1 النكبة وفصولها… من الناصرية والبعث إلى «فيلق القدس» وفرع فلسطين افتتاحية القدس العربي
منذ النكبة عام 1948 وتشكل «المسألة الفلسطينية» ظهر تياران كبيران داخل الفلسطينيين للتعاطي مع قضية الكيان الصهيوني الناشئ.
يعتبر الأول أن تحرير الأراضي المحتلة يعتمد على أنظمة وطنيّة معادية للإمبريالية قادرة على مواجهة عدوّ لا يمكن للفلسطينيين وحدهم مواجهته، كونه يمتلك آلة عسكرية هائلة، انضافت إليها ترسانة نووية، ودعم عسكري ومالي من أكبر قوى العالم، الولايات المتحدة الأمريكية.
أما التيّار الثاني فرأى أن التحرير يجب أن يعتمد على قوى الفلسطينيين الذاتية، وعلى هديها يأتي التحالف مع أي قوى عربية أو إقليمية أو عالمية، بالاهتداء بمصالح الفلسطينيين أنفسهم وخياراتهم، وهو ما أدى إلى نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية بعد أن كان الفلسطينيون جزءا من الحركات السياسية العربية الكبرى، فجاء بعض قادة «فتح» من الإخوان، كما جاء قادة «الشعبية» و«الديمقراطية» و«القيادة العامة» من «حركة القوميين العرب»، فيما جاء آخرون من مروحة تيارات ناصرية وبعثية وماركسية، لكنّها اتفقت، بشكل عام (نظريا على الأقل)، على كونها جزءا من «الحركة الوطنية الفلسطينية»، وليست توابع مباشرة لأحزاب أو تيارات سياسية عربية.
يمثّل التاريخ الفلسطيني، ضمن هذا السياق المذكور، محصّلة لصراع في هذين التيّارين وبينهما، فقد أدت هزيمة نظامي جمال عبد الناصر، في مصر، ونظام «البعث»، في سوريا، في حرب الأيام الستة مع إسرائيل عام 1967، إلى صعود كبير للوطنية الفلسطينية عزّزته معركة الكرامة عام 1968، وبدلا من التحاق الفلسطينيين بالأنظمة العربية، حظيت «فتح» والفصائل الأخرى بشعبية كبرى، ليس عند الفلسطينيين فحسب بل لدى جمهور عربيّ كبير، وهكذا فقد أدى انحسار تيار «التحرير من خارج الفلسطينيين» إلى صعود تيار تحرير الفلسطينيين لأنفسهم، وتحوّلهم إلى رافعة تحرّر عربية، مما دفع عددا من الأحزاب والتنظيمات العربية لاعتماد أسماء فصائل فلسطينية واقتباس مناهجها السياسية، وانضمام مناصرين عربا إليها، وهو ما حوّل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى خطر مشترك لإسرائيل… وللأنظمة العربية.
استلزمت مجابهة الوطنية الفلسطينية حروباً دموية ومجازر كبرى، في الأردن، ولبنان، وتهجيرا جديدا للقوّة العسكرية لمنظمة التحرير وصولاً إلى العودة عبر بوابة اتفاقات أوسلو عام 1993، بالتزامن مع صعود شعبية التيارات الإسلامية وظهور حركة «حماس»، وبعد سقوط الناصرية والبعث واجتياح الأمريكيين للعراق، ظهرت قوّة إقليمية كبرى هي إيران، ومع تمددها للعراق وسوريا ولبنان استعاد تيار «التحرير من الخارج» شعبية ضائعة، وبدلا من عبد الناصر وصدام حسين حلّ خامنئي وقاسم سليماني وحسن نصر الله ضمن المعادلة «الانتظارية» لتغيير موازين القوى مع إسرائيل اعتماداً على هؤلاء، وخصوصاً مع تهافت أغلب الأنظمة العربية وتقاربها الحثيث مع إسرائيل.
يصل المشروع الوطني الفلسطيني في ذكرى النكبة الـ70 (الذي يصادف اليوم) إلى مأزق كبير، فالمؤسسات الفلسطينية منقسمة على نفسها بين سلطتي رام الله وغزة، وكلاهما يتعرّضان لضغوط سياسية كبرى مع انحياز أمريكي فادح، وتواطؤ عربيّ، وغياب حلفاء حقيقيين في العالم.
يجترح الفلسطينيون، رغم هذا الانسداد الكبير، أشكالا كبرى من المقاومة تمثّل مسيرات العودة نموذجا عظيما لها، وفي مكانهم المكشوف ورغم ظهرهم المليء بالسهام يمثلون قدوة للكثير من الشعوب وأملا بتغلب الضحية على الظلم.
في المقابل فإن نظرية «التحرير من الخارج» لا تزال وهما كبيراً يروّجه تجار كثر، رغم أن تراث «البعث» أدّى إلى تحوّل فلسطين إلى «فرع» مخيف للتعذيب في دمشق، كما يراهن آخرون على «فيلق القدس»، المتهم بارتكاب مجازر في سوريا والعراق.
2 خسارة فادحة لـ«خامنئي» في العراق! د. محـمـــــد مـبــــارك اخبار الخليج البحرينية
وأنتم تقرأون هذه المقالة، ربما تكون نتائج الانتخابات العراقية قد أعلنت بشكل نهائي أو شبه نهائي، إلا أن التسريبات الأولية منذ يوم أمس تقول إن قائمتي رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وقائمة التيار الصدري التي يتزعمها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر قد حققتا النسبة الكبرى من مقاعد البرلمان العراقي بما يتجاوز 60% من المقاعد وأصوات الناخبين، بينما لم تحقق قائمة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي ومعها قائمة الحشد الشعبي سوى ما يقارب 40% من المقاعد، وهو ما يعتبر فوزًا أكيدًا للعبادي والصدر على بقية القوائم الانتخابية، إذ من المتوقع أن تعلن القائمتان تحالفًا في البرلمان القادم.
