3 مقالات عن العراق في الصحف العربية يوم الاربعاء

1 يسقط الحزب الشيوعي العراقي هيفاء زنكنة القدس العربي
في عالم الإنتاج اليومي للأخبار وحملات تسويقها إلى الجمهور، لم يعد كون الانتخابات مزورة، مهما، رغم اعتراف الجميع بذلك. كما لم تعد محاولات مسح آثار التزوير عن طريق حرق مركز وأجهزة الاقتراع، أمرا مهما. ما بات مهما هو: ترسيخ تحالفات ما بعد الانتخابات لتكون طبق الأصل لما كانت. المهم، أيضا، التغطية الإعلامية بأن هناك عملية ديمقراطية تدعى الانتخابات، صرفت عليها ملايين ( أو بالأحرى مليارات) الدولارات، لتتباهى بها الدول التي احتلت البلد بحجة حماية أمنها. ولاتزال: أمريكا بمعسكراتها و« مستشاريها» تحمي أمنها في العراق. إيران بميليشياتها المتغلغلة في شرايين الحكومة وساستها، تحمي أمنها في العراق. تركيا، تقضم كل ما تستطيع قضمه، من أراضي العراق، بحجة حماية أمنها. هل من آخرين؟ القائمة تطول، وحجة «الحرب على الإرهاب» توفر ذريعة جاهزة لمن يريد.
وإذا كان الشعب العراقي هو الخاسر الأول في ملهاة، استنزفت أموالا، كان بالإمكان صرفها لتوفير بعض الخدمات الأساسية للمسحوقين من أبناء الشعب، فإن الخاسر الثاني، حسب ردود الأفعال الإعلامية والرسائل المتبادلة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليس الأحزاب التي تدعي تمثيل «السنة»، مثلا، وهي المتنافسة الرئيسية، بل الحزب الشيوعي كخاسر أكبر، وهنا المفارقة. وتزداد المفارقة حدة حين ندرك بأنه حزب موجود ضمن القائمة الفائزة بالانتخابات. فما معنى الخسارة هنا؟
معظم التعليقات الموجودة على عديد المواقع، مشحونة بمشاعر، متناقضة، تجمع بين الألم وخيبة الأمل والغضب والتبرير وبعض التشفي. ربما لأنها مكتوبة أما من قبل أصدقاء قدامى للحزب أو أعضاء سابقين أو حاليين، يجدون أنفسهم في حيرة من موقفه الأخير. تعكس التعليقات مواقف ونقاشات، معظمها جاد، لم يحدث وشهدها الحزب، سابقا، بهذا الشكل العلني. فأعضاء الحزب الشيوعي لايختلفون عن غيرهم من أعضاء الأحزاب العراقية الأخرى في تفضيلهم السكوت على الأخطاء والعثرات، حتى بعد مرور عشرات السنين على تركهم الحزب، نتيجة الاختلاف، وذلك لئلا يتهمون بعدم الولاء أو قلة الوفاء أو الخيانة، أو بذريعة «إنه ليس الوقت الملائم». ولنا في حزب البعث، مثال آخر.
تسترجع التعليقات عن الحزب الشيوعي الإخفاق السياسي المتكرر، لحزب ساهم، تاريخيا، في محاربة الاستعمار والاستغلال، ودفع ثمنا، غاليا، لتحرير العراق من قبضة الامبريالية العالمية، وبناء العراق الحديث، مشيرة إلى تسارع الانحدار في ظل الاحتلال الذي نحت له منظرو الحزب مصطلح « التغيير». على هذا الأساس، تم تبرير( ليست هناك إحصائية عن عدد الأعضاء الحاليين) أن يكون السكرتير العام للحزب عضوا في مجلس حكم الاحتلال، ضمن المحاصصة الطائفية لا السياسية، أي لكونه شيعيا وليس شيوعيا، ومن ثم مشاركة ممثل للحزب في حكومات الاحتلال المتعاقبة، بمنصب رمزي. وفي الوقت الذي كان بإمكان الحزب الاستفادة من اليأس الشعبي العام تجاه الأحزاب الدينية ـ الطائفية ـ الفاسدة، وجذب الجماهير إليه كحزب يمثل طموح الناس بـ «دولة مدنية عصرية»، وهو المطلب الذي رفعته» تنسيقية حراك الاحتجاج المدني»، كحراك احتجاجي سلمي في شباط/ فبراير 2011 إلا أن الحزب اختار مواصلة الحراك تحت مظلة « التيار الصدري» مراهنا، خلافا لموقف العديد من المساهمين بالتنسيقية، على شعبية التيار واتباع السياسة البراغماتية في إمكانية التغيير من الداخل.
