3 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الاثنين

1 في انتظار ان تكتمل الوزارة العراقية الجديدة، هل من جديد؟ سعد ناجي جواد
راي اليوم بريطانيا

قبل ان يتم ترشيح السيد عادل عبد المهدي لمنصب رئيس مجلس الوزراء من قبل السيد رئيس الجمهورية و مصادقة البرلمان، تم تداول رسالة او مذكرة كتبها السيد عبد المهدي بين فيها أسباب (تردده) في قبول هذا المنصب. ويمكن اختصار ما ورد في هذه المذكرة بثلاث نقاط أساسية: الاولى هي انه توقع عدم قبول التكتلات والاحزاب الرئيسة (الفائزة) بالانتخابات بمن يمكن ان يرشحهم هو كوزراء مهنيين ومحترفين ( مستقلين). والثانية تخوفه من ان المليشيات المسلحة، وفصائل الحشد الشعبي بالذات، لن تقبل بفكرة التخلي عن اسلحتها وتسمح لمسلحيها بالانضواء الى القوات المسلحة العراقية، الجيش والشرطة، لكي يتم حصر السلاح بيد الدولة. والثالثة كانت تشير الى تجذر الفساد و (مأسٓسٓتِهِ، ان صح التعبير) بحيث اصبح من الصعوبة بمكان على السلطة التنفيذية محاربته لوحدها، خاصة عندما يكون الفاسدون متمتعين بحماية احزابهم و تكتلاتهم المشاركة في العملية السياسية. ومع كل هذه التخوفات و الملاحظات الدقيقة والتردد قبل السيد عبد المهدي بالمهمة بسرعة وبطريقة غير مألوفة في نظام الحكم في العراق بعد الاحتلال. فهو لم يكن مرشحا رسميا من قبل (الكتلة الأكبر في البرلمان)، كما نص الدستور، وهو اصلا غير منتمي لأية كتلة، كما يدعي، منذ ان ترك المجلس الاسلامي الأعلى، وهو ليس عضوا في البرلمان، إذ انه لم يرشح نفسه في الانتخابات الاخيرة. ومع ذلك، وعلى الرغم من التنافس الكبير بين الاحزاب و التكتلات في البرلمان على منصب رئاسة الوزراء، والذي وصل الى حد تشهير المنافسين بعضهم ببعض، فان ترشيح السيد عبد المهدي حظي بمباركة وتأييد كل الاحزاب والتكتلات السياسية المتصارعة على المنصب. الامر الاخر المثير للاستغراب ان كل الكتل المُمٓثٓلة في البرلمان، وخاصة الكبرى منها، وبصورة مفاجئة، أعلنت انها لن تتدخل في اختيارات رئيس الوزراء المكلف لوزراءه، وانها (تترك له الحرية الكاملة) في هذا المجال. وظل كل من ليس له علم ببواطن الأمور، وكاتب السطور احدهم، يحاول ان يجد الإجابة عن الأسئلة المحيرة، وهي، لماذا قبل السيد عبد المهدي و بهذه السرعة الترشيح ؟ وكيف رضخت الاحزاب المتنافسة و قبلت بهذا الترشيح؟ و الأكثر من ذلك إعلانها بانها تترك له كل الحرية في اختيار الوزراء، بعد ما كان كل طرف يتحدث عن (حصته) في الوزارة. وأخيرا لماذا تم اختيار السيد عادل عبد المهدي بالذات؟
ابتداءا لا يمكن فهم ما جرى دون التذكير بالتنافس الامريكي الايراني على فرض الأمور في العراق. واستنادا الى هذه المسالة هناك من يقول في مسالة اختيار رئيس الوزراء الجديد ان إرادة الولايات المتحدة قد تغلبت على محاولات ايران للسيطرة على حكومة العراق من خلال تسمية الروؤساء الثلاث للدولة، رئيس مجلس النواب و رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وربما يكون الشطر الاول صحيحا في الوقت الحاضر، خاصة فيما يخص اختيار رئيس الوزراء، لكن هذا لايعني ان ايران قد هُزِمٓت في هذه المنازلة. على العكس فلقد نجحت ايران في اختيار و دعم الرئاسات الثلاثة، وخاصة رئيس مجلس النواب و رئيس الجمهورية، و