1 العبادي بين الدولة المدنية والبراءة من أم كلثوم
حامد الكيلاني العرب
حيدر العبادي يحظى بالمكافأة على تنفيذه الصفحة الثانية من المشروع الإيراني في استمرار حكم العراق كوسيط انتقالي لمرحلة الصراع بين أميركا وإيران الذي يقترب من تداعيات الشتيمة لعقولنا التي تبدو في مرحلة مقاومة الاحتضار.
المهانة التي لحقت بالنازحين في الخيام وطبيعة الحياة للفارين من العراق بسبب النزاعات المسلحة والاستهداف الطائفي والعرقي لم تكن ضمن توقعاتهم أو خياراتهم، أو من الأخطاء التي يندم عليها مرتكبوها بعد خساراتهم أو سقوطهم في نتائج تصرفاتهم وخيباتهم. المهانة المقصودة ليست من أسرار العوائل، إنما يراد لها أن تندرج ضمن توصيفات فشل النظام السياسي القائم على جريمة الاستيلاء على السلطة حتى من دون انقلاب عسكري أو نجاح تمرد دموي، كل ذلك ربما يكون تقليديا في عالمنا الثالث.
لكن أن تأتي سلطة بإرادة احتلال خارجي لدولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة ولها كيان فاعل ومؤثر في محيطها والعالم، وتسعى هذه السلطة لإقناع أكثر من 35 مليون مواطن بأنها تجربة وطنية بنظام ديمقراطي، فتلك مهانة متعمدة وصريحة ومرئية تحاول حكومات وأنظمة طالما كانت قمعية ومستبدة وفاشلة تمريرها مع مجازرها وتخلفها، بخطابات ساذجة وهابطة لأن الوقائع تحمل من الإجابات ما يشرح أسباب الصمت والقبول لعدم وجود ولو نسبة ضئيلة من الاختيار.
عودة 41 بالمئة من النازحين إلى مدنهم ولا نقول محل سكناهم ماذا تعني إذا كانت البيوت إما مهدمة وإما تحت أنقاضها الجثث وإما العبوات غير المنفجرة، وفي حالة تجهيز ولو غرفة واحدة في البيت فالمخاوف من تداعي البناء تظل هاجسا للموت يعيد تكرار مأساة المواجهات العسكرية، ثم ماذا عن الماء والكهرباء والمستلزمات الأساسية لإدامة البقاء من طعام وحاجات إنسانية.
أرقام انتخابية، هكذا تتعامل مجموعة التحالفات والمرشحين مع تراجيديا النازحين، وما بين رافض لموعد الانتخابات وموافق عليه، ثمة مصائر بشرية تتحرك في القوائم لضمان أصواتها في صناديق الموت التي لا تنجب سوى ولادات مشوهة لأحزاب طائفية وميليشياوية تابعة للمشروع الإيراني الذي تحول إلى عراب للاحتلال الأميركي، ولا تنفع معه كل أدوات ومنتجات التجميل في مفوضية الانتخابات أو التوافقات على القانون الانتخابي أو كل مفردات الدبلوماسية لبناء وطن للجميع يتجاوز الاعترافات الجماعية لقادة عملية الاحتلال السياسية بفشلهم في ماضيهم بإدارة العراق في أدق فترة تحولات تاريخية تم استثمارها في السرقات والانتقام الممنهج من الشعب العراقي، وفرض الفصل الطائفي العنصري بين أبناء المجتمع الواحد المعروف بتعايشه على مر القرون، بل إن العراق كان من بين الدول الأكثر تسامحا بما يخص الأديان والقوميات وكان ملاذا لهجرات نوعية من محيطه مازالت أعداد منها تمثل بعضا من هوية بلاد الرافدين.