إذا ما صدقت هذه النتائج، فإن الخاسر الأول والأخير من كل ذلك هو النظام الإيراني، الذي عول كثيرًا على الدفع بالمالكي والحشد الشعبي للسيطرة على البرلمان العراقي وبالتالي الدوران مجددًا في الفلك الإيراني وإعادة سيناريو الفساد وهدر المقدرات الذي عاشه الشعب العراقي على امتداد ثماني سنوات من حكم نوري المالكي.
أما الرابح الأكبر من هذه النتائج فهو الشعب العراقي قبل كل شيء، والذي يؤكد بهذه النتيجة عزمه على التخلص من المخالب الإيرانية والخروج من فلك المرشد الأعلى الإيراني الذي لطالما تحكم بالقرار السياسي العراقي عبر طوابيره الخامسة في بغداد.
أما دول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، فهي بكل تأكيد ترتاح كثيرًا إلى هذه النتائج التي تعتبر هزيمة للإيرانيين، وتقدمًا كبيرًا للمحور العربي الخليجي، بالشكل الذي يفتح الباب على مصراعيه لعودة ميمونة وتدريجية للعراق إلى محيطه العربي الطبيعي.
رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يعتبر حليفًا للولايات المتحدة الأمريكية، وصديقًا لدول مجلس التعاون الخليجي، على خلاف ما يرغب به النظام الإيراني الذي كان يتمنى رؤية نوري المالكي أو أحد عناصر الحشد الشعبي على رأس الحكومة العراقية، حتى يتحكم بالعراق كيفما يشاء.
ومع ذلك، فإن النظام الإيراني، بعد إعلان النتائج الرسمية للانتخابات العراقية، سوف لن يترك العراق في شأنه، بل سيسلط على العراقيين كل أنواع الإرهاب والخراب، تحت عناوين «داعش» أو «القاعدة» أو غير ذلك من مسميات، حتى يغرس الخوف والهلع في نفوس العراقيين، ويعاقبهم على التمرد الذي قاموا به ضد المرشد الإيراني الأعلى عبر انتخابهم من لا يمثله في العراق.
يحتاج العراق في المرحلة القادمة دعمًا ومساندة عربية وخليجية من أجل التنمية والإعمار والأمن، وبما يقطع الطريق على النظام الإيراني لاستغلال الثغرات والولوج إلى المجتمع العراقي مجددًا، كيف لا والخسارة الإيرانية اليوم لا تقدر بثمن، ولا يقلل منها ما حققه «حزب الله» الإرهابي من نتائج انتخابية في لبنان الجوار.
3 التجربة الديمقراطية في الانتخابات العراقية بدر عبدالملك الايام البحرينية
يتوجه الشعب العراقي في الثاني عشر من مايو لعام 2018 الى صناديق الاقتراع ليختار ويصوت الى 329 مقعداً ومرشحاً هم عدد نواب البرلمان العراقي، ووفق آخر الإحصاءات يتنافس أكثر من 7 آلاف مرشح في أجواء متوترة وعدائية شهدتها الحملات الانتخابية بين المتنافسين، أكدت ان مسيرة العراق الديمقراطية (2004) منذ سقوط نظام صدام حسين تعتبر تجربة وليدة وجديدة وبحاجة الى المزيد من الوعي والثقافة الديمقراطية في مجتمع ما زالت بنية العشيرة والعلاقات العائلية قوية وأساسية فيها، ما يعني في محصلة التصويت هناك لابد وان تبرز المؤثرات الشخصية في انتقاء بعض المرشحين دون النظر في كفاءتهم وحرصهم في الدفاع عن احتياجات الشعب الاساسية، وفي ذات الوقت يتبلور يوماً بعد يوم المجتمع المدني العراقي نتيجة حرية التعبير والأحزاب السياسية والنقابية والتجمعات المهنية والثقافية، ما يضيف تلك المساحة من امكانية تبلور الوعي الانتخابي لدى الناخب العراقي في ظل أجواء سياسية ومجتمعية استشرى فيها بشكل ملموس الفساد المالي والإداري، بل يلمس أي مراقب عن قرب مدى بروز مهاجمة الناخبين والشارع العراقي «لثيمة الفساد» فلا يمكن للعراقي البسيط والمثقف والتكنوقراط التغافل عن ظاهرة الفساد الواسعة أثناء حملته الانتخابية، فالجميع أولاها الأهمية القصوى والتركيز عليها كونها من سمات مرحلة البرلمانات السابقة ومن ملامح الحكومات التي تزامنت مع تلك المجالس النيابية، حيث بلغت السرقات وحجم الفساد المالي بالملايين تم نهبها من وزارات الدولة النفطية، تاركة تلك الظاهرة جرحاً عميقاً في ذاكرة ووجدان الشعب العراقي وهو يستعد للتصويت في منتصف مايو، دون أن يتمخض عن نزوع تيارات متطرفة تدعو للمقاطعة السلبية بحجة انها لا تريد منح الشرعية لذلك المجلس وبأن المقاطعة حق من حقوق التعبير الديمقراطي.
