مقالان عن العراق في الصحف العربية يوم الخميس

1 والله زمن يا جيش العراق
حامد الكيلاني العرب
لم يعد مناسبا إطلاق صفة التواطؤ على علاقة الأحزاب والتحالفات الطائفية في العراق بالنظام الإيراني، لأنها علاقة تكاملية في وحدة الأهداف يستحيل معها أن تترك العراق يتلمس طريقه لبناء غده.
بعد مرحلة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، تزاحمت دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية مع دولة كبرى مثل روسيا وكلتاهما تدافعان بالمناكب مع حفنة ميليشيات خاضعة لقوات الحرس الثوري الإيراني، رغم أنها بجنسيات مختلفة إلا أنها تقاتل تحت راية تنظيم الدولة الإيرانية؛ اصطف معها رئيس وزراء العراق إضافة إلى حاكم سوريا، في طابور غير مهذب لتبني الانتصار على الإرهاب.

بعد منجزات الحرب على الإرهاب يؤكد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي حاجة العراق إلى 100 مليار دولار لإعادة الإعمار وتجاوز كلفة ما تسبب به تنظيم داعش في احتلاله للمدن وخلال العمليات العسكرية، والتي كما يبدو كانت حربا مفتوحة وغير مقيدة أو بلا دراسة معمقة سمحت بتدمير المنشآت الحيوية في محاكاة لموقف القوات الأميركية في الأيام والشهور الأولى من الاحتلال، ومهادنتها في تخريب وإشعال الحرائق في المؤسسات. كانت إجابة الجانب الأميركي تتلخص بنصيحة عدم المبالاة لأن الإعمار وتحديث العاصمة بغداد وجميع مدن العراق من أولوياته.

من يراقب ما يجري في الساحتين العراقية والسورية يكتشف وجود مناورات مشتركة متداخلة وعلى نطاق واسع في السياسة ومناقلة القوات العسكرية وصناعة نقاط تماس وتجريب وجس ردود الفعل، كما في استهداف طائرات الدرون لقاعدة حميميم الروسية وقلق مؤشر الاتهامات حتى إسقاط طائرة السوخوي بصاروخ حراري اختلفت المصادر الاستخبارية في كيفية تجهيزه أو اقتناءه من قبل الجماعات المسلحة، وكذلك عملية غصن الزيتون للقوات التركية في عفرين وما يقابلها من عملية صيد الثعالب التي أطلقتها قوات الحماية الكردية، وما بينهما من تجاذبات أميركية وروسية وهوامش رصد النظامين الإيراني والسوري.

في العراق تزامنت تصريحات نائب وزير الخارجية الأميركي جون سوليفان بأن الولايات المتحدة لن تكرر خطأ الانسحاب المبكر من العراق في العام 2011، مع استباق نائبة برلمانية من كتلة دولة القانون لفتح ملف تواجد القوات الأجنبية بأدوارها ومهماتها وحساباتها المالية، مطالبة بالتحقيق في حادثة قصف قوات التحالف لقوات عراقية في منطقة البغدادي.

وقبلها بأيام تفرّدت قيادات ميليشياوية بمخاطبة رئيس الوزراء لإخراج القوات الأميركية من العراق بعد انتهاء مهماتها في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، ثم جاء تصريح الناطق الرسمي لحكومة العبادي الذي أعلن فيه تخفيض عدد القوات الأميركية، لكنه أضاف أن عملية الانسحاب الكامل لا تزال في بدايتها.

كل تلك الخلطة من توقيتات الطروحات في العراق تبدو فعلا سرا من أسرار مختبر الكيمياء السحرية لملالي طهران الذين يرجمون في الغيب التحركات الأميركية ويصيبونها كجهد استخباري يكشف عن مناقلات المتعاقدين مع قوات التحالف.

البيادق الإيرانية في العراق مازالت مستمرة ومصرة على سيرتها في ممارسة لعبة الاختفاء خلف الشعارات الوطنية لتمرير مناورات الانتخابات البرلمانية أو القوانين أو بتقديم القرابين من شعب العراق خدمة لمشروع “إيران أكبر” الذي أشار إليه علي أكبر ولايتي مستشار المرشد علي خامنئي بحتمية تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، متناسيا الانتفاضة في وجه نظام مرشده القمعي، ومطالبة المتظاهرين بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والانصراف إلى معالجة الأزمات المستعصية التي حولت نسبة كبيرة من شعب إيران إلى ما تحت خط الفقر.

لم يعد مناسبا إطلاق صفة التواطؤ على علاقة الأحزاب والتحالفات الطائفية في العراق بالنظام الإيراني، لأنها علاقة تكاملية في وحدة الأهداف يستحيل معها أن تترك العراق يتلمس طريقه لبناء غده بإرادة مواطنيه، ولا يوجد دليل على ذلك أفضل مما قاله الجنرال حسين سلامي نائب قائد الحرس الثوري عن استعداد قواته لخوض الحرب المقبلة بالاعتماد على خطة الاشتباك مع العدو عن بعد، منوها بأن الجيشين العراقي والسوري يشكلان عمقا استراتيجيا لبلاده.

خيبة النظام السياسي الحاكم في العراق بقيادة حزب الدعوة والأحزاب والتحالفات الطائفية تكمن في مداراته وتحايله لإضفاء طابع الدبلوماسية أو العلاقات المتبادلة والمتكافئة بين دولتين جارتين، لكن ما تفعله إيران دائما لا ينسجم أبدا مع سياسة عملائها في الحب من طرف واحد المهينة والمذلة.

نظام طهران يسعى إلى إذلال المتيمين به بإهانتهم ومعاقبتهم على أبسط ما يعتبره خروقات في الولاء المطلق حتى لو كانت تلك الخروقات لأغراض المرونة السياسية مع القوى المحلية والعربية والدولية.

أتباع المشروع الإيراني عندما تواجههم التصريحات الإيرانية المحرجة كالاستيلاء على عواصم عربية، أو اعتبار بغداد عاصمة للإمبراطورية الإيرانية، يتهمون الإعلام بالتكذيب أو بتلفيق الإدانات للنيل من إيران، ترى ما هي تبريراتهم هذه المرة لأقوال حسين سلامي؟

في هذه الفترة الصعبة من تاريخ العراق يجب عدم تأويل الأقوال بالغة الدلالة والصادرة من القيادات الإيرانية على أنها لأغراض الاستهلاك المحلي، وبالذات بعد توقد شرارة الثورة في الداخل الإيراني، وهذا ينطبق على كل قوى الشعب السوري الرافضة أولا للمشروع الإيراني.

ربط الميليشيات في العراق وسوريا ودول عربية أخرى بالحرس الثوري، كما يبدو من وجهة نظر الملالي، أصبح لا يلبي توقعات المرحلة المقبلة أو الاستعدادات الإيرانية لها؛ ولذلك انتقلت إيران إلى تحطيم فكرة الاعتماد على الميليشيات العقائدية كليا، لأنها في كل الأحوال تتحرك بمسافات من الأوامر الحكومية، أو بملاحقة المنظمات الإنسانية وأجهزة المخابرات الدولية.

لكن الجيوش الوطنية أمر مختلف ووصفها بالعمق الاستراتيجي لإيران يعني أن ثمة منهجا وليس تكتيك، يسعى لتحويل الجيوش رغم مآخذنا عليها إلى جيوش سخرة بواجبات التشكيلات العسكرية التي يتم التضحية بها لغايات حماية مقرات المراكز القيادية. الصواريخ الباليستية الإيرانية وبمختلف المديات وبإنتاجها الواسع، حالها حال معظم الأسلحة التقليدية في العالم على تباين تأثيرها والتي يتم تصنيعها للاستخدام في أوقات ذروة الصراعات بعد أن تكون قد استنفدت صلاحية التوازن أو الردع في المخزون.

