1 العراق وزمن الميليشيات
فاروق يوسف العرب بريطانيا
الدعوة إلى نزع سلاح الميليشيات جاءت متأخرة جدا. فهي ليست دعوة من أجل العراق، بل من أجل ألا تنقلب تلك الميليشيات على الدولة فيفقد سياسيو العراق مكتسباتهم غير القانونية.
الخوف من الميليشيات له ما يبرره
ما من شيء في العراق يُنبئ بأن زمن الميليشيات على وشك أن ينتهي، بالرغم من علو الصوت المناهض لاستمرار تلك الميليشيات في فرض سلطتها على الشارع.
وكما يبدو فإن أحدا لا يمكنه أن يصدق أن ذلك الصوت، جادا كان أم هازئا، نزيها كان أم مريبا، سيُحدث تغييرا في الواقع الذي فرض الميليشيات على الدولة، باعتبارها خيارا مستقلا، لا يمكن احتواؤه أو إزاحته، أو على الأقل تطبيعه في إطار مقبول.
فالميليشيات والتي هي في حقيقتها كتائب قتالية طائفية لا يمكنها أن تتخلى عن أطـرها العقائدية وتضع أمـرها في أيد غريبة، قد لا تكون أمينة على مستوى الحفاظ على الأهداف والمصالح التي أسست من أجلها.
وهي أهداف ومصالح تتناقض، كليا، مع فكرة قيام دولة قوية، تكون قادرة على فرض سيطرتها من أجل البدء بتصريف شؤون مواطنيها بطريقة نزيهة وعادلة.
تبدو المعادلة واضحة. إما الدولة وإما الميليشيات. أما الحديث عن تعايش الاثنين معا فهو نوع من الكذب، يُراد من خلاله تمرير الوقت وصولا إلى اللحظة التي تكون فيها عملية التهام الدولة من قبل الميليشيات واقع حال. وهو ما ظهرت علاماته مع انتقال زعماء تلك الميليشيات من صفة جزارين وقطاع طـرق ومدبري صفقات فساد، إلى صفة نواب في مجلس النواب العراقي الجديد.
تحول ينذر بالكثير من الشؤم والنحس.
في الماضي القريب كانت هناك محاولات لدمج الميليشيات في الجيش العراقي، كلها باءت بالفشل. فاستقلال الميليشيات هو شرط أساس لبلوغ الهدف المذكور سلفا.
ما حدث كان عكس ذلك تماما. فقـد فرضت الميليشيات على الدولة أن تقوم بتمويلها من المال العام من غير شروط. بمعنى أن الدولة صارت تموّل جهات مسلحة تعرف أنها تستعد للانقضاض عليها. وهو أمر لا يمكن استيعابه إلا من خلال العودة إلى مفهوم “الحرب الطائفية” الدائمة التي تورط سياسيو الدولة العراقية في تكريسها في أوقات سابقة من غير أن يحتاطوا من إمكانية أن تلتهمهم نار تلك الحرب.
سياسيو العراق خائفون اليوم من تمدد الميليشيات. في حقيقة الأمر فإن قوائم الإرهاب التي ضمت عددا من زعماء تلك الميليشيات، هي التي تخيفهم أكثر من الميليشيات نفسها. فالإرهابيون باتوا اليوم أعضاء في السلطة التشريعية، وهو ما يمكن أن ينزع الشرعية من تلك السلطة التي في إمكانها أن تعطل عمل الدولة.
بذلك يمكن القول إن الدعوة إلى نزع سلاح الميليشيات جاءت متأخرة جدا. فهي ليست دعوة من أجل العراق، بل من أجل ألا تنقلب تلك الميليشيات على الدولة فيفقد سياسيو العراق مكتسباتهم غير القانونية. وهي مكتسبات، تشعر الميليشيات أنها ما كان من الممكن أن تتحقق لولا “تضحياتها”.
