1 لماذا لا يقتدي العراقيون بانتفاضة الشعب الإيراني
حامد الكيلاني العرب [
ثورة الجياع في إيران أين صداها في العراق؟ لماذا لا يقتدي العراقيون بانتفاضة الشعب الإيراني، كما يقتدي بالمقابل حكام العراق بنظام الحكم المتخلف في إيران؟
ونحن نكتب أسماء المدن الإيرانية المنتفضة ضد نظام الملالي، كأنما نردد في ضمائرنا أسماء مدن العراق على أمل الالتحاق بتلك الجموع من الشعوب التي عانت من القمع والتدليس باسم الدين، أو قداسة المراجع السياسية ونفاقها لأنظمة الحكم الحديثة.
المظاهرات في إيران وإن وصِفت بانتفاضة الجياع، إلا أنها ارتقت خلال يومين إلى المطالبة بإسقاط النظام في شعارات مدوّية تختصر رد الفعل تجاه 38 سنة من حكم المفسدين. ولأنهم شلة من الإرهابيين فإننا نخشى من تطبيقاتهم السابقة في ممارسة العنف بأقصى أدواته المتوحشة، كما جرى أثناء التعامل مع الثورة السلمية في سوريا وما كان لقادة الحرس الثوري من دور في مواجهة الشعب السوري وتشويه ثورته لتجميل وجه النظام القبيح.
ما يختلف في حراك الشارع الإيراني، أنه يأتي بعد تجارب ومعاناة الشعوب العربية من تمدّد إرهاب ولاية الفقيه، وبعد تدمير المدن وإبادة السكان بمجازر ممنهجة وبمبرّرات أصبحت في متناول البسطاء قبل حكومات المجتمع الدولي والمنظمات الأممية.
لذلك فإن طول الصراع يعزز قدرة النظام في إيران على استحضار فوارق موازين القوة لصالحه، رغم أن الحقيقة تفرض أبجديتها دائما خلال أيام معدودة من بداية الحراك الشعبي وبشعارات النَفَس الأول من الثورة؛ وهي تعبير عن مخزون سنوات القهر والاضطهاد الذي يضمن الاستمرارية في حالة عدم تشتت الأصوات والشعارات والمواجهات بفعل العنف الحتمي للسلطة، أو سوء التخطيط وعدم التنظيم وفقدان الدعم، أو ضياع بوصلة الثورة بعدم ثباتها على موقفها ومطلبها المركزي بانتهاء صلاحية نظام ولاية المرشد في حكم إيران.
المنتفضون عليهم أن يدركوا أن النظام الحاكم وصلته الرسالة مهما كانت النتائج، وما يتبقى في كل الأحوال مجرد كرسي حكم فاقد للشرعية الوطنية والديمقراطية في داخل إيران أو بصادرات جرائمه في الإقليم، أو بالرأي العام الدولي، بنظام مثير للفتن ويسخّر طاقات إيران المادية والإنسانية لإشاعة المزيد من الخراب والحروب في المنطقة وتراجع قيم الحياة الحضارية؛ مثال الحاكم في سوريا وتشبّثه بالسلطة دليل ساخر على مسرحية من طبائع الاستبداد لا يتمنى أحد أن يلعب فيها دور البطولة.
اشتعال الفتيل بدأ من شمال شرق إيران، من مدينة مشهد مركز محافظة خراسان رضوي القريبة من حدود أفغانستان وتركمانستان، وانتقل إلى مدينة رشت شمالا التي أطلقت في العام 2009 شرارة الثورة الخضراء، وبسرعة أيضا توقدت في مدينة كرمنشاه غرب البلاد.
ثم جاء الدور على الأحواز في الجنوب الغربي، وهي إمارة عربية الجذور والفروع ضُمّت إلى إيران عام 1925 وتعرضت لفصول من التمييز العنصري ضد سكانها العرب خاصة في زمن الملالي، ولذلك أبعاد اقتصادية ترتبط بالثروات الطبيعية من نفط نسبته تتعدى 85 بالمئة من الإنتاج الإجمالي في إيران، أما ثروة الغاز فهي بعائدية أحوازية كليّا؛ وبعد الاحتلال الأميركي للعراق تحولت البصرة بحكم موقعها الجغرافي إلى امتداد للنفوذ الإيراني في الأحواز، سواء من حيث الفساد المالي والسرقات أو بتبديد نفطها وتهريبه علنا أو بالخفاء إلى إيران، أو بحماية الهاربين أو بنشر تجارة المخدرات.
