1 ثقافة القتل والمثقف القاتل
فاروق يوسف العرب بريطانيا
الفرق بين المثقف والقاتل هو نفسه الفرق بين الثقافة والقتل. غالبا ما يعرف المثقف ما الثقافة، في حين يجهل القاتل ما القتل. لو أدركَ القاتل تداعيات فعله البشعة على المستوى الإنساني لما ارتكب جريمته. في المقابل فإن المثقف يحرص على تطوير ارتباطه بالثقافة وتعميقه لأنه يدرك حجم ما يقدمه للإنسانية من خلال ما يفعل.
الثقافة والقتل لا يلتقيان. المثقف والقاتل عدوّان أبديان. غير أن العراق شهد نوعا فريدا من المصالحة بين الاثنين. وهو سبب من أسباب الكآبة التي تنبعث من التفكير في المصير الأعمى الذي ينتظر بلاد ما بين النهرين.
في لقاء المثقفين العراقيين الذين تزعم وفدهم رئيس اتحاد الكتاب في العراق، والذي جرى قبل أيام، بقيس الخزعلي كسر لكل القواعد التي انتهت إليها البشرية باعتبارها خلاصات لتجربتها التي لا تقبل الخطأ. الخزعلي هو زعيم ميليشيا عصائب أهل الحق التي تقاتل الآن في سوريا بإشراف قاسم سليماني بعد أن كانت قد ساهمت في تدمير مدن غرب العراق والموصل وإبادة سكانها وارتكاب جرائم ضد الإنسانية هناك.
وقبل أن يشكل الخزعلي “عصائبه” المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني كان واحدا من أهم أعمدة الحرب الطائفية التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2007 من خلال موقعه في ميليشيا جيش المهدي التي كان لها الحصة الأكبر من القتل على الهوية ومهاجمة الأحياء ذات الأغلبية السنية في بغداد.
هناك تسجيلات على مواقع الإنترنت يمكن من خلالها محاكمته من قبل أيّ محكمة دولية بتهمة الإبادة الجماعية كما كان هو حال الزعماء الصرب في البوسنة. وأخيرا فإن الخزعلي قد جرى تصنيفه دوليا باعتباره إرهابيا.
الخزعلي الآن هو عضو في مجلس النواب العراقي وتطالب حركته بوزارة الثقافة باعتبارها حصتها في الحكم ويذهب إليه الأدباء بوفد يتزعمه رئيس اتحادهم ليباركوا ذلك المطلب ويساندوه، وليستمعوا لخطبة يلقيها القاتل عليهم كان موضوعها “الإسلام المعتدل والثقافة”.
سيندم على تلك الزيارة البعض! سيقولون “إنها لم تكن زيارة موفقة” ويراهنون على النسيان. ولكن هل كانوا مضطرين للقيام بتلك الزيارة التي هي فضيحة بكل المقاييس؟
لقد سبق أن فعلها فاضل ثامر يوم كان رئيسا للاتحاد، حين قاد أتباعه من الأدباء إلى مجلس نوري المالكي طمعا في التفاتة منه وقد عُرف عنه التصرف بأموال العراق كما لو أنها أمواله الشخصية. المالكي لا يختلف عن الخزعلي وإن كان الأول رئيسا للوزراء لثمان سنوات وهو الذي أسس لدولة الفساد بنيانا مرصوصا لن يهتز. كلاهما يملكان تاريخا تضجّ طرقه بأصوات القتلى الأبرياء.
المالكي والخزعلي هما نوع من دراكولا الذي يبدو أن أولئك الأدباء لم يسمعوا به، أم أن المعرفة شيء، والواقع شيء آخر من وجهة نظرهم؟
في كل الأحوال فإن زيارة العار تلك لا يمكن تبريرها سوى بالخنوع وتمكن روح الاستعباد والإذلال والمهانة بل والخيانة من بشر لا يستحق الواحد منهم أن يُقرن اسمه بصفة “كاتب”. فالكتابة عنوان لشرف أضاعه أولئك المتخاذلون حين مدوا أيديهم لمصافحة يد قاتل تنبعث منها رائحة دماء العراقيين.
لقد أهان المثقفون الذين احتفوا بقاتل مطلوب دوليا كل معاني النبل والرقي والشجاعة والتضحية والكرامة والحرية التي ينطوي عليها الثقافة وتشكل جوهرها. أهانوا شعبهم قبل ذلك.جلسوا في حضرة القاتل عراة كما لو أنهم قدموا لتوهم من الكهوف.
ومثلما كانوا غرباء على الثقافة فإنهم طارئون على العراق. لو كانوا عراقيين حقا لما ارتكبوا جريمتهم ولا أقول حماقتهم. فمَن يسعى إلى لقاء قاتل هو قاتل مستتر.
2 «العقوبات» مهمة والأهم إخراج الإيرانيين من العراق وسوريا
صالح القلاب
الشرق الاوسط السعودية
مع عدم التقليل من أهمية وخطورة الخطوة التي أقدمت عليها الولايات المتحدة يوم الاثنين الماضي ضد إيران، فإن هناك من يقول إنه على الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يدرك أنه لن يكسب استسلاماً إيرانياً ما دام الإيرانيون قد اعتادوا التعامل مع مثل هذه الأمور والالتفاف عليها على مدى 40 عاماً، وأنهم لم يتمكنوا من الصمود فقط؛ بل وتمددوا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً في بعض الدول العربية كالعراق وسوريا ولبنان… وأيضاً اليمن.
المعروف أن الولايات المتحدة، وفي عهد جمهوري؛ كهذا العهد، هي التي فتحت أبواب العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 أمام التدفق الإيراني، وأن جورج بوش (الابن) قد ترك الإيرانيين يفعلون في هذا البلد العربي، الذي أصبح تحت الوصاية الأميركية، ما يريدونه. وهنا، فإن ما زاد الأمور سوءاً هو أن الديمقراطيين الذين خلفوا الجمهوريين في حكم واستعمار بلاد الرافدين قد تمادوا كثيراً في فتح أبواب بلد أصبحوا هم حكامه والأوصياء عليه، أمام طهران و«حراس» ثورتها، حيث إن باراك أوباما كان معجباً بالخميني وبصيغة الولي الفقيه، وإنه كان يعدّ أن إيران «التي هي دولة واحدة وقرارها واحد»، يمكن التعامل معها خلافاً للوضع العربي الذي كان قراره موزعاً على أكثر من 20 دولة.
إنه لا شك في أن العقوبات التي فرضتها واشنطن على القطاعين النفطي والمصرفي الإيرانييْن ليست هينة على الإطلاق، لكنها في كل الأحوال لن تصل إلى أن إيران إنْ هي لم تغير سلوكها، كما هدد دونالد ترمب، فستواجه «كارثة اقتصادية». فهذه الدولة، التي أصبحت بعد إسقاط الشاه محمد رضا بهلوي ومجيء هذا الحكم الذي هو امتداد لحكم الخميني صاحب ثورة عام 1979، قد اعتادت التكيف مع كل التحديات الصعبة؛ أولاً على حساب متطلبات الشعب الإيراني الرئيسية والأساسية، وثانياً على حساب الدول المجاورة؛ وفي مقدمتها العراق الذي يقال إنه في فترة حكم نوري المالكي ومجموعته قد حوّل مرغماً أكثر من 70 مليار دولار إلى الخزينة الإيرانية.
والمشكلة هنا؛ أي مشكلة ترمب والولايات المتحدة، أنه حتى الاتحاد الأوروبي بكل دوله قد أعرب عن «حزنه» لاتخاذ واشنطن هذا القرار، لكن الواضح أن الأوروبيين لا يملكون إلا إعرابهم عن هذا الحزن، لأن الشركات الأوروبية لا يمكن أن تفرَّط باستثماراتها في أميركا التي تقدر بمائة مليار دولار من أجل استثمارات في إيران لا تزيد، في أحسن الأحوال، على 3 مليارات، وهذا يعني أن الدول الأوروبية المعنية ستنحاز في النهاية إلى مصالحها الاقتصادية، حيث هناك قناعات بأن الرهان على دولة الولي الفقيه؛ إنْ على المدى القريب وإن على المدى البعيد، رهانٌ خاسر بالتأكيد.
وأغلب الظن أن ما ينطبق على الأوروبيين ينطبق على الصين التي لها مصالح اقتصادية هائلة في الولايات المتحدة ومعها، والتي بدورها ستنحاز إلى هذه المصالح، خصوصاً إذا ثبتت فعالية الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية على القطاعين النفطي والمصرفي الإيرانييْن، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البنوك الصينية قد بادرت، وقبل البدء بتطبيق هذه العقوبات، إلى إيقاف تعاملها مع التجار الإيرانيين ومع البنوك الإيرانية. والواضح في هذا المجال أن المحاولة الإرهابية التي بادرت إليها الاستخبارات الإيرانية في الدنمارك والتي استهدفت أحد قادة المعارضة «الأحوازية» العربية، قد عززت المواقف الأوروبية المساندة للخطوة الأميركية، خصوصاً مواقف الدول الإسكندنافية.
