1 لماذا قيدت جريمة احتلال الموصل ضد مجهول
حامد الكيلاني العرب
لا يمكن تصديق سذاجة الرؤية الأميركية لنوعية العلاقة بين العراق بعد الاحتلال، وبين النظام الإيراني مع وجود أحزاب عقائدية وبولاء مطلق لولي الفقيه.
أوردت وكالة أنباء أميركية تقريرا كشفت فيه عن أعداد الضحايا من الأبرياء المدنيين الذين سقطوا جراء العمليات العسكرية التي جرت تحت عنوان “تحرير الموصل من تنظيم الدولة” وتصل إلى 11 ألف قتيل، وهي أرقام تتجاوز بأضعاف ما أعلنته المصادر الرسمية عن تلك الحرب.
ورغم الاعترافات الخجولة للتحالف بمسؤوليته عن مقتل المئات من أبناء الموصل، إلا أن منظمة العفو الدولية وبالأسماء أصدرت قائمة تقترب من 10 آلاف ضحية، وعلقت على تقرير وكالة الأنباء “أرعبتنا هذه الأرقام الجديدة وإن لم تفاجئنا”.
ربما، وهذا ليس ببعيد، أن ترتفع هذه النسب الصادمة إلى أرقام إجمالية تقدرها بعض المنظمات المعنية بـ40 ألفا، منهم من مازال تحت ركام البيوت المهدمة، وهي أعداد لجرائم تنظيم داعش الإرهابي وجرائم تنظيم دولة إيران الإسلامية ومنهجها في الانتقام من المدن العربية على أيدي ميليشياتها الطائفية وحكومتها العميلة في العراق، إضافة إلى جرائم التحالف الدولي الظاهرة للعيان ونعني بها العمليات الجوية الساندة للقطعات الأرضية بما يحدث فيها من أخطاء بسبب المعلومات أو الغايات العسكرية الملحة، أما الجرائم الكبرى، وهي الأعظم، فهي كامنة في احتلال العراق وتسليمه المبرمج إلى النظام الإيراني المتخلف.
لا يمكن تصديق سذاجة الرؤية الأميركية لنوعية العلاقة بين العراق بعد الاحتلال، وبين النظام الإيراني مع وجود أحزاب عقائدية وبولاء مطلق لولي الفقيه، بل إن غالبية المنتمين لهذه الأحزاب قاتلوا ضد جيش وشعب العراق، أي ضد وطنهم الأم لاعتبارات مذهبية وطائفية.
ينطبق عدم التصديق على التسليم الأميركي بحقيقة احتلال داعش للموصل بإمكانيات التنظيم حينها مقارنة بما تمتلكه القوات النظامية من تجهيزات “أميركية” قُدمت بسخاء إلى تنظيم الدولة كغنيمة مشبوهة من قيادة حزب الدعوة الحاكم في بغداد ومن حكومة برئاسة نوري المالكي الذي يتغنى بأمجاده كمتعهد لتحقيق رغبات المرشد علي خامنئي في العراق.
أكبر إهانة لحقت بالسلاح الأميركي كانت في الموصل، وهي إهانة لا تغتفر في الأعراف العسكرية حتى في أبسط الجيوش تجهيزا وتدريبا. لماذا كان الرد الأميركي لا يتناسب أبدا مع جريمة نوري المالكي باعتباره القائد العام للقوات المسلحة؟
لماذا لم يخضع للاستجواب والمساءلة، أو على الأقل للتحقيق في قضية كيفما أردنا توصيفها لا يمكننا إغفال حقيقة تمريرها كصفقة شبيهة لتلك التي تجري بين مراكز الشرطة وبين المهربين على مختلف نقاط الحدود في دول العالم غير المستقرة، بادعاء النوم والاستراحة في توقيتات متفق عليها، أو تحمل تهمة الإهمال عند المحاسبة في الحالات القصوى للتخلص من جريمة التواطؤ.