مخاطر الاستحواذ على خيرات الأحواز النفطية بالقمع والتنكيل ومصادرة الحقوق قد تتحول إلى سلاح بيد الانتفاضة إذا تطورت إلى لغة الإضراب عن العمل أو الاعتصامات العمالية في شركة نفط الأحواز لما لهؤلاء من عنصر حسم في دعم المطالب والمواجهات لإسقاط النظام.
تتجه الأنظار أيضا إلى أذربيجان الجنوبية الخاضعة للاحتلال الإيراني وهي محاذية لدولة أذربيجان الشمالية التي استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي؛ أما لماذا المظاهرات في تبريز أو في أرومية على قدر كبير من الأهمية في تدفق الانتفاضة إلى أعالي طموحاتها؟ فلأن هاتين المدينتين إضافة إلى أردبيل وزنجان تمثل ما نسبته 40 بالمئة من سكان إيران ومنهم المرشد علي خامنئي ومراجع أخرى من ذات الطائفة المتنفذة، وهم مجموعة أذرية تركية ساهمت في الانقلاب على حكم الشاه سنة 1979؛ لكنهم كالعرب وباقي القوميات ومن بينهم نسبة كبيرة حتى من القومية الفارسية يتعرضون للإهمال والاستهداف المتعمد حد الإهانة. انضمام الأذريين يعني ضم ما لا يقل عن 50 بالمئة من سكان العاصمة طهران إلى الانتفاضة.
أهمية الأذريين تنبع من كونهم جزء من المذهب الذي ينتمي إليه المرشد والرئيس وقادة الحرس الثوري وقوات الباسيج وأجهزة الأمن في نظام ولاية الفقيه، وهو ما هو مطلوب من أبناء المذهب أو الطائفة ذاتها في العراق، لأنهم بذلك يؤكدون فصل الدين عن السياسة ومحاسبة الظالم عن ظلمه، والفاسد عن فساده، والإرهابي عن إرهابه، حيث لا شفاعة لهم لانتمائهم المذهبي أو الحزبي الطائفي، وهذا ينطبق على جميع المذاهب والأديان والقوميات لأن الثورات تبدأ وتنتهي بمطالب الاستقرار والتقدم وحقوق الإنسان في وطن يُحترم فيه الجميع دون استثناء.
بحدود 80 مدينة إيرانية اندلعت فيها المواجهات التي شملت طهران وأصفهان وقم ويزد ونيشابور وشاهرود وكاشمر ونوشهر، وأيضا بيرجند وشيراز ومدينة درود التي قدمت طلائع الشهداء، وكذلك مدينة كرج وآراك ونجف آباد وبهبهان وملاير وسيزوار وبندر عباس وشهركرد وساري وهمدان وقزوين وزاهدان وخرم آباد ومدن أخرى على امتداد خارطة إيران.
الشعارات المرفوعة للمتظاهرين هي خارطة طريق لخطوات وتفاعلات وأصداء التصعيد للشعب الإيراني وردة فعله على منتجات حكم الملالي طيلة سنوات الاستبداد العنصري والسلطوي.
أثناء قراءة الانتفاضة علينا الاستماع لأصوات حناجرها وهتاف دماء الشباب المسفوحة في شوارع المدن والتي رددت؛ “الموت للدكتاتور”، “الموت لروحاني”، “لن يفيدكم المدفع والدبابة والنار”، “لا للغلاء”، “الإعدام لمفسد الاقتصاد”، “لا للتضخم”، “الموت للكذاب”، “استح يا خامنئي”، “الموت لولاية الفقيه”، “يا أصولي يا إصلاحي كفى زيفكما”، “سقوطك قادم يا خامنئي”، “الشعب يتسول وخامنئي يتغوّل”، “يا مُلا يا رأسمالي”، “الشعب يريد إسقاط النظام”، “الموت لعلي خامنئي”، “الموت لحكم الملالي”، “ويل لكم عندما نتسلح”، “خامنئي قاتل وحكمه باطل”، “الموت أو الحرية”، “طالب بحقك أيها المواطن”، “تحت عباءة المُلا تختفي حقوق الشعب”، وشعارات أخرى سبق وأن استمعنا إليها في بغداد والمدن العراقية مثل “كذاب كذاب نوري المالكي” لكن في إيران استبدلوها بروحاني وخامنئي وسليماني، أو “باسم الدين باكونا الحرامية”.
من يتفحّص الشعارات تلك يدرك إلى أين تتجه الانتفاضة في إيران رغم إطلاق الرصاص الحيّ وتفاقم عدد القتلى والجرحى والاعتقالات وسيارات رش المياه الساخنة أو الغازات المسيلة للدموع أو ضوضاء الدراجات النارية لتفريق المتظاهرين وإرعابهم في مشهد شهير يُذكّرنا بهجوم مماثل إبان حرب الـ8 سنوات، والذين أرسلهم الخميني للوصول إلى بغداد ومدن أخرى بأسرع السبل وكان مصيرهم الموت على أعتاب الحدود العراقية.
النظام الحاكم في إيران يحشد قواه الأمنية ويستنفر قوات الباسيج والحرس الثوري والشرطة والأمن والمرتزقة وأئمة خطباء الجمعة ويزجّ بعناصر مندسّة بين صفوف المتظاهرين لملاحقتهم فيما بعد، أو للقيام بأعمال تسيء لهم وخلق أجواء إعلامية معادية للمنتفضين.
المتظاهرون في إيران تطور سلاحهم من الهتاف والحجارة إلى سلاح المولوتوف الذي تسبب في إغلاق بعض مواقع التواصل لانتشار تعليم صناعته بين الشباب والطلاب، وهم مادة كل الثورات في العالم وطليعتها.
ثورة الجياع في إيران أين صداها في العراق؟ لماذا لا يقتدي العراقيون بانتفاضة الشعب الإيراني، كما يقتدي بالمقابل حكام العراق بنظام الحكم المتخلف في إيران؟
2 العراق.. إما الدولة أو الفاسدون!
رشيد الخيّون
الاتحاد الاماراتية
لا يُجدي الحديث عن الدولة، وحصر السلاح بيدها، وزراعة وصناعة ولو متواضعة، مع الفساد في أعلى المراتب وأدناها. فكلما تأخر قمع الفساد تعددت فرص الإرهاب. تمكن الفاسدون بما اصطُلح عليه بالدولة العميقة. سيقضي الفساد على فرص إعادة البناء، والبناء ليس الطرقات والعمائر فحسب، بل وبناء الإنسان، والبداية من التعليم.
نتذكر عبارة أحد الذين أتت بهم طوارئ الزمان، وصار وزيراً للتربية والتعليم، فأطلقها مغروراً: «سأُعيد تشكيل العقل العراقي»! وتشكيل العقل الذي يقصده يعني الانهيار والانحطاط. فليس في إناء صاحبنا سوى ما نرى ونسمع من تغييب العقل، وللحيص بيص (ت 574هـ): «وحسبكم هذا التَّفاوت بيننا/ وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ» (الحموي، معجم الأدباء). لا يعني الفساد العبث بالمال والإدارة، بل الأخطر من هذا فساد العقل الذي أراد صاحبنا تشكيله.
يخشى الفاسدون من القوي العارف بالخبايا، فالفاسدون يبحثون عمن يسيطرون لضعفه على البلاد والعباد، هذا ما فعله الغلمان مع خلفاء عباسيين، حتى صار الخليفة طوع مزاجاتهم، فهيؤوا بذلك لتسلط البويهية والسلجوقية على بغداد والخلافة معاً. لم يحترس العباسيون بتنبيه من قال في المستعين بالله (قُتل 252هـ): «خليفةٌ في قفص/ بين وصيف وبغا/ يقول ما قيل له/ كما تقول الببغاء» (السُّيوطي، تاريخ الخلفاء).
أسس وصيف وبغا، وهما من غلمان عهد جعفر المتوكل (ت 247هـ)، لجيش جرار من القراهمة والقهرمانات، ما أن تخرج الخلافة من أزمة إلا وأدخلوها في أزمات. نرى هؤلاء اليوم قادةً لميليشيات وأحزاب، ويؤثرون عبر المشاعر الدينية، فصاحب العمامة البيضاء الذي يظهر، يمارس فساد العقل عبر فضائيته، متضايقاً من هتاف المتظاهرين «باسم الدين باكونا (سرقونا) الحرامية». لكنه لم يلتفت إلى رفيقه في الحزب نفسه صاحب العمامة السوداء، وهو يبيع ويشتري ذمم البسطاء، يطوف على الأرياف والقرى، ومعه خازن المال المنهوب من الدولة، يوزع لمن ينشد أهزوجة مديح، وبخزيٍ أمام الكاميرات، وكأنه يقول: هذه جماهيرنا ستنتخبنا بالدين والديمقراطية معاً!