الخوف من الميليشيات له ما يبرره. ولكن ذلك الخوف لا يكفي سببا لأن تلقي الميليشيات سلاحها وتستسلم. لا شيء يجبرها على القيام بذلك. فهي الأقوى. وهي الجهة الوحيدة التي يستند وجودها في العراق إلى فتوى دينية. وهي المكلفة شرعيا من قبل الولي الفقيه الذي تتبعه بحماية مصالح إيران في العراق.
علينا أن لا نكذب على أنفسنا فنقول إن “مقتدى الصدر هو أقوى من الميليشيات”.
لقد سبق للصدر أن استمد قوته من جيش المهدي وسرايا السلام. هو الآخر زعيم ميليشيا لعبت دورا خطيرا في إشاعة لغة العنف في عراق ما بعد الاحتلال. ذلك التاريخ الشخصي يجعل الصدر في موقف ضعيف.
ما ربحه الصدر على المستوى السياسي يمكن أن يخسره حين يتعلق الأمر بالصراع مع الميليشيات التي لن تتخلى عنها إيران. وهو ما يشكل عقدة بالنسبة للصدر الذي يحاول أن يُغلّب عراقيته على شيعيته، من غير أن ينجح تماما في ظل غموض الموقف العالمي من مصير النظام الحاكم في طهران.
فما دام النظام الإيراني قادرا على فرض هيمنته على القرار السياسي في العراق فإن الغلبة ستكون للميليشيات. وهو ما يعني أن لا مقتدى الصدر، ولا سواه من سدنة الحكم في العراق، سيكون قادرا على التصدي للميليشيات، إلا إذا قررت الولايات المتحدة أن تنهي زمن الهيمنة الإيرانية في العراق.
2 العراقيون لا يتوقعون تغييرا مع أي حكومة ستأتي د. باهرة الشيخلي
العرب بريطانيا
العراقيون يلجأون إلى أمثالهم الشعبية في مثل هذه الأوضاع الملتبسة، ويقولون إن أي حكومة ستأتي بها هذه الانتخابات المزورة ستكون “خوجة علي ملا علي” ولن يتبدل أي شيء من أوضاعهم مع أي حكومة ستأتي.
لن يتبدل أي شيءالنظام السياسي هو نظام اجتماعي يؤدي أدوارا عدة أو وظائف متعددة استنادا إلى سلطة مخولة له أو قوة يستند إليها، ومنها إدارة موارد المجتمع وتحقيق الأمن الداخلي والخارجي وتحقيق أكبر قدر من المصالح العامة والعمل على الحد من التناقضات الاجتماعية. والنظام السياسي، في صورته السلوكية، هو تلك المجموعة المترابطة من السلوكات المقنّنة التي تنظم عمل مختلف القوى والمؤسسات والوحدات الجزئية التي يتألف منها، أي كل عنصر سياسي داخل أي بناء اجتماعي.
والنظام السياسي، في صورته الهيكلية أو المؤسسية أو التنظيمية، هو عبارة عن مجموعة المؤسسات التي تتوزع بينها عملية صنع القرار السياسي وهي المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بحسب ما عرّفه كتاب “النظام السياسي والحكومات الديمقراطية.. دراسة تأصيلية للنظم البرلمانية والرئاسية” للدكتور جمال سلامة علي.
وإذا أردنا تطبيق هذا التعريف، أو أي تعريف آخر للنظام السياسي على ما هو موجود في العراق، وفق دستوره، الذي اعترف حتى المتمسكون به أنه دستور ملغوم، فإننا لن نجد إلا إقطاعيات ولكل إقطاعية صلاحيتها، من الرئاسات الثلاث إلى الميليشيات المتعددة إلى الأحزاب إلى العشائر، فإذا تجاوزت إقطاعية من تلك الإقطاعيات فإن الإقطاعيات الأخرى لا تستطيع أن تحاسبها، وهكذا ضاع العراقيون بين مجموعة من الإقطاعيات، التي لا يحصلون منها على حق أو باطل.