لم تعترض على ترشيح رئيس الوزراء لانها تعلم بان الثلاثة، مع ولائهم للولايات المتحدة، سوف لن يكونوا معادين لإيران، ولأنها تعلم بان لديها إمكانية الإطاحة باي واحد منهم من خلال مجلس النواب متى شاءت، ولأنها ايضا واثقة بأنهم بصورة او باخرى سيحافظون على مصالح ايران في العراق، وسيغضون الطرف عن التطبيق الشديد لعقوبات الولايات المتحدة على ايران وبطرق مختلفة. ولهذا فان كل من الولايات المتحدة و ايران يشعران، وقد يبدو هذا غريبا للبعض، بأنهما قد نجحا في فرض ارادتيهما في العراق كل بطريقته الخاصة. وبالتالي فان القيادات الثلاثة تحظى بتأييد الولايات المتحدة و ايران على حد سواء، ولو ان بعض الكتاب والمحللين أكدوا ان ولاء الثلاثة للولايات المتحدة أكبر، لكنهم يحاولون مغازلة الكتل الموالية لإيران خوفا من مليشياتها المسلحة المنتشرة في العراق و المدعومة من قبل فيلق القدس الايراني المتواجد بصورة فعالة في العراق.
اما فيما يخص وعود السيد عبد المهدي، وخاصة بشان تشكيل الوزارة و محاربة الفساد، فيبدو انه ليس فقط اختار ان يضعها جانبا في الوقت الحاضر، وانما صدرت منه تصريحات تتضارب مع ما قاله. فاولا هو طلب من الكتل السياسية تسمية مرشحيهم (خمسة مرشحين لكل وزارة)، وثانيا فان كل الذين تمت تسميتهم من قبله ظهر انهم مدعمون من الاحزاب المشاركة في العملية السياسية، وثالثا وهو الأهم فانه قبل تسمية وزراء رشحوا من قبل أشخاص عليهم شبهات فساد كبيرة، او اعتمدوا اسلوب المنسوبية في التسمية، والادهى انه قبل تسمية وزير سبق ان حكم عليه وسجن بتهمة فساد وأطلق سراحه بعد صدور العفو، الذي دارت حوله الكثير من الانتقادات، علما بان هذه الجريمة تعد مخلة بالشرف و تحرم مرتكبها من المشاركة في العمل او الحصول على وظيفة رسمية. وهذه الأمور كلها بالتأكيد لا تبشر بخير. صحيح ان من بين الأسماء شخصيات مهنية و كفوءة حسب سيرتها، و انها تعهدت بالقضاء على الفساد في الوزارات التي كلفوا بها، لكن نسبة هولاء تبقى قليلة اولا و لا احد يعلم مدى استعدادها للصمود في مواجهة الفساد المستشري ثانيا، خاصة و انهم لا يتمتعون بدعم كتلة من الكتل، (احد الوزراء مثلا، وهو شخص كفوء ولم يظهر ما يثبت توطه في فساد عندما استوزر بعد الاحتلال، الا ان ما يسجل عليه انه آثٓرٓ ان يترك منصبه ويهاجر بعد فترة قليلة، بدلا من الإصرار على الإصلاح و محاربة الفساد او السياسات الطائفية المقيتة. و اذا كان هذا ماحدث معه في الأيام التي لم يكن فيها الفساد مستشريا ومتجذرا كما هو اليوم، ولا هناك هذا العدد من المليشيات الطائفية و العرقية التي تحمي الفاسدين، فكيف به اليوم ومؤسسة الفساد قد ترسخت بصورة لا نظير لها في اي دولة من دول العالم). ثم ان بعض خيارات السيد عبد المهدي قد جوبهت بالرفض من البرلمان، الذي بالاساس كان أعضاءه مستائين من احجام رئيس الوزراء عن اختيار وزراء من بينهم، وخاصة بالنسبة لوزارات هامة مثل الدفاع والداخلية. علما بان ترشيحاته، كما قيل لم تأت من قناعته بهذا الأسماء، وانما لأنهم مرشحون و مدعمون من كتل متصارعة في البرلمان، وان هناك من كتب للسيد عبد المهدي مذكرا إياه ان بعض الأسماء المرشحة عليها شبهات فساد كبيرة، ومع ذلك فانه لم يستبدلهم بأسماء اخرى، وانما ظل ينتظر ترشيحات جديدة من نفس الجهات، وهذا يتعارض تماما مع ما قاله قبل تسميته للمنصب. من ناحية اخرى ان بعض الوزراء السابقين قاموا في الفترة التي كانت فيها الوزارة السابقة تعتبر وزارة تصريف اعمال، بالتوقيع على عقود كبيرة، فهل سيقوم السيد عبد المهدي بإعادة النظر في هذه العقود؟ او يعلقها حتى تتم دراستها من قبل الوزراء الجدد؟ او هل سيقوم بِمُسآلٓة هؤلاء الوزراء السابقين عن سبب عدم توقيعهم هذه العقود خلال الأربع سنوات التي مارسوا فيها صلاحياتهم، اذا كانت هذه العقود، كما يقولون، مهمة و حيوية للعراق و للخدمات فيه؟ وأخيرا وليس اخرا هل سيبقى السيد عبد المهدي ينتظر ترشيحات للوزرات المهمة من قبل الكتل الكبرى في البرلمان، وهي نفس الكتل التي رشحت وزراء حامت حولهم شبهات فساد كبيرة؟ كل هذه الأسئلة، وأسئلة اخرى عن من تم ترشيحهم ثم تم الاعتراض عليهم لعدم كفاءتهم او لأنهم رشحوا لأنهم من اقرباء قادة الكتل الكبرى، ستبقى تدور حتى نسمع من رئيس الوزراء الجديد رأيا صريحا و مقنعا.
خلاصة القول ان عملية تشكيل الوزارة، وعكس ما رٓوّجٓ له البعض، لم تختلف عن طرق تشكيل الوزارات السابقة، كما ان السيد عادل عبد المهدي لم يُظهِر الحزم المطلوب من شخص اعتُبِرٓ من قبل مؤيديه انه سيكون (المنقذ) للعراق او في اقل تقدير من سيبدا عملية جدية للأصلاح و محاربة الفساد.
2 لا مركزية الاحتجاج العراقي مشرق عباس الحياة السعودية

«إلى أين تتجه الأمور في العراق؟»، هذا السؤال الملح يتردد بقوة في كل مكان، على لسان موظف الدولة البسيط، والزعيم السياسي، وصاحب رأس المال، ورجل الدين، ويتساءل الجميع لأن أحداً لا يمتلك الإجابة، وأحياناً لا يريد أن يتورط بها، ولأن الشارع العراقي أصبح جزءاً من قرار الاتجاهات، وهذه المرة بلا قيادة ولا خريطة طريق ولا إطار محدد. والاحتجاج العراقي ضد العملية السياسية ورموزها كان قد بدأ قبل العام 2009، ووجد نفسه عام 2011 يحتل حيزاً في المكان العراقي ويصوغ هوية مدنية تواجه فساد حكم الأحزاب الإسلامية ويتماهى مع متغيرات الربيع العربي، لكن الاحتجاج يغير مساره ابتداء من عام 2012 ليصبح معبراً عن إعادة صوغ مفهوم «الطائفة» في نسختها السنية، ويخترع منابر مركزية في عدد من المحافظات تشكل نقطة التلاقي بين شيخ العشيرة ورجل الدين السني، ويعيد صوغ التظاهر باعتباره «مضيف» قبيلة كبيرة تلقى فيه الكلمات ويعاد في منبره إنتاج الهوية الفئوية التي اتّحدت مع هوية الدولة لعقود طويلة، وينتهي إلى ما انتهت إليه الأمور من سيطرة تنظيم «داعش» على الأرض وتهديم ذلك المضيف على رؤوس من فيه، وإعلان إنهاء الالتزام بالدولة العراقية. وفيما يعود الاحتجاج عام 2015 ليحتفظ برمزية المكان «ساحة التحرير» ويحولها إلى عاصمة للتظاهر، يعود أيضاً إلى منبره المدني لينتج معادلة غالبية مدنية غاضبة ضد الجرح الذي خلفه «داعش» في الذات العراقية، في مقابل أقلية إسلام سياسي حاكمة تسببت بالكوارث، ويتلمس في الوقت نفسه أن قدرات تأثيره بدأت تتعاظم، وأن آليات القمع التي واجهته سابقاً بدأت تتراجع، ومن ثم يدخل إلى المسار السياسي للتحالف مع تيار سياسي وشعبي يقوده مقتدى الصدر، فيتغير تمركز معادلة «الأكثرية المدنية» لتصبح «الأكثرية الشعبية»، و «أقلية الإسلام السياسي» إلى «أقلية أوليغارشية فاسدة».