لكن لماذا نعترض، وبشدة، على اعتبار الجيش العراقي عمقا استراتيجيا لإيران ونحن على دراية بكون النظام السياسي الحاكم في العراق مجرد سلطة مذهبية طائفية تتشكل في كل دورة انتخابية وفق رؤية إيران لمصالحها ومراوحة علاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية على حل الكلمات المتقاطعة بينهما في العراق أو في المنطقة أو في الحرب على الإرهاب.

الجيوش تتبع سلطاتها السياسية وليس العكس، وسلطة كالتي في العراق أو في سوريا حتما ومن تحصيل الحاصل أن يكون جيشاهما عمقا استراتيجيا للإرهاب الإيراني.
2 العبادي.. لو قرأ الأَصفهاني!

رشيد الخيّون
الاتحاد الاماراتية

كانت إجابة حيدر العبادي لمدير قناة «العربية» تُركي الدِّخيل، شديدةَ الوقع على ماضي بغداد وحاضرها، عندما سأله (28/1/2018): «الأُغنية التي دائماً تُرددها؟»، فـأجاب قاطعاً: «أنا لا أتعاطى بالأغاني»! لم يكن مستغرباً، فقد قالها بلسان حزب يعتبر الموسيقا والغناء ومصافحة النّساء من الخطايا، لكن وزارة العراق شيء وعقيدة «الدعوة» شيء آخر.

خطفت إجابة العبادي المذكورة بقية فقرات المقابلة الهامة، ولأنها صدرت من رئيس وزراء العراق، ومكتبه على جرف دجلة، يحق لنا التشاؤم على مستقبل الفن، فتاريخ العراق مرتبط بالقيثارة السومرية الشهيرة، وأرقى ما صُنف ببغداد كان كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني (ت 356هـ)، وقد أهداه لسيف الدولة (ت 356هــ)، وقال عنه ابن عباد (ت 385هـ): «اشتملت خزائني على مئتي وستة آلاف مجلد منها ما هو سميري غيره»، ولم يفارق عضد الدَّولة (ت 356هـ) «في سفره ولا حضره» (الحموي، معجم الأُدباء). أظن أن التزام العبادي العقائدي شغله بـ«معالم في الطريق»، عن القيثارة وأغاني الأصفهاني.

لو سمع الأصفهاني عبارة العبادي لهجر بغداد، مثلما هجرها المغني زرياب (ت 230هـ) إلى الأندلُس، عندما هُدد بالاغتيال، وهناك ساهم بالرُّقي الفني (التلمساني، نفح الطيب). فبظل حكومة تتبرأ من الغناء ستُخلق أجواءٌ طاردة للأصفهاني ولإخوان الصفاء في رسالتهم «الموسيقا»، التي ذكروا فوائدها في إعمار العقول وشفاء المرضى.

كيف لرئيس حكومة بدعم الفنون وقد جعلها من المحرمات على نفسه، وبالتالي على الحيز الذي يعمل فيه. فمن حقنا التساؤل، لأنه رئيس وزراء يحمي تُراث ناظم الغزالي (ت 1963)، وداخل حسن (ت 1985)، وبقية الفنانين والفنانات. أرى عبارة لـ«لا أتعاطى» وشيجةً مع الحنابلة برئاسة الحسن البربهاري (ت 329هـ)، وهم يقتحمون البيوت ببغداد لإسكات المغنين (ابن الأثير، الكامل في التاريخ)، لأنهم لا «يتعاطون الأغاني».

ومع ذلك، إذا كان قدر العراق أن يبقى رئيس وزرائه من «الدعوة الإسلامية»؛ فالعِبادي الأفضل بين الثلاثة. كان هم الأول أن يصبح عظيماً. يقول سليم الحسني: إنه طُلب للقاء الجعفري في أول أيام وزارته: «يريد أن يكلفني بمهمة.. تتمثل في كتابة كتاب عنه، واقترح أن يكون عنوانه: من هو الجعفري؟» (إسلاميو السلطة 17 و18). لم ينظر الجعفري في ما عرضه عليه الحسني من مشروع النهوض بالثقافة والإعلام؛ وإنما الأهم تدوين سيرته.

إذا كان صدام حسين (أُعدم 2006)، المتصرف بأرض العراق وسمائه، لم يُكتب عنه كتاب إلا بعد عشرة أعوام، فلنا قياس النرجسية لدى أول رئيس وزراء دعوي! بعد الفشل مع الحسني صدر للجعفري كتابان ضخمان «زنار النار»، و«خطاب الدولة» (أربعة أجزاء)، ومَن يزور موقعه سيُذهل من كثرة المؤلفات، هذا ونترك تقييمها لقرائها.

أما الثاني فقد تشبه بعلي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ) في مواقفه، والمختار الثقفي (قُتل 67هـ)، فأُطلق عليه لقب «مختار العصر»، وقَدّمَ نفسه محرراً للعراق. غير أن نوري المالكي، الذي سَلم ربع العراق لـ«داعش»، لا يعلم أن مَن تشبه به قَتل أيضاً أخا الحسين، عبيد الله بن عليِّ (67هـ)؛ لأنه رفض أن يُمسي دم أخيه جسراً لتحقيق الطُّموح بالخلافة (الأصفهاني، مقاتل الطالبيين). فقيل: «قتله مَن يزعم أنه لأَبيه شيعة» (الطبري، تاريخ الأُمم والملوك). كذلك المختار الجديد رفع الشعار للقصد نفسه! ومن عجبٍ أن ابن علي المقتول بسيف المختار، بين ميسان والبصرة، لم يُجعل له مزار، والقوم اقترحوا تشييد مزار ٍلمكان وضوء الخميني بصفوان!

أما الثالث (العبادي) فمازال خالٍ من نرجسية، وتحشيد طائفي، لم يُقَدم نجلاً له ولا صهراً، ولم يُصنف حول كتاب. يحاول حل ما عصي مع مواطنيه الكُرد، وينتظر منه الشيعة والسُّنَّة احتكار السلاح للسُّلطة، وإعمار الخراب. إلا أن حزبيته تحتم عليه البراءة من الفن، وعدم التهاون بالالتزام «الشرعي»! عندها تنعدم الفوارق بين مناسبات الأعراس والمآتم، وهي ثقافة الإسلاميين عامة.

أدعو العبادي، كرئيس وزراء، كسر هذا التقليد؛ ليبدأ بقراءة كتاب «الأغاني»، ورسالة «الموسيقا»، وتأمل القيثارة السومرية، وسيجد نفسه قريباً من مواطنيه كافة، فخُطباء المنابر والمغنون مواطنوه جميعاً، والأخيرون لا يجيدون تفجير سفارات ولا اغتيالات ولا فساد. أقول: هل له التصريح علانيةً، وأحسبه ضد ما يُذاع من على المنابر: «لا أتعاطى مع خُطب المنابر»؟! وهو يعرف خطرها على العقول.

قال الأصفهاني عندما تولى البريدي (ت 332هـ) الوزارة، وكان من أُسرة وزراء مذمومين: «يا سماءُ أُسقطي ويا أرضُ ميدي/ قد تولى الوزارة ابن البريدي/ جلَّ خطبٌ وحَل أمرٌ عُضالٌ/ وبلاءٌ أشابَ رأسَ الوليدي» (معجم الأدباء). وليت العبادي إذا حصل على الولاية الثانية؛ لا يضطر أهل الفن لرفع أبيات الأصفهاني لافتةً ضده. من حقهِ التصريح بعدم التعاطي مع الأغاني، لكن إذا لم يكن رئيساً لوزراء بلاد عُرفت بقيثارتها وصناعتها للعود، واشتهرت بمغنياتها ومغنيها، قبل دعاتها وساستها!