاكمة. أحد مؤشّرات ذلك الهجوم يكمن في شخصية من سيخلف جون ماتيس في وزارة الدفاع. فمن الواضح أن وزير الدفاع القادم سيكون منسجما مع تطلّعت ترامب وليس مع أجندات أخرى. هذا قد يعني في المدى المتوسّط أن السياسة الخارجية الأميركية ستأخذ منعطفا مختلفا عن السابق وأن الاهتمام الأميركي سيكون تجاه الداخل الأميركي. هذا لا يعني “انعزالية” جديدة بل اعترافا بموازين قوّة لم تعد لصالح الولايات المتحدة وأن على الأخيرة إعادة بناء نفسها لتصبح أميركا مرّة أخرى “عظيمة”.
في ميزان الربح والخسارة يبدو أن الرئيس الأميركي انتصر على “مستشاريه” من المحافظين الجدد، وعلى اللوبي الصهيوني عبر تجاوزه لرئيس مجلس وزراء الكيان. فالكيان الصهيوني ليس له القوّامة على المصالح الأميركية المباشرة كما يعتقد العديد من المحلّلين والمراقبين. إعلام الكيان كان واضحا بإعلان القرار صفعة لبنيامين نتنياهو.
الرابح في المشرق العربي هو أولاّ الدولة السورية وشعبها وقيادتها وحلفائها في محور المقاومة الذين صمدوا في وجه العدوان الكوني، بل عدّلوا في ميزان القوّة الإقليمي والدولي وأجبروا الرئيس الأميركي على التراجع الاستراتيجي. أما الرابح الثاني فهو الرئيس التركي اردوغان الذي هزم سياسيا الطموحات غير الواقعية للأشقاء الأكراد. نأمل أن يأخذ الأشقاء الأكراد العبرة لعدم جدوى الاتكال على الولايات المتحدة، علما أن درس إقليم كردستان في العراق لم يكن بعيدا في الزمن ولكن للأسف لم يعتبروا. والرابح الثالث على الصعيد الدولي فهي روسيا التي أصبحت الدولة التي لا يمكن تجاوزها في الإقليم.
أما الخاسر الأكبر فهو الكيان الصهيوني الذي سيواجه ارتدادات القرار الأميركي في الداخل وفي الوطن العربي. فالمجاهرة بالورقة الخليجية التطبيعية قد لا تلقى تجاوبا رسميا عربيا بعد التراجع الأميركي. حتى الآن، المجاهرة بالتطبيع كانت من الجهة الصهيونية دون صدى رسمي من قبل حكومة الرياض أو أبو ظبي رغم وجود دلائل مادية في الدولتين تغذّي المقولة الصهيونية. فزيارة الرئيس السوداني إلى مطار دمشق والاعلان أن إضعاف سورية هو إضعاف لجبهة المقاومة ليس بالتصريح العابر بغض النظر عن التفسيرات التي أعطيت له. لسنا متأكدين أن مسيرة التطبيع ستستمر بنفس الوتيرة التي شهدناها في الأشهر الماضية. بالمناسبة، تفيد بعض المعلومات أن الهجوم على ولي العهد في بلاد الحرمين في الكونغرس الأميركي والاعلام المهيمن لا يعود لمسؤوليته بجريمة مقتل الصحافي الخاشقجي بل لاستقلاليته في قراراته. والدليل على ذلك هو اتفاق حكومة الرياض مع روسيا على تخفيض الإنتاج النفطي للحفاظ أو لرفع سعر برميل النفط خلافا لما كان يحثّ عليه الرئيس الأميركي. فالاستقلالية في القرارات النفطية من الممنوعات عند مراكز القرار في الولايات المتحدة. وبغض النظر عن دقّة تلك المعلومات فإن النتيجة ستنعكس على محاولات إنهاء الخلافات العربية وخاصة مع سورية. التضامن العربي أصبح ضرورة إقليمية ودولية ملحّة للتوازن مع صعود الدور التركي إذا ما تمّ إضعاف دور بلاد الحرمين. فمحور المقاومة وروسيا لا يحبّذان المساس ببلاد الحرمين إذا ما اتجهت السياسة الأميركية إلى “ذبح البقرة الحلوب”. فالعامل الأميركي في التوازن والتأثير لم يعد فاعلا بنفس الفعّالية كما كان عليه قبل اعلان القرار بالانسحاب.