تلك الخلطة الجديدة وجدت طريقها إلى التمثيل السياسي، وأصبحت حركة سياسية تعد بالتغيير وتطالب الشعب بالصبر، لكنها وهي تفعل ذلك، كانت قد اضطرت إلى التخلي عن مكانها الرمزي (التحرير) وخففت من شعاراتها ومطالبها الكبيرة انسجاماً مع وضعها الجديد، فيما كان الشارع خصوصاً الجنوبي منه، يغلي بعيداً من الرمزية المكانية والزمانية للاحتجاج، ويحمل قضايا مغايرة تتعلق بالدماء التي سالت من أبنائه خلال حرب «داعش» والأكاذيب التي سيقت، والنتائج التي انتهت إليها الحرب والسياسة، والانهيار الخدمي والمعيشي الذي تحمله وهو يراقب سرقة القوى السياسية والمجموعات المسلحة لقوته وأرواح شبابه، وعجزها في المقابل عن إنتاج دولة غير تابعة لجيرانها.
في لحظة الارتباك الجماعي، وتحوّل القوى التي حملت شعارات الدفاع عن المذهب إلى العمل السياسي والمالي، وتواصل طعنات الكهرباء والماء والصحة والتعليم والنظافة في صميم الكبرياء الوطني العراقي، كان الاحتجاج جاهزاً للتخلي عن كل تجاربه السابقة، لينتج شكلاً جديداً مدمراً، ويطور آلياته ليكون لا مركزياً ليس في المكان الذي أصبح كل شارع وكل دائرة حزبية أو رمز أمني أو حكومي، بل في مستوى القيادات التي أصبحت محلية وجماعية تدرك هدفاً مركزياً واحداً هو إحراق مقار الأحزاب واقتحام الحكومات المحلية.
في لحظة اقتحام المتظاهرين مطار النجف، كانوا قد أرسلوا الرسالة الأكبر بأن مستوى الاحتجاج قد ارتفع إلى هذه الدرجة، فكان على متظاهري الديوانية أن يرفعوه بدورهم باقتحام الحكومة المحلية، وطوّر متظاهرو كربلاء الدرجة إلى حرق المقار الحزبية، قبل أن يصل الاحتجاج إلى أقصى تجلياته في البصرة منتهياً إلى إحراق القنصلية الإيرانية.
عندما نتساءل عن مسارات الأمور في العراق، يجب أن نضع في الحسبان كل هذا التطور التدريجي في الآليات الاحتجاجية، ويجب أن نفهم أيضاً أن الاحتجاجات لو توافرت مجدداً البيئة والأسباب لانطلاقها في أية مدينة، لن تعود إلى ساحة التحرير حاملة لافتات وشعارات، بل ستبدأ من النقطة اللامركزية التي وصلت إليها تظاهرات البصرة، وهنا تحديداً يتشكل نمط الفهم الجديد لأخطار الاحتجاج العراقي وضرورة التنبيه المستمر إلى أن القوى السياسية لم تعد قادرة على مواجهة تداعياته مهما أعدت لذلك، وهنا أيضاً تكمن أسباب استمرار الجميع بالتساؤل القلق عن المآلات التي يمضي إليها العراق.