أخبار متداولة عن إعادة قسرية من مخيمات متناثرة في أطراف المدن المنكوبة بالإرهاب المتقابل لأغراض تدعيم أرقام وزارة الهجرة والمهجرين والمنظمات المعنية، بما يعزز تطمينات إجراء الانتخابات في موعدها، أو يساعد في ارتفاع مناسيب التصويت للشخصيات المتنفذة في المحافظات كمنجز يحسب لها.
لكن ماذا عن نسبة من يتوجه إلى المخيمات حتى الآن، أي العودة العكسية من مناطق السكن إلى أماكن الإيواء لاستحالة العيش دون خدمات وضرورات والأهم لعدم توفر العمل، فنسبة البطالة تقترب من 100 بالمئة للأسر التي فقدت معيلها، أو لغياب صرف الرواتب لقطاعات واسعة من الموظفين السابقين بحكم الإجراءات والتدقيق والروتين وانعدام التنسيق ولقلة الكوادر، وماذا عن العاطلين الذين كانوا يعتمدون على أجورهم اليومية بمزاولة أعمال حرة بسيطة، أو لديهم فرصة عمل داخل بيوتهم القديمة التي تحولت إلى ركام.
بلا طعام لا يحيا الإنسان بالبطاقة الإلكترونية للانتخاب، ولا حتى بالإصبع الملوث بالحبر البنفسجي الذي ساهم في التخريب وإدامته بسلسلة من الانتخابات التي لم يجن منها العراقيون سوى الإصرار على تمرير قوانين الميليشيات وسيادة حزب الدعوة الشهير بعمالته للنظام الإيراني وتوجهاته الطائفية والمذهبية في العراق والمنطقة.
ما حصل في ليبيا من إعدامات لمعتقلين من ميليشيات أخرى يتكرر في العراق كمنهج انتقام لا تحاسب عليه الدولة أو المجتمع الدولي، لأن الفوضى تضرب عرض الحائط بكل القيم والأعراف
الرايات الطائفية في الموصل، والاستيلاء على أملاك المواطنين المطلوبة لقاسم سليماني وفيلقه أو تحت تبريرات المقرات أو الأجهزة الأمنية للحشد إن كان طائفيا أو عشائريا، لم تساهم في إقناع النازحين في المخيمات بأهمية صوتهم الانتخابي لأنهم على دراية بأن أصواتهم تذروها الرياح كما تفعل مع خيامهم وكراماتهم واشتراطاتهم الإنسانية أو ما تبقى منها.
الكتل السياسية والأحزاب والتحالفات هي في الحقيقة فضيحة محاصرة داخل سياج الانتخابات، أي إنها مجموعة مقيدة بمصالحها أو على الأقل بتجربتها الديمقراطية البائسة في سنوات الاحتلاليْن الأميركي والإيراني؛ ومن هو خارج هذا السياج هو الشعب العراقي. بهذه المعادلة تصبح المواقف بلا غموض وأيضا بلا مهانة الاتكال على احتمال صيانة العقل السياسي على تناقضاته في المرحلة الشاقة السابقة.
في لقاء رئيس وزراء العراق على هامش قمة منتدى دافوس الاقتصادي، وصف حيدر العبادي نفسه ومنجزاته بالشجرة المثمرة التي دائما ترمى بحجر، وفي ذات الوقت وصف إجراء حزب الدعوة بعدم النزول باسمه الصريح في قائمة انتخابية والتوجه بدلا من ذلك بعنوان مختلف بقائمتين واحدة لنوري المالكي والأخرى لحيدر العبادي، بالحل الحضاري.