ومن الطبيعي هناك تجاذب بين المقاطعين والداعين للتصويت في الشارع العراقي كحالة شتى التيارات والأصوات السياسية العدمية في انتخابات الدول النامية نتيجة قصر النظر وقلة الحيلة والاحتجاج السلبي على الاستحقاقات الانتخابية غير المكتملة في مجتمع لم تنضج بشكل كافٍ تجربته الديمقراطية «الوليدة»!.
في بلد كالعراق قابل للاختراق الأمني من قبل عناصر وتنظيمات ودول متطرفة بإمكانها العبث بمسار سلامة التصويت تقع على أجهزة الأمن مسؤولية عالية لحماية صناديق الاقتراع بمساهمة «القوة الجوية وطيران الجيش!»، حيث سيكونان على أهبة الاستعداد لحماية الاقتراع وفق تأكيدات وزارة الداخلية العراقية التي وضعت «خطة امنية خاصة» بتأمين الانتخابات ومراكز الاقتراع. ويواجه العبادي الذي يتزعم قائمة «النصر» الانتخابية، حيث تضم عدداً من الكتل والأحزاب السياسية بعض الصعوبات لفشله نيل رضا المرجع الأعلى السيستاني لرفضه المطلق استقباله او استقبال أي شخصية سياسية.
(من المعروف ان السيستاني أغلق أبواب مكتبه بوجه جميع السياسيين منذ أكثر من خمس سنوات بسبب تردي الأوضاع في البلاد)، هذا الموقف يسبب قلقاً لدى الأحزاب السياسية المرتبطة عقائدياً بطائفة السيستاني فقد فقدت دعم وتأييد المرجعية.
من المعروف أن المنافسة الانتخابية تنحصر بقوة بين قائمة «النصر» بزعامة العبادي، وقائمة «الفتح» بزعامة هادي العامري، والتي تضم أغلب فصائل الحشد الشعبي الطائفي. فيما يأمل تحالف قائمة «سائرون» بين الحزب الشيوعي العراقي والتيار الصدري كتحالف تاريخي «تحقيق نتائج طيبة، حيث شكل هذا التحالف تعميقاً وكسراً للانتماءات الطائفية وتسييس الهويات وإعادة الاعتبار للهوية الوطنية واقامة دولة مدنية عابرة للطائفية»، كما جاء على لسان رائد فهمي زعيم ومرشح الحزب الشيوعي العراقي في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية.
هذا التوافق التاريخي كما أكد رائد فهمي، عن انه ليس مطلوب من أي طرف التخلي عن معتقداته إنما التحرك في المساحة المشتركة، وهي مساحة كبيرة. وتساهم 25 منظمة دولية ومحلية في عملية الاقتراع موزعة بين بغداد وإقليم كردستان لضمانة نزاهة وشفافية الانتخابات، بالرغم من أننا لاحظنا في فترة الحملات الانتخابية انتهاك بعض الأشخاص والتجمعات ليافطات مرشحين وتمزيق ملصقاتهم او إهانتهم، هذا ناهيك عن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في تشويه سمعة المرشحين وترويج قصص الفضائح والتشكيك.
أخيرًا لكل تجربة ديمقراطية جديدة ناشئة ثمن باهظ من المعاناة والصبر لتخطي وعي ناخب ساذج من أجل بناء وتمكين وعي ناخب مستقبلي يدرك المعايير الحقيقية لاختيار مرشح يمثل طموحاته ورغباته بكل مصداقية وشجاعة، فنائب الشعب من المفترض أن يكون مدافعاً عن الشعب كما وعد في برنامجه وندواته وحملته الانتخابية العنترية.
4 فرصة العراقيين لاسترجاع العراق غسان شربل الشرق الاوسط السعودية
ليست المسألة اسم رئيس الوزراء العراقي، رغم أهميته. إنها تتعلق قبل ذلك بالدولة العراقية نفسها. بقدرتها على لملمة أشلائها ومعالجة تصدعاتها وتضميد جروحها. بقدرتها على إحياء قدرتها على صناعة قرارها ضمن حدودها، وترسيخ التوجه نحو تحول العراق دولة طبيعية في الداخل والخارج. وليست المسألة اسم رئيس الوزراء في لبنان. إنها تتعلق قبل ذلك بالدولة اللبنانية. بقدرتها على إحياء العلاقات بين المكونات، واستعادة القدرة على صناعة قرارها داخل حدودها، ووضع الأساس الفعلي لتحول لبنان دولة طبيعية في الداخل والخارج. الوقت فعلاً من ذهب. لا يملك العراقيون أو اللبنانيون ترف إضاعة مزيد من الوقت. النار في الدار أو على الأسوار وتهدِّد بالدخول. عدم تحويل الانتخابات فرصة للخروج من الركام سيعدّ جريمة تضاف إلى جرائم كثيرة ارتُكبت.
نظلم بلداننا حين نطالبها بأن تكون الانتخابات فيها متطابقة مع مثيلاتها في الديمقراطيات العريقة. ننسى أحياناً أن لتجذُّر الديمقراطية في بلد ما شروطاً ثقافية واقتصادية وسياسية لا يمكن القفز فوقها. ثم إن هناك مَن يعتقد أن فكرة الديمقراطية والانتخابات جزء منها، هي نبتة مستوردة من عالم آخر شهد مخاضات طويلة يوم كنا نهجع في نوم عميق. لكن ذلك لا يلغي أن الاحتكام إلى الناس يشكّل فرصة للتعرف على أحجام القوى في المجتمع وتوجهاتها وتطلعاتها، وأن تكرار تجربة الاحتكام هذه يُفترض أن يكون الكفيل بعملية التصحيح والتشذيب والتنقيح.