من سيحاسب، مثلا، الميليشيا التي خزّنت المواد المتفجرة في حسينية بمدينة الصدر في بغداد، قبل أسابيع، وتفجرت مدمرة العشرات من البيوت ومهلكة العشرات من الأرواح البريئة؟
والأمثلة تستعصي على الحصر والعد، منذ العام 2003 وإلى الآن لم يفتح أي تحقيق في جريمة ولم تحدث أية مساءلة في جريرة، وليس بعيدا عنا امتلاك ميليشيات مسالخ بشرية، كما ليس بعيدا أيضا الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفتها جهات حكومية، ثم قيدت الحوادث ضد مجهول، وفي ذلك كله يدفع العراقي المنكوب الثمن.
إن أدق وصف للانظام جاء على لسان فخري كريم رئيس تحرير صحيفة المدى، عندما تحدث عن كيف صار الدكتور فؤاد معصوم رئيسا، في ظرف ملتبس، وكيف تعهد بقوة ووضوح أمام كل من كانت له دالة على الوقوف إلى جانبه، أن يضع نصب عينيه المصلحة العامة والسهر على الدستور وحمايته من العبث، وهو ما يتطلّب منه التحرك الجاد للارتقاء بالعملية الديمقراطية وتنقيتها مما شابها من تعثر وتشويه ومغالطات في تفسير الدستور وفقا لمصلحة مراكز القوى المهيمنة بقدر ما يسمح به الدستور في إطار الصلاحيات القاصرة التي حددها للرئيس.
وهو يعرف هذه الصلاحيات، لأنه كان من أعضاء لجنة كتابة الدستور التي شرّعته وفصلته على مقاساتها الطائفية الضيقة، بتكريس كل السلطات في عهدة رئيس مجلس الوزراء، لتجعل منه “قائد ضرورة واقتدار”، أو متردد يفتقر إلى الحزم وضيّاعٍ للفرص، مكتفيا بنفسه من دون حاجة لمشاورة، أو فريق عمل فعال مجرّب يتمثل فيه طيف العملية السياسية من دون استثناء.
ويقول إن الرئيس فؤاد معصوم حوّل القصر الجمهوري “بيتا عائليا مضيافا للإخوة والأخوات والأعمام والخالات والأزواج”، وجعل من الرئاسة باحة تغرّد فيها كريمته السيدة جوان لتحمل فعليا ختم الرئيس وتكون الآمر الناهي.
ولم يكتف بذلك، بل استقدم شقيقه من لندن لينيط به عملا متواضعا لرعاية القصور الرئاسية بصفة “خبير”، وليحتلّ في واقع الحال دورا مكررا بقدر ما تسمح له المنافسة مع الرئيس المناوب السيدة جوان، ثم عين شقيقه الآخر مستشارا متفرغا، وابن شقيقته مستشارا بلا راتب شهري، وشيئا فشيئا اتسعت دائرة الأقارب والأصحاب وراحت تحوم حول بعضهم للأسف الشديد الشبهات، ربما هي بلا أساس.
ولم يحاسب أحد الرئيس على ذلك لأنه لا يستطيع أن يحاسب غيره، وكأن الأمر يسير وفق قاعدة: غض النظر عني أغض نظري عنك.
وتدور في الشارع العراقي الآن تكهنات حول شكل الحكومة الجديدة، تتحدد بثلاثة محاور وثلاثة خيارات، ستولد منها الحكومة الجديدة. الأول محور سائرون والحكمة والوطنية ويبحث عن طرف ثالث للاتفاق على مرشح تسوية، والثاني، محور فتح – قانون ويحاول شراء بعض القوى، والمرشحون لذلك هم هادي العامري أو طارق نجم، والثالث حيدر العبادي والذي يلعب على الأطراف كلها ويميل مع من يعطيه رئاسة الوزراء.
