5 مقالات عن العراق في الصحف العربية اليوم الجمعة

1 العراق يتمدّد.. ولا يتجّزأ
محمد عارف
الاتحاد الاماراتية

«عندما تكذب حبيبتي أُصدّقها». يقول ذلك الشاعر وليام شكسبير. وكيف لا أصدق أنا حبيبة عراقية عمرها أربعة وأربعون قرناً تروي الأساطير؟. هكذا تبدأ مقالتي المنشورة هنا في أكتوبر عام 2008 عن أول شاعر وكاتب معروف في التاريخ، وهو امرأة اسمها «إنهدوانا»، وضعت قبل ألفي عام من الفيلسوف الإغريقي «أرسطو» تعاليم تربوية للفرد والمجتمع، ومُدّون في صورتها الشخصية المنقوشة في قرص طيني: «إنهدوانا، ابنة سرجون، ملك الجميع». و«سرجون الأكدي» مؤسس أول إمبراطورية في التاريخ قامت قبل نحو خمسة آلاف عام.

وفي دراسة تاريخ العراق، الذي لا مثيل له في توالي حضارات عالمية عظمى، نحتاج إلى إبداع علم تاريخ جديد كعلم «الطوبولوجيا» الذي يقيس مواصفات العلاقات الهندسية لحيازات مكانية لا تتأثر بتغيرات الشكل والحجم. فالعراق يتمدد تاريخياً وجغرافياً عبر القرون، وقد تفسر الطوبولوجيا كيف انحدر العرب عن الأكديين، وورثوا عنهم عبقرية إنشاء الإمبراطوريات. كشف ذلك «القاموس الأكدي العربي» الصادر في أبوظبي بمناسبة مئوية الشيخ زايد بن سلطان، وذكر مؤلفه «علي الجبوري»، عميد كلية الآثار في جامعة الموصل، أن العربية تضم 1800 كلمة من أصل أكدي.

واسم «إنهدوانا» يرمز إلى جمال القمر، وهي اليوم «قمر» في سماء نساء العالم، جمعيات، وأطروحات أكاديمية، وكتب، ودواوين شعر، ومواقع على الإنترنت تحمل اسمها. و«الآن يُحطِّم صوت إنهدوانا الصمت الذي أحاط المرأة في الثقافات والعقائد الدينية السائدة في الغرب». تقول ذلك «بتي دي شونغ»، الطبيبة النفسانية والباحثة في جامعة بركلي في كتاب ضم مجموعة قصائد «إنهدوانا».

والخميس الماضي احتضنت «إنهدوانا» شقيقاتها العراقيات، ليس في بغداد، بل في العاصمة الأردنية عمان، حيث أقيم احتفال خاص بأساطير وحكايات بلاد ما بين النهرين. نَظّم الاحتفال «مجلس الأعمال العراقي»، وهو جمعية غير ربحية يمولها 400 رجل أعمال عراقي في الأردن و3500 شركة. وفي رسالة شخصية ذكر «سعد ناجي» أمين سر المجلس، ونائب رئيسه، أن المجلس الذي يوفر فرص استثمارات بملايين الدولارات لأعضائه، يمثل جيلاً جديداً من رجال الأعمال العراقيين، يلتزمون بوثائق الأمم المتحدة، حول المعايير العالمية للبيئة النظيفة، والمسؤولية الاجتماعية للشركات، في محاربة الفساد، وتوفير فرص عمل بأجور متساوية للجنسين، ومنع تشغيل الأطفال، والسخرة.

وأيقونة المجلس «شجرة الحياة السومرية»، تعبّر عن حيوية برامجه الثقافية والإنسانية والإغاثية، التي تتضمن إضافة إلى مؤتمرات وندوات ومعارض فنانين ومعمارين ومصممي أزياء عراقيين.. برامج لخدمة الجالية العراقية التي يراوح عدد أفرادها بين ربع مليون ومليون عراقي، حسب تمدد العراق، وليس تجزؤه في الأردن، الذي لا يعترف بالعراقيين كلاجئين، بل كـ«ضيوف»، غير مسموح حتى للأطباء منهم بفتح عيادات لخدمة جاليتهم، لكن في عراق الأردن هناك حوانيت عراقية، ومخابز، ومقاه، وحتى مطاعم «سمك المسكوف» التي تعرض أسماكاً نهرية حية في بلد ليس به أنهار!