يمارس الفاسدون فسادهم بالحرص على اختيار سلطة تبرئهم جميعاً، وزير فاسد وقاضٍ فاسد، وسلطة تخشى من صولتهم. هذا ما تضامن عليه الفاسدون بعد وفاة المكتفي بالله العباسي (ت 295هـ). لم يكن الخليفة جاعلاً ولياً للعهد، لذا عندما ثقل عليه المرض أخذت الحاشية تبحث في اختيار خليفة له، لكن بشروطهم، ولما وقع الخيار على ابن عمه عبد الله بن المعتز (قُتل 296هـ)، الشاعر وصاحب كتاب «طبقات الشُّعراء»، والعارف بالأُمور، ظهر الرَّأي خلاف ذلك، فقيل للوزير: «اتق الله ولا تُنصب في هذا الأمر مَن قد عرف دار هذا، ونعمة هذا، وبستان هذا، وجارية هذا، وضيعة هذا، وفرسَ هذا، ومن لقي الناس ولقوه، وعرف الأمور، وتحنك، وحسب حساب نِعم الناس» (مسكويه، تجارب الأُمم وتعاقب الهمم).
كان المكتفي في النزع الأخير، وأي فراغ من السلطة، سيقلب عاصمة الخلافة، كل يريد فرصته، فصار الاختيار على أخي الخليفة جعفر بن المعتضد، ولقبوه بالمقتدر (قُتل 320هـ)، لكن الخليفة المرشح غير مقتدر، لم يبلغ الثلاثة عشر عاماً، فردوا على الوزير: «لكنه ابن المعتضد»! فقالوا: لِمَ تأتوا «برجلٍ يأمرُ وينهي، ويعرف مالنا، وبمن يُباشر التدبير بنفسه، ويرى أنه مستقل» (المصدر نفسه).
هنا تقدم أحد الحاشية مِن الكُتاب الكبار محمد بن يحيى الصّولي (ت 335هـ) ليبُرر الترشيح، فـ«عَمل كتاباً في جواز ولايته (المقتدر) واستدل بأن الله تعالى بعث بيحيى بن زكريا- عليهما السَّلام- نبياً، ولم يُكن بالغاً» (ابن الكازروني، مختصر التاريخ).
إذا أخذنا هذا التبرير القديم الجديد، في ما يخص إحضار النص الديني، وطبقناه على يومنا هذا، وعلى من أخذ يبرر للفاسدين الكبار بتكفير من هتف «باسم الدين باكونا الحرامية»! فالمبدأ واحد، وإن اختلفت العبارة، كله يدخل في نطاق التحايل، وتحايل اليوم أخطر وأفجع، لأن الفاسدين أنفسهم رفعوا رايات محاربته، وشمروا السواعد للحرب عليه كذباً، حسب بيانات أحزابهم وبرامج فضائياتهم المشيدة بالفساد.
تحتاج الحرب على الفساد قوة ضمير وفن تدبير، تحتاج مَن يعرف «بستان هذا، وضيعة هذا، وفرس هذا». فلا دولةَ تنهض، ولا إعمار يُعاد، ولا عقل يتشكل، إذا كان الفاسدون يجمعون بين الدين والسياسة، تحت تصرفهم المسجد والبرلمان.
ليس بعيداً عما فعلته حاشية المكتفي بالله، كي لا يأتي بمَن «يُباشر التدبير»، نتذكر الإصرار على حماية القاضي الذي يتهاون مع الفاسدين، من قِبل متنفذين، قبلها عُزل محافظ البنك المركزي، واتهامه بما هم أحق به، ويؤتى بمحافظ من أهل الدار، فأي دولة يرجوها العراقي، وأي إعادة إعِمار ينتظر؟! أختم بأبي العلاء المعري (ت 449هـ): «أما العراق فعمّت أرضه فتنٌ/ مثل القيامةِ غشتها غواشيها/ وللزمان على أبنائه أبداً/ حكومةٌ لا يُردُّ الحكم راشيها» (لزوم ما لا يلزم).