وبتشاؤم واضح، يتوقع العراقيون أن الأميركيين سيتخذون بعض الخطوات أولها جمع الأكراد والسنة تحت رؤية واحدة وترطيب الأجواء بين سائرون والحكمة والعبادي وخلق نوع من التفاهم الأولي، فيما يعكف الإيرانيون على إيجاد طرف ثالث شيعي مع الفتح والقانون، والعبادي هو الأقرب لذلك إذا قبل بالتنازل لصالح طارق نجم.
ويتخوف الشارع العراقي من نزول جمهور التيار الصدري إلى الشارع، ومن خطوة قد يتخذها العبادي بعد أن يُرفض ترشيحه، وهي إصدار أمر بإلقاء القبض على مجلس المفوضين ويظهر اعترافات معينة يبطل فيها الانتخابات ويبقي حكومته لتصريف أعمال لسنتين، ونزول الحشد إلى الشارع مما سيحدث شبه انهيار لمؤسسات الدولة.
ويلجأ العراقيون إلى أمثالهم الشعبية في مثل هذه الأوضاع الملتبسة، فهم يقولون إن أي حكومة ستأتي بها هذه الانتخابات المزورة ستكون “خوجة علي ملا علي”، وخوجة بالتركية ملا، أي لن يتبدل أي شيء من أوضاعهم مع أي حكومة ستأتي، إذ سيكون “نفس الطاس ونفس الحمام”، ولكنهم يعولون على مفاجآت قد تأتي وتجلب لهم معها نظاما سياسيا لا محاصصة ولا إقطاعيات فيه.
3 اعتراف حكومي بتدمير الموصل
سلام الشماع العرب بريطانيا
احتلال داعش لمدينة الموصل كان وبالا عليها، ولكن معركة “تحريرها” كانت وبالا أكبر على أهلها ومعالمها التاريخية وبناها التحتية.
هل تختفي الجريمة
لم تبق شتيمة في قاموس الشتائم لم يوجهها إلي الطائفيون وميليشياتهم وجيوشهم الإلكترونية بسبب المقال السابق الذي نشرته لي “العرب”، والذي كان عنوانه “حملة شعبية عراقية عنوانها: من دمر الموصل”.
حسنا، فليشتموا ما شاء لهم الشتم، فذلـك دليل عجزهم عن مقارعة الحجة بالحجة ومقابلة الدليل بالدليل، ولكني أريد أن أسأل هؤلاء: ماذا ستقولون في الاعتراف السافر والصريح، الذي أدلى به الفريق الأول ركن الدكتور طالب شغاتي الكناني، رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، والذي أدلى به في برنامج “بلا قيود”، الذي تقدمه قناة “بي.بي.سي” العربية، والذي قال فيه بالنص “تنظيم داعش كان له رمزية في مكان في الموصل، وهي منارة الحدباء وجامع النوري وأسس دولة الخرافة، وبعد طرد داعش من هذا المكان عادت الأمور إلى الموصل طبيعية”.
وعندما واجهته مقدمة البرنامج بأنهم اتبعوا مع المدينة سياسة الأرض المحروقة، رد عليها بأن “ذلك يحتاج إلى تدقيق وتحليل، علما أن مدينة الموصل تقسم إلى قسمين وهما الأيسر والأيمن.. الأيسر البيوت فيه واسعة وهي منطقة واسعة بعكس الأيمن وهي مناطق ضيقة وقديمة وقريبة من بعضها”، ولكنه لم يجد بدّا من القول “أنا ذكرت موضوع الرمزية فلو بقي جامع النوري ومنارة الحدباء لاستمرت عملياتهم في كل مكان في العالم”.
أليس هذا اعترافا واضحا وصريحا بأن القوات الحكومية والميليشيات الطائفية هي التي دمرت جامع النوري ومنارته التاريخية في الموصل، وأعقبتها بتدمير البيوت المحيطة بها ودفن أصحابها تحت أنقاضها، بعد منعهم من الخروج منها والفرار بجلودهم؟ فعلام الشتائم إذن؟
وهذا هو الخبير العسكري في حرب المدن مؤيد سالم الجحيشي، يعتبر أن “معركة الموصل كانت معركة تدمير وليست معركة تحرير، ولأجله منعوا أي قائد أو ضابط من أهل الموصل من قيادة هذه المعركة، وأنهم منعوا تشكيل أي قوة عسكرية من أهل الموصل لتحرير مدينتهم أو المشاركة في تحريرها”.