2 طهران… وماتيس… واستقرار للمنطقة؟ إياد أبو شقرا الشرق الاوسط السعودية
لافتٌ خروج وزير الدفاع الأميركي الجنرال جيمس ماتيس من طاقم الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسبب خلافات جوهرية بين الرجلين في وجهات النظر حول الاستراتيجية الدفاعية لواشنطن، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
ابتعاد ماتيس، الذي يأتي بعد ابتعاد عدد من كبار المولجين بملفات السياسات الخارجية والاستراتيجية خلال النصف الأول من ولاية ترمب الرئاسية، مسألة لا تبعث على الاطمئنان. ذلك أن هذا التخبط الظاهر في تقييم واشنطن للتحديات العالمية، واستفادة كل من روسيا والصين وإيران منه، يتوازى مع الشكوك المستعصية على التلاشي بأن موسكو وبكين وطهران سعت للتأثير في نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي حملت الرئيس ترمب إلى البيت الأبيض قبل سنتين. بل، والأسوأ منها، أنها تأتي وسط اضطراب وتأزم المشهد السياسي داخل حلفاء واشنطن الثلاثة الكبار في أوروبا الغربية، أي بريطانيا وفرنسا وألمانيا!
ولندع التحدّيين الأكبر لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى، وهما تحدّي روسيا وتحدي الصين لواشنطن عالمياً، ولنركز فيما يخصّنا على مسرح الشرق الأوسط الإقليمي. هنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام المخطط الإيراني التوسّعي، الذي لا يبدو أنه -حتى اللحظة على الأقل- يربك حسابات الكرملين وحلفائه في بكين.
إيران، تحت قيادتها الحالية، قوة إقليمية ذات فلسفة وجود ومخطط سياسي وعسكري وثقافي وثأر تاريخي. وهي راهناً في تحالف سياسي واقتصادي كامل مع الصين، وأيضاً تحالف سياسي واقتصادي مع روسيا. ثم إنها منذ عام 2003، عندما أشرعت واشنطن أمامها أرض العراق، تمدّ نفوذها داخل عالم عربي محتقن ومضطرب ومُحبَط. ومن السرّية إلى العلنية… ما عادت أصوات المسؤولين الإيرانيين تتردد أو تخجل عندما تتكلم عن مشروع الهيمنة الإقليمية على الشرق الأوسط.
قبل أيام، في منتدى دولي استضافته عاصمة خليجية، قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، بكل صلف، رداً على سؤال حول اتهام واشنطن لحكومته بـ«التدخل» في شؤون دول المنطقة: «نتدخّل؟! نحن من المنطقة، واشنطن هي التي تتدخّل. أما عن وجود عسكريينا في بعض الدول فهم موجودون بطلب من الحكومات الشرعية هناك!».
الأكاديمي والدبلوماسي، الذي درس في الولايات المتحدة، لم يخنه التعبير ولم يفته معنى السؤال، بل كان يدرك تماماً ما يقوله وما يريد توصيله إلى مستمعيه وإلى العالم. إنها الرسالة نفسها التي ينقلها ويمارسها على الأرض -قصفاً وقتلاً وتهجيراً وإلغاء كيانات- «زملاء» الدكتور ظريف في السلطة الإيرانية من جنرالات الحرس الثوري الإيراني وأتباعهم من حاملي الأسماء العربية في العراق ولبنان وسوريا واليمن وغزة. هؤلاء يعتبرون عرب المنطقة ضيوفاً ثقلاء عليها… وبالتالي، غير مرغوب فيهم، فإما يرتضون لأنفسهم بالتبعية الذليلة وإلا فالتهجير والاقتلاع.