واحتفال «إنهدوانا» ثمرة عمل المجلس في لم شمل الشتات العراقي، حيث بادرت له «كفاح عارف»، المنتجة في «بي بي سي» بلندن، وفي صوت الممثلة العراقية البريطانية «بديعة عبيد» التي روت الأساطير في الاحتفال، حضر صوت «إنهدوانا» القوي، الذي استوقف «روبرتا بنكلي»، أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة «تينسي» بالولايات المتحدة، وذكرت في مقالة عنوانها «أهمية إنهدوانا»، أنه «من دون ثقة بالنفس، ومن دون الهوية الذاتية التي تحدد معرفة النفس، والاعتداد بها، لا يمكن للكاتب أن يبدع ذاته، وهي جوهر الروح». وذكرت «بنكلي» أن صوت «إنهدوانا» هو «الصوت الحازم، والقوي الذي تحتاج النساء لسماعه»، ووصفها لحظة الإبداع الأدبي واحد من أقوى المقاطع في تاريخ الأدب القديم: «في منتصف الليل كوَّمتُ الفحم في المبخرة وولدت القصيدة».
2 مشكلة الأكراد مع تركيا وإيران وليست مع العرب والعراق وسوريا! صالح القلاب

الشرق الاوسط السعودية

كان متوقعاً أن يصبح الكرد، أو «الأكراد»، مشكلة إقليمية، على ما هو عليه الوضع الآن؛ فاقتسام غنائم ما بعد الحرب العالمية الأولى بين الدول المنتصرة؛ بريطانيا العظمى وفرنسا، وبالتالي الولايات المتحدة لاحقاً، بعد حرب السويس في عام 1956، جعلهم موزعين بين عدد من دول المنطقة الشرق أوسطية الرئيسية؛ التي هي تركيا أولاً، وإيران ثانياً، والعراق ثالثاً… وسوريا رابعاً، هذا بالإضافة إلى أن بعضهم بات يشكل أقليات ليس لها أي حضور سياسي فاعل في لبنان والأردن، وهناك من يقول وفي مصر وأذربيجان وأرمينيا وربما روسيا الاتحادية.
ولعل ما يميز العرب عن الأكراد، أن عددهم الآن بات يتجاوز ثلاثمائة مليون وربما أكثر، وأنهم أقاموا دولتين رئيسيتين (إمبراطوريتين)؛ هما الدولة الأموية والدولة العباسية، وأنهم شكلوا فيما تسمى دولة الخلافة العثمانية رقماً رئيسياً وكتلة أساسية إنْ لم تكن شريكاً في النظام العثماني، فإن حضورها لم يغب على مدى الأربعمائة سنة وأكثر، التي هي عمر العثمانيين الذين كانت عاصمتهم إسطنبول (القسطنطينية)، لكن كانت لهم مراكز «عواصم» ملحقة في دمشق – الشام وفي القاهرة وفي بغداد، وأيضاً في مكة المكرمة والمدينة المنورة لاعتبارات دينية، ونظراً لأن الخليفة التركي كان يحمل صفة أمير المؤمنين.
ولهذا، وعندما جرى توزيع الغنائم على المنتصرين بعد الحرب العالمية الأولى، والحصة الأكبر في شرق المتوسط ووادي النيل كانت لبريطانيا العظمى، كان لا بد من أن تقوم دولة عربية في العراق بما فيه كردستان العراقية، وأخرى في سوريا شاركت فيها رموز كردية أساسية وحتى على مستوى رئاسة الجمهورية، وذلك في حين أن هؤلاء في إيران بقي وجودهم ثانوياً في العهود الإيرانية المبكرة وفي اللاحقة وحتى الآن؛ إنْ في عهد الشاه الأول رضا بهلوي، وإنْ في عهد ابنه محمد الذي أزاحته الثورة الخمينية في عام 1979 واستكملت قمع التطلعات الكردية الاستقلالية منذ أيامها الأولى كما حصل في كرمنشاه عندما حول «المعممون» أعمدة الكهرباء إلى أعواد مشانق لهؤلاء، بحجة أنهم يشكلون جيباً عميلاً، وأنهم عملاء لأميركا و«الاستكبار العالمي»، وهذا في حقيقة الأمر غير صحيح على الإطلاق.