كان الحقد الطائفي حاضرا في معركة الموصل، إذ بلغت نسبة التدمير في الجانبين الأيمن والأيسر للمدينة 70 بالمئة، وكان عدد ضحايا المعركة من الأشخاص 72 ألفا، ودمرت 26 ألف وحدة سكنية بالكامل، وكان عدد الوحدات السكنية نصف المدمرة 26 ألفا، كما دمرت 5 جسور و12 مستشفى و210 مدارس.
إن احتلال داعش لمدينة الموصل كان وبالا عليها، ولكن معركة “تحريرها” كانت وبالا أكبر على أهلها ومعالمها التاريخية وبناها التحتية، والمدينة العريقة وقعت بين سندان المحتل الداعشي ومطرقة قوات “التحرير”، وخصوصا الميليشيات، التي توجهها وتموّلها إيران.
وينبغي الالتفات هنا، إلى الابتزاز الدعائي، الذي وقع الجميع تحت تأثيره، والذي أشرنا إليه سابقا، فالميليشيات مازالت تواصل ممارسته في العراق، فهي تخطف وتقتل وتدمر، ثم تتهم سواها بما اقترفته من أفعال.
وبعد أن نشرت “العرب” الموضوع السابق نشرت وكالة الصحافة الفرنسية تقريرا عن بدء حملة لرفع الأنقاض من المناطق المدمرة في الموصل، بعد عام من طرد تنظيم داعش.
إذ باشرت سلطات محافظة نينوى، بالاعتماد على المئات من الآليات الجرافة والمتطوعين، برفع الأنقاض وتنظيف المدينة القديمة في غرب الموصل، تشجيعا لعودة العائلات النازحة إلى تلك المنطقة التاريخية التي تعرضت لدمار شبه كامل.
وقدّر مدير قسم هندسة الإدارة المحلية المشرف على الحملة جمال سلو حجم الأنقاض بأكثر من 10 ملايين طن، وعندما سئل عن السبب وراء تأخر القيام بهذه الحملة، قال إن “التأخير يعود إلى عدم وصول التخصيصات المالية اللازمة لمباشرة الحملات، وجميع المشاركين بالحملة الحالية، والتي سبقتها يعملون في انتظار صرف مستحقاتهم المالية عند وصول الأموال من بغداد”.
هو إذن، ليس استعجالا برفع الأنقاض من المدينة، وإنما استعجال برفع آثار الجريمة التي تعرضت لها الموصل وأي دليل يشي بالفاعلين، ليلصق فعل تدمير المدينة بأي طرف عدا القوات الحكومية وطيران التحالف والميليشيات.
كونوا رجالا ولا تشتموا وقارعوا الحجة بالحجة وقابلوا الدليل بدليل.
4 الخميني.. مُدلل نظام «البعث» العراقي رشيد الخيّون الاتحاد الاماراتية
ضاق الخميني ذرعاً مِن العيش بتركيا(1963)، لم يُسمح له حتى الخروج بالملابس الدِّينية، فالبلد آنذاك ما زال يعيش ثورة الطَّربوش ضد العمامة، فاستقبله العراق(1965)، وقبل مجيئ «البعثيين» إلى السُّلطة(17/7/1968) لم يكن له نشاط سياسي، لكن بعد سوء العلاقات بين البلدين، بسبب دعم نظام الشَّاه للحركة الكُردية، أخذ العراق يستقطب المعارضين الإيرانيين، ومِن بينهم الخميني ومَن معه.