هذا الحل يمثل فوزا مسبقا أولا للحزب، وثانيا للشخصيات المتناحرة على السلطة كما جاء في حديث العبادي، وهو بمعنى آخر المنافسة بين من نفذ احتلال داعش للموصل والمحافظات الأخرى ونعني به نوري المالكي الذي حظي بمكافأة النظام الإيراني على إنجازه في تدمير البقية الباقية من العراق؛ وبين من أعاد تحريرها من تنظيم داعش ونعني به حيدر العبادي الذي يحظى أيضا بالمكافأة على تنفيذه الصفحة الثانية من المشروع الإيراني في استمرار حكم العراق كوسيط انتقالي لمرحلة الصراع بين أميركا وإيران الذي يقترب من تداعيات الشتيمة لعقولنا التي تبدو في مرحلة مقاومة الاحتضار من شدة التناقضات ورص الجثث البريئة في العـراق أو في سوريا وعلى امتداد أمتنا العربية. العبادي يترجم توجهاته بالحط من قدرة القوات النظامية على القتال كتبرير لزج قوات الحشد الميليشياوي إلى جانب الجيش لضخ المعنويات في صفوفه، ثم يتدارك انضباط الحشد في القوانين العسكرية لأنهم متطوعون لغايات وطنية، وهو أدرى بأن قواعد الحشد تقوم على فتوى المرجعية الدينية وحماسة قادة الميليشيات العقائدية كمعادل لفكر داعش القتالي وأسلوبه في ارتكاب الانتهاكات والخروقات التي تحولت إلى لازمة انتقام بيد حملة السلاح الذين لا تنطبق عليهم مقولة حملة السلاح خارج القانون.
ما حصل في ليبيا من إعدامات لمعتقلين من ميليشيات أخرى يتكرر في العراق كمنهج انتقام لا تحاسب عليه الدولة أو المجتمع الدولي، لأن الفوضى تضرب عرض الحائط بكل القيم والأعراف.
في العراق عوائل بريئة حاصرتها ميليشيا يقودها شخص من الحشد وبهوية صريحة وموثقة، لكنه يفلت من العقاب والحساب لأجندات متباينة، بعضها يتعلق حتما بالرضا تجاه هذه الممارسات من قبل صناع السياسة في حفلة تشف بجرائم متبادلة رغم أن القتلى والضحايا في كل الحالات من الأبرياء الذين لا ذنب لهم في سياسة التفريط بالأمن والأرض.
يقول العبادي إن أكبر فساد هو صرف الأموال على الحروب، وكأنه ينطق بالحق مع المتظاهرين في انتفاضة الشعب الإيراني ضد الدكتاتورية الفاشية لملالي إيران، بل وضد حزبه حزب الدعوة بقيادة نوري المالكي والذي تبرأ الطرفان من اسمه الصريح لأهداف دكتاتورية أكبر من نزعتهما الحزبية الطائفية.
اختتم العبادي حديثه بالبراءة أيضا من الاستماع لأي أغنية حتى ولو كانت لأم كلثوم واستثنى أغنية واحدة دينية استمع إليها بالصدفة، رغم أنه كان طوال اللقاء يروج للدولة العابرة للمحاصصة الطائفية وبناء الدولة المدنية الحديثة. أترك ذلك لشعب تغنت به أم كلثوم يوم كانت بغداد قلعة للعروبة.
2 بعد «إعلان الشيعة».. صحوة «المانيفيستو»!
رشيد الخيّون
الاتحاد الاماراتية
لا أخفي حلماً وردياً عشته وأنا أُطالع «المانيفيستو»، وثيقة أصدرها نفر من أصحاب الخبرة العراقيين، أطلقوا على أنفسهم عنوان «مجموعة المانيفيستو». لا حدود فيه لآفاق الأمل بدولة وطنية، لا تمييز طائفي ولا عنصرية قومية، مع انتشال التعليم، وإرجاع مغيبات العقل إلى كهوفها، لأهل العلم المبادرة بإعادة إعمار البلاد، والعمل على تنفيذ خطط لتنويع الموارد الاقتصادية. لقد جعلنا كاتب «المانيفيستو» نعيش الفردوس، لهذا أجد نفسي متفقاً مع ما تُرجم بـ«خطة للإيحاء الوطني».