وإنّ ما تجب الإشارة إليه هو أن أول محاولة لإقامة دولة كردية فعلية كانت في «مهاباد» في عام 1946 حيث أقام القاضي محمد، الذي تم إعدامه بعد فشل تلك المحاولة، ومعه الملا مصطفى بارزاني والد مسعود بارزاني، ما سميت جمهورية «مهاباد» بدعم من الاتحاد السوفياتي وموافقة الولايات المتحدة، لكن ما لبث هؤلاء الداعمون أن تراجعوا عن دعمهم بـ«التآمر» مع الشاه رضا بهلوي، فحصل ما حصل، وانتهت تلك المحاولة «الانتحارية» بعد نحو سبعة أشهر، لكنها بقيت حافزاً لهذا الشعب ولهذه الأمة حتى الآن… حتى هذه اللحظة التاريخية.
وهنا، فإن هناك من يشبِّه خطوة الاستفتاء الأخيرة التي أقدم عليها «الرئيس» مسعود بارزاني بما كان أقدم عليه والده مصطفى بارزاني ومعه القاضي محمد في مهاباد في عام 1946؛ فاللعبة الدولية – الإقليمية التي أفشلت تلك المحاولة المبكرة قد أفشلت محاولة «أبو مسرور» الأخيرة هذه التي يبدو أنها لن تتكرر قريباً ما دامت معادلات هذه المنطقة هي هذه المعادلات، وما دام حتى أكراد العراق بينهم كل هذه الاختلافات والخلافات، وأن بعضهم «يتآمر» مع إيران للتخلص من رئيس إقليم كردستان السابق ومن تراثه العائلي والأبوي بصورة نهائية.
والحقيقة أن ما يضعف الأكراد بصورة عامة هو أن «تقسيمات» ما بعد الحرب العالمية الأولى قد باعدت بين التوجهات السياسية لمكوناتهم الرئيسية، فتطلعات «حزب العمال الكردستاني» – التركي وارتباطاته تختلف عن تطلعات وارتباطات «الحزب الديمقراطي الكردي»؛ حزب مسعود بارزاني، وهذا ينطبق على ما تبقى من حزب جلال طالباني «حزب الاتحاد الوطني»، وعلى الكيان السياسي الذي أنشأه برهم صالح، وعلى بعض التشكيلات الهامشية الأخرى؛ إنْ كانت ذات اتجاهات إسلامية أو علمانية و«ماركسية – لينينية» أو أيضاً «نقشبندية».
إنه لا مشكلة للأكراد مع العرب بصورة عامة؛ فالتعايش بين هذين المكونين أو هاتين الأمتين قديم جداً، إنْ في العراق أو في سوريا، وكان الكرد دائماً، وأبداً، شركاء رئيسيين في المسيرة الحضارية العربية الطويلة، فخيرة من كانوا يُعدّون كفاءات عربية كانوا من هذا الشعب الشقيق العريق، وهذا يختلف اختلافاً كبيراً عمّا هو في إيران وفي تركيا سابقاً ولاحقاً… وحتى الآن.