إن المؤكد أن ما ينطبق على الصين ينطبق أيضاً على دول آسيوية وأوروبية وأفريقية وأميركية لاتينية كثيرة، فالدول والشعوب أيضاً مع مصالحها، والواضح أن هذه الدول وهذه الشعوب تعرف أن مصالحها ليست مع إيران التي هناك تقديرات بأنها، إذا نجحت هذه العقوبات وجرى تطبيقها بجدية وبحزم، ستصبح دولة مفلسة ويصبح الرهان عليها رهاناً فاشلاً حتى بالنسبة لمن يعدّون أنهم الأقرب إليها، ومن بين هؤلاء بعض العرب وبعض الدول العربية.
ويبقى أن روسيا الاتحادية، التي يربطها تحالف تبادل مصالح مع إيران إنْ بالنسبة للأزمة السورية وإنْ بالنسبة لكثير من قضايا الشرق الأوسط الملتهبة، قد تتمسك بعلاقاتها الحالية مع طهران، وهي في حقيقة الأمر قد بادرت إلى التأكيد على هذا الموقف حتى قبل بدء تطبيق العقوبات الأميركية الجديدة على الدولة الإيرانية التي، رغم كل «استعراضاتها» و«تبجحاتها» الفارغة، يبدو أنها باتت تشعر بأن معركتها مع الأميركيين وغيرهم لن تكون سهلة؛ لا بل إنها ستكون مكلفة وفي غاية الصعوبة، وإنها ستكون بالنتيجة معركة خاسرة.
إن ما يمكن أن يقال في هذا المجال هو أن الإيرانيين، الذين باتوا يغرقون في هذا المأزق السياسي والاقتصادي الخانق فعلاً، قد بادروا إلى الذهاب بعيداً والقول إنهم أقدر على الصمود أمام الولايات المتحدة من دولتين أصغر كثيراً من الدولة الإيرانية، وأقل إمكاناتٍ مجتمعتيْن من إمكاناتها؛ هما كوبا وكوريا الشمالية. لكن ما لم يأخذه هؤلاء بعين الاعتبار هو أن عالم اليوم غير عالم الأمس، وأن موقع هاتين الدولتين الجغرافي يختلف عن موقع إيران التي هي في منطقة ملتهبة تتقاطع فيها وعندها مصالح دول رئيسية كثيرة، وتتحكم في خطوط النفط المتجه إلى الدول الغربية وإلى الولايات المتحدة من خلال باب المندب، ومن خلال محاذاتها الجغرافية للخليج العربي.
بالطبع، فإن رموز النظام الإيراني، الكبار والصغار، يحاولون، وقد ضاقت عليهم الدائرة الأميركية الضاغطة، إقناع «شعبهم» بأن العالم لا يتَّحدُ في هذه الفترة المصيرية خلف الولايات المتحدة، وأنه وبكثير من دوله سوف ينحاز إلى مصالحه التي هي مع إيران التي بإمكانها استخدام سلاح النفط بكل فعالية وبيعه بأسعار مغرية لهذه الدول واستخدام أسلوب «المقايضة» المعروف في هذا المجال، نظراً لأن عقوبات أميركا ستحول دون استخدام الدولار الأميركي في مثل هذه الصفقات الجانبية.
إن هذا سيجري بالتأكيد، وإن دولاً كثيرة ستبادر إلى التحايل على هذه العقوبات لتحصل على النفط الإيراني بطرق ملتوية وبأسعار مغرية ووفقاً لأسلوب «المقايضة» هذا المستخدم حالياً لمواجهة الدفعة الأولى من العقوبات الأميركية، والمؤكد أن إيران ستحقق نجاحات فعلية في هذا المجال، خصوصاً إن هي بقيت تتكئ على تمددها العسكري والسياسي… والمذهبي أيضاً؛ إنْ في بعض الدول العربية، وإنْ في بعض الدول الإسلامية.
إن إيران قد تتمكن من الصمود ولو لفترة محددة في وجه الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية، رغم أن الأميركيين يعتقدون بأن عقوباتهم هذه، التي لا شك في أنها ستكون قاسية وشديدة، سوف تكون رادعة وكافية لإجبار الإيرانيين على التخلي عن أنشطتهم التدميرية والإرهابية، وذلك مع أنه قد ثبت أن هذه الوسائل والأساليب ربما لن تجدي، وأنها قد لا تكون فعالة ولا مؤثرة مع نظام استبدادي لا تهمه معاناة شعبه ولا يهمه إذا ما أُفني نصف هذا الشعب من أجل تحقيق أهدافه التوسعية التي يتجاوز مداها الشرق الأوسط ويصل إلى كثير من الدول الأفريقية العربية وغير العربية.