بعد مطالعته طويت «المانيفيستو»، ونفضت الحلم بـ«عدن مضاع» (رواية فهد الأسدي)، وعدت إلى قبل ثمانية عشر عاماً، حيث صدور «إعلان شيعة العراق» (17/1/2002)، وما جرى خلالها من حوادثَ جسام، نزفت فيها دماء، وتبددت ثروات، وتمزقت مجتمعات، وتحققت فقرات، ليست قليلة، من الإعلان المذكور: تحقق التعليم الديني بلا قيود، والمناسبات المذهبية طوال العام زاحفة على الدولة، وحصل الاستقلال بالعلم الديني بحرية مخيفة، وهبوط مدمر للعقل، وبدأ الأخذ بالثأر وفقاً لِما حُشدت به العواطف الملتهبة، من ثقافة المظلومية. كل هذا أشار إليه «إعلان شيعة العراق»، وطُبق على أرض الواقع. إلا مطلب أن ينص الدستور على الأغلبية الشيعية، وهذا لم ينفذه أهل الإعلان أنفسهم، عندما أقاموا في القصور الرئاسية.
كان الموقعون على الإعلان 128 عراقياً، أخذتُ أنظر في مصائرهم، منهم من أصبح في السلطة ومن أهل الثروة المنقولة وغير المنقولة، ومطارات تحولت إلى مقرات لأحزابهم، وجامعات بيعت لهم وهُتكت علمياً، وأصحاب مواكب وفضائيات. كان بينهم معممون لا يُقدرون أبعد من حدودهم الحوزوية، وبسطاء لا يعرفون ما تضمنه الإعلان، وحاملو خناجر الثأر!
لا أنسى مَن صحا وتراجع عن عمامته الحزبية وحمل لواء المدنية، لما طفح الكيل بعد استلام السلطة من قِبل أهل الإعلان، ومَن تحول إلى مدافع عن الطائفة التي كانت سبب المظلومية حسب شكوى الإعلان منها، وكأنه قد عمي عند التوقيع عليه. لم يهرول خواص الشيعة وعوامهم إلى موافقة «الإعلان»، لذا لم يوقعه أكثر من العدد المذكور، وكما أتذكر كان جواب الرافضين: «لو كان عراقياً»!
لا أدري، لماذا لم يسمِ كاتب «المانفيستو» وثيقته بـ«الإعلان»؟! أحسبه يخشى مِن الذكرى الأليمة! ولماذا جعلها بهذا الاسم، وترجمها بـ«خطة للإحياء الوطني»؟ مع أن ترجمة المفردة: «بيان رسمي»، أو «قائمة بحمولة السفينة» (قاموس هانز). كتب أحد الموقعين على «الإعلان» (2002)، والمؤيدين للـ«مانيفستو» (2017) قارظاً الأخير، وأتى على المانيفستوهات عبر التاريخ، وأشهرها البيان الشيوعي (1848)، وعد في مقدمتها مانيفستو القادر العباسي (ت 422ه). هنا يجب الحذر مِما بين الضلوع، وما يتصل بالإعلان. على أن القادر كتب بياناً ضد الفاطميين (297- 567ه)، وقد استخلف خلال العهد البويهي (334-447ه)، ولا أعرف كم من فتوى ومحضر وقرار صدر خلال الحروب بين الدول، فهل تُعد مانفيستو؟! وكيف يُقرن هذا بـ«خطة للإحياء الوطني»؟!
نعم، أصدر القادر كتاباً (مانفيستو) عام 402ه، في تبيان أن الخلفاء العبيديين لا صلة لهم بالعلويين، وقد صادقَ على هذا الكتاب مؤسس المرجعية الإمامية الشيخ المفيد (ت 403ه)، وتلميذاه الرَّضي (ت 406ه) والمرتضى (ت 436ه)، ووافقه البويهون الزيدية، لأنهم ضد الفاطميين الإسماعيلية، وأن جامع «نهج البلاغة» الرَّضي وتلميذه مهيار الديلمي (ت 428ه) كانا شاعري القادر (الكازروني، مختصر التاريخ). ومما قاله الرضي فيه: «ذا الطَّود أبقاه الزَّمان ذخيرةً/ مِن ذلك الجبل العظيم الرَّاسي» (نفسه).
كما أن القادر تزوج سُكينة ابنة بهاء الدولة بن عضد الدولة، وكان عاقد الزواج الحسين بن موسى الموسوي (مسكويه، تجارب الأمم)، أمير الحج ووالد الرَّضي والمرتضى، وكلهم كبار في مذهب الإمامية. تسلم القادر الخلافة بعد منام بعليٍّ بن أبي طالب (مختصر التاريخ) يُسلمها له، وهي الخدعة نفسها التي حلّ بها العبيديون خلفاءً. فإذا كان المُوَقع على «الإعلان» والمؤيد للـ«مانيفيستو» قصد التذكير بالطائفية ضد الفاطميين لإحيائها اليوم، فعليه المراجعة، ولا يغرنه موقع «ويكيبيديا».
على أية حال، حسب «المانيفيستو» (2017) سيكون العراق في عام (2028) قد أحيته الخطط الكبرى المنفذة، بعد استرجاع الأموال المنهوبة لخزائنه، وهنا نحن معه قلباً وقالباً. «لكنَّ بيّ جنفاً» أيقظني من الحلم بـ«قائمة حمولة السَّفينة» (المانفيستو)، من حقيقة الصحوة، وهل القول عند سقوط بغداد (9/4/2003): «سقطت دولة السنة»، حسب إعلان 2002، وقائلها من لحق الإعلان بتأسيس «البيت الشيعي»، سيقابله «سقوط دولة الشيعة»، مثلما يريدها المانيفيستو (2017)، بينما لا السنة ولا الشيعة حكموا، وإنما سلطات فيها آل الجلبي الشيعة وآل شوكت السنة!
أقول: من حق الحالم بتطبيق الوثيقة الواعدة، أن يحصل على توضيح واعتذار، فلا بد أن أحدَ الإعلانين خطأ والآخر صواب: الإعلان الطائفي أم المانيفيستو الوطني؟! فالمنطق: لا تتفق صحة النَّقيضين! خلا ذلك سننظر إلى المانيفيستو كمجرد خُدعة، وأتمنى أن لا يكون كذلك.
3 نهر عراقي ثالث… يتشكّل ببطء
مشرق عباس
الحياة السعودية
سيمرّ وقت طويل على أية حال، قبل أن نجد حلم القناة الجافة العراقية أو ما بات يُسمى «النهر الثالث»، يتحوّل الى حقيقة، وستكون حينها حقيقة تتغير بسببها ومن أجلها أولويات العراق الإقليمية والدولية، ومعها أولويات منطقة الشرق الأوسط، التي تمتلك دولها بطرق مختلفة حصصاً في قرار حفر هذا النهر.
الحديث هو عن ذلك المشروع التاريخي الذي يحوّل مدينة البصرة على الخليج العربي الى ميناء عملاق يمثل بوابة طريق بري وسككي هائل يربط جنوب شرقي آسيا والخليج بأوروبا، والذي طرح منذ اللحظة الأولى لإعلان الدولة الحديثة في العراق بداية القرن الماضي، لكنه لم ير النور أبداً. يمكن القول إن المشروع وضع على الطاولة الإقليمية والدولية أخيراً في شكل جدي، وبدأت خطوات واضحة لكنها بطيئة لإنجازه، لا تقف عند التدفق المضطرد وغير المسبوق لشركات دولية كبرى الى البصرة، لحجز مكان في ترتيبات النهر الثالث، ومنها تلك الخاصة بتأجير مساحات على الورق في ميناء «الفاو» الذي قد يشهد أيضاً تسارعاً في إنجازه خلال السنوات المقبلة، بل تتجاوز ذلك الى حضور مشابه في الموصل، التي من المفترض أن تتحول بدورها الى ميناء بري آخر.