تجربتان طازجتان من بلدين لا يستطيعان الاستقالة من الأزمة الإيرانية – الأميركية، ولا من لهب النار السورية المجاورة لهما ومعها الأزمة الإيرانية – الإسرائيلية على الملعب السوري. وربما بسبب هذا الاضطراب الهائل الذي يعصف بالإقليم تتحول الانتخابات إلى فرصة للاحتماء من النار عبر ترميم النسيج الوطني وإحياء القرار الذي يُفترض أن يقيم داخل الخريطة لا خارجها.
من حسنات الانتخابات في البلد المتعدد التكوين أنها تذكِّر كل مكوِّن بحاجته إلى أناس من مكوِّن آخر كي يفوز ويحصل على تفويض وطني بتولي الحكم. والحاجة إلى الآخر تعني الاستماع إليه، وتفهُّم مطالبه وهواجسه، والسعي إلى اللقاء معه في منتصف الطريق أو قربها، وتحديداً في رحاب الدولة.
ما قلناه عن الديمقراطية يمكن أن نقوله أيضاً عن فكرة الدولة. عن هذه الآلة التي يُفترض أن تكون في خدمة الناس. في خدمة التنمية وضمان الحقوق والأمن وفرص التعبير والتغيير. وهذه المهمة صعبة وشائكة لأنها تختلف تماماً عن نهج إحلال ظلم جماعة مكان فرد ظالم. ولا مبالغة في القول إن ثقافتنا الموروثة تتكئ على صورة المنتصر والبطل وإلغاء الخصم، لا على فكرة اللقاء والتنازلات المتبادلة ووضع القرار في عهدة المؤسسات.
علينا أن نتذكر أن دورة الانهيارات الحالية بدأت حين أُسقط نظام صدام حسين، ولم تستطع المعارضة العراقية التقدم سريعاً كبديل جاهز ومقنع. كان الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني يعتبر أن العراقيين أضاعوا ذات يوم فرصة ثمينة كان يمكن أن تجنِّبهم تجربة مجلس الحكم وقرارات بول بريمر بحل الجيش العراقي. قال إن الجنرال جاي غارنر أول حاكم عسكري أميركي للعراق بعد الغزو قال لقادة المعارضة: «أيها العراقيون شكِّلوا حكومة موقتة لتديروا البلد وأنتم المعارضة التي تعاملنا معها، تفضلوا وقوموا بتشكيل الحكومة من جانبكم». وكان غارنر يعتقد أن طالباني يمكن أن يرأس هذه الحكومة، وكان موقف السفير الأميركي آنذاك زلماي خليل زاد يصبّ في الاتجاه نفسه. ويقول طالباني إن واشنطن كانت مستعدة لوضع الملفات الأساسية في عهدة الحكومة الموقتة لكن المطالب المذهبية أفشلت هذا الاقتراح وأدخلت العراق في عهد بريمر وقراراته.
اليوم لا بدّ من التعامل مع الانتخابات العراقية كفرصة بعدما نجحت الدولة العراقية بمساعدة الحلفاء في إبعاد خطر «داعش» والانتصار عليه. وتزداد أهمية اغتنام هذه الفرصة في وقت تلوح في الأفق معالم مواجهة إيرانية – أميركية قد يكون العراق أحد ملاعبها ويدفع ثمنها من استقراره ما لم تتمخض الانتخابات عن قيام حكومة تمتلك الرؤية والإرادة والقرار كي لا يرجع العراق ساحة اختبار وملعباً لتبادل الرسائل الدامية.
أعود إلى طالباني لأنه كان سياسياً بارعاً يعرف حساسيات التركيبة العراقية وحساسيات المنطقة، خصوصاً أنه أقام خلال معارضته عهد صدام حسين في طهران ودمشق وكان صديقاً للعاصمتين. قال طالباني إن طهران تخطئ كثيراً إذا اعتقدت أنها تستطيع إدارة بغداد على غرار ما فعلت دمشق مع بيروت، والنتيجة معروفة.
ذهب أبعد في شرح موضوع الشيعة العراقيين. قال: «أنا أعتقد أن شيعة العراق لن يكونوا أبداً تابعين للشيعة في إيران. أولاً دعْني أقلْ لك أمثلة المرجعيات. عندنا أربع مرجعيات على رأسهم سماحة السيد علي السيستاني. هؤلاء مختلفون مع إيران حول موضوع ولاية الفقيه، فهم لا يريدون ولاية الفقيه، وهذا خلاف كبير. شيء يذكّر بالحركة الشيوعية العالمية والخلاف بين الصين وروسيا. ثانياً هؤلاء المراجع يعتبرون أنفسهم هم مراجع الشيعة في العالم. ثالثاً النجف الأشرف هو (فاتيكان الشيعة) في العالم وليس قم أو مشهد. رابعاً أكثر أضرحة أئمة الشيعة موجودة في العراق، الإمام علي والحسين والعباس والكاظم والعسكريان. هناك واحد فقط مات في مشهد. عندما يذهبون إلى قبره يقولون: يا غريب الدار السلام عليكم. لذلك لا خطر من أن يكون شيعة العراق أتباعاً لإيران أبداً».