يجب ألا تكون هناك مراهنة على أن هذا النظام الظلامي الاستبدادي الذي تتحكم فيه عُقد تاريخية كثيرة سيرضخ لهذه العقوبات وسيستسلم لها استجابة لمتطلبات شعب هو لا يعدّه شعبه؛ وإنما مجرد رعايا عليهم أن يتحملوا حتى الأكثر من مجرد الكارثة الاقتصادية، التي لوح بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، من أجل تحقيق ما يعدّها أهدافاً مقدسة يجب تحقيقها وبأي ثمن وكما كانت عليه الأمور خلال المرحلة الصفوية.
وهكذا؛ وفي النهاية، فإنه لا بد من التأكيد على أن هذه العقوبات في دفعتها الثانية قد يتم استيعابها رغم قسوتها كما تم استيعاب عقوبات الدفعة الأولى، ما دام أنه لن يكون هناك عمل جاد وجدي لإخراج الإيرانيين؛ إنْ عسكرياً وإنْ سياسياً وإنْ «ميليشياتها» المذهبية والطائفية، من العراق ومن سوريا… وأيضاً من لبنان، وبالتالي من اليمن، ومن قطاع غزة الذي تشكل حركة «حماس» فيه ذراعاً متقدمة لهم في فلسطين وفي القضية الفلسطينية… إنه لا شك في أن عقوبات الوجبة الجديدة مهمة جداً، لكن الأهم هو تخليص هذه الدول العربية كلها من النفوذ الإيراني والهيمنة الإيرانية. ولعل ما يجب التوقف عنده هنا هو أن قائد «الحرس الثوري» الإيراني محمد علي جعفري قد قال في تصريح مستفز له إن 3 مناصب أساسية في هذا البلد العربي؛ هي: رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، أصبحت ضمن معسكر إيران.
3 مآلات العقوبات بين التفاوض والتهوّر العسكري عبدالوهاب بدرخان الحياة السعودية
لا تبدو العقوبات الأميركية الأكثر شدة مجرد منازلة أخرى إضافية أو فصلٍ في الصراع الأميركي – الإيراني، بل تكاد تتخذ شكل مبارزة أخيرة وحاسمة بين قوّة عظمى دولية لديها كل المقوّمات العسكرية والاقتصادية والسياسية وقوّة تريد أن تكون «عظمى» إقليمياً وتضع كلّ مقوّماتها في اختبار صعب يواصل إضعاف اقتصادها. بين الطرفين ثارات لا يريدان الخروج منها: أربعة عقود من الأفق المسدود، ثم مفاوضات نووية واتفاق ومجاملات بل مغازلات أوبامية لم تبدُ كافية كي تغادر إيران مربع الغضب والحقد الذي حصرت نفسها فيه منذ ثورتها ولا مؤشّر إلى أنها تريد فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة. في المقابل، أظهر دونالد ترامب اختلافات، جذرية أحياناً، عن الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، لكنه لم يشذّ عن التقليد المعروف بأن أي رئيس جديد لا يستمرّ على سياسة ليّنة اتّبعها سَلَفه، خصوصاً إذا فشلت في بلوغ أهدافها، لذلك فهو يسعى الآن إلى تحقيق ما أراده أوباما لكن بأسلوب مختلف تماماً.
لم يردْ رجل الأعمال النيويوركي الذي صار رئيساً أن تكون قراراته مجرد سياق حدثي في استراتيجيته، لذلك أضفى عليها بُعداً «عقائدياً» بل ثأرياً يتنافى مع تركيبته البراغماتية. دخل خمسة رؤساء قبله البيت الأبيض بعد أزمة رهائن السفارة في طهران (4/11/1979)، أولهم رئيس قوي هو رونالد ريغان الذي شهد النهاية المذلّة لتلك الأزمة في يوم تنصيبه (20/01/1981) ولم يكن فيها ما يشير إلى أن الإمام الخميني أرادها بادرة «حسن نيّة»، فقبل ذلك أدركت إيران أن الردّ الأميركي بدأ بإشعال العراق حربه ضدّها (04/09/1980)، وما لبثت أن حرّكت «حزب الله» اللبناني في هجومَين انتقامَيين، أولاً بتفجير السفارة الاميركية في بيروت (18/04/1983) ثم تفجير معسكر المارينز (23/10/1983). لم ينسَ الرؤساء الأربعة بعد ريغان هذه الوقائع، لكنهم فكّروا أو حاولوا عبثاً فتح قنوات لتطبيع العلاقة مع طهران. لم يكن متوقّعاً أن يستخرج رجل الأعمال وقائع قاسية كهذه بين أميركا وإيران ليضع العقوبات في إطار تاريخي يرضي «عقيدة» جنرالاته ويداعب غلوّ شعبوييه. فالعقوبات أداة لتصفية الحسابات.