والمشكلة؛ إنْ بالنسبة لتركيا وإنْ بالنسبة لإيران، هي أن الأكراد في هاتين الدولتين يشكلون ثقلاً رئيسياً؛ إذ يقال إن عددهم في تركيا يصل إلى أكثر من 20 مليوناً، بينما عددهم في إيران يقترب من 15 مليوناً، وهذا يعني أنَّ حصول أي من هذين المكونين على حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، سيعني كارثة محققة؛ إنْ للإيرانيين الفرس، وإنْ للأتراك العثمانيين، مما يعني أن هذا الهدف سيبقى بعيد المنال، إن لم تستجد أوضاع شرق أوسطية ودولية غير هذه الأوضاع الحالية.
وعلى نحو أوضح؛ فإن الإيرانيين – الفرس يعرفون، وهم متأكدون من هذا، أنه إذا قامت لـ«أكرادهم»!! دولة مستقلة، فإن العدوى الانفصالية ستنتقل حتماً حتى إلى الأذريين، وبالطبع إلى البلوش، وإلى العرب… وإلى كثير من القوميات الأخرى، مما سيعني، وبالتأكيد، أن إيران الحالية ستنكمش حتى حدود التلاشي، وأنه لن يعود لها أي دور إقليمي، وأنها ستفقد وظيفتها التاريخية بصفتها «شرطياً» في هذه المنطقة، وهذا ينطبق بالتأكيد على تركيا التي يشكل فيها الكرد مكوناً رئيسياً إلى جانب المكونات القومية الأخرى ومن بينها عرب لواء الإسكندرون الذي بعد إلحاقه بتركيا «الأتاتوركية» في عام 1939 أعطي اسماً تركياً جديداً هو: «هاطاي».
لن تسمح تركيا للأكراد أو لغيرهم بالانفصال عنها وحتى إنْ اضطرت لخوض عشرات الحروب الطاحنة المتلاحقة؛ إذْ إنها من وجهة نظرها تدافع عن كيانها وعن وجودها، وهذا بالتأكيد ينطبق على إيران التي كانت «أقلياتها» العرقية قد بدأت الكفاح مبكراً أولاً خلال المرحلة الشاهنشاهية، وثانياً ضد هذه الدولة الخمينية الاستبدادية. وهكذا؛ فإنه يبقى على أكراد العراق أن يتخلوا عن سياسات التلاعب على محاور المنطقة التي كانوا مارسوها مبكراً وخلال فترة طويلة… إذْ إن العرب في العراق من حيث المبدأ ليسوا ضد حصولهم على حقوقهم المشروعة، التي إذا كان هناك تفاهم؛ بعيداً عن العنف، قد تصل إلى حدود إقامة الدولة المستقلة.
وعليه، وفي النهاية، فإنه ظلم ما بعده ظلم أن يحرم هذا الشعب العريق مما حصلت عليه شعوب هذه المنطقة الأخرى، ولعل ما يجب أن يفهمه ويدركه الذين ينكرون أن للأكراد نفس حقوق العرب والإيرانيين والأتراك، أن هؤلاء سيبقون يشكلون قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت في الدول التي يوجدون فيها؛ في تركيا وإيران على وجه التحديد، وأيضاً في العراق الذي حققوا في إقليمه الشمالي حكماً ذاتياً اقترب في السنوات الأخيرة، قبل معركة «الاستفتاء» المعروفة، من أن يكون دولة مستقلة.
لا يجوز وقد قطع العالم ومعه هذه المنطقة الشرق أوسطية كل هذه المسافة الزمنية من الألفية الثالثة، أن يبقى هذا الشعب محروماً مما حصل عليه الآخرون، فهذا سيبقى يؤدي إلى خَضّات أمنية وسياسية في الدول المعنية، وهذا سيسهل عمليات اختراق الدول الكبرى للشرق الأوسط ودوله؛ خصوصاً تركيا وإيران… والعراق وسوريا.
3 إعمار العراق لإعادة روح الدولة
مها محمد الشريف الجزيرة السعودية