أيضاً، بالأمس، نقلت وكالة أنباء «فارس» التابعة للحرس الثوري، عن الجنرال غلام علي رشيد، قائد ما يسمى «مقر خاتم الأنبياء» التابع بدوره للحرس، «تحذيراً لبعض أنظمة المنطقة من مغبة خلق ذرائع لتدخل القوى الاستكبارية» لأنها إذ ذاك «ستدفع ثمناً باهظاً»! الجنرال رشيد أتحفنا بهذا التحذير من جزيرة قشم، عند مضيق باب المندب، على هامش «مناورات الرسول الأعظم 12» التي أجرتها قوات الحرس الثوري. والأجمل أنه قال قبل التحذير، بدبلوماسية يحسده عليها جواد ظريف: «إن مساعينا تركز على إقامة أواصر أخوية وطيبة مع جميع بلدان الجوار لأننا نعتبر أمنها من أمننا»، قبل أن يكمل: «إلا أنني باعتباري قائداً لمقر خاتم الأنبياء أوجه، من ساحة مناورات القوة البرّية… التحذير لأي بلد يخلق الذرائع لتدخّل القوى الاستكبارية، إذ سيدفع ثمناً باهظاً لتصرفاته غير الصديقة والاستفزازية»!
الأواصر «الأخوية والطيبة»، طبعاً، شاهدها العرب والعالم في كل مكان حلّ فيه الجنرال قاسم سليماني و«فيلقه» المتخصّص في «تحرير» أي مكان إلا المكان الذي يحمل اسمه… «القدس»!
شاهدوها في تهجير ملايين السوريين، وفي صواريخ الحوثيين الباليستية على مكة والرياض، وفي تحويل العراق ولبنان إلى بلدان رهينة منقوصة السيادة ممنوعة من تشكيل حكوماتها من دون إذن ميليشيات سليماني و«حشوده» و«عصائبه» و«مقاوماته»!
هذه المشاعر «الأخوية» ما زال المجتمع الدولي يفضل الصمت المريب حيالها بدلاً من ردعها والتصدي لها. في المسار التفاوضي اليمني، الذي بلغ قبل أيام في استوكهولم محطة مهمة، كانت هناك عدة منعطفات غضّ فيها المجتمع الدولي -وبالذات الدول الغربية- الطرف عن الحقائق، وساوى بين الضحية والقاتل… بين الشرعية والانقلابيين. بل، حتى العقوبات الدولية ضد آلة الحرب والهيمنة الإيرانية انقسم المجتمع الدولي تجاهها، مع أنها لا تشكل سوى أضعف الإيمان لا أكثر.
هنا، وأمام هذه الخلفية مكمن الخطورة في استقالة الجنرال ماتيس.
لقد أقنعت القوى الغربية نفسها بخدعة موسكو، التي روّجها الكرملين لتبرير احتضانه لنظام دمشق منذ 2011، وهي أنْ «لا انتفاضة شعبية» في سوريا، بل جماعات إرهابية تستهدف الاستقرار والنظام في سوريا.
كان لا بد من مبرّر قوي لهذا الخدعة. وبالفعل، توافر مَن سهّل دخول آلاف المتشدّدين لإغراق الانتفاضة وحَرف مسيرتها وصبغها بالتشدّد والإرهاب، ثم مَن اضطلع بمهمة ضرب قوى الاعتدال المستقلة التي كان لها الفضل في انطلاق الانتفاضة. وهكذا، شيئاً فشيئاً، انتقل التركيز العالمي من مناظر المآسي واستهداف المدنيين… إلى «فظائع» داعش وشراذم السائرين في ركابها.
حتى واشنطن اعتبرت أن أي تدخّل بات محصوراً في القضاء على «داعش»، لا حماية الشعب السوري وإطلاق مسيرة التغيير السياسي السلمي.
ولكن، كما انقلبت الأدوار… فاتفق رعاة التشدّد مع المتذّرعين به، انقلبت مقاربة واشنطن على نفسها. فبعدما شجعت جماعات عدة، بينها الميليشيات الكردية، بالمال والسلاح والدعم العسكري من أجل القضاء على «داعش»، انقلبت بالأمس عليها بحجة أن التنظيم قد انتهى!
ماتيس وأمثاله غير مقتنعين بأن «داعش» انتهى. والأهم، أنه وأمثاله يدركون ما يعنيه السكوت عن مطامح طهران الإقليمية لمستقبل الشرق الأوسط!