لا يبذل ملالي طهران أي جهد متكلّف لتظهير تاريخ مواجهتهم مع أميركا، فالعصب العقائدي عندهم دائم الحضور واليقظة. لم ينسوا حقبة الشاه ويعتبرونها أميركية أولاً وأخيراً، وحتى بعدما استتبّ الأمر لهم لم يسعوا إلى نسيانها ولم يحاولوا، بل جعلوها لازمة الشحن السياسي المتمذهب. هم أيضاً متعطّشون للانتقام. شيطنوا أميركا وهي شيطنتهم. هم أهدوها «عراق صدّام» وهي أهدتهم «عراق ما بعد صدّام» فاتخذوه جسراً لمدّ نفوذهم. خلعوا الشاه الذي نصّب نفسه إمبراطوراً، لكن الولي الفقيه يفاخر بأنه أحرق أربعة بلدان ليقيم «إمبراطورية» ويريد إرغام العالم بما فيه أميركا على الاعتراف بها، غير أنه نسي في غمرة فتوحاته أن لديه بلداً لا ينفكّ يتأخّر وشعباً تتفاقم معاناته بفعل العقوبات، فكل ما يعنيه أن يكدّس الأسلحة لترهيب الداخل وغزو المجتمعات العربية من داخلها. لدى الملالي حسٌّ عميق بالتاريخ ورغبة عارمة في قولبته لا التعلّم منه. يعرفون كيف تنشأ حالات الاستبداد وكيف تأَفل وتنتهي ممقوتة، إلا أنهم يعمون عن الاستبداد الذي أسسوه في الداخل على رغم أن تظاهرات الاحتجاج حوّلت شعار «الموت لأميركا» إلى «الموت للمرشد»، بل عملوا على تصدير تجربتهم باسم «الثورة» وسخّروا مواردهم لإبقاء أسوأ حال استبداد وحشي في سورية ولحمايتها.
بين 1979 و2018، كانت العقود الأربعة مسلسلاً طويلاً من العقوبات، إمّا دولية يُعرف متى تُفرض ومتى تُرفع، أو أميركية بلا نهاية، واعتاد العالم أن إيران لا تعرف العيش من دون عقوبات، وأن أميركا لا تعرف طريقة أخرى للتعامل مع إيران. كانت هناك استراحات قليلة وقصيرة، آخرها في عهد باراك أوباما، ولم تستغلّها طهران للتخلّص منها بتصحيح مسارها، بل بدت دائمة السعي إليها، فبعد رهائن السفارة وتفجيرات بيروت كان تدشين البرنامج النووي وتخصيب اليورانيوم محفّزاً كافياً لفرض عقوبات إلى أن حصل تفاوض وتجميدٌ للتخصيب (منتصف التسعينات)، لكن استئنافه بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد أعاد العقوبات وما لبث التلاعب بنتائج انتخابات 2009 للتجديد لنجاد وزيادة كمّ التخصيب ودرجته أن وسّعاها وأطلقا نقاشاً في الكونغرس الأميركي والاتحاد الأوروبي للذهاب أبعد في تشديدها وتعميمها دولياً.
كان يُفترض أن يكون ما بعد الاتفاق النووي (منتصف 2015) أفضل مما قبله، إيرانياً وإقليمياً، أو هذا في الأقل ما واظبت إدارة أوباما على تأكيده إلى أن صمتت بعد تيقّنها من العكس، فدفعت تعويضاً لإسرائيل عما ألحقه الاتفاق بها من «أضرار»، ولم تعترف بأضرار وقعت على العرب، ليس من الاتفاق فحسب، بل مما ارتكبته إيران في سورية والعراق واليمن ولبنان بانتهازها المفاوضات النووية لدفع ابتزازاتها إلى أقصاها. كان أوباما تحوّل من فرصة تاريخية إلى نكد خالص للعرب، ليس فقط بسبب الاتفاق ومفاوضاته أو نتيجة إخفاقه ثم رضوخه للتطرّف الإسرائيلي بل خصوصاً لأنه أمّن غطاءً مجّانيّاً للتخريب الإيراني. أما الآن فـ «من نكد الدنيا» على العرب أن يطرح ترامب ونتانياهو نفسيهما فرصةً لاحتواء إيران ووضع حدٍّ لمغامراتها وأطماعها، لكن لقاء أثمانٍ وتنازلات قد تفوق بتبعاتها المستقبلية الكلفة الباهظة للتخريب الإيراني.