يتحدث السياسيون العراقيون المنشغلون بنظريات المؤامرة في الكواليس، عن معارضة إيرانية كانت أحد المعرقلات الإقليمية المؤثرة أمام المشروع، وأن تلك المعارضة ترجمت بالفشل في المضي بخطوات جادة لتشييد ميناء الفاو الذي كان يمكن أن يرى النور قبل خمس سنوات من اليوم، كما يتحدثون أيضاً عن ممانعة عربية له، كان ميناء مبارك الكويتي وجهاً من أوجهها، وعن سوء تقدير سياسي لتركيا، وهي الشريك الإقليمي الرئيسي في مشروع النقل البري.
الواقع، أن المعرقلات العراقية الداخلية كانت أكثر فداحة من الموانع الإقليمية إن وُجدت حقاً، فالعراق لم يطرح نفسه كراع محتمل لحركة التجارة الدولية، والقوى السياسية المرتبكة والمشغولة بالتفنن في نهب عائدات النفط، لم يكن ضمن أولوياتها الاستثمار في ميناء استراتيجي قد يتطلب عقداً كاملاً لإنجازه، يعيد على أساسه ومن أجله ترميم العلاقات الداخلية والخارجية المتصدعة.
فالنهر البري الذي من المفترض أن يمر بمدن شيعية وسنية وكردية وتركمانية ومسيحية، كان عليه أن يتجاوز أولاً مشكلة التناحر والحروب العراقية ليقنع العالم بإمكان ضمان توافق وطني على حمايته على المدى البعيد، وهو أمر لم يكن زعماء الطوائف وقادة الحرب الأهلية والمستثمرون فيها مقتنعين بإمكان حدوثه.
كما أن الحديث عن مثل هذا المشروع كان يتطلب إعادة تمركز عراقي في منطقة الشرق الأوسط برمتها، يضمن بناء شراكة سياسية حقيقية مع دول الجوار، لا الانغماس في المعسكرات الإقليمية وتحويل بلد منهك خرج للتو من محنة الحصار الاقتصادي الدولي، الى جندي في صفوف الجيران، وملعب للطموحات الإقليمية المتهورة.
مؤتمر الكويت لإعادة إعمار الموصل، والذي يقام في منتصف شباط (فبراير) بمشاركة دولية واسعة، يفهم في إطاره العام باعتباره خطوة لإعادة ترميم مرحلة ما بعد «داعش»، لكنه في رؤيته ودلالات مكان انعقاده وخريطة المساهمين فيه، يمثل أول شراكة عربية وإقليمية ودولية جادة لوضع «النهر العراقي الثالث» موضع التنفيذ.
ثمة حاجة تتجاوز رعونة وقصر نظر مجموعة أحزاب وشخصيات سياسية عراقية مهزوزة، الى أن يكون قرار النهر الثالث أبعد من الاجتهادات الشخصية، وخارج الحسابات المذهبية والقومية والانتخابية، وأن تتحول ضماناته الى التزامات عراقية طويلة المدى أمام المجتمع الدولي برمته، وكل تلك الاشتراطات لم يكن في المقدور الحلم حتى بتحقيقها، لولا أن الشراكة الدولية في الحرب على «داعش» أنتجت بيئة إيجابية جديدة، قد تفصح عن نفسها في مؤتمر الكويت المرتقب.
أن يتحول العراق الى معبر جديد واعد لحركة التجارة الدولية، لم يعد مجرد حلم، لكنه لم يصبح واقعاً بعد، وهو يحتاج الى مزيد من الجهود العراقية لإثبات قدرة هذه البلاد على إنتاج السلام والتعايش لشعبها وللعالم، وحينها يمكن الحديث عن المستقبل.