أدى الالتفاف حول الحركة الاحتجاجية، وتقديم الحزبيين أنفسهم كقوة تمثل المدنيين، قادرة على إحداث التغيير، عبر مقايضة التيار الصدري، الذي نزل أعضاؤه بدورهم إلى الساحة، لتفريغ الاحتجاجات من محتواها الحقيقي، إلى انسحاب أعضاء مؤسسين للتنسيقية، احتجاجا، والصعود الإعلامي لحزبيين، لا يتجاوز عددهم العشرات، يقدمون أنفسهم كناشطين مدنيين.
فجاءت خطوة التحالف مع « التيار الصدري»، لخوض الانتخابات، ضمن تحالف « سائرون»، متوقعة، إذ راهن الحزب على شعبوية قائده مقتدى الصدر، على الرغم من معرفة الجميع بتقلباته النفسية المرضية، وأنه بنوابه ووزرائه ومسؤوليه، جزءا لايتجزأ من الحكومة الطائفية الفاسدة، كخطوة تقربهم من مراكز السلطة، عبر مسايرة التيار. كانت الحجة المعلنة من خوضهم الانتخابات ضمن « سائرون» أنها ستجلب نوابا جددا، سيعملون على كسر قالب المحاصصة الطائفية، وتجفيف منابع الفساد. فجاء الفوز بالانتخابات وتحرك « سائرون»، كما كان متوقعا، نحو صيغة تحالفات ما قبل الانتخابات، بفسادها وميليشياتها ومسؤولي مجازرها، لتجعل طعم الفوز مرا، ومثيرا للأسى، من قبل من بنوا آمالا على تحالف الحزب، والتعليقات الساخرة والنكات الفجة من قبل معارضيه.
يلخص الشاعر حميد قاسم مشاعرالأسى على صفحته على الفيسبوك مخاطبا أحد منظري التحالف: « هذا ليس لوما… ما أريد قوله إن الأسباب كما تعلم تقود إلى النتائج وكل المعطيات تشير بواقعية، ساعة بساعة، إلى ما سيحدث، وقد حدث، لم نكن عباقرة أو متنبئين لكننا كنا في عمق الحدث غير بعيدين عن الأحداث القريبة وتقلباتها وعواصفها بعد 2003 على معرفة بطبيعة سلوك ونهج القوى السياسية على أرض الواقع… هذه القوى التي تغير مواقفها كما يغير المرء سراويله الداخلية… هذا ما حدث وَقادَ الجميع إلى هذه الفوضى المبكية المضحكة، التي شبهتها قبل أن تحدث بـ الخطيئة».
إن النقاشات الجادة الدائرة على صفحات التواصل الاجتماعي مهمة وضرورية خاصة حين تتناول بالنقد البناء سيرورة ومسارات الأحزاب التقليدية المعروفة بنضالها في حقبة التحرر الوطني ولكن، في الوقت نفسه، هيكليتها وبيروقراطيتها وتبعيتها، أحيانا. أنه كسر لحواجز السكوت المبنية على التخويف والتهديد بعدم الوفاء والخيانة. فأصبحت الأحزاب تدار من قبل حلقة مغلقة، من أشخاص يغذون وجودهم بادعاءات تمثيلهم للجماهير، وتضخيم أرقام أعضائهم وأنصارهم وضحاياهم. فمن منا يعرف مثلا عدد أعضاء الحزب الشيوعي أو حزب البعث أو الدعوة اليوم؟ هل من إحصائيات عن عدد أعضاء أي حزب لندرك حجمه الحقيقي، ومدى تمثيله للجماهير، وبالتالي قدرته على إحداث التغيير، بعيدا عن الرطانة باستديوهات التلفزيون؟ وما هو الدور الذي تلعبه الأحزاب التقليدية في قتل المبادرات الجديدة التي تشعر بأنها تهدد وجودها المزمن؟ يقول حميد قاسم «أتمنى أن نمعن النظر جيدا في مأساتنا، أن لا نفرط جميعا بما حدث من تطور في وسائل الكفاح السلمي وأن نتعظ بما حدث ويحدث»، قد لايكون ما يتمناه جوابا على التساؤلات، بالتحديد، إلا انه خطوة جادة، نحو ذلك.
2 حسنات وسيئات حكام العراق في ميزان المرشد الإيراني حامد الكيلاني العرب بريطانيا

ماذا نتوقع من نماذج الزعامات المكلفة بتمدد المشروع الإيراني إلا أن تكون شكلا ومضمونا ومنهجا نسخة طبق الأصل من غايات مصنع الإنتاج الأساس وصادراته.
مشكلة العراق في المسافة بين العملاء ومدى قربهم من ولاية الفقيه
في حمى مناحة الانتخابات في العراق سقط ثلاثة من شباب مدينة البصرة في فتحة مهملة للمجاري وعلى التوالي في محاولة لإنقاذ صديقهم الأول من ورطته. أربعة آخرون كُتبت لهم النجاة من مأزق يلخص تفاصيل النظام السياسي وكيفية إدارة الحكم وتفاصيل معاناة الناس في دولة مبتلاة بعصاب العمالة للنظام الإيراني.
الأمر يتفاقم بالسوء عندما تتولى سلطة طائفية المهام السياسية أو تنوب عنها أو تقتدي بها أو تمتثل لها، إذ بالإمكان افتراض الذهاب إلى تصميم ردة فعل متباينة لإسقاط أي حاكم، لكن من الصعب إلغاء هيمنة المرجع العقائدي الذي تتوفر له أحيانا فرصة مزدوجة تختصر السلطتين السياسية والدينية.
نظام ولاية الفقيه مزدوج الصلاحيات استغل تماما تأثيراته النفسية في رفع الغطاء الأمني والأمان عن منطقة الشرق الأوسط، وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة بعائدية مسلسل المصائب فإننا نقصد الاستهداف الوقح والشائن لأمتنا العربية منذ اليوم الأول لاستلام الخميني مقاليد تلك الولاية في إيران في فبراير 1979.
ماذا نتوقع من نماذج الزعامات المكلفة بتمدد المشروع الإيراني إلا أن تكون شكلا ومضمونا ومنهجا نسخة طبق الأصل من غايات مصنع الإنتاج الأساس وصادراته.
قائد فيلق “القدس” في الحرس الثوري يهيئ الأذهان لمرحلة متقدمة في لبنان والعراق ليس من باب التحريض على الدفع مستقبلا بالفرضيات لاستدراج الواقع، إنما لتقبل الإمساك بتلابيب السلطة انطلاقا من حقيقة أن أبنائهم أوفياء لأبوة المرشد علي خامنئي في السيطرة على الحكومات، إضافة إلى مكانتهم المذهبية بما تمليه من إتاوات على عقل وإرادة مقلديهم، والنتائج حاضرة في الانقياد الأعمى للإرهاب بتجاوز الحدود الإنسانية والجغرافية لتنفيذ الأوامر على طريقة الميليشيات وتشددها وتعصبها ووحشيتها.
لم يعد سرا أن النظام القومي في إيران يتعكز على تعصبه للمذهب والطائفة وأيضاً على التاريخ العربي خاصة في العقود الأولى من ظهور الإسلام لإعادة تمثيل خط سير الأحداث بالاتجاه المضاد لانهيار الإمبراطورية الفارسية، لكن هذه المرة بالاعتماد على محركات منتقاة تحمل في طياتها طاقة الانتقام والشحن للتلاعب بذات الأوتار التي كانت في يوم ما تلهمنا التوحد والقوة وبناء مجد مدينة مثل بغداد أو دمشق.
مشروع نشاز ينهض على التناقض والقفز من حصان إلى آخر لضمان بقاء حركة عربته المتهالكة أطول فترة ممكنة، رغم أن الشعوب الإيرانية اكتشفت منذ سنوات أن نظام ولاية الفقيه ماضٍ بهم إلى المجهول، ومع اكتشافهم بدؤوا بالقفز من عربته تباعا، ليتركوها إلى الهاوية بل يدفعون بها بإصرار لحتفها.
مازال الكثيرون يعتقدون أن قاسم سليماني ومعه آخرون يمارسون ضغوطاً كبيرة على زعماء الأحزاب والكتل الطائفية أو على شخصيات دينية متنفذة في المشهد السياسي في العراق، إن باستخدام الترهيب بالعنف أو بالتلويح به، رغم إن تجارب النظام الإيراني منذ سنة 1979 مرورا بحرب الثماني سنوات وما تلاها، وصولاً إلى الاحتلال الأميركي في أبريل 2003 وما بعده من عملية سياسية اتسمت بالمحاصصة الطائفية والقومية والحزبية، أكدت أن عملاء النظام تتفاوت درجة قبولهم، فهم جميعاً يدركون أحجامهم من خلال حسناتهم وسيئاتهم في ميزان المرشد تحديدا، وعلى ضوء رضاه عنهم تكون مكانتهم على الأرض في تسلم السلطات أو نوع الصراعات وتقلبات المزاج إن في الانتخابات ونتائجها، أو في مآلات مصائر الشخصيات أو حتى ما يتعلق منها من صناعة متقنة لكوارث الحروب الأهلية وتوقيتاتها، بما يجعل تناول بعض الحماقات كالتفجيرات أو الحرائق مجرد إشارات ضوئية لتنظيم مرور موكب المشروع الإيراني كما يراه الولي الفقيه بكل ما تعنيه الولاية.
الأكيد أن الأقرب لعلي خامنئي هم عناصر الحرس الثوري وعلى ذلك بالمنطق والدلائل تكون الميليشيات، أي أذرع الحرس، وقادتها أقرب الشخصيات إليه وإلى مكتبه وأحقية بركاته وعطاياه، وعلى ذلك فليختلف المختلفون من زعماء الأحزاب السياسية الطائفية أو زعماء الكتل السياسية الميليشياوية أو رجال الدين الذين وجدوا أنفسهم في فضاء وطن تتصارع فيه القوى المتنفذة على “البنوك المقدسة”، ونعني بها الأضرحة لتكون مثالا قاسيا لخرق الميليشيات لنواميس الدول الحديثة في تبرير مهماتها الخطيرة في دعم المجموعات أو النظم السياسية الخاضعة لإرادة المرشد الإيراني.
ومع ذلك نلاحظ ظواهر من قبيل انقسام الميليشيات على نفسها وتعدد الفصائل وإبراز قادتها وتراجع وتقلبات العلاقة في ظاهرها مع النظام الإيراني أو حدة الولاءات الصارخ كإشهار الولاء للمذهب أو الطائفة على حساب الوطن أو في التصريح دون وجل بالانحياز إلى إيران في حربها ضد الوطن الأم، رغم أن الماضي القريب لا يحتاج إلى تدقيق في صحته لأنه تاريخ قاتلت فيه الكتل الطائفية بقادتها ورموزها والآلاف من أفرادها تحت راية النظام السياسي العقائدي في إيران ضد شعبهم وجيش بلادهم؛ وهؤلاء اليوم هم حكام العراق وتحالفه الوطني وكتلته الأكبر تحت كل التسميات.
مشكلة العراق ليست في قاسم سليماني المواطن الإيراني ومداخلاته الوظيفية بحكم كونه أحد قادة الحرس الثوري، بل في المسافة بين العملاء أنفسهم وبين معايير قربهم ونسبة بعدهم ومدة انتظارهم عند بوابة مكتب الولي الفقيه علي خامنئي.
يظن بعض هؤلاء أن المكانة الدينية أو المنصب السياسي يحدد أهميته لدى المرشد، بينما الحقائق تؤكد أن أقربهم إليه من يتصدى لمهامهم الميليشياوية بأعلى كفاءة، لأنها في توجهات المشروع الإيراني تؤسس لما يأتي بعدها من خطوات فرض الواقع على الشعوب بالإرهاب الماثل للعيان، لتصل إلى الاستسلام لمشيئة السلاح وغياب الدولة والقانون، أو حضور الدولة والقانون تحت نظام سياسي خاضع بالمطلق للميليشيات.
مراجعة بسيطة لصحيفة سوابق النظام الإيراني في إيران أو خارجها تبين تعدد الخطوط الناقلة لإرهابه التي يصبح معها التصريح عن أهمية بقاء القوات الأميركية في سوريا لقطع الإمدادات الإيرانية عن شرق المتوسط كناية أو اعتراف مستتر بسقوط مقدرات العراق تماماً بيد الاحتلال الإيراني السافر، ذلك لأن الأرض السورية يتم التعامل معها نظريا ونفسيا وعمليا كأرض متاخمة للحدود الإيرانية نظرا إلى مناقلات المشاريع والعتاد والسلاح والمعدات العسكرية الثقيلة، وأيضا حركة الميليشيات والفصائل الإرهابية المسلحة وتوابيت جثثها، لكن علينا أولاً كأمة أن نعيد النظر في ورطة الصديق الأول لإنقاذ ما تبقى من إخوة وأصدقاء.
3 شبح الطائفية يهدد العراق مجدداً مينا العريبي الشرق الاوسط السعودية
جاء خبر تحالف رجل الدين العراقي مقتدى الصدر مع الزعيم الفعلي للحشد الشعبي العراقي هادي العامري، الأسبوع الماضي، ليضرب آمال من كان يطمح لإخراج العراق من الاصطفافات الطائفية المقيتة. هذا التحالف يقلب توقعات كثيرين فيما يخص نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة. فخلال الحملة الانتخابية، كانت لائحة «سائرون»، التي يقودها الصدر مع تحالف من الفئات العراقية المختلفة، تنادي بالوقوف مع الدولة المدنية ورفض حمل السلاح خارج الدولة، ما يتنافى مع ما تمثله لائحة «الفتح» التي تضم فصائل من الحشد الشعبي، والتي ترفض فكرة تسليم السلاح، وإنما تنادي بإبقاء قوة الحشد الشعبي. كما أن «الفتح» هي بشكل كبير مكونة من أحزاب شيعية إسلامية مقربة من إيران لا تدعو إلى الدولة المدنية.
بعد شهر من إجراء الانتخابات التشريعية التي جرت في العراق، لم يبق إلا القليل من التفاؤل الحذر الذي ساد حينها. فتقدم الصدر بالأصوات وكلامه الأولي عن تشكيل حكومة تكنوقراط، بناء على تحالفات مع أطياف مختلفة، مثل بادرة حسنة وأرضية للخروج من أزمة إدارة البلاد. وكتبت قبل أسبوعين في هذا العمود عن «فرصة نادرة» للخروج بحكومة بعيدة عن الاعتبارات الطائفية، والتركيز على بناء مؤسسات الدولة على أيدي وزراء مختصين وتكنوقراط. ولكن حذرت أيضاً من أنها فرصة «قد تضيع»… وها هي على أبواب أن تضيع، وشبح الطائفية يبدو عنيداً.
هناك من يقول بأنه لا يمكن تجاهل إشراك «الفتح» في الحكومة الجديدة، بعد حصولها على ثاني أكبر عدد من المقاعد في البرلمان. ولكن هذا ليس عذراً، إذ إن «الفتح» توجهاتها تناقض التوجهات المعلنة لـ«سائرون»، والتي على أساسها تم التصويت لكل منهما. وكان موقف الصدر المعارض لحمل الميليشيات للسلاح ورفض المحاصصة الطائفية من أبرز المواقف التي زادت من شعبيته بين العراقيين، بغض النظر عن تحفظهم على سلوكيات بعض من أتباعه؛ إلا أنه اليوم يتحالف مع أبرز مجموعة تصر على إبقاء السلاح خارج سيطرة الحكومة.
كثيرون عتبوا، وآخرون سخروا، ممن عبر عن تفاؤل حذر من قدرة الصدر على قلب موازين الحكم في العراق. ولكن من حق العراقيين أن يأملوا وأن يبحثوا عن فرص للخروج من حالة الاضطراب التي نتجت عن الاصطفاف الطائفي في البلاد. فهذا التخندق الطائفي لا يعكس الواقع الاجتماعي الحقيقي؛ بل يعكس الواقع السياسي الذي خلفته حرب عام 2003، ومن استفاد من وضع أسس النظام السياسي الجديد للعراق.
حاولت مجموعة من العراقيين منذ سنوات أن تتفادى استخدام التسميات الطائفية، ووصف مجموعة بـ«شيعية» أو «سنية» أو غيرها، إذ إن المشهد معقد، وتبسيط الأمور يؤدي فقط إلى السطحية. ولكن في الواقع، ماذا يجمع بين الصدر والعامري غير أنهما رجلان يؤمنان بالإسلام السياسي الشيعي؟
المشاورات مستمرة بين الكتل المختلفة، ودخلت الآن مرحلة ترجيح أسماء شخصيات سياسية يمكن أن تشكل الحكومة المقبلة. ولكن هذه تأويلات من المبكر الاعتماد عليها، وعدد ليس قليلاً من الأسماء تطرح لتكون أقرب إلى بالونات اختبار لجس نبض الكتل السياسية الأخرى والدول ذات النفوذ في العراق. هناك أسماء تطرح لتولي مناصب أخرى في الدولة.
في الواقع، من الصعب على كثير من المستقلين والتكنوقراط المشاركة في حكومة ذات توجه طائفي. وهذه هي المشكلة التي حالت دون انخراط كثير من الكفاءات العراقية في الحكومات السابقة. وكأنها حلقة مفرغة، الساسة يطالبون بتكنوقراط ويعتبون على من يبقى خارج دائرة الحكم، ولكن من يشترك في الحكومة يخشى من أن يجرد من الهوية المهنية، وتتم تزكيته من أحد الأحزاب المبنية على اعتبارات طائفية أو إثنية.
فما الحل؟ ما المخرج للحد من تسييس الدين والطائفة؟ هناك عدة خطوات يبقى العراق في حاجة إليها، على رأسها إقرار الساسة والمتنفذين في العراق أن المحاصصة الطائفية والانقسامات المذهبية والإثنية ستمنع البلد من التقدم مهما كان، ولن تسمح له بالخروج من حلقة الأزمات. كما أن العراق بحاجة إلى معارضة فعالة تستطيع طرح الحلول البديلة بجدية. إحدى مشكلات العراق اليوم انعدام معارضة فعالة لا تحمل السلاح. وحمل السلاح لا يؤدي إلا إلى الضرر بالشعب والدولة. وهناك حاجة لنمو وتعزيز نهج خدمة الشعب في صلب العمل العام، بدلاً من المصالح الحزبية أو الشخصية.
النقاشات السياسية حول تشكيل الحكومة في العراق لا تجري بمعزل عن الواقع الصعب اليومي في البلاد. فمن جهة هناك تهديد تركي بقطع المياه مجدداً عن دجلة، ومن جهة أزمة الكهرباء تشتد مع شدة الصيف. وما زال خطر الإرهابيين قائماً؛ خاصة أن زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي ما زال طليقاً. وهناك معاناة العراقيين الذين يحسون بغربة داخل بلادهم، بعد أن شردتهم «داعش» من دورهم ومدنهم، أو المعارك لدحر «داعش»، وبعد أن هجر آخرون بسبب الاقتتال الطائفي. وتتزامن النقاشات السياسية مع مرور عام على تحرير الموصل من «داعش».
وبينما انشغل الساسة بالمناورات السياسية، ذكرت الممثلة الأميركية أنجلينا جولي العالم هذا الأسبوع، باستمرار معاناة أهالي الموصل، وخاصة الساحل الأيمن من المدينة. وقالت إن ما رأته هناك أسوأ من أي وضع آخر رأته خلال جولاتها سفيرة للنوايا الحسنة للأمم المتحدة، بما في ذلك مآسي سوريا وميانمار. وزيارة جولي تتزامن مع أسبوع من الفعاليات حول اليوم العالمي للاجئين، الذي يصادف 20 يونيو (حزيران). هذا اليوم العالمي الذي يمس حياة الملايين من العراقيين والسوريين والليبيين واليمنيين، وبالطبع يمس حياة الفلسطينيين وغيرهم.
من المفارقات أن كثيراً من ساسة العراق اليوم كانوا من لاجئي الأمس. عاشوا معاناة التشريد والتهجير في السابق. كان المتضررون من نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين يحلمون باليوم الذي يأتي فيه من يشعر بمعاناتهم، ويمنع تشريد العراقيين من جديد. ولكن بعد 15 عاماً من إسقاط نظام صدام حسين، بات هناك نحو 4 ملايين عراقي مشردين داخل بلادهم، وملايين اللاجئين العراقيين خارجه، بعضهم انتقل إلى دول أخرى وتجنس ونسي أمر العودة، وآخرون ما زالوا ينتظرون الفرصة للعودة إلى دورهم للعيش بكرامة وأمان. فهل الحكومة المقبلة، بناء على التحالفات التي ذكرت، قادرة على حماية هؤلاء وتحقيق طموحات المواطن الذي يتمنى حكومة عراقية وطنية عابرة للطائفية والعرقية والجهوية؟