قبيل البدء بتطبيق العقوبات المشدّدة الجديدة، وهي تستهدف للمرّة الأولى القطاعين النفطي والمصرفي بحظر صارم، أعادت طهران إحياء خبرات حقبة «اقتصاد العقوبات»، مع الاعتماد على منظومات تحاول دول «صديقة» ابتكارها ليس فقط لتخفيف الوطأة عليها، بل أيضاً للتعبير عن رفضها النهج الترامبي.
ستكون إيران دولة يعتمد اقتصادها على التهريب والسوق السوداء وتزوير البيانات، وفي الحالات شبه الشرعية سيعتمد على المقايضة (نفط مقابل سلع ومعدّات) كما بالنسبة إلى الشركة الأوروبية «ذات الغرض الخاص»، أما الدول الثماني التي نالت إعفاءات أميركية «موقتة» فإن التبادل معها سيكون بالعملات الوطنية تجنّباً للدولار أي أن إيران تستطيع إخراج النفط من موانئها من دون أن تدخل الأموال في حساباتها… ربما تحول هذه الأساليب دون الانهيار الاقتصادي لكنها لا تمكّن إيران من إنعاش عملتها أو من معالجة الاحتقان الاجتماعي. ولأن طهران لا تملك سوى خطط للاستمرار في السياسات ذاتها، فإن الأخطار ستكون مفتوحة على كل الاحتمالات، لا سيما أسوأها.
عندما يستنبط المرشد والرئيس وآخرون ردّاً على العقوبات مفاده أن أميركا «تجلب لنفسها العار» أو «تعيش في عزلة دولية» لأن الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاق النووي لا تزال تلتزمه، فإن النظام الإيراني يبدو متناقضاً ومنفصلاً عن الواقع.
فالمرشد لم يتوقف عن مشاركة ترامب قوله أن الاتفاق «سيئ للغاية»، أما الرئيس ووزراؤه فيلحّون على الأوروبيين كي ينفّذوا تعهّداتهم «إنقاذاً» للاتفاق. ويتناسى أقطاب النظام أن الأوروبيين غير المؤيّدين نهج ترامب يلتقون معه موضوعياً في ضرورة معالجة ثغرات الاتفاق النووي وضبط البرنامج الصاروخي والسياسات الإقليمية لإيران، أي أنهم يلتقون معه على «أهداف العقوبات» وإنْ واصلوا رفضها علناً.
ينطبق ذلك جزئياً على الصين وروسيا المهتمّتين بمصالحهما أولاً وحتى بدعم إيران في مواجهتها مع أميركا، لكنهما غير معنيّتين بـ «الأيديولوجية» التي تتحكّم بإدارة تلك المواجهة ومآلاتها. لا شعبية دولية للعقوبات، لكن لا شعبية دولية لإيران أو لترامب. العقوبات حربٌ لا تعترف باسمها وقد تحقّق بعض أهدافها بلا مدافع وصواريخ.
وفي غياب خريطة طريق قد تقود العقوبات إلى تفاوض كما يريد ترامب أو إلى تهوّر عسكري يريده الملالي.
كانت إيران واكبت الأضرار الفادحة التي ألحقتها العقوبات بالمجتمع العراقي بين 1990 و 2003، غير أن نظام طهران يتمثّل الآن بنظام صدّام في اعتبار صموده انتصاراً. في تلك الحال قيل أن العقوبات موجّهة ضدّ النظام وليس ضدّ الشعب، وكما ابتُدع للعراق نظام «النفط مقابل الغذاء والدواء» أقرّت واشنطن «إعفاءات إنسانية» لتسهيل مرور الأغذية والأدوية إلى إيران، لكن النظام وزبائنه سيكونون المستفيدين الوحيدين. وعلى رغم الفارق بين نظامَي البعث والملالي فإن كليهما التقيا في نهاية المطاف على تخريب استقرار الإقليم.
4 رياح إيرانية تهب على أميركا! هدى الحسيني الشرق الاوسط السعودية
في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب: «فرضنا العقوبات الأقسى على (حزب الله)». كان ذلك بعدما وقّع على تشريع يفرض عقوبات صارمة على الحزب بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين للهجوم على مقر قيادة «المارينز» القريب من مطار بيروت الدولي.
قال ترمب: «كان لإيران دور أساسي في تأسيس (حزب الله) ولا تزال راعيته، لم تعد إيران كما في السابق، انهارت الأموال، لن تتطلع كثيراً نحو المتوسط. إنها تريد البقاء».
كلام جميل، لكن قد لا يكون الرئيس ترمب على علم بأن إيران صارت الآن في الولايات المتحدة الأميركية، ذلك أن «مركز فاطمة الزهراء الإسلامي» في مدينة نوركوس من ولاية جورجيا، يستضيف رجال دين إيرانيين مغالين، فقائمة المناسبات والمتحدثين في المركز الشيعي لهذا الشهر تثير القلق حول سبب دعم هذه الآيديولوجيا في أميركا. كذلك كان الحال خلال الشهر الفائت، فمركز «مؤسسة الولاء» وهي غير ربحية، إنما يرتبط علماؤها مباشرة بالنظام الإيراني، استضاف، ما بين 12 و14 منه، ميرزا محمد علي بيغ وهو شيخ شيعي ذو ولاء متعصب للمرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. ووفقاً لموقع «الولاء» الإلكتروني فإن بيغ المولود في شيكاغو درس في مدينة قم أوائل التسعينات، وخطبه في أميركا دليل على وجهات نظره الراديكالية.
في يونيو (حزيران) من عام 2013 تحدث بيغ في ذكرى وفاة الخميني، حيث أكد تأييده لتفسير الخميني لمبدأ ولاية الفقيه، واصفاً إياه بالوسيط حتى عودة الإمام المنتظر وهو الإمام الثاني عشر ليحل مكانه على رأس العالم الإسلامي، ثم شكر الله «الذي جعلنا نعيش في عصر الخميني».
وفي خطاب آخر، شجع بيغ الأهالي الحاضرين على تعريف أولادهم بالخميني «إنه شخص نحتاج نحن وأولادنا إلى معرفة المزيد عنه. إنه بطل حقيقي للبشرية وللإسلام».
بصرف النظر عن كونه باحثاً في مؤسسة «الولاء»، فإن بيغ عضو في هيئة التدريس في «معهد الإمام علي» في مدينة أديلانتو من ولاية كاليفورنيا. ويقوم المعهد برص الطلاب في الصفوف الدينية، وإعدادهم ليتم إرسالهم لاحقاً إلى الخارج بغية أخذ المزيد من الدروس في كل من العراق وإيران.
يقول لي محدثي، إن أحد الفصول المدرجة في الدورات الدراسية لطلاب السنة الأولى يثير القلق حول البرامج التعليمية. إن فصل قوانين الشريعة الإسلامية يأتي مع كتاب لآية الله ناصر مكارم شيرازي، وهو رجل دين بارز في قم، دعا إلى معاقبة الشابات اللواتي لا يتقيدن تماماً بوضع الحجاب بقسوة، وأخيراً اقترح عقوبة الموت «للصيارفة»، ملقياً عليهم اللوم في الأزمة المالية التي تعصف بإيران حالياً.
ليس بيغ هو الباحث الراديكالي الوحيد المرتبط بمؤسسة «الولاء»، هناك أيضاً الشيخ أسامة عبد الغني المولود في واشنطن والمؤيد لـ«حزب الله»، وهو لا يوفر فرصة إلا ويكيل المديح لأمين عام الحزب السيد حسن نصر الله. وكما يتضح من التقرير المتعلق بمؤسسة «الولاء»، فإن آيديولوجيا إيران تزدهر في الولايات المتحدة، فإيران التي تصف أميركا بـ«الشيطان الأكبر» تنشر معتقداتها، بما في ذلك دعم الإرهاب، في جميع أنحاء الولايات المتحدة من دون أي تدخل من السلطات الأميركية.
مجموعة شيعية في ولاية أريزونا استضافت الشهر الماضي مؤيدين للنظام الإيراني ولـ«حزب الله»، كما أظهرت الإعلانات عبر الإنترنت التي نشرتها «مؤسسة التربية الإسلامية» في أريزونا، أن المجموعة اختارت في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي الشيخ أسامة عبد الغني.
كان عنوان محاضرته: «كيف تبقى على الطريق الصحيح؟»، قال فيها، إنه يجب على المسلمين اتباع كلٍّ من المرشد الإيراني الأعلى و«حزب الله» في معركتهما. ثم تذكر باعتزاز ما تعلمه من نصر الله عندما كان طالباً في قم، وشبّه قدوم نصر الله بعطلة، إذ قال: «بالنسبة إلى الطلاب كان مجيئه مثل العيد»، وواصل: «كان ذلك قبل سنوات من الانتصار في لبنان»، ثم أضاف: «أيها الإخوة سأكون صريحاً معكم، فإذا ذهبت كل هيئة علماء الدين الإسلامي إلى وادٍ، وذهب السيد علي خامنئي إلى وادٍ آخر، علينا أن نذهب إلى هذا الوادي الذي دخله السيد خامنئي». ثم يعتمد على النصيحة بأنه «يجب على المسلمين التعامل مع أي تشويش لديهم، من خلال اتباع ما يقوله خامنئي ونصر الله». وقال: «عندما تكون الأوقات عصيبة، وعندما تشعر بأنك لا تعرف أين هي الحقيقة والكل يتحدث، تذكر فقط كلمات خامنئي ونصر الله».