3 النفط واستقرار العراق وليد خدوري الحياة السعودية

شكلت تظاهرات البصرة في العراق خلال الشهرين الماضيين، حدثاً مفصلياً في فترة ما بعد الغزو عام 2003، إذ تركزت الشعارات ضد غياب الخدمات الأساسية، من توفر مياه صالحة للشرب واستمرار انقطاع التيار الكهربائي. وفي محافظة تضم ما لا يقل عن 85 في المئة من الاحتياط النفطي للبلاد، والنسبة ذاتها تقريباً من الإنتاج النفطي، هيمنت الأحزاب الدينية على مجلس محافظة البصرة ومقاليد الحكم، كبقية مجالس المحافظات الجنوبية في بغداد، طوال 15 سنة، إضافة إلى أن وزير النفط خلال فترة التظاهرات عبدالجبار اللعيبي، من أبناء البصرة، التي تعتبر المرفأ الرئيس للعراق، وترويها مياه شط العرب. وعلى رغم كل ذلك، أُهملت البصرة من قبل الحكومة الاتحادية، وشاع فيها الفساد والميليشيات، كما الحال في المناطق الأخرى.
وتوقعت السلطات البترولية العراقية قبل 10 سنين تقريباً، لتبرير إعادة شركات النفط العالمية لتطوير الحقول النفطية، أن ترتفع الطاقة الإنتاجية إلى نحو 12 مليون برميل يومياً بحلول الربع الأخير من العقد الحالي. وارتفعت الطاقة فعلاً، لتراوح حالياً بين 4.5 مليون برميل يومياً و5 ملايين، أي ضعف ما كانت عليه قبل عودة الشركات الدولية. لكن السؤال الأبرز، كيف ينفَق العائد النفطي، وما مدى التطور الاقتصادي للعراق في ظل هذه الطاقة المتزايدة؟ لقد تدهور الاقتصاد خلال هذا العقد، وضاعت أو سُرقت مئات بلايين الدولارات. وكما ذكر رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، أنه استلم الحكم وخزانة الدولة خالية لا تزيد على 3 بلايين دولار، والدُفعات المستحقة لشركات النفط الأجنبية متأخرة.
واستشرى الفساد في ظل غياب الشفافية والمحاسبة القانونية، كما افتقدت البلاد منهجاً حكومياً واضحاً مع هجرة آلاف المهنيين والخبراء العراقيين بسبب سوء الأحوال المعيشية والأمنية، كما سيطر قادة الأحزاب الدينية على مقاليد الحكم، وهمشوا الخبراء والمهنيين من أنصارهم، ما زاد الطين بلة. وتستمر هذه الأحزاب في مناكفة حكومة عادل السيد عبد المهدي الإصلاحية لردعها عن تنمية الاقتصاد وإعادة الاستقرار إلى البلاد، على رغم إخفاق هذه الأحزاب الفاضح.
وتكمن أهمية الطاقة الإنتاجية في مدى إمكان زيادتها في المستقبل القريب، وهذا متوقع في العراق في ظل برامج تطوير الحقول المكتشفة، وفي ظل معدلات الأسعار العالمية. وبما أن حكومة المهدي أعطت الأولوية في منهجها الحكومي لتنمية الاقتصاد وإعادة الإعمار، تشير المعلومات إلى أن من الممكن زيادة الطاقة الإنتاجية إلى أكثر من 5 ملايين برميل يومياً. ويشير جيولوجيون عراقيون إلى إمكان زيادة الطاقة الإنتاجية من خلال تحديدها في الطبقات الجيولوجية في الحقول المكتشفة، واستغلال الطاقات الكامنة في عشرات المكامن والحقول المعروفة وغير المطورة، ناهيك بالاستغلال الأمثل للغاز المصاحب، بدلاً من حرق معظمه والتسبب في أضرار بيئية وخسائر ببلايين الدولارات سنوياً، وتطوير الطاقات المستدامة من الشمسية والرياح.