أهم ما يمكن أن يفعله العراقيون هو تحويل الانتخابات فرصةً لترميم النسيج والقرار، واسترجاع العراق إلى أيدي العراقيين. استرجاعه من أيدي الدول القريبة والبعيدة ولكي يكون العراق لاعباً لا ملعباً وعنصر استقرار وازدهار في المنطقة. كل تمديد للأدوار غير الطبيعية على أرض العراق هو تمديد لآلامه. الأدوار التي انتُزعت في زمن الملعب العراقي يجب أن تنحسر إلى حدود العلاقات الطبيعية بعد عودة الدولة العراقية. لا عودة إلى الاستقرار من دون عودة الأشياء إلى طبيعتها: العراق للعراقيين، وسوريا للسوريين، ولبنان للبنانيين. إن إدارة عاصمة من عاصمة أخرى هي وصفة واضحة لتمديد الاضطراب الكبير.
5 العراق بعد «نصر» العبادي مشاري الذايدي الشرق الاوسط السعودية
العراق اليوم دخل عهداً جديداً – أو هكذا ينتظر – بعد انتهاء الانتخابات النيابية، وهي انتخابات بقدر ما تخص العراقيين، بقدر ما هي شاغلة لدول عظمى في العالم أو الإقليم.
أكثر من 7 آلاف مرشح في 18 محافظة عن 320 حزباً وائتلافاً وقائمة، للحصول على 329 مقعداً برلمانياً.
النتائج الأولية شبه الأكيدة، تظهر تفوقاً واضحاً لتحالف رئيس الوزراء حيدر العبادي «تحالف النصر» يليه رجل الدين الشيعي صاحب الشخصية المستقلة مقتدى الصدر «تحالف سائرون»، ثم تحالف الحشد الشعبي المرتبط بإيران بقيادة رئيس قوات بدر الشيعية هادي العامري، وأخيراً، قائمة «اللائذ الأبدي» بمقعد الحكومة، نوري المالكي ودولته دولة القانون.
هذا على الساحة الشيعية، وهي الأساسية اليوم، ومنها يأتي رئيس الحكومة، لذا فظفر العبادي وربما يتحالف معه الصدر ضد الحشد والمالكي، خبر جيد.
هذه الانتخابات شهدت إقبالاً متوسطاً أو ضعيفاً قياساً بالمرات السابقة، فنحو 11 مليون عراقي من أصل 24 مليوناً يحق لهم الانتخاب أدلوا بأصواتهم، لاختيار ممثليهم بالبرلمان، في أول انتخابات بعد هزيمة «داعش».
المفوضية العليا للانتخابات ذكرت، حسبما أوردت وكالة «أسوشييتد برس»، أن نسبة الإقبال بلغت 44 في المائة، في حين كانت نسبة الإقبال لا تقل عن 60 في المائة في الانتخابات التي جرت منذ 2005.
لكن ورغم هذا الإقبال الضعيف مقارنة بالماضيات، فذلك لا يؤثر على صحة منتجات الانتخابات.
في الداخل العراقي هناك فواتير مطلوب سدادها من البرلمان والحكومة، ومنها الفساد المتضخم، وتفشي الميليشيات خارج الدولة، وتجريم الطائفية، وتعزيز الخدمات المحلية وجلب الاستثمارات الخارجية وصون الوحدة الوطنية.
أما في الخارج، وهذا ما يهمنا هنا، فهو تأكيد عدم ارتهان القرار العراقي لصالح إيران أو أي طرف خارجي، عربي أو غير عربي، هذا ما يحاول العبادي والصدر فعله وتكريسه.
اليوم هناك نذر مواجهة كبرى أميركية إيرانية، بعد انسحاب الرئيس ترمب من الاتفاق الإيراني، كيف سيكون وضع العراق هنا؟
إطلاق الشعارات عن الاستقلال وسيادة القرار والمصلحة العراقية، أمر جميل على المستوى النظري، لكن عند الامتحان العملي تتضح الحقيقة من الزيف، والقدرة من العجز.
هناك لمحات تبعث على الأمل، مثلا ضياء الأسدي، رئيس كتلة التيار الصدري في البرلمان، قال عن نهج مقتدى الصدر في حديث لصحيفة التايمز من بغداد: «إنه يريد ائتلافاً من شعب يرغب في دولة مدنية غير طائفية».
هناك رسالة جيدة أتت من العراق اليوم بفوز العبادي والصدر، هل تكمل الرسالة طريقها للآخر؟
كلنا ننتظر ذلك، بشغف وأمل.
6 حكومة ما بعد الانتخابات العراقية عدنان حسين الشرق الاوسط السعودية
الانتخابات البرلمانية العراقية المنتهية للتوّ، لم تُشبه سابقاتها منذ أول انتخابات لمجلس النواب في عهد ما بعد صدام في 2005. هذه المرة اختفت الكتل الكبيرة المتشكّلة على أساس طائفي (شيعي – سني) وقومي (عربي – كردي). ومجلس النواب المُنتخب للتوّ سيتكوّن من عدد مضاعف من الكتل، لكن بأوزان أدنى، فالكتلة الشيعية الكبرى (الائتلاف الوطني) ليس مرجّحاً أن تعاود الظهور بعد الانشقاقات العديدة التي ضربتها: «التيار الصدري» خرج منها وخاض الانتخابات مع الحزب الشيوعي وجماعات مدنية أخرى، «ائتلاف دولة القانون» انشقّ إلى جماعتين يقود الأولى رئيس الوزراء حيدر العبادي، والثانية رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، «تيار الحكمة» بقيادة عمار الحكيم نشأ خارج المجلس الأعلى الإسلامي منفصلاً عنه. جماعات شيعية أخرى شكّلت قائمة منفردة ضمّت الجماعات المسلحة التي التحقت بهيئة «الحشد الشعبي»، وخاضت الانتخابات بقيادة زعيم «منظمة بدر» هادي العامري الخارج من «ائتلاف دولة القانون» و«الائتلاف الوطني».
الكتلة السنّية انشطرت هي الأخرى، وتوزّعت جماعاتها ما بين قوائم طائفية صغيرة، أو ذهب بعض زعمائها إلى «ائتلاف الوطنية» بزعامة إياد علاوي. الكرد الذين أظهروا في الماضي تجانساً أفضل من سواهم تفتّتْ وحدتهم، ولم يعد التحالف الكردستاني مظلّتهم الموحدة. صار لكل حزب قائمة سيكون تمثيلها ضعيفاً داخل البرلمان المقبل، وستسعى للالتحاق بالكتل الشيعية أو السنية لتضمن دوراً في الحكومة المقبلة، ومن المرجّح أن يحتفظ الحزب الديمقراطي الكردستاني بالصدارة بينها، ما يؤهله ليكون شريكاً مفضلاً لمن يشكّل الحكومة المقبلة.
ومن أهم ما ميّز هذه الانتخابات كذلك، أن نسبة المقاطعة أو العزوف التي كانت من سمات كل العمليات الانتخابية السابقة، ارتفعت هذه المرة بدرجة لافتة، فقد هبطت نسبة المشاركة من 60 في المائة في انتخابات 2014 إلى أقل من 50 في المائة، وهو ما كان متوقّعاً ومثّل عقوبة من الشعب للقوى المتنفّذة، وبخاصة قوى الإسلام السياسي التي شعر الجمهور الذي ادّعت تمثيله أنها قد خذلته بعد 15 سنة من توليها السلطة بعد سقوط نظام صدام.
الشيعة، وهم الكتلة السكانية الأكبر، لم يلمسوا من الأحزاب التي نطقت باسمهم وباسم «مظلوميتهم»، أي مساهمة في تحسين أحوالهم المعيشية، ووضع حدّ لتلك المظلومية… العكس هو الصحيح، فالسكان الشيعة هم المتضرّر الأكبر من انهيار نظام الخدمات العامة (الصحة والتعليم والكهرباء والماء والصرف الصحي والنقل)، ومن ارتفاع مستويات البطالة والفقر. ومعظم الناس يدركون أن ذلك يرجع إلى انغمار قيادات الأحزاب الشيعية في الفساد الإداري والمالي، الذي ظلّت مستوياته تتصاعد العام بعد الآخر برغم التعهدات الحكومية بمكافحة هذه الظاهرة المتسببة في اختفاء مئات مليارات الدولارات من تخصيصات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وكان لما حدث في عهد الحكومة السابقة التي كانت بقيادة أكبر كتلة في البرلمان (الائتلاف الوطني العراقي) الشيعية، أثر كبير للغاية في زيادة نقمة الشيعة حيال «أحزابهم»، فمع أن المناطق التي احتلّها تنظيم داعش في ذلك العام كانت سنّية، إلا أن حصة الشيعة بين الضحايا كانت كبيرة، ففي يوم واحد، مثلاً، قتل التنظيم الإرهابي في مجزرة جماعية 1700 من الشبّان الشيعة المتدربين في معسكر سبايكر الذين تُرِكوا لمصيرهم بعد انسحاب قوات الجيش والشرطة من المنطقة المحيطة بالمعسكر على غرار ما حصل في سائر المناطق التي احتلها «داعش» دونما مقاومة. كما أن ضحايا الحرب ضد «داعش»، ومن أجل استعادة المناطق المحتلة في السنوات اللاحقة، كانوا في معظمهم شيعة من منتسبي الجيش والشرطة الاتحادية و«الحشد الشعبي». ولطالما اشتكت عوائل المقاتلين الذين قضوا في تلك الحرب من أن «حكومتهم» لم ترعَ مصالحهم على النحو المتوجب، ما زاد من الشعور بالنقمة وخيبة الأمل حيال الأحزاب الشيعية وحكومتها.
أما بالنسبة للسنة، فكانت نقمتهم حيال «أحزابهم» هم أيضاً كبيرة. سياسات هذه الأحزاب ركّزت على إثارة النزعات والنزاعات الطائفية، ما أدى إلى حصول كارثة الاحتلال «الداعشي». والنقمة على الأحزاب السنية تفاقمت أكثر بعد الاحتلال الذي تسبب في نزوح معظم سكان المناطق السنية، وعيشهم في مخيمات بائسة افتقدت إلى أبسط شروط العيش. ومما زاد الشعور بالعداء لهذه الأحزاب أن قياداتها استغلّت المحنة لتستحوذ على قسم من الأموال المتدفّقة من الداخل والخارج، المخصصة لإغاثة النازحين.
في إقليم كردستان لم تكن الصورة أفضل، فالغالبية من الكرد وجدت أن أحزابهم لم تكن عند مستوى ما حقّقوه من مكتسبات وما كان مأمولاً لتعزيز هذه المكتسبات. قيادات الأحزاب الكردية هي الأخرى انغمرت في عمليات الفساد الإداري والمالي، وانخرطت في الصراع فيما بينها على السلطة والنفوذ والمال. وكان لسوء التقدير (لجهة التوقيت خصوصاً) في تنظيم الاستفتاء على حق تقرير المصير في العام الماضي، أثره البالغ في زيادة النقمة على هذه الأحزاب، فعملياً خسر الكرد الكثير من مكاسبهم المتحقّقة على مدى نصف قرن.