آخر سمة مقلقة في خطبته كانت عندما أخبر الحضور أن الإمام الثاني عشر سيظهر قريباً. في أريزونا يقول الشيخ أسامة عبد الغني: «إننا نقترب أكثر وأكثر من زمن الإمام. عودته صارت قريبة جداً، ونحن لا نريد أن نضيع الآن».
والمعروف أنه كلما اشتدت الأوضاع الاقتصادية في إيران، يلجأ النظام وبشكل متكرر إلى الإمام الثاني عشر، ويقول إنه سيظهر خلال حرب كارثية ويحقق نصراً نهائياً للمسلمين الحقيقيين، وسيفرض حكماً عالمياً يستند إلى الشريعة الإسلامية «حسب المفهوم الإيراني».
وُلد عبد الغني في واشنطن العاصمة وانتقل إلى قم عندما كان عمره 20 عاماً، ووفقاً لسيرته الذاتية درس في المدارس الإسلامية هناك لمدة 20 سنة أخرى، قبل العودة إلى الولايات المتحدة مشبعاً بآيديولوجيا ولاية الفقيه.
يعيش حالياً في مدينة ديربورن من ولاية ميشيغان، وتعكس تعاليمه التعليم المتطرف الذي تلقاه في ظل النظام الإيراني الراعي للإرهاب، وتطلق عليه القيادة الإيرانية اسم المستشار، كما سمّت كل فرق «الحرس الثوري» التي قاتلت في سوريا مستشارين وصلوا سوريا بناءً على طلب الحكومة السورية، إلى درجة غاب عن نظرها تنقلات الجنرال قاسم سليماني «بين فرق هؤلاء المستشارين» لعله هو أكبر المستشارين في نظر إيران، وليس جنرالاً يخطط ويدير معارك تدميرية.
يروي محدثي عن النشاط الإيراني في الولايات المتحدة، ويقول: «إنه في يوليو (تموز) الماضي شارك ثلاثة مساجد في ولاية ميشيغان في تعزيز آيديولوجيا النظام الإيراني. استضاف أحدها «مركز زينب» عبد الغني كمحاضر ضيف». يقول محدثي: «ينشر المسجد رسائل من المرشد الأعلى لإيران، ويعتبره سلطة دينية عالية جداً يجب أن يستمع إليها كل المسلمين».
ويعلق محدثي: «إن استضافة شيخ مؤيد لخامنئي وموالٍ لـ(حزب الله)، مؤشر قوي على أن مؤسسة التربية الإسلامية في أريزونا تروج للتطرف الشيعي». ومن المؤشرات القوية الأخرى التي لا تقوم بها هذه المؤسسة، أنها لا تتفق مع الشعب الإيراني الذي تعب من النظام الديني، ومن المؤكد أنه إذا ما انحازت مؤسسة أريزونا إلى الإيرانيين المضطهدين، فقد تجد متحدثاً لمناقشة انتهاكات النظام الإيراني لحقوق الإنسان، ويمكن أن تعطي منصة للشيعة المعتدلين الذين يعارضون نظام الأئمة في إيران. ويمكن أن تساعد في تعبئة الشيعة المنضمين إليها للوقوف إلى جانب المتظاهرين الإيرانيين أو على الأقل جلب بعض الاهتمام لقضاياهم.
لكن ما تقوم به هذه المؤسسات يؤكد تبعيتها وتمويلها من جانب النظام الإيراني الحاكم، ولهذا فإنها في أميركا، بلد الحريات، تتعامل مع نظام متهم بأنه يرعى الإرهاب وتفتح أبواب محاضراتها أمام موالين لـ«حزب الله».
الآن مع بدء سريان مفعول العقوبات الجديدة ضد نظام الحكم في إيران، لم يعد النشاط الإيراني، كردة فعل، محصوراً في بعض الدول العربية، بل تجب مراقبة هذه المراكز والمؤسسات في أميركا وبأي لغة تحريضية ضد «الشيطان الأكبر» في نظرها، ستعتمدها وهي تزدهر في ظل القوانين الأميركية، التي تحترم حقوق الإنسان في التعبير لكن، هل القانون في هذا المجال دائماً على حق؟