طرح المهدي منهاجاً وافياً لتطوير الطاقة الإنتاجية على المديين القصير والمتوسط. والمطلوب في هذا المجال، وبعد معاناة الشعب من انقطاع الطاقة وصعوبة إيصالها إلى المستهلكين، إيلاء الأهمية اللازمة لإيصال الطاقة الوافية لتشييد الصناعات الجديدة وإعادة الإعمار وبناء اقتصاد حديث. وهذه أمور ممكنة في العراق الذي يتمتع بإمكانات هائلة وثروات طبيعية. وفي هذه الحال، ستحتاج البلاد إلى خبرات المبتعثين وتبني محاولات جادة لإعادتهم إلى العراق للاستفادة من دراساتهم العليا وخبراتهم الدولية. وتميزت هذه الفئة من العراقيين بالتفوق العلمي واختيارهم البعثات الحكومية في أرقى الجامعات العالمية، كما اختيرت اختصاصاتهم على أساس حاجات البلاد المستقبلية.
ويتم بناء الاقتصاد الوطني من خلال جهود المهنيين ومن عائدات النفط والقضاء على الفساد. ومر العراق بتجارب عدة تشمل هذه المعطيات الثلاث، فهناك تجربة مجلس الإعمار في خمسينات القرن الماضي، حيث خُصّصت بداية 100 في المئة من العائدات النفطية لإنشاء بنية تحتية من سدود وطرق سريعة ومدارس ومستشفيات. ولا تزال الحكومات العراقية تستعمل بعض مخططات هذه المشروعات حتى اليوم. وترأس مجلس الإعمار رئيس الوزراء وبعضوية وزراء المال والأشغال وخبراء دوليين وعراقيين، لكن ملف الفساد غاب عن تجربة المجلس، ولا يكاد يذكر في معظم الأدبيات المنشورة عنه. وهناك تجربة الأحزاب الدينية التي أهملت إدارة الدولة وأشاعت الفساد وهمّشت دور المهنيين العراقيين. ومن ثم، كانت النكبات التي حلت في العراق، من احتلال الموصل وفقدان البصرة للمياه الصالحة للشرب وانقطاع التيار الكهربائي في شكل متواصل.
ومن الواضح أن هناك تحديات أمام كلتا التجربتين، فمن الصعب على أي حكومة عراقية اليوم تخصيص 100 في المئة من العائد النفطي للاستثمار في الإعمار وتشييد البنية التحتية، إذ يوجد تضخم في الجهاز الحكومي يقدر بملايين الموظفين، فلا يمكن تقليص معاشات التقاعد وعدد هؤلاء الموظفين بسرعة، نظراً إلى اعتماد ملايين العائلات على هذا الدخل الحكومي. ولكن، يتوجب إعادة النظر تدرّجاً في السياسة التوظيفية في القطاع العام، وفي الوقت ذاته التخطيط لإعادة الإعمار، ما يعني أهمية استمرار الاعتماد على العائد النفطي والمهنيين. وتدل تجربة الأحزاب الدينية وسلوكها على استحالة استقرار البلاد في ظل سياسة التوظيف الحكومية، كما أن تدهور أسعار النفط بين عامي 2014 و2016 منع الحكومة من دفع الرواتب وأثبت فشل سياسة التعيينات عند تقلب الأسواق والأسعار.
وأخيراً، أدى تفشي الفساد إلى ضياع أموال الدولة من دون محاسبة، وضياع فرص إعمار العراق وتدهور سمعته. وهيمنت الأحزاب الدينية على مقاليد الحكم والتصرف من دون مسؤولية، كما أظهرت التجارب، تعتبر وصفة لتدمير العراق الحديث كما عرفناه، لذلك يجب إنهاء هذه التجربة قبل أن تقضي على ما تبقى. ولكن، يتوجب في الوقت ذاته توقع محاولات الرمق الأخير لوضع حد لها، لذلك فإن العراق اليوم أمام خيارين واضحين.