نوري المالكي وقادته لم يكونوا نياما أثناء عبور مهرب. لقد سلموا الموصل وأهلها مع تجهيزات عسكرية تحلم بها الكثير من الجيوش الوطنية، مع ما في الموصل من خيرات صنعت من تلك المجاميع دولة في العراق والشام. دولة كلفت العالم أموالا طائلة وقلقا استدعى الجيوش وتجاذب السياسات للانتهاء منه وكلّفت العراق دم أبنائه.
لكنها كلفت الموصل غاليا بتدمير تاريخها وحضارتها واستقرارها، وشردت ناسها إلى الخيام أو إلى المقابر. لماذا قُيّدت جريمة احتلال الموصل ضد مجهول والمجرم يتصدر مع مجموعته المشهد السياسي في العراق؟. إن في احتلال الموصل أو في تحريرها، فالهدف واحد والمبرر واحد ومازال فاعلا على الأرض العراقية والعربية.
ما جرى في القائم والمدن القريبة منها مؤخرا، من سلب ونهب واختطاف وحرق لدور العبادة يمثل إصرارا على إذكاء الصراع الطائفي، ورغم ما يقال عن حصر السلاح أو ربط الميليشيات بكرسي رئاسة الوزراء أو إصدار تعليمات من المرجعيات الدينية لتهذيب جموح تلك القوى ومن يساندها من شخصيات وأحزاب.
كل تلك الطروحات توفر مجالا خصبا لاستمرار الميليشيات ونهجها، بل إنها تزداد ثقة بها؛ لأنها تأتي في توقيتات انتقالية من مرحلة لأخرى وضمن توجهاتها ومخططاتها المسبقة في تناغم يستحيل أن يكون عفويا، كما في التمهيد للانتخابات من الفصائل الميليشياوية.
النظام الإيراني هو الرابح الأكبر من الخسائر العربية عموما، والموصل تحديدا، فهي المدينة التي أنجبت خيرة الضباط العراقيين ومن مختلف الرتب من الذين ساهموا في تركيع المشروع الطائفي على حدود العراق الشرقية في حرب الثماني سنوات. ومن أهل الموصل وحدات عسكرية بالكامل قاتلت بروح الانتماء لها ولأهلها بالضباط والجنود. النظام الإيراني يدرك جيدا تلك التفاصيل، كما يدرك أن العراقيين قاتلوا تحت راية وطن واحد من فاو البصرة إلى عمادية زاخو وامتزجت دمائهم في خندق العراق. الأحزاب زائلة بأيديولوجياتها، والحكام زائلون مع مناصبهم وميليشياتهم؛ لكن الشعوب باقية. وهنا مربط الحكمة في التفكر بالتعايش والتآخي بين أفراد المجتمع على اختلاف خصوصياتهم القومية والدينية والمذهبية والعرقية، لأنها ضمانة كل تقدم ورخاء في المستقبل.
ما تفرقه السياسة ومكائد الأحزاب والمخططات الهجينة، توحده الشعوب الحية والواعية القادرة على استدعاء ذاكرة ماضيها واستشراف نوعية ما ينتظرها من حياة لائقة بها.
جرّب العراقيون في تاريخهم الحديث معنى التحرر واكتساب المعارف العلمية ومواكبة التطور ومرت عليهم الخطوب كذلك؛ لذلك فإن الالتفات إلى ما يجمعهم في وطنهم يكمن في عدم السماح برسم الحدود الفاصلة بينهم وبين أهلهم. فكم من الأكراد أو المسيحيين أو الأيزيديين أو التركمان أو الصابئة المندائيين كانت لهم قرابين دم مع إخوتهم المسلمين بمذاهبهم وعروبتهم. من ينسى من المقاتلين البررة ذلك القائد الأيزيدي الذي كان لا يأكل إلا مع جنوده أو يقاتلوا دون أن يقاتل معهم، حتى أن القيادة العسكرية نبهته بالحفاظ على حياته ودوره القيادي، إلا أنه في ليلة مواجهة دامية تقدم الصفوف مع قدمات جنوده المهاجمين ليلهب حماسهم، حتى أنه قال لهم قبل بدء الصولة “إذا رأيتموني خلف أحدكم فأعلموا أنني لست قائدكم”. كان انتصارا مشهودا ومدويا فيه عبرة لمعنى الذود والدفاع عن الوطن والمواطنة. استشهد باشا في تلك المعركة، وهذا اسمه ورحل الكثيرون معه، من قبله ومن بعده، لتظلّ للوطن تلك المعاني الخالدة والسامية.