بطبيعة الحال، أي معارضة، مهما كان عنوانها، عندما تتخذ مِن دولة أخرى ساحةً لمعارضتها، لا بد أن ترتبط بشكل مِن الأشكال بأجهزتها، والخميني لم يكن حالة شاذة، فقد تعاون مع النظام العراقي البعثي بشكل كبير، حتى كان يبغض معارضيه ويود مناصريه، لهذا كان سلبياً جداً مع أي معارضة عراقية إسلامية.
جاءت هذه المعلومات مِن شاهد عيان، وقريب مِن الخميني وخصم لشاه إيران، حفيد المرجع الشيعي الأعلى أبي الحسن الأصفهاني(ت1946)، موسى بن حسن الموسوي. قبل أن نأتي على دلال «البعث» للخميني، لنذكر مَن هو الموسوي صاحب كتاب «الثَّورة البائسة»(صدر 1980/1981). كان أحد رجال الدين، ومِن الدَّارسين للفلسفة والمدرسين لها، حاول السَّافاك اغتياله(1971) بالبصرة، فأصيب بجروح، لكن الرّصاصة القاتلة استقرت في جسد زميله أستاذ الفلسفة عبد الرَّزاق مسلم، مِن الطائفة الصابئية المندائية، وكانا في طريقهما لعيادة زميل لهما في جامعة البصرة. أصدر مؤلفات اعتبر بعضها محاولات إصلاحية، بما يخص فريضة «الخمس» ومبدأ «ولاية الفقيه» وغيرهما. منها «الشِّيعة والتَّصحيح»(1987)، و«المضطهدان»(1995)، و«إيران في ربع قرن»(1972)، «قواعد فلسفية»(1977)، و«من السهروردي إلى صدر الدِّين»(1980). كان يعتبر «الغيبة الكبرى» نكوصاً، فما بعدها انقسم المسلمون عدائياً إلى شيعة وسُّنَّة، حتى جاءت الحاكمية الإسلامية وولاية الفقيه لتغلقا باب الأمل في التّحول نحو عالم متطور. اختلفنا أو اتفقنا معه، له وجهة نظر مدعومة بأدلته.
ظل الموسوي على اتصال بالخميني مِن قمّ إلى النَّجف وحتى فرنسا، وكان صديقاً لنجله مصطفى الخميني(اغتيل1971)، وحضر اللقاء بين الخميني والمرجع محسن الحكيم (ت1970)، عندما أراد الأول للمرجعية النجفية تثوير الأوضاع ضد شاه إيران، واحتج الخميني بالحُسين ونهجه فاحتج الحكيم بأخيه الحسن ونهجه أيضاً.
هنا يذكر الموسوي العلاقة بين الخميني والسلطة في زمن حزب «البعث»، وقد كتب ذلك بعد أن أخذ الخميني يلح لقيام نظام إسلامي ببغداد، مِن دون اعتبار لِما كان بينه وبين الدولة العراقية مِن تعاون، وقد عبرت برقية الرَّئاسة العراقية، آنذاك، إلى الخميني عن الأمل بعلاقات حسن الجوار، لكن الرَّد جاء جافاً، بعبارة «مَن اتبع الهدى»، بعدها اعتبر النظام العراقي «كافراً»! فالخميني صاحب ثأر، لا ينسى تقييد حريته خلال الثَّورة، مع أن خروجه من العراق جاء بإلحاح من الشَّاه وليس مطروداً، فغادر إلى فرنسا محمياً، وإلا كان اغتياله أو حجزه سهلاً.
دعم العراق الخميني، وهو قابع بالنَّجف بالآتي: استقبال أتباعه، وتخصيص إذاعة بالفارسية تبث منها أفكاره، عبر برنامج «النهضة الرُّوحية» يقدمه محمود دعائي. أعفى عن أحد مؤيديه في ولاية الفقيه حسن الشِّيرازي المحكوم بالإعدام، بتوسط منه عند صدام حسين النَّائب آنذاك، وغادر إلى لبنان واستمر بالعمل فاغتيل هناك(1980). تدريب عسكري بإشراف «يزدي زاده». منح جوازات وتسهيلات سفر لخاصته. في هذه النُّقاط وغيرها يمكن اعتبار وضع الخميني داخل العراق شبيهاً بوضع «مجاهدي خلق» فيما عد.
كان يعطي دروسه داخل النَّجف في ولاية الفقيه بلا اعتراض. عندما اغتيل ولده مصطفى طلب السماح بدفنه حيث المرقد العلوي، وكان له ذلك بأمر من الرَّئيس أحمد حسن البكر(ت1982). بعدها قامت السلطة بحمايته، فعلاقته ببقية المراجع كانت سيئة بسبب وضعه، وقربه مِن الحكومة العراقية، بالوقت الذي أعلنت الأخيرة تآمر وجاسوسية نجل المرجع الحكيم محمد مهدي (اغتيل 1988)، ومطاردة الإسلاميين.
على الرَّغم مما تقدم جعلت الثَّورة الإيرانية العراق أول محطة تصدير، بهاجس قيام الدَّولة الإسلامية ببغداد، مما أنسى الخميني التَّفكير في التَّعاون المشترك، الذي أبداه العراق عبر برقية التَّهنئة. هناك ما لم يُقل بعد عن مقدمات انفجار الحرب بين البلدين. أما إصرار الخميني على استمرارها فهذا مشهور. السؤال: كيف لرجل دين بدرجة آية الله يتلاعب بالكفر والإيمان حسب الموقف السياسي؟ كيف كان العراق، «مؤمناً» طالما كان مدللاً لدى نظامه، وكيف أصبح «كافراً» بعد الثَّورة مباشرةً؟! لكن مَن عرض المرجع شريعتمداري(ت1985) يعلن توبته على شاشة التلفزيون لا يستغرب منه القياس السِّياسي في التَّكفير.
أخيراً يُضاف لمنافع الخميني مِن «بعث» العراق؛ إِتقان الدَّرس كيف يكون البطش بالخصوم بعد السُّلطة، ولبصير المعرة: «كحمائم ظَلَمتْ فنادى أجدل(الصَّقر)/إن كنتِ ظالمةً فإني أظلَمُ/يتشبه الطَّاغي بطاغٍ مثله/ِوأخو السَّعادةِ بينهم مَن يَسلمُ»(لزوم ما لا يلزم). أقول: وهل في التَّاريخ ثورة سلمت مِن التَّشبه بالَّذي ثارت عليه؟!
5 تدارك أزمة الانتخابات مشرق عباس الحياة السعودية
أثبتت آخر التجارب الانتخابية في العراق، أن ثمة مشكلة تأسيسية في عدالة التمثيل، ومشكلة أخرى تتعلق بنزاهة الآليات الانتخابية، وثالثة تخص فلسفة الانتخابات وغاياتها في مجتمع شديد التنوع كالمجتمع العراقي.
ولا بد من الاعتراف بأن الوصول إلى تمثيل انتخابي متفق عليه، مهمة صعبة، فمن جهة تفرض الاشتراطات الدستورية التي تتعلق بكوتا النساء والأقليات، نمطاً معيناً من المنظومات الانتخابية، ومن جهة اخرى يعزز فقر قواعد البيانات السكانية والادارية، وغياب التعداد العام، وتقاعس مفوضيات الانتخابات القناعة بصعوبة تحقيق هذه المهمة.
لكن ما وصلت اليه العملية الانتخابية في العراق من تشكيك ومقاطعة واتهامات بات يفرض، بلا أدنى لبس، على المجتمع العراقي تعديل البنية الانتخابية برمتها.
في كواليس ورش العمل الانتخابية يتم طرح اشكاليات دستورية واجرائية وادارية اكثر تفصيلاً وجدية حول بعض المطالب السياسية باعتماد نظام (القائمة المغلقة والدائرة الواحدة)، أو الشعبية، باعتماد نظام (دائرة انتخابية لكل مقعد)، أو حتى الإبقاء على الطريقة الحالية (دوائر متعددة وقوائم شبه مفتوحة).
لكن دولاً كثيرة عبر العالم مرت باشكاليات مشابهة حول انظمتها الانتخابية، وكثير منها لجأ إلى ما يسمى نظام «التمثيل المختلط»، لتحقيق التكامل المطلوب بين إيجابيات الطرق الانتخابية المختلفة.
والمقترح المقدم يشير الى تحقيق نسبة 50 في المئة من مقاعد البرلمان من نظام الصوت الواحد، بما يسمح بالانتقال بعدد الدوائر الانتخابية من 18 حالياً تمثل المحافظات الى نحو 120 دائرة (الاقضية) تنتخب كل منها من مقعد الى 3 مقاعد بحسب الكثافة السكانية، على أن يتم في الوقت ذاته التصويت للقوائم الحزبية المغلقة على المستوى الوطني بـ50 في المئة من المقاعد مع ضمان «الكوتا» النسوية، وقد يضاف إلى ذلك تحقيق عتبة وطنية معينة للقوائم تجبرها على تحقيق اصوات في معظم المحافظات العراقية.
ويذهب الكثير من الباحثين في هذا الشأن الى أن نظام التمثيل الحالي (طريقة سانت ليغو) ليس أساس مشكلة الانتخابات العراق، بقدر الثغرات التي يفرضها النظام وتستثمرها القوى الحزبية التقليدية لتعزيز قوتها، ومن حيث المبدأ يبدو ذلك سلوكاً مشروعاً للاحزاب الكبيرة التي تدعم فرضيتها بان تقليص عدد الأحزاب في البرلمان يسهل تشكيل الحكومات ويحقق الاستقرار السياسي، لكن التجارب أثبتت عكس ذلك، فالأحزاب العراقية التي تصدرت في مرحلة ما بعد عام 2003 هي في الغالب تجمعات فئوية او مصلحية او اعتباطية لم تسهم قوتها البرلمانية في انتاج انماط حزبية صحية وطبيعية، كما انها لم تفلح في اخراج حكومات مستقرة، ناهيك عن كونها هددت وتهدد الأمن والسلم المجتمعي، وتقود إلى تقسيم البلاد.
المطلوب من اي قانون جديد للانتخابات في العراق ان يسمح بانتاج وتنمية قوى سياسية عابرة للاعتبارات الطائفية والقومية باعتبارها تمثل ازمة تكوينية في العراق، مثلما يشجع على نيل شخصيات مستقلة مقاعد برلمانية على أساس سمعتها وشعبيتها في الدوائر التي تترشح عنها.
إن المضي الى قانون انتخابات جديد يجب ان لا يكون مهمة اللحظات الاخيرة قبل انتخابات 2022 بل على كتلة الحكومة ان تتبنى هذا المطلب كجزء من برنامجها، الذي يجب ان يتضمن ايضاً تأسيس مفوضية انتخابات مستقلة ونزيهة وباليات عمل معقدة تعد مبكراً للانتخابات، وتستمر في إجراء تسجيل سنوي للناخبين وتحديث بياناتهم عبر فرق جوالة.
ويمكن الاحتجاج على ما سبق بالقول، إن القوى التي وصلت إلى البرلمان عبر آليات انتخابية معينة، لن تسمح في نهاية المطاف بتغيير تلك الآليات، وسوف تتبنى التسويف والمماطلة وتقديم الأعذار للدفع بقانون الانتخابات إلى نهاية الدورة البرلمانية.
وكل ذلك متوقع، لكن ماهو متوقع ايضاً، أن يكون التشكيك بنزاهة الانتخابات الحالية شعاراً اساسياً مرفوعاً للسنوات الاربع المقبلة وسيمثل تهديداً جدياً لمجمل الحياة السياسية.
لن يكون انقاذ العراق عبر قانون انتخابي بالتأكيد، لكن التمثيل الحقيقي والمنصف لإرادة الناخبين من شأنه أن يحقق الاستقرار السياسي المطلوب قبل المضي إلى الإصلاحات الأخرى.