ثمة وقائع ومآسٍ دولية حفرت في جبين الزمن، وكتبت نصوصها بدماء الشعوب، ولايمكن لذاكرة التاريخ أن تنساها، أو أن تنسى الأيدي التي قبضت على أدوات الموت وارتكبتها، والعراق بلد الحضارة العربية والتاريخ والاقتصاد ابتلي بجار سوء لا تؤمن بوائقه، اسمه إيران.. أربعين عاماً من الأذى، بقي بعدها العراق دولاً من الميليشات المتناحرة التي تتغذى على على فكر ملالي طهران..

وبعد دمار الحرب ينتهي زمن الشيطان والملالي وتبدأ حياة الأمة ويقظتها وحماية وجودها من الدخلاء والمخربين والعابثين في بلاد النهرين، وحينما تنادى محبو العراق لإعادة روحه وحركة دمه في جسده المنهك اقتصادياً لم تسمع إيران النداء وصمت أذنيها عن سماع حديث المجتمعين ليس إلا أنها لاتريد للعراق إعماراً وحريةً وعودةً إلى كيانه السياسي وهويته العربية وروحه الإسلامية النقية وإنما تريده شيعاً متناحرة..

تمدها بأدوات القتل والفرقة وتعميق الهوة بين العراق وأشقائه وهذه الصورة السوداء لليد الإيرانية في العراق تجعل الكثير من أهلنا في العراق يرفضون العلاقة مع طهران حتى لو ادعت أنها تريد الخير وينادون بكف يدها وخروجها من العراق كله وأهله وأشقاؤه قادرون على إعادة وقوفه على أرجله واستئنافه للحياة والأمن والسلام..

أما وقد بلغنا هذه المرحلة من الدعم لدولة عربية شقيقة. فليعلم العالم أننا بلغنا جزءًا من البداية منذ أن دعت الكويت الدول للمشاركة في أعمال هذا المؤتمر الدولي، وبالتالي تتهيأ قيمة الاتفاق والترتيب وأهميته حيث سيشارك (74) منظمة إقليمية ودولية بالإضافة إلى (1850) شركة عالمية، تقدمت رسمياً للمشاركة في المؤتمر استعدادا للمساهمة في الإعمار.

وبذلك تستطيع الدول المشاركة في الإعمار اختيار الوسائل الملائمة إذا سادت الغايات المقصودة، وتعتبر استضافة دولة الكويت مؤتمر المانحين المخصص لإعادة إعمار العراق الذي استمر 3 أيام يعكس دورها في المنطقة وأهمية أمنها الحدودي مع دول الجوار، وقُدرت حجم كلفة إعمار بغداد 22 مليار دولار، والعراق ككل يحتاج إلى 88.2 مليار دولار لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار بعد تحرير المناطق من براثن داعش وعصابات إيران الإرهابيتين التي شهدت دمارا كبيرا خلال الحرب..

وأن الانعكاسات الممائلة للأوضاع الحالية جعلت كلاً من الإمارات والسعودية والكويت تقدم مساعدات مالية مهمة مساهمة منها في الجهد الدولي لإعادة إعمار العراق، ودعمٍ واضح لاستكمال خطوات السلام والتي تشهد مراحلها الأخيرة في حرب البلاد على تنظيم داعش المتطرف أملاً في القضاء عليه.
4 إعمار العراق: خطوة أولى في رحلة المليون ميل عبدالوهاب بدرخان
الحياة السعودية

هل كانت حصيلة مؤتمر الكويت لإعمار العراق مخيّبة للآمال، كما قدّر علناً بعضٌ من العراقيين، أم إنها كانت معقولة وواقعية كما رآها ضمناً بعضٌ آخر منهم؟ في كل الاعتبارات، لم تكن الثلاثون بليون دولار، وعوداً وتعهّدات، هي ما يستحقّه العراق كشعب وبلد وفكرة وتراث وعراقة، بل ما استحقّه عراق الواقع الراهن. واقعٌ يُفترض ألا يجهل أهله حقيقته، وألا يُنكروا أدوارهم في ما حلّ به بالتكافل أو بالتنافر مع أدوار الآخرين، وألا يتوقّعوا من العالم أن يهرع إلى تمويل حالٍ تتنافس فيها عوامل الصراع والانقسام مع عوامل السلم والاستقرار، من دون أن تتضح فيها غلبة واضحة لـ «دولة» باتت كلمتها أعلى من أصوات الميليشيات، وتريد أن تكون دولة طبيعية لجميع مواطنيها ومكوّناتها، ولجوارها العربي.

لو لم يكن هناك رهان دولي وعربي على هذه الدولة لما تبلورت فكرة مؤتمر الكويت الذي أراد أن يدعمها، ولجاءت وعود التمويل بأقلّ من الحصيلة المتواضعة. وقد كان المؤتمر اختباراً مباشراً، لا للعراق والعراقيين فحسب، بل اختباراً مسبقاً لكل الدول العربية التي لا تزال مصطرعة ولم تتح الفرص بعد للبحث جدياً في إعادة إعمارها. ففي الأعوام الأخيرة، وبسبب تكاثر الأزمات وتزامنها، تراجعت حماسة الدول المانحة، وصارت الأمم المتحدة تبذل أقصى الجهد وبالكاد تحصّل ما يمكّنها من القيام بأبسط الواجبات الإنسانية مثل إيواء النازحين واللاجئين وإطعامهم والاهتمام بأوضاعهم الصحية والاجتماعية عدا واجبات مهمة أخرى كرعاية الأطفال وتعليمهم. وبطبيعة الحال، فإن عدم انبثاق آفاق سياسية واعدة من توالي الحروب والمآسي واحتمالات تجدّدها حيث يُعتقد أنها ولّت، لا يشجع الدول المانحة على «المغامرة» بأموالها.

لا شك في أن النصر على تنظيم «داعش» كان عنصراً مساعداً للعراق كي يطالب بدعمه أو بمكافأته على هزيمته الإرهاب، ولا شك أيضاً في أن الدور المركزي للجيش العراقي والقطاعات العسكرية والأمنية المختلفة في ذلك النصر قد بنى ثقةً دوليةً ما بحكومة بغداد ورئيسها حيدر العبادي، غير أن هذه إنجازات ينبغي البناء عليها في الاتجاه الصحيح لإقناع العالم بأن العراق استوعب دروس خمسة عشر عاماً للتخلّص من الفوضى والفئوية والثأرية في إدارة شؤونه. وعندما تكون دولةٌ ما بحاجة ماسّة إلى مساهمات مالية خارجية فمن البدهي أن تعرف كيف ينظر العالم إليها وأي صورة استطاعت أن تكوّنها لنفسها وما المطلوب منها لتحصل على ما تحتاج إليه أو تتوقّعه؟

أيّاً تكن الصدقية الشخصية التي يتمتّع بها العبادي، ومدى الاختلاف بينه وبين سيّئ الذكر سلفه، إلا أنه لم يستطع تبديد وقائع سلبيّة تفرمل اندفاع الخارج نحو اعتبار عراق الدولة على طريق التعافي من أمراض تواصل إضعافه، وهي: سرطان التغلغل الإيراني، وانتشار الميليشيات المذهبية، واستشراء الفساد الإداري والمالي. فكلّها أمراض معتملة ومتداخلة، وليس في الإشارة إليها افتراء أو تحامل على الحُكم، بل تقرير لواقع لا يمكن تجاهله، يتساوى في ذلك أن يبدي العراقيون «تصالحاً» أو «تعايشاً» معها – بصدقٍ أو بتمويه، إذ لا يمكنهم حمل العالم على القبول بما يقبلونه هم ويسكتون عنه من ظهور منفّر ومستفزّ للجنرال قاسم سليماني عند المحطات الأمنية والسياسية كلها، والأكيد أنهم يعلمون أن العالم، وإن لم يكن كأميركا وإسرائيل في حال مواجهة مع إيران، لا يقرّ تدخّلاتها بأسلوب «تصدير الثورة» أو بثقافة الشحن المذهبي، بل يعتبرها استثماراً في إفقار مستدام للعراق وعائقاً أمام قيام دولته ونظامه.

في المقابل، ربما كان هناك تفهّم خارجي موقّت لظهور «الحشد الشعبي» كردّ فعل على ظهور «داعش»، لكن التشريع المستهجَن لـ «الحشد» وإنفاق الدولة عليه من الموازنة العامة وتغطيتها القانونية لانتهاكاته لم تقنع أحداً بأن «الحشد» خاضع لشرعية الدولة وليس مجرّد وجه آخر للهيمنة الإيرانية. ولعل التلكؤ في خطط دمجه وغموض تجريده من السلاح الثقيل واستعداده للتحوّل إلى مكوّنٍ سياسي (على غرار «حزب الله» في لبنان) تشهد على سعيه إلى التهرّب من سيطرة الدولة وإلى استمراره ككيانٍ موازٍ خارج إشراف القوات المسلحة الشرعية، فهذه اختطّت لها إعادة التأهيل الأميركية نهجاً مختلفاً مكّنها من محاربة الإرهاب وسيمكّنها من مكافحة أي محاولة لعودته بل يُفترض أن تكون عماد الدفاع عن الدولة.

قام الخبراء العراقيون بما عليهم وبما طُلب منهم لإعداد ملفات مؤتمر الكويت، وقبل ذلك لم يكن مستغرباً أن يتحدّث العبادي في منتدى دافوس عن الحاجة إلى مئة بليون دولار، ثم كان طبيعياً أن تنخفض التوقعات إلى ثمانية وثمانين بليوناً مع اقتراب الدول والشركات والمنظمات من التصريح بمساهماتها. ولدى رصد الأرقام التي أفاضت بها المصادر العراقية للحاجات الفعلية للقطاعات كافة تبيّن أن التقديرات تفوق المئة بليون في المديين القصير والمتوسط، لكن الأرقام المتداولة في أروقة المؤتمر للمنح والاستثمارات والقروض ظلّت دون المستوى. لذلك، أسباب أهمها أن الجانب العراقي لم يأتِ باستراتيجية واضحة ومحدّدة، ولعل الحكومة أرادت ذلك ولم تستطعه. لم يكن هناك ما يمنع عرض صورة شاملة لحاجات البلد، لكن منطق ظروف ما بعد الحرب على «داعش» وهاجس توطيد الاستقرار كانا يقتضيان حصر المطالب العاجلة بإعادة إعمار المدن والبلدات المدمّرة وتأهيل البنية التحتية فيها لإعادة إسكان مليونين ونيّف من النازحين وتحريك عجلة الاقتصاد في مناطقهم. وتُظهر حصيلة التعهّدات أن الدول المانحة أخذت عملياً في اعتبارها الحاجة الملحّة لتنفيذ هذه المهمّات، وقد قُدّرت بـ 22 بليون دولار.

لا تفسير للخلل الاستراتيجي و «المطالب المبعثرة»، كما وصفها القطب السياسي أياد علاوي، سوى أن المنطق الفئوي لعب دوراً في تشويش الرؤية وألزم حكومة بغداد بإرضاء أطراف الحكم كافة لئلا تتسبّب مواقفها وتهجّماتها بإجهاض مؤتمر الكويت قبل انعقاده، فتلك الأطراف اعتبرت المؤتمر فرصة لانتزاع حصص أو مناسبة لتوزّع مغانم وفقاً للمناطق ومراكز النفوذ، خصوصاً أن الموسم موسم انتخابات. بهذا المعنى، لم يكن يُراد، بل لم يكن ممكناً، حصر الأولوية رسمياً بالمناطق المنكوبة، إلا أن التشوّش الناجم عن تكالب تلك الأطراف أعاد دفع ملف الفساد إلى الواجهة، فهو لم يكن ليغيب عن أذهان ممثلي الدول المانحة بسبب شهرته الخارقة عالمياً غير أنهم لم يتسرّعوا في إثارته، ربما تشجيعاً لتعهّدات العبادي جعل مكافحة الفساد بين أهمّ أولوياته. ولا يكفي انكشاف النيات لكي ترتدع ماكينة الفساد، فلا شيء يمنعها من محاولة قضم ما أمكنها من «حصيلة الكويت» على محدوديتها.

بدا حضور إيران في الكويت أقرب إلى التطفّل على أمر لا يعنيها، فالمجتمعون يبحثون في ترميم ما خرّبته، ولو عاد الأمر إليها لفضّلت أن تبقى المدن المدمّرة على حالها وأن يبقى أهلها مشرّدين في مخيمات. ولعل أفضل ما فعلته كان تعهّدها بـ «صفر دولار» لأن جميع المساهمات المالية ترمي إلى تعزيز عمل الدولة العراقية من أجل الاستقرار، أما إيران فجهدت وتجهد لترسيخ العراق بيدقاً في حروبها، ففيما كان العبادي وفريقه يكافحان في أروقة مؤتمر الكويت سعياً إلى موارد للسلم الأهلي كان أمثال قيس الخزعلي يبحثون عن مغامرات هنا وهناك خدمةً للمشروع الإيراني.

من المؤكّد أن الحكومة العراقية تعلّمت الكثير من تجربة الكويت، فالحاجة إلى المساعدات تتطلّب التأهل للحصول عليها، سواء بالتشريعات المناسبة أو بتكوين البيئة الاستثمارية لملاقاة مجتمع دولي لديه رغبة حقيقية واقتناعاً مبدئياً بضرورة دعم العراق، ليس فقط لأنه بلد عنده ثروات وهناك مستقبل للاستثمار فيه، بل لأن استقراره بعد محنته مع «داعش» يساهم في الاستقرار الإقليمي. ولا شك في أن الحكومة ستتعلّم أكثر من مفاوضات التعاقد لتنفيذ التعهّدات، فأي طرف سيبحث حتماً عن العناصر التي تعزّز ثقته في الطرف الذي سيتصرف بالأموال. الكرة، إذاً، في ملعب العراقيين.