الموصل عاشت في العام 1959 تفاصيل مجزرة نكراء اقترفها الحزب الشيوعي العراقي في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، وبعد سنة واحدة من مقتل الملك فيصل الثاني وقيام النظام الجمهوري. بشاعة الجرائم الموثقة وما تبعها بعد أشهر قليلة بمجزرة كركوك؛ دفعت عبدالكريم قاسم شخصيا للاشمئزاز منها والبراءة من أفعال الحزب الشيوعي ووصفهم بالجزارين الذين تفوقوا حتى على هولاكو في تدمير أهل العراق. رغم أنه كان يعتمد عليهم في تدعيم أركان حكمه، لكن أفعالهم وجرائمهم وصلت حدا لا يمكن السكوت عليها أو غض الطرف عنها أو تبريرها.
تهليل حكومة حيدر العبادي والأحزاب الطائفية بالانتصارات، أو تمجيد الحشد الميليشياوي على ما قام به ومازال من خروقات تعمق الخلاف وجذور العداء بين الشعب العراقي، تفضحه مسالخ وحاويات الموت والأرقام المهولة للضحايا التي تفضح بدورها حجم الاستهانة بأرواح المدنيين في حرب عشوائية افتقدت المهنية؛ فيها كل الأسلحة غير مقيدة، لأن خلفها مشروعا لم يعد مقيدا منذ الاحتلال الأميركي للعراق.
2 داعش المهزوم الذي ولد من جديد سلام السعدي
العرب
لم يكن هدف داعش خلال عام 2017 القتال حتى الموت كما يدعي البعض، بل كان مقتصرا على إدارة المعارك بطريقة تضمن البقاء.
مع مقتل أبومصعب الزرقاوي في العام 2006، أعلنت القوات الأميركية هزيمة تنظيم القاعدة في العراق. ولم تمض سوى عدة سنوات على إعلان النصر ذاك حتى عاد التنظيم للظهور مجددا في العام 2013، وهذه المرة تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
ما بدا هزيمة ساحقة للتنظيم وتوطيدا لأركان دولة عراقية مستبدة، كان في حقيقة الأمر الخطوة الأولى في خلق تنظيم جديد أكثر شراسة، وأكثر قدرة على التعبئة والقتال، ولا يقتصر طموحه على العراق فقط، وإنما يمتد ليطال كل بلاد الشام.
اليوم أيضا، تتسابق كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لإعلان النصر على تنظيم داعش في سوريا والعراق. أعلنت روسيا ذلك أولا مع بداية الحملة الانتخابية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وراحت توهم العالم، للمرة الثالثة، بسحب قواتها من سوريا. ومن ثم جاء الإعلان الأميركي في اليوم التالي تماما لتصفه وزارة الخارجية الروسية بأنه محاولة لـ”سرقة” نصرها في سوريا.
يدَّعي الطرفان القضاء على مقاتلي داعش في خضم معارك استعادة المدن والبلدات التي سيطر عليها التنظيم. كانت وسائل الإعلام الغربية تبرر صعوبة المعارك، التي كانت تمتد لأشهر، بالطابع الجهادي العقائدي للتنظيم ومقاتليه الذين يقاتلون حتى الموت ويرفضون الاستسلام أو الهروب.
لكن الحقيقة في مكان آخر تماما، إذ أن عمليات “التحرير” تلك لم تجر عبر معارك طاحنة يجري خلالها حصار عناصر التنظيم لينتهي بهم الأمر قتلى أو أسرى، بل كانت، وبسبب رغبة المهاجