1 حملة شعبية عراقية عنوانها: من دمر الموصل؟
سلام الشماع العرب بريطانيا
الدعوة ملحة للقيام بحملة شعبية واسعة عنوانها “من دمر الموصل؟” لمحاكمة كل من أسهم في ذلك التدمير البشع وعدم الاكتفاء بجولة أنجيلينا جولي بين خرائب الموصل وذرفها للدموع دون أن تطرح سؤال من دمر الموصل؟
لكي لا يذهب دم هذه المدينة العريقة هدراً
ليست الموصل بيتا يدمر ثم تنطوي قصة تدميره ويلفها النسيان، فهي ثاني أكبر مدينة عراقية بعد العاصمة بغداد، وقد عوملت وأهلها وفق سياسة الأرض المحروقة عند طرد مسلحي تنظيم داعش منها، وشاعت قصص العائلات المدفونة تحت منازلها، التي دمرتها قوات الحكومة وطيران التحالف بلا رحمة، ثم إجهاز الميليشيات الإيرانية على ما تبقى منها.
إن الدعوة ملحة الآن، إلى القيام بحملة شعبية واسعة عنوانها “من دمّر الموصل؟” لمحاكمة كل من أسهم في ذلك التدمير البشع وعدم الاكتفاء بجولة الفنانة العالمية أنجيلينا جولي سفيرة النوايا الحسنة بين خرائب الموصل وذرفها للدموع من دون أن تطرح هذا السؤال المهم: من دمر الموصل؟
وبدأت فعاليات شعبية عراقية، بالفعل، تتهيأ لتنظيم مثل هذه الحملة لكي لا يذهب دم هذه المدينة العريقة هدراً.
في قضية الموصل ومناقشتها والحديث عنها، وقع العراقيون تحت أكبر ابتزاز، فما أسهل أن يُنعتَ من يريد مناقشة القضية بموضوعية بأنه داعشي، لذلك تجنب الكثير الخوض في هذه القضية مما جعلها مسكوتاً عليها ومحاطة بالكتمان لا يعلو فيها سوى صوت الجاني، الذي تحت سيطرته قاعدة المعلومات، وليس بمقدور الضحية التأثير في قاعدة المعلومات هذه، ومن شأن هذه الحملة الشعبية المذكورة أن تُسمعَ العالم صوت الضحية بعد أن ملأ صوت الجاني الأرجاء.
والضحية هنا، هم العراقيون عامة والموصليون خاصة، فالأخيرون وقع عليهم العدوان والأذى من داعش ومن “المحررين”، والأولون دُمرت ثاني مدينة في بلدهم كانت تمثل مخزون تاريخهم وتراثهم.
وفي حينها، أعدّت لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي تقريرا حول سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، واكتفى البرلمان بالتصويت عليه وإحالته إلى القضاء العراقي، ولم تشهد جلسة التصويت جدلا بين أنصار رئيس الحكومة السابق نوري المالكي المتّهم بالتقرير، وخصومه، كما كان متوقعا، إذ هدد نواب ائتلاف دولة القانون بالاستقالة إذا لم يحذف اسم المالكي، الذي طلع بتصريح يسفّه فيه التقرير، واصفا النتيجة التي توصّل إليها بأنها لا قيمة لها، وتعهد رئيس المجلس سليم الجبوري في بداية الجلسة لنواب ائتلاف دولة القانون بالاكتفاء بطلب التصويت وعدم قراءة تقرير لجنة التحقيق خلال الجلسة.
وفي حركة استعراضية أعلن الجبوري، في مؤتمر صحافي عقده عقب انتهاء الجلسة، قائلاً إن جميع الأسماء الواردة في تقرير لجنة الموصل ستحال إلى القضاء والادعاء العام وهيئة النزاهة، مشددا على أنه “لا يوجد أحد فوق القانون، مهما كانت مناصب الأشخاص الواردة أسماؤهم، وعدم استثناء رئيس الحكومة السابق نوري المالكي من الإحالة إلى القضاء وفق ما ورد من توصيات في التقرير”.
وكان آخر الذين تم التحقيق معهم هو أثيل النجيفي، محافظ نينوى، الذي استغرق استجوابه أكثر من 7 ساعات متواصلة، والذي قال إن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وقائد الشرطة الاتحادية كانا السبب الرئيس في سقوط مدينة الموصل في يونيو 2014 بيد عناصر داعش.
وقيّم تقرير اللجنة الأموال، التي ذهبت ظهيرة سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، بـ600 مليون دولار أميركي، أما قيمة المعدات العسكرية، التي تركتها القوات العراقية لتنظيم داعش، خلال الانسحاب من الموصل، فقدّرتها بـ2 مليار دولار أميركي.
وكانت النتيجة أن القضية لفلفت ولم يقدم أي من الذين وردت أسماؤهم في التقرير لا إلى القضاء ولا إلى الادعاء العام ولا إلى هيئة النزاهة، وشرب المقلب من شرب لكن العراقيين لم ينسوا شيئاً من ذلك.
والأسماء الواردة في التقرير والتي تسرب إلى الصحافة الكثير منها أظهرت تورط شخصيات سياسية أبرزها القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ورئيس أركان الجيش بابكر زيباري ومحافظ نينوى أثيل النجيفي، بالإضافة إلى أسماء شخصيات أخرى منها قائد القوات البرية السابق الفريق أول ركن علي غيدان، ومدير الاستخبارات العسكرية السابق الفريق حاتم المكصوصي، ومعاون رئيس أركان الجيش لشؤون الميرة السابق الفريق الركن عبدالكريم العزي، وقائد عمليات نينوى السابق الفريق الركن مهدي الغراوي، ووكيل وزارة الداخلية السابق عدنان الأسدي، فضلاً عن قادة في الجيش والشرطة والشرطة الاتحادية بالإضافة إلى كل من مدير دائرة الوقف السني في الموصل أبوبكر كنعان، ونائب محافظ نينوى السابق حسن العلاف، ومسؤول صحوة نينوى عضو مجلس العشائر أنور اللهيبي.
ثم جاء العبادي ليكون بطل “تحرير” الموصل، ذلك “التحرير” الذي كان تدميراً للمدينة وقتلاً لأبنائها الذين مازالت جثث الكثير منهم تحت الأنقاض، بعد أن حذرتهم القوات المهاجمة من مغادرة منازلهم ولم تسمح لهم بطريق آمن ينجيهم من الهلاك، بحجة أن مسلحي داعش قد يتسربون من هذا الطريق وينجون.
إلى الآن، لم تشكل أي لجنة للتحقيق في قضية تدمير الموصل، وحتى إذا شكّلت مثل هذه اللجنة فمن الضامن أنها لن تنتهي إلى مثل ما انتهت إليه لجنة البرلمان الخاصة بالتحقيق في قضية سقوط الموصل بيد داعش؟
2 الموصل بين مشهدين: أنجلينا والبغدادي رشيد الخيّون الاتحاد الاماراتية
زارت الممثلة الأميركية أنجلينا جولي الموصل قبل أسبوعين (16 يونيو 2018)، ولنا تسميتها «المُحسنة»، فمَن لُقبوا بالمحسنين والمُحسنات ليسوا أكثر منها خيراً لضحايا الكوارث. صرحت أمام مشهد الخراب الفظيع: «إنه أسوأ دمار رأيته خلال فترة عملي مع مفوضية شؤون اللاجئين، الناس هنا فقدوا كل شيء، هدمت منازلهم، يعانون الفقر، ولا دواء لأطفالهم.. إنهم محاطون بجثث تحت الأنقاض» (وكالات أنباء).
قبل المقابلة بين أنجلينا الممثلة وأبي بكر البغدادي (زعيم «داعش»)، نُذكر عن مسؤولية اجتياح الموصل. نعم، إنهم بضع مئات من مقاتلي «داعش» في سيارات «الجيب»، لكن مَن المسؤول عن هروب الجيش الجرار مِن الموصل؟! وما هي مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة، الذي كوفئ بعد الهزيمة النّكراء بمنصب نائب رئيس الجمهورية، ولم يحضر لمساءلة أو استجواب أو توضيح، والدُّعاة حينها من حزبه شبهوا ما حصل بمعركة «أُحد» (3هـ)، ولم يفكروا بفظاعة الفضيحة؟
وضع جولي الأَب قدم ابنته على طريق الفن، فنجحت بمشاركته في فيلم سينمائي (1982)، ثم بدأت حياتها ممثلةً محترفةً، حصدت الجوائز ومن بينها «أوسكار»، حتى ذاعت شهرتها في عالم السينما، ومِن ثم فاقت شهرتها التصور في مجال الإنسانية. أصيبت بمرض السرطان وأجرت عمليات كبرى، بعد أن أنجبت ثلاثة أطفال، وأصبحوا سبعة، فالأربعة الآخرون أولادها بالتبني. لم يقف عند تبنيهم أمامها دينٌ أو مذهبٌ أو عرقٌ، وهذه رسالة بليغة للعنصريين والطائفيين مِن بني البشر، ومنطقتنا تأتي في المقدمة، عندما أخذ وجهاء الأديان والطوائف يعاملون الناس على الأسماء، ويقتلونهم على الهويات. تبنت أنجلينا أطفالها الأربعة، مِن كمبوديا وأثيوبيا وسوريا وفيتنام، ولا أظنها بدلت الأسماء التي اختارها آباؤهم، فهذا لا يعنيها.
أصبحت المُحسنة انجلينا الأكثر تأثيراً في حياة المنكوبين، أينما تحل تبتسم الوجوه، رغم غبار الخراب وشبح الموت. تشهد صورها مع المنكوبين على ذلك. اختيرت أنجلينا سفيرة النَّوايا الحسنة لدى مفوضية اللاجئين منذ سبعة عشر عاماً، زارت خلالها نحو عشرين بلداً، أقيمت على أرضها مخيمات للاجئين. كلُّ مصروفات سفرها وما تُقدمه من خير من حسابها الخاص. مليون دولار لضحايا حروب الإسلاميين بأفغانستان، ومثلها لضحايا حرب دار كافور، والصومال وغيرها، وبالجملة قدمت عشرين مليون دولار لمساعدة ضحايا الحروب.
أما «إبراهيم عواد البدري»، فأصبح قائداً في تنظيم «القاعدة»، وأميراً لـ«دولة العراق والشَّام الإسلامية»، ثم على رأس «دولة داعش» بعد المبايعة التي أطلقها يوم اجتياح الموصل (10 يونيو 2014) مِن مسجدها الكبير. قالها متشبهاً ومتنطعاً: «أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»! حصل البغدادي على الشَّهادة الجامعية، ثم الماجستير والدكتوراه، في الدِّراسات القرآنية، وصار خطيباً وإماماً لأحد جوامع ببغداد، خلال «الحملة الإيمانية». ومن إنجازاته: تدبير نحو ثلاثة وعشرين تفجيراً، وتنفيذ هجمات ثأراً لزعيمه بن لادن (2011)، وسلسلة هجمات مثلها ببغداد راح ضحيتها عشرات العراقيين الأبرياء. خلال على الموصل هُتكت أعراض نسائها مِن شتى الأديان، والأيزيديات عُرضن بأسواق النخاسة، وطُبقت حدود «الشريعة» حرفياً.
لا أدري كيف أجزت المقابلة بين البغدادي وأنجلينا التي تشبعت بفن التمثيل وانطلقت منه ومِن مرضها إلى ضفاف الإنسانية الرحبة، بينما البغدادي قد تشبع بالأفكار الأصولية، حتى صار خطيباً يهز عصاه بوجوه المصلين مذكِّراً بالقيامة. فهل هذه المقابلة، أو المفارقة الكبرى، تجعل القائمين على المناهج والدراسات الدينية يلتفتوا إلى نتاج مناهجهم وشيوخ تعليمهم؟! أم ستبقى المكابرة وتُحصر المسؤولية بالبغدادي نفسه، لا بتعليمه؟! أقول: هل شعر الذين اعتبروا انتصار البغدادي بالموصل ثورة وتحريراً، بالخجل، مما كانوا يشعرون به، ويؤيدونه بالأقوال والأفعال؟! لقد فتحت أنجلينا بوقوفها على خراب الموصل جُرحاً غائراً في أعماق ذواتنا.
أحرجت أنجلينا الأعراف والثقافات الظلامية، والتعاطي بالطائفية تعالياً على الغير، وهي تشم رائحة الأجساد المتعفنة تحت الأنقاض. فأي فظاعة هذه، ومَن يُجيد التعبير عنها، بحرف أو فعلٍ، فالمعاني تهرب من الألفاظ عند التفكير بالكارثة. عندما يصبح انتصار «داعش» على الموصل تحريراً، وعندما توظف هزيمته بنصر طائفي، وهيمنة أخرى، ليس أقل افتراساً منه إذا ما بقي السلاح بيد الوجه الآخر لـ«داعش».
لم يستقبل الشعراء أنجلينا، ليس لأنها لا تستحق قصائدهم، ولكنَّ الخراب لم يترك شعراء لمثل هذه المواقف، مثلما استقبلوا أُم كلثوم (ت 1975) ببغداد، وما بين الضيفتين وشيجة الفن. كان ذلك زمان بناء (1932)، وهذا زمان ابتلاء (2018). تخيلوا أن الفارق ستة وثمانون عاماً! وكأن العِراق خلا مِن الشعراء، والكلام يُنسب لعنترة: «هل غادر الشُّعراء مِن مُتَردَّمِ/ أَم هل عَرفتَ الدَّار بعدَ تَوَهم». فمعنى «المُتَرَدَّم»؟! الموضع المستصلح بعد الوهن (الزَّوزني، شرح المعلقات). إنه وهن وخراب البغدادي وإصلاح وإحسان انجلينا.
3 «المسبار» يقدم: «النقشبندية: النص والتاريخ والأثر الحياة السعودية
يواصل كتاب «المسبار» الشهري «النقشبندية: النص، التاريخ، الأثر» (الكتاب الـ134، شباط/ فبراير 2018)، دراسة الظاهرة الدينية وتشكلها عبر التّدين الجماعي والفردي، وتأثرها في المحيط الثقافي، ثم تطورها وفقاً للزمان والمكان والرجال. ويختار الطريقة النقشبندية لتوضيح معاني التصوّف السّني، وهو واحد من أعمدة في الطرق الصوفيّة السنية اللاحقة لها، وعمّ تأثيرها النطاقين الآسيوي والأفريقي. ومايزال حضورها السياسي والاجتماعي محط اهتمام الباحثين، واستطاعت مبادئها في الذكر والتربية الروحية أن ترسخ قيماً جديدة على الممارسة الصوفية.
الطريقة النقشبنديّة: استقراء تمهيديّ
يقدم حامد ألجار (أستاذ فخري بريطاني – أمريكي في الدراسات الفارسية، في كلية دراسات الشرق الأدنى جامعة كاليفورنيا) في دراسة نُشرت باللغة الإنكليزية محاولة استقراء مجمل تاريخ النقشبنديّة في مساحة بحثه. وترتب عنها بالضرورة تبسيط كبير وإسقاطات كثيرة، خصوصاً في ما يتعلّق بالتطورات الأخيرة للنقشبنديّة في آسيا الوسطى وتوسّعها في سيبيريا والصين. لكن يمكن تبرير المحاولة بأنّها نجحت في إظهار تواصل الطريقة مع أصولها المبكّرة؛ وفي إظهار أنّها لعبت دوراً مميّزاً ومتماسكاً على امتداد تاريخها؛ وبالتالي في شرح تعريف التصوّف الذي كان نقطة انطلاقة بحثه.
يتناول النقشبنديّة: التاريخ والسلسلة وروابطها، مستعرضا سيرة بهاء الدين وتبلور النقشبندية، وتوسعها والدور السياسي الذي لعبته، ويتناول ألجار أيضاً، السرهندي في سياق التاريخ النقشبنديّ، والتأثير النقشبندي المجددي. إذ يُعتبر من أهمّ الشخصيات في السلسلة النقشبنديّة بعد بهاء الدين، فعلى غرار أثر شخصيّة بهاء الدين نقشبند الروحيّة على السلسلة التي سُميّت بلقبه، أدّى تأثير السرهندي إلى إلحاق مصطلح «مجدّدي» بلقب نقشبنديّ للإشارة إلى الفرع المتأثّر به. وفي الواقع، فإنّ غالبية المجموعات النقشبنديّة المتبقّية تعرّف نفسها بصفتها «نقشبنديّة مجدديّة».
النَّقْشَبَنْدِيَّة في إِيران ومَا وَراءَ النَّهْر
تناول الباحث المصري المتخصص في التاريخ الإسلامي أحمد محمود إبراهيم نشأة النقشبندية في إيران ومبادئها، ويعرف الطريقة النقشبندية في سياقها التاريخي الذي نشأت فيه فحدَّد لها وجهتها ورسم لها طريقها، منذ ظهورها الأول في شرق إيران وما وراء النهر إبان القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، مروراً بما عرفته من ألوان النمو والتطور على يد مشايخها الأوائل ورجالها، مثل: يوسف الهمذاني، عبدالخالق الغجدواني، ومحمد بهاء الدين نقشبند البخاري.
اتخذت ورقته من مطلع القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) حدّاً زمنيّاً تنتهي إليه. وشملت تعريفاً موجَزاً في أعلام الطريقة، وتضمَّنت حديثاً عن الملامح العامة للطابع السُّني الذي امتازت به، وعرضاً لمبادئها الدينية وما أرسته من آداب في السلوك الرُّوحي، ورصداً لجانبٍ من نشاطها في المجال العام، وبياناً لموقفها من السُّلْطة وموقف السُّلْطة منها.
معالمُ التربية الرُّوحية عند مولانا بهاء الدين شاه نقشبند
يستعرض الباحث المصري محمد السيد البرسيجي، واسطة عقد مشايخ الطريقة العلية، والتي سُمِّيت الطريقة بشهرته التي اشتهر بها، محمد بهاء الدين، المعروف بشاه نقشبند، وعن معالم وخصائص التربية الروحية لديه من خلال المصادر العربية والمترجمة التي وقفتُ عليها، وهي غير كثيرة.
ويلفت إلى مسألة التعامل مع الصوفية باعتبارهم أصحاب فلسفةٍ نظريةٍ، أو آراء فكريةٍ ناتجة من مجرد النظر المنطقي والفلسفي في الأشياء، ويرى أن تلك النظرة نشأت من بعض الدراسات الاستشراقية للتصوف. فمناهجُ الصوفية، وخصوصاً منها النقشبندية، ليست وليدة النظر العقلي المحض، وليست بناءً على اجتهادات فكرية فلسفية مبناها النظر في طبيعة وحقائق الأشياء، وإنَّ محاولة إرجاع كلِّ مذهبٍ صوفيٍّ إلى رأي فلسفي (يوناني، أو هندي، أو آسيوي) ليست إلا تِيهاً في براري لا خروج منها، فمناهج الصوفية هي محض التجربة الإنسانية الصافية في أجلى وأبهى صورها، لكلِّ صوفي طبيعته وفلسفته الخاصة، التي من الضروري أن نبحث عنها من خلال سيرته وحياته وما خلَّفه من مؤلفاتٍ أو ما تركه من تراثٍ أو آراء.
تفرعات النَّقشبندية: مشيختا البارزانية وحه قه
يشير الباحث العراقي في التراث والفلسفة الإسلامية رشيد الخيُّون، في مستهل دراسته، إلى أن هناك حاليّاً طريقتان صوفيّتان في كردستان العراق، هما: القادريّة والنقشبنديّة، والأولى أكثر انتشاراً بين عامّة النّاس، والثانية هي الأقرب إلى الوسط الثقافيّ، ولعلّ السَّبب في ذلك أنّ القادريّة تعتمد رياضة الأفعال الخارقة، مثل التهام النار، وطعن الجسد بالسيف والخنجر، وملاعبة الأفاعي وغيرها من المخاطر، التي تجذب النَّظر، بينما شاعت النقشبنديّة في الوسط الثقافيّ إلى حدّ ما، لطبيعة طقوسها وتجرّدها عن تلك الرِّياضات، وهو ما يركز عليه الباحث.
وقدم الخيُّون لوجود جماعتين انسلختا من النَّقشبندية: المشيخة البارزانية، ومشيخة حه قه، لم يكن انسلاخاً كاملاً، ويرى أنهما مازالا يعترفان بانتمائهما إلى الطريقة الأم، مع الاختلاف في الأفكار والممارسات، والنَّظرة الخاصة إلى العبادة والمعاملة. ومع تقاربهما في الأفكار وولادتهما مِن رحم واحد، إلا أنهما لم يلتقيا، وكذلك لم يتواجها، وهذا ربَّما لا يعني النشاط السياسي المسلح، فالانتماء في هذا المجال له هدف وإطار مختلفان، أي إن السياسة تلعب دورها، فحصل أن عدد من شباب مشيخة حه قه التحقوا في الحركة الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني، ولكن ليس على أساس يتعلق في المشيختين وتقاليديهما.
غير أن ما يفرقهما هو ميل المشيخة البارزانية للعمل المسلح، بينما مالت مشيخة حه قه إلى السلم، وإذا كانت لديها مشاكل مع الحكومات العراقية، فالأمر يرتبط بتعاليمها الخاصة، واعتراضها بشكل من الأشكال على سياسة السلطة، من دون أن تسعى إلى حمل السلاح، أو تشكيل ميليشيا، أو جيش مقاتل، وهو ما عُرف كردياً بـ«البيشمركة». مع ذلك، فالبارزانية حاولت في ظل مشيخة أحمد البارزاني المحافظة على التقاليد النقشبندية في السلم، وخصوصاً بعد الإعدامات والآلام التي حصدتها في ثوراتها المتعددة ضد الحكومات العراقية. كذلك كان لمشيخة بارزان تقاليد قبلية، شكلت طابعاً اجتماعياً خاصاً بها، كقيادة اجتماعية وسياسية أيضاً، من طريق الحزب الديموقراطي الكردستاني، المعروف بـ«البارتي»، وسبقت الإشارة إلى تميز هذه العشيرة بالعمامة الحمراء، والتي صارت تقليداً معروفاً، لا يخل به أحد من بقية الكُرد، وهذا ما لم يتميز به مشايخ حه قه عن غيرهم مِن الأتباع، وإذا كانت للأخيرين ارتباطات في السياسة؛ فيبقى بحدود التأييد أو الشجب، وليس التنظيم والقيادة، مثلما هو الحال عند البرزانيين. أما ما يتعلق في الدِّين وممارسة العبادة، أو لنقل التدين، فما زالت المشيختان متميزتين فيه عن بقية الطريقة الأم النقشبندية، وعن المجتمع الكردي بشكل عام. ظهرت في المشيختين آراء وممارسات بعيدة بعض الشيء عن تقاليديهما، وهذا أمر طبيعي فكل فكرة أو ممارسة، وخصوصاً إذا كانت اجتماعية، تبلغ حداً معيناً وتنشطر على نفسها، وإذا ظلت البارزانية، على رغم ظهور تفرعات في داخلها، مثل الخورشيدية، وحزب الله بزعامة محمد خالد أحمد البارزاني (ت 2005)، إلا أنها ظلت محافظة على قوة حضورها، والأمر على ما يبدو يتعلق في مكانتها السياسية، أما مشيخة حه قه فلم تستطع المحافظة على قوتها، بل إن وجودها بات مهدداً، كتقاليد وأعراف.
حضرة المُجدِّد في نظر مُفكِّري الشرق
ترجم مركز «المسبار» دراسة لمحمد مسعود أحمد، وهو باحث هندي متخصص في التصوف، حملت عنوان «حضرة المُجدِّد في نظر مُفكِّري الشرق»، تناول فيها سيرة حياة شاه ولي الله المحدِّث الدَّهلوي، متحدثا عن سلسلة الحديث التي أخذ فيها ولي الله الطريقة من أبيه الشيخ عبدالرحيم، عن السيد عبدالله، عن الشيخ آدم البنوري، عن الشيخ أحمد السرهندي، عن أبيه الشيخ عبدالأحد، عن شاه كمال، وإضافة إلى سلاسل الطريقة، فإنَّ سلسلة الحديث لحضرة السيد شاه تصلُ إلى حضرة المجدِّد عبر ثلاثة أسانيد، ذكرها وهي: مشكاة المصابيح، وصحيح البخاري، وغيره من الصحاح الستة. كان حضرة شاه ولي الله متأثراً في السلسلة العَليَّة النقشبندية، وبحضرة المجدِّد بصفة خاصة، فأورد في كتابه «القول الجميل» مصطلحات مشايخ النقشبندية، واللطائف الست، وتصرُّفات السَّادة النقشبندية، وذَكَرَها.
وفي ضوء تجاربه ومشاهداته الشخصية، يرى أن حضرة المجدِّد تقدَّم خطوةً إلى الأمام من نظرية وحدةِ الوجود، وقدَّم نظرية وحدة الشُّهود، ولما كان التأويلُ والتفسير المُخطِئ لتصوُّر وحدة الوجود أفسد المناخ العام في عصر حضرة المجدِّد، تولَّى سيادتهُ مهمةَ التأويل والتفسير الصحيح له، وقدَّم نظريةً لا تشوبُها أيُّ شائبةٍ من التأويل المُخطئ، أي: تصوُّر وحدة الشُّهود. وإضافة إلى ذلك أصلحَ الأسلوب الفكري للمشايخ الذين كانوا يعتبرون الشريعة والطريقة حقيقتين منفصلتين، فبرهنَ حضرة المجدِّد بالدليل العقلي والنقلي على أنَّ كلاً من الشريعة والطريقة هو عينٌ للآخر، وليس بينهما مثقالُ ذرة من فرق.
وبتلك الطريقة قضى حضرة المجدِّد على الفتن التي كان يُمكن أنْ يندلعَ لهيبها أو كان يندلع بسبب الفصل بين الشريعة والطريقة. الأمر الثالث الذي فعله، أنه برهن على أنَّ الرقص والموسيقى لا أساسَ لهما من الصحة، واستبعدهما من الذكر والأذكار، مخالفاً بعضَ المشايخ الذين كانوا أدخلوهما في الذكر، والبعض الآخر كان يتصورُ أنهما يحلَّان محل الذكر، وعقدَ حضرة المجدِّد مقارنة بين حقيقة الصلاةِ وحقيقة الرقص والموسيقى، وأخبرنا بأنَّ منبع السكون والطمأنينة يكمنُ داخل القلب، ونحن نبحثُ عنهما في الخارج، وما من نشاطٍ يَفُوقُ الصلاةَ في بلوغ السكينة القلبية، واللذة الرُّوحِيّة.
النقشبندية وفرعها «النقشبندية المجددية» في الحرمين
نشرت هذه الدراسة للمحاضر والمؤرخ الفلسطيني عطا الله قبطي، في مجلة (Die) «عالم الإسلام» الهولندية، في نيسان (أبريل)، المجلد (43)، العدد (3)، 2003. يشير فيها إلى أن مدينتي الحجاز المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة، شهدتا منذ الفترة المملوكية من العام 648هـ (1250م) حتى 923هـ (1517م) زيادة في مكانتهما مركزين للتعلم الإسلامي، يعود الفضل في ذلك إلى دعم السلاطين المماليك الذين قاموا بإنشاء وتمويل مجموعة واسعة من المؤسسات التي كانت تهدف للتعليم وممارسة الأنشطة الصوفية بما في ذلك المدارس والأربطة والزوايا والخانقاوات.
ويركز قبطي على تأثير النقشبندية وفرعها (النقشبندية المجددية) التي تُنسب للشيخ أحمد السرهندي (ت 1034هـ/ 1624م)، والذي دُعي من قبل أتباعه بـ«مجدد الألف الثاني». وسيتناول البحث مصادر جديدة متعلقة في انتشار هذا الفرع من الطريقة في الحرمين، محاولاً معرفة الآثار المترتبة لهذا الانتشار على مجتمع علماء الحجاز. ودخول النقشبندية إلى الحرمين، والنقشبندية المجددية إلى الحجاز.
ويقول الباحث: «دخلت النقشبندية وفرعها النقشبندية المجددية إلى الحرمين في القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي، وإلى الاتجاه الصوفي العام في المدينتين المقدستين خلال تلك الفترة»، محدداً ثلاثة جوانب من هذا الاتجاه أسهمت في النجاح الخاص الذي حققته النقشبندية ضمن ذلك السياق.
أولاً: التأكيد الجازم أن الطريقة تلتزم الشرع، وسلسلتها تعود إلى أبي بكر الصديق، الذي يشكل صلة الوصل، و«واسطة العقد»، بينما معظم الطرق الأخرى التي تربط نفسها في علي بن أبي طالب. ويؤكد مشائخ النقشبندية التزامهم أحكام الشريعة واتباعهم السلف الصالح. المبادئ الأخرى للنقشبندية، مثل «الخلوة في الجلوة»، والذكر الخفي تميل لتعزيز هذا الادعاء الذي يؤسس للنقشبندية في أعين أتباعها بأنها: «الطريقة العلية السالمة من كدورات جهالات الصوفية».
ثانياً: الجانب الثاني الذي يبرز بين النقشبندية هو انتماءاتهم إلى عدد آخر من الطرق إلى جانب طريقتهم النقشبندية. عبّر إبراهيم الكوراني عن ذلك من خلال اقتباس من نجم الدين كبرى (ت 618هـ/ 1221م): «الطرق إلى الله كثيرة بعدد أنفاس الخلق بلا حصر». ويبدو أن هذا المنحى هو السمة المميزة لصوفية الحجاز في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي). ويبدو أن موقف التوفيق هذا كان له أيضاً تأثيره على الجوانب العقدية والخلافية، مثل العداوة القديمة بين المؤيدين للتصوف وبين ناقديه، وخصوصاً فيما يتعلق بابن عربي وناقده الشرس ابن تيمية (ت 728 هـ/ 1328م). صوفية الحرمين برئاسة القشاشي والكوراني حاولوا في معظم كتاباتهم إظهار أن عقيدة ابن عربي لم تكن اتحادية مادية، ولا مناقضة للشريعة. على العكس من ذلك، نُظر إلى ابن عربي على أنه متفق مع أهل السنة والجماعة بقدر أبي الحسن الأشعري والغزالي.
ثالثاً: واحدة من التطورات المهمة، بل وغير المسبوقة في الحرمين في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، هو الاهتمام الكبير في كتابات ابن عربي. ويرجع ذلك أساساً إلى صوفية الهند مثل صبغة الله البروجي. كذلك أكد صوفية الحرمين التوافق بين الشريعة والحقيقة، أي التصوف.
تكلم القشاشي عن ذلك بطريقته قائلاً: «الدخول إلى أي طريقة من طريق التلقين والصحبة مع شيخ يشبه الدخول إلى الشريعة من خلال ذكر لا إله إلا الله». كذلك يصف الكامل بأنه واسطة بين الشريعة والحقيقة. وهذا الاتجاه وجد أيضاً التعبير عنه من خلال الجمع بين علوم الحديث والتصوف، والذي يتكرر بشكل وثيق في كتابات القشاشي والكوراني من بعده.
لقب المحدث الصوفي، أو الصوفي المحدث والذي يمكن أن نجده يطلق على بعض علماء الحرمين في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) هو شاهد مهم على هذا التوجه. وهذا التراث الصوفي في الحرمين في القرن الحادي عشر (السابع عشر) وتوجهاته التوفيقية كان ذا أهمية كبيرة لحركات التجديد والإصلاح اللاحقة في الإسلام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
الطرق الصوفية في سيبيريا
نُشرت دراسة المؤرخ الفرنسي المتخصص في دراسات الإسلام، مدير أبحاث المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا تييري زاركو في الفرنسية، في مجلة (Cahiers du monde russe) الجزء (41) العدد: 2/3، أبريل (نيسان)/ سبتمبر (أيلول) 2000. وترجمها «المسبار»، وتتناول هذه الدراسة، التي لا تدعي الشمولية، حال التصوف والطرق الصوفية في سيبيريا الغربية ومحافظات شمال كازاخستان المجاورة.
ويحاول الباحث تحديد طرق انتشار التصوف انطلاقاً من عالم التتار وبلاد ما وراء النهر نحو تلك المنطقة خلال القرن التاسع عشر؛ بعد ذلك واعتماداً على بعض الأمثلة لصوفية استقروا بسيبيريا، يقرب القارئ من المذاهب والممارسات الروحية التي تم نشرها بين مسلمي سيبيريا، والتأثيرات التي مارستها على الحياة الاجتماعية والثقافية لتلك الساكنة، بعد تحديد التقليد الطرقي الذي ينتمي إليه هؤلاء الصوفية.
وكيف دخلت الصوفية وأسلمت سيبيريا، ويتطرق إلى هجوم الصوفية على السهوب الروسية وسيبيريا خلال القرن التاسع عشر، ويقدم سير كبار شيوخ التتار وبلاد ما وراء النهر ومريديهم السيبيريين.
ويخلص إلى أنه ليس من الممكن التحدث في شأن سيبيريا عن عزلة ثقافية، كما هو متوقع، نظراً لعزلتها الجغرافية، بسبب التبادل المستمر مع مدن مناطق الفولغا-الأورال وواحات بلاد ما وراء النهر، من خلال تجارة القوافل ورحلات الدعاة. ولاحظ الباحث في القرن التاسع عشر أن أبرز الشيوخ الصوفية في مدن فولغا الوسطى وآسيا الوسطى كان لهم ممثلون أو مريدون في سيبيريا.
ويمكن إدخال نموذج «المدرسة الصوفية» لزين الله من تروتسك ضمن ذلك كأنموذج طرقي عثماني. ويمكن القول: إن التصوف السيبيري لا يملك أي ميزة اللهم تلك التي جعلته يتقلد مهمة الدعوة المتواصلة. وبشكل عام، لم يكن هذا التصوف إلا مرآة عكست الحياة الروحية لآسيا الوسطى ومنطقة فولغا-أورال، ولم يتعرض القوقاز مثلاً، نظراً لموقعه الجغرافي، إلى تأثير قوي للإسلام العربي والعثماني.
ملفوظات الشيخ أحمد السرهندي في إصلاح أركان الدَّولة
الباحث والأكاديمي الهندي صاحب عالم الأعظمي الندوي، يرى أن الصوفية أسهموا في مجال الإصلاح والنصيحة والإرشاد من خلال ملفوظاتهم ومكتوباتهم في العصور الإسلامية لا سيما في عصري سلطنة دهلي والدولة المغولية؛ معظمهم قاموا بذلك مع الإخلاص الكامل متجردين من الهوى والأغراض الشخصية والنوايا السيئة التي تحبط الأعمال، مع استخدام طرق الرفق والحكمة والبصيرة مع اختيار أسلوب النصح المتزن البعيد عن الانفعالات، وانتقاء الكلام الطيب، والوجه البشوش والصدر الرحب، واختيار الزمان والمكان المناسبين لنجاح عملية الإصلاح والنصيحة والإرشاد.
يعتبر الشيخ الصوفي أحمد السرهندي (رحمه الله) المتوفى 1033هـ (1624م) من الشخصيات المعروفة بين الشخصيات الصوفية الهندية الذين كان لديهم رؤية واضحة حيال الدين الإسلامي، وبذلوا جهوداً طيبة في نشر الفكر الإسلامي الصوفي وترويجه في ربوع الهند، بجانب بذل السعي الحثيث لتقويم الوزراء والأمراء والملوك دينياً وفكرياً وثقافياً من خلال تقوية العلاقات عبـر السماح لهم بالحضور في الجلسات العلمية والدينية الخاصة والعامة، وإرسال الرسائل إليهم لإصلاح أحوالهم الدينية والفكرية. وعلى رغم أن تقوية العلاقات مع الأمراء والسلطات الحكومية كانت أمراً مثيراً للجدل بين الطرق الصوفية، لا سيما الطريقة الچشتية، ولكن الطريقة النقشبندية – منذ نشأتها وقبل وصولها إلى الهند – وطدت العلاقات مع الأمراء والوزراء والملوك، وأدت دوراً كبيراً في مجال السياسة. ومن هنا لم يجد الشيخ السرهندي نفسه معزولاً عن الشؤون السياسية.
يرى الباحث أنه خلال المبادرات الإصلاحية كان يراد أيضاً توسيع نطاق السيادة للطريقة النقشبندية على حساب الطرق الصوفية الأخرى، ما أدى إلى الصراع بين جميع الطرق الصوفية آنذاك، وحتى في العصور التالية في عصر الدولة المغولية. ولكن أحمد السرهندي يُعد من أكثر مفكري التيار الصوفي الإصلاحي في القرن الحادي عشر الهجري تأثيراً في الأجيال الممثلة في عصر الاستعمار البريطاني، لا سيما أسرة الشيخ ولي الله الدهلوي وغيرهم، والذين شكلوا امتداداً لدعوته سواء في مجال التربية الإسلامية أو نشر الأفكار الصوفية النقشبندية بواسطة أعمالهم الفكرية أو من طريق تأسيس المؤسسات التعليمية والفكرية، وكذلك تأثر به الشخصيات الإسلامية الأخرى من المدارس الفكرية الأخرى.
عناصر من الفكر الهندي لفهم صمت الذكر النقشبندي
يقول أستاذ الفلسفة والتصوف في جامعة محمد الخامس المغربية محمد هاشمي: إن ما يميز الحساسية الصوفية، عن غيرها من الحساسيات المعرفية، هو ترفعها عن التطابق المباشر والبسيط مع ما يظهر ويحضر في هذا العالم؛ فهناك دائماً في دواخل «المسافر» على معراج العود إلى الأصل المنسي، حنين إلى المابعد، وإلى المافوق. لهذا نجد الخطاب الصوفي يصر على أن يخلق لنفسه جغرافية خاصة، تتجاوز المجال المرئي، هي وحدها قادرة على أن تستوعب جوعته الأصيلة إلى أشياء غير الأشياء، وإلى أبعاد روحانية تضاعف الآفاق، وتمد المسافات، في رحلة النفس نحو منقلبها الأقصى. ومن هنا، فإن التطلع المركزي للصوفي، ليس الكشف عما هو كائن، والتدليل عليه، مما يجعل علاقته باللغة تتجاوز الاستعمال الخبري، إلى مستوى آخر من اللغة يراهن على كشف الممكنات الوجودية المنغلقة أمام القلوب المغلقة، والأعين المحجوبة، وهذا ما يجعل لسان الصوفي أكثر تمرساً مع الإشارات منه مع العبارات. وما يرومه في هذه الدراسة، هو تقديم هذا النظام اللغوي غير اللسني، الذي يختلق وجوداً مغايراً للعلامة، بحيث يؤسس إلى نسق متشابك، تتداخل فيه العناصر مع المكونات المعرفية والروحانية، على شاكلة تحول كل العالم إلى نص يقرؤه ذلك الذي يعرف فك شفرة وسفر التمييز بين «المعاني والأواني». ولأن الإنسان هو العالم الأصغر، بحسب التقليد الصوفي، فهو مُضاءة الوجود حيث يرتفع غبش الجهل والعدم، لذلك فالإنصات إلى ما كتب في سطور عالم الشهود والغيوب، لا بد أن يبتدئ بقراءة ما يعتمل في الصدور.
لقاء المولوية والنقشبندية
يرى الباحث المصري في الإسلاميات والتصوف خالد محمد عبده، أن كتاب عبدالغني النابلسي «العقود اللؤلؤية في طريق السادة المولوية» يعتبر أقدم نصٍّ عربي معروف عن الطريقة المولوية، وإن كان النصّ دفاعيّاً في غالبيته، ولا يقدّم للقارئ معلومات تفيد في تأريخ التصوف المولوي، بقدر ما يفيدنا النصّ في التّعرف على انتشار المولوية خارج مدينة قونية، وإثارة طقوسها الكثير من الجدل، عند الصوفية والفقهاء. وعُرف عن النابلسي محبته للمولوية طريقة وممارسة. هذه الدراسة تستعرض قراءات لما قدّمه النابلسي من خلال حديثه كصوفي نقشبندي عن الطريقة المولوية.
4 حول اعادة صوغ «الكتلة الأكبر» مشرق عباس الحياة السعودية
عندما شرعت المحكمة الاتحادية في العراق عام 2010، فتوى «الكتلة الأكبر» باعتبارها تتشكل داخل البرلمان، وليست «الكتلة الفائزة في الانتخابات» التي بات عليها خوض السباق ذاته بالقواعد ذاتها مع الخاسرين لتشكيل الحكومة، أصبحت عملية جمع تلك الكتلة، بمثابة لعبة مساومات وشراء وبيع مناصب وامتيازات حزبية، أكثر من كونها ترجمة لإرادة الناخبين إلى آليات تنفيذية، والأهم أنها سمحت بتكريس خيارات الخارج فوق الخيارات الوطنية.
وعلى ذلك، فإن كل التكهنات عن الكتلة الأكبر التي يحاول السيد مقتدى الصدر جمعها باعتباره يقود القائمة الفائزة في الانتخابات الأخيرة، لا تعدو أن تكون مراوحة في المكان نفسه، فالصدر نفسه يواجه حسابياً احتمال الذهاب إلى المعارضة، مثلما أن زعيم «دولة القانون» نوري المالكي الذي جاء خامساً في ترتيب الفائزين يواجه بدوره خيار تشكيل تلك الكتلة وحتى تزعمها.
يجب الإقرار بأن الخريطة التي أنتجتها الانتخابات الأخيرة تمنح الجدال حول الكتلة الأكبر زخماً إضافياً، وتفتح باب الاحتمالات على مصراعيه، فالخريطة تفرض إعادة صوغ المعايير لتشكيل الكتلة المنتظرة، عما كانت عليه في التجارب السابقة، لكن المعيار الأجنبي ما زال يمثل الثقل الأكبر، وسوف يستمر كذلك حتى تتغير فتوى المحكمة أو يعاد صوغ الدستور العراقي ذاته.
كان الصدر في لحظة إعلان نتائج الانتخابات، وضع فرضيات الشارع العراقي حول شكل الكتلة ضمن متبنياته، فهي عابرة للطوائف، وبذلك فإنه رفض ابتداء إعادة تشكيل كتلة «التحالف الوطني» الشيعية، ما أطلق التكهنات بأنه فتح على نفسه باب المواجهة ليس مع القوى الشيعية الداخلية فحسب، بل مع إيران ومندوبها السامي الدائم الجنرال قاسم سليماني.
وبعيداً من البكائيات الوطنية التي يرددها زعماء الأحزاب الشيعية والسنية والكردية معاً، فإنهم جميعاً متفقون على أن المواجهة مع سليماني، قد تدفع بهم إلى المعارضة وربما إلى خارج العملية السياسية، لهذا ترددوا في الاندفاع خلف دعوات الصدر، وماطلوا، وفتحوا حوارات جانبية بانتظار أن يدلي سليماني بدلوه.
ولم يتأخر الجنرال، لكن تدخله كان مختلفاً عن توقعات الزعماء العراقيين الذين فزعت قلوبهم ترقباً ووجلاً، فليس لإيران مصلحة بفرض المقربين منها على رأس الحكومة الحالية ولن تجازف بذلك، وليست لديها مصلحة في وصول الصراع الشيعي – الشيعي في العراق إلى مرحلة الحرب الأهلية، كما أن ليس من مصلحتها التصعيد مع الصدر الذي بدا أنه يقود التيار العراقي الأكثر نقمة على سياسات إيران، وهي السياسات التي تواجه للمرة الأولى، قناعات متنامية بأنها تقف خلف منع إنتاج حكم رشيد وناجح في العراق يقوده شيعته.
قبلت إيران بمطلب عدم تشكيل «التحالف الشيعي»، لكنها رفضت في الوقت ذاته أن يكون هناك تحالف عابر يختار رئيس الوزراء، فتلك سابقة، قد تنتج على المدى البعيد حكومات خارج السيطرة.
وكان الحل سطحياً، يلعب على الشكليات، ولا يغوص في الصميم، فأن تجتمع الكتل الإسلامية الشيعية لاختيار ثلاث شخصيات لرئاسة الوزراء لعرضها على «الفضاء الوطني» السني والكردي، وأن يتم إشراك هذا «الفضاء» في «كتلة عابرة» مهمتها الحصرية الاختيار بين المرشحين الثلاثة، مجرد «حيلة شرعية» من النوع المكرر والمجرب، تماماً كمفهوم «التكنوقراط الحزبي» الذي حل محل «التكنوقراط المستقل».
بعض المطلعين يعتبرون تحالف الصدر المفاجئ مع «الفتح» ومن ثم مع «النصر» وقبل ذلك مع «الحكمة» و «الوطنية» ترجمة لكل ما سبق، وأن الصدر يفهم جيداً صعوبة المواجهة مع سليماني وأخطارها، كما يفهم أن إنهاء «التحالف الوطني» خطوة في الاتجاه الصحيح يجب عدم إهدارها، فيما العبادي الذي ما زال يعد المرشح الأكثر أولوية لدى الصدر، سيجد في «خلطة العطار الجديدة» فرصة مضاعفة لتجديد ولايته، وأن ذلك سيدفع الأميركيين إلى تشجيع الحل الإيراني، ودعم الحوارات حوله.
في الغالب ستنجح جهود إنتاج «كتلة الفضاء الوطني» الجديدة، وسيتم تجاوز الخلافات حولها، لكنه سيكون نجاحاً موقتاً فقط، فما زالت الأسئلة حول الأزمات الوطنية الكبرى التي قادت إليها التجارب السابقة غير مجاب عنها، ولا نتوقع أن تكون الإجابات قريبة.
5 شح المياه: مشكلة عراقية أم أزمة عالمية؟ حميد الكفائي الحياة بريطانيا
مياه الرافدين تتناقص منذ سبعينات القرن الماضي حتى أن بعض الروافد المغذية للأنهار قد جفت كلياً. أسباب الشح كثيرة، منها تنامي عدد السكان في البلدان المتشاطئة على حوضي الفرات ودجلة، والتغير المناخي وارتفاع درجات حرارة سطح الأرض وأخيراً إقامة (دول المنابع) سدود على الأنهار لخزن المياه واستخدامها على حساب العراق (دولة المصب).
كان العراق يعاني من الفيضانات في فصل الربيع، وكانت المياه تكتسح المدن والقرى المطلة على النهرين وتتسبب في تشريد السكان وتدمر المحاصيل الزراعية، وتقتل الأشجار المثمرة وتلحق أضراراً حتى بأشجار النخيل. آخر فيضان شهده العراق كان عام 1988، لكن مناسيب المياه في دجلة والفرات بدأت تنخفض منذ ذلك الحين بسبب الاستخدام المتزايد للمياه شمالاً وشرقاً وغرباً.
وبسبب النمو السكاني في دول المنابع، إذ يقدر عدد سكانها بمئتي مليون نسمة، لجأت كل من تركيا وسوريا إلى إقامة السدود على الفرات، ما قلص من كمية المياه إلى ما دون النصف وفق تقديرات الخبراء. ثم انتقل بناء السدود إلى دجلة، وآخر سد عملاق أقامته تركيا هو سد (أليسو) الذي يتسع إلى 11 مليار متر مكعب. ويقدر خبراء المياه بأن سد أليسو سوف يتسبب في خفض مناسيب المياه الواصلة إلى العراق بأكثر من 50 في المئة اعتبارا من تموز (يوليو) 2018.
أما إيــــران فقد أقامت سدودا على روافـــد نهري الزاب الأعلى والأسفل، وحرفت مسارات بعض روافــــد دجلة، وعددها بالعشرات، ولم يعد يدخل العراق أي كمية تذكر مــــن المياه من الجهة الشرقية، حتى أن نهر الوند، أحد روافد نهر ديالى، يتحول أحياناً إلى سكة للمواشي. نهرا الكرخة والكارون اللذان كانا يصبـــان في الأهوار وشط العرب، همـــا الآخران حُرِف مساراهما عبر إقامــــة السدود عليهما داخل الأراضي الإيرانية ما تسبب في نقص حاد في مياه الأهوار وتزايد مناسيب المياه المالحة الصاعدة من الخليج بسبب نقص المياه العذبة التي تصدها.
ونتيجة لتناقص المياه العذبة، انتشرت الملوحة في البصرة وتسببت في موت النباتات والأشجار والأسماك والأعشاب وخلق كارثة إنسانية، إذ يعاني السكان من نقص حاد في مياه الشرب منذ أكثر من عقد. أما جفاف الأهوار فقد تسبب سابقاً في تشريد الآلاف من سكانها والإضرار بسكان المدن المجاورة المعتمدين على منتجاتها من الأسماك والطيور والمنتجات الحيوانية والنباتية، ثم رفع درجات الحرارة في المنطقة برمتها.
هناك شح مياه في عموم الشرق الأوسط، ونتيجة لهذه الشحة تسعى بعض الدول إلى الاستحواذ على مصادر المياه التي تتحكم بها. في أحواض الأمزون والدانوب، على سبيل المثال، تلتزم الدول المتشاطئة بالاتفاقيات الدولية التي توزع المياه بعدالة بينها. في حوض النيل، كانت المياه توزع وفق الاتفاقيات الدولية حتى بدأت إثيوبيا تتحكم بمصادر المياه بعدما انشأت سد النهضة ما أضر بمصر كثيراً حتى أن الرئيس السيسي طلب من رئيس إثيوبيا التعهد علناً بعدم التجاوز على حصة مصر المائية.
العبء الأكبر من المشكلة تتحمله المناطق الطرفية (الذنائب) كما في العراق ومصر خصوصاً عندما تختار دول المنابع عدم الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تُلزِم الدول المتشاطئة بتوزيع عادل للمياه وتمنع استئثار دول المنابع بها. وفي غياب تفعيل القانون الدولي، لا يبقى أمام دول «الذنائب» من خيار سوى استخدام نفوذها وقوتها الاقتصادية لانتزاع حقوقها المائية، وهذا ما يحتاج العراق أن يفعله مع تركيا وإيران.
يجب الاعتراف بأن المياه لن تعود إلى الوفرة التي كانتها سابقاً في ظل الظروف المناخية الحالية. لذلك يجب أن يتكيف العراق مع الشحة ويسعى إلى توفير مياه الشرب بنسبة 100 في المئة. كما بات ضروريا أن يحذو العراق حذو دول الخليج وينشئ محطات تحلية المياه لضمان توفير المياه للأغراض الضرورية.
هناك فكرة أخرى يمكن أن تقدم حلولا للأزمة، إضافة إلى منافع أخرى تبدو كبيرة. وتتلخص الفكرة بحفر قناة تمتد من خور عبد الله على الخليج حتى بحيرة الرزازة في كربلاء. ومن المنافع المحتملة لهذه القناة استخدامها للملاحة بين الموانئ والمناطق الواقعة شمالاً وتخفيف الازدحام في موانئ العراق الصغيرة وتجنب حوادث السير على الطرق البرية التي تحصد آلاف الأرواح سنوياً. ويمكن أيضا إنشاء محطات عملاقة على القناة لتحلية الميـــاه لتزويد المدن العراقية بالمياه الصالحة للشرب، وستكون القناة أيضاً مصدراً مهما للأسماك البحرية، وتستخدم لسقي حزام أخضر من الأشجار التي تُروى بالمياه المالحة، للحد من التصحر الآخذ في الاتساع.
هناك حاجة لأن يتكيف العراقيون مع شحة المياه التي لا حل سهلاً لها. يجب أن تكون هناك مرونة في القطاع الزراعي إذ يبتعد المزارعون من الطرق التقليدية في الزراعة. زراعة الرز التي اعتاد العراقيون عليها منذ قرون، لن تكون مجدية مستقبلاً لأن أسعار الرز العالمية أقل كثيراً من كلفة من انتاجه في العراق. وسيكون صعباً إبقاء الأهوار منتعشة طوال الوقت لإنتاج القصب والبردي وصيد الطيور والأسماك وتربية الجاموس. كل هذه المظاهر المألوفة سابقاً سوف تختفي تدريجياً مع تناقص المياه المتدفقة من الشمال والشرق.
إنها نتيجة مؤلمة ومخيبة للآمال، ولكن الحياة العصرية غيرت البيئة والمناخ وطرق العيش وأصبح التأقلم ضرورة من ضرورات البقاء. يجب أن يتبنى المزارعون أفكاراً وطرقاً جديدة في الزراعة ويبتعدوا من الطرق التقليدية التي لم تعد مجدية. لقد أهملت الحكومات العراقية المتعاقبة قطاعي الزراعة والمياه إهمالا كبيرا وجعلت البلد يعتمد اقتصاديا على النفط بدلاً من تنويع الاقتصاد الذي يجعله أقل تأثراً بالأزمات. كان يمكن أن تناط إدارة قطاع المياه بخبراء غير سياسيين منذ عام 2003 من أجل إطلاع الناس على الحقائق وتقديم معالجات بعيدة الأمد للمشكلات الناتجة عن شح المياه، بدلاً من الانتظار حتى اشتداد الأزمة عام 2016 والإتيان بوزير تكنوقراط لإيجاد الحلول لها دون أن تُقدم له الإمكانات المطلوبة. يمكن الحكومة تخفيف الأضرار عبر توفير مصادر بديلة للعيش وتعويض المزارعين عن الأضرار الناشئة عن شح المياه، والأهم من ذلك توفير المياه الصالحة للشرب والضرورية لري المحاصيل الزراعية التي تحتاج كميات أقل من المياه.