في إطار هذه اللوحة المُثقلة بالتفاصيل، يتعيّن تشكيل الحكومة الجديدة التي يُفترض أن تكون قويّة لمواجهة متطلبات مرحلة ما بعد «داعش»، وبخاصة على صعيد بناء دولة المواطنة بعد سقوط دولة الطوائف والقوميات المحاصصاتية، وهو ما عبّرت عنه الرسالة التي تضمنتها النسبة الكبيرة للمقاطعة أو العزوف في هذه الانتخابات، وكذلك على صعيد إعادة الإعمار المتوجب أن تشمل العراق كله، وليس المناطق المدمّرة، بسبب احتلال «داعش» وتبعاته وحسب، وهذا بالذات تلزمه حكومة تنهض بالمهمة الأكبر، وهي مكافحة الفساد الإداري والمالي الذي إليه يرجع السبب الأكبر في انهيار الاقتصاد العراقي غير النفطي، وفي إثارة النزاعات الأهلية والسياسية وجلب «داعش».
بالطبع لا يُمكن أن تكون الحكومة الجديدة في صورة الحكومات السابقة، وعلى صيغتها التي قامت على المحاصصة الطائفية والقومية. هذا سيعني إعادة إنتاج الفشل وزيادة منسوب النقمة إلى مستوى يُمكن أن يُنذر باضطرابات اجتماعية يصعب السيطرة عليها.
مثلما كانت الانتخابات الأخيرة لا تُشبه سابقاتها، فإن الحكومة الجديدة، بل العملية السياسية برمّتها، يتحتّم ألا تُشبه سابقاتها
7 حظوظ العبادي أكبر
حازم الأمين الحياة السعودية
لعل أغرب ما في الانتخابات العراقية التي من المفترض أن تبدأ نتائجها بالظهور هو ترشح حزب «الدعوة» الإسلامي الحاكم بلائحتين، الأولى «لائحة النصر» التي يتزعمها رئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي، والثانية لائحة «ائتلاف دولة القانون» التي يتزعمها رئيس الحكومة السابق نوري المالكي. وفي حين نفى الأول وجود وثيقة تلزم اللائحتين بالاندماج بعد صدور نتائج الانتخابات، أكد الثاني وجود هذه الوثيقة الموقعة منه ومن العبادي، وأشار إلى أن ترشح الحزب عبر هاتين اللائحتين هو تدبير انتخابي وليس سياسياً.
الأرجح أن المالكي نطق صدقاً هذه المرة، وأن حزب «الدعوة» سيحصد مقاعد من طرفي المعادلة الشيعية العراقية، وسيجري مقاصة داخلية يُحدد فيها هوية رئيس الحكومة العتيد. لكن الأهم في هذه القِسمة الانتخابية هو ما رافقها من أوهام سياسية، فالسائد هو أن المالكي أقرب إلى طهران، وأن العبادي أقرب إلى المرجعية النجفية متمثلة في السيد علي السيستاني
لا تخلو هذه الأوهام السياسية من صحة، وعلى رغم ذلك هي أوهام! ذاك أن ما تمليه على العراق من خيارات لا يفترض فروقاً كبيرة. العراق حسم موقعه سواء لجهة هوية الدولة داخلياً، ولجهة موقعها الإقليمي، فيما يتولى رئيس الحكومة، سواء كان العبادي أم المالكي إدارة هذا الموقع، كل بحسب شخصيته. ترشُح الرجلين على لائحتين (بعد أن وقعا وثيقة العهد داخل الحزب) يكشف ذلك على نحو لا تخطئه عين.
وهنا لا بد من العودة إلى موقع الرجلين من إيران. ففي ظل حكومة العبادي الذي من المفترض أن يكون على مسافة أبعد من طهران من سلفه، لم تشعر الأخيرة بأي ضيق في المهام التي تولتها في العراق، بدءاً من حضور قاسم سليماني جولات الحشد الشعبي وصولاته، ومروراً بالطريق المفتوحة لمن يرغب من الفصائل العراقية في التوجه لـ «الجهاد في سورية» ووصولاً إلى الخيارات الداخلية كالعلاقة مع الأكراد والخارجية أيضاً، ومنها وجهة التصويت على قرارات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
الفارق ضئيل بين الرجلين (العبادي والمالكي) على مختلف هذه الأصعدة، وإذا كان العبادي مقبولاً أكثر من سلفه من العرب والغربيين، فهذا ما يُعزز حظوظه أكثر لدى طهران، فترؤسه الحكومة لا يعني أن العراق ابتعد منها، بل يعني أنه فتح لها خطوطاً لتستثمر فيها «فتوحاتها» ولتفاوض عبرها الشرق والغرب، في حين مثّل نوري المالكي لحظة استعصاء سياسية وأمنية في المرحلة الأخيرة من أيامه في رئاسة الحكومة.
بهذا المعنى، فإن الانتخابات، إذا لم تحمل مفاجآت كبرى، وهزائم ساحقة، ستحمل للعراق حيدر العبادي مجدداً إلى المنصب التنفيذي الأول. حزب «الدعوة» من المفترض أن يحصد أكثر من غيره مقاعد على ضفتي لائحتيه، وداخل الحزب من المفترض أن ترجح كفة العبادي على كفة المالكي. وسيصور هذا الاختيار بصفته نصراً لخيار «الاعتدال الشيعي» سواء لجهة العلاقة مع طهران أو لجهة العلاقة مع العرب.
تجيد طهران هذه اللعبة. في لبنان ما يوازيها في العلاقة بين «حزب الله» وحركة «أمل» على رغم التفاوتات الكبيرة بين المشهدين اللبناني والعراقي. نبيه بري واجهة أكثر قبولاً من «حزب الله» لتظهير الموقع الشيعي على رغم أن الحزب هو جزء عضوي من الحرس الثوري. ووفقاً لهذه المعادلة لا بأس بأن يتولى بري التمثيل الرسمي للشيعة في لبنان، وأن يكون تكتله النيابي أكبر من تكتل الحزب.
العبادي أقرب إلى المرجعية في النجف وأقرب إلى التيار الصدري، ولديه خطوط مفتوحة على السنّة العراقيين، وتعثّر علاقاته مع الأكراد بعد واقعة كركوك أملاه شعوره بضرورة مواصلة «الانتصارات» لأسباب انتخابية أيضاً، واستئناف هذه العلاقة ليس مستحيلاً. والعامل الأهم في تعزيز حظوظ الرجل هو أنه لم يُزعج طهران طوال فترة حكمه العراق.
8 خيط ضوء في نتائج الانتخابات العراقية؟!
جميل النمري الغد الاردنية
تصدرت القوائم الشيعية الانتخابات العراقية بالترتيب الآتي: قائمة النصر (رئيس الوزراء حيدر العبادي)، قائمة سائرون (مقتدى الصدر)، قائمة الفتح (هادي العامري قائد الحشد الشعبي)، قائمة دولة القانون (المالكي)، والمرجح أن تتحالف قائمتا العبادي والصدر الأعلى أصواتا مقابل قائمتي المالكي وهادي الأقرب لإيران، ثم هناك القائمة الخامسة الشيعية بزعامة عمار الحكيم (الحكمة) التي ستنضم الى أحد الحليفين اللذين سيبحثان لتشكيل الحكومة الاتحادية عن حلفاء من الأكراد؛ حيث يستمر الحزبان الكبيران الوطني الكردستاني الذي يتصدر في السليمانية، والديمقراطي الكردستاني الذي يتصدر في أربيل، ومن السنة الذين تتصدرهم قائمة القرار برئاسة النجيفي وقائمة الوطنية (إياد علاوي) الوحيدة العابرة للطوائف. ثم هناك قوائم محلية صغيرة ومرشحو الأقليات الدينية والعرقية. وخاض الانتخابات أكثر من 300 قائمة و7 آلاف مرشح في 18 محافظة للمنافسة على 392 مقعدا، وهو عدد هائل مقارنة مع الأردن مثلا.
سيكون تشكيل الحكومة صعبا بسبب التفتت الشديد للتركيبة البرلمانية المكونة من عشرات عدة من الائتلافات والمستقلين، وليس هناك فئة تملك أي أغلبية، ناهيك أنه من غير الوارد تشكيل حكومة من دون أن تشارك فيها قوى رئيسية من المكونات الثلاثة الرئيسة؛ الشيعي والسني والكردي، وبنسب مقبولة من كل طرف، مع التسليم سلفا بغلبة المكون الشيعي والمنقسم هو نفسه الى خمسة ائتلافات رئيسة الى جانب مجموعات أصغر؛ أي أن ائتلافا حكوميا سيخضع لمقايضات مضنية لأطراف عديدة، وقد تمر أسابيع طويلة قبل التمكن من تحقيق تفاهم معقول يملك الأغلبية وبمشاركة من الأطراف الثلاثة الرئيسة؛ أي الشيعة والسنة والأكراد، ولن يكون سهلا التفاهم على القضايا الوطنية الرئيسة والمحاصصة من قبل القوائم الرئيسة الكردية والسنية مع القوائم الشيعية حتى مع تلك الأقل ارتباطا بطهران بسبب التباين الشديد في الأجندات والمصالح. وفي كل الأحوال، ستبقى الحكومة محكومة بالهشاشة الشديدة، وفي الأثناء بقاء كبار النافذين ماليا وميليشياويا بمفاصل السلطة الفعلية وبقاء الفساد العارم ونهب المال العام وترحيل المشاكل العويصة مثل التوازن بين المكونات والصراع الديموغرافي في بعض المناطق وقضايا المهجرين وإعادة الإعمار.
لكن تشكيل الحكومة ليس المشكلة الجوهرية، فما يحتاجه العراق هو توفر إرادة سياسية قوية جدا لتجاوز المصالح الطائفية والشخصية والإقدام على عملية سياسية مختلفة تحقق الشراكة الوطنية لمرحلة انتقالية يعاد فيها بناء الدولة العراقية وإصلاح المؤسسات، لكن من هي الجهة التي تملك هذه الإرادة والقوة الكافية لقيادة هذا المشروع؟! وحسب التحليلات لمدخلات العملية الانتخابية وهي كانت تحليلات شديدة القتامة والتشاؤم، فليس متوقعا أن تكون المخرجات مختلفة، وقد سادت الانتخابات نفسها مظاهر شراء الأصوات والاستخدام البشع للمال الى جانب اتهامات التزوير والتلاعب بالانتخابات هنا وهناك، ولعل النتيجة السلبية الرئيسة هي تراجع الإقبال على الانتخابات (45 % مقابل 65 % في الانتخابات السابقة)، بما يعكس تراجع ثقة الناخبين بالانتخابات والقوى الموجودة المسؤولة عن الفساد والتدهور العام.
تقدم العبادي والصدر يمكن النظر له إيجابيا باعتبارهما أقل طائفية وتبعية لإيران وأكثر انفتاحا على الشراكة الوطنية. رغم تصريح هيئة الانتخابات بالتحفظ على أي أرقام واعتبارها إشاعات بانتظار النتائج الرسمية التي ستحتاج إلى يومين على الأقل. والتفاؤل بتصدر هذين الحزبين هو من باب البحث عن خيط ضوء في المشهد العام القاتم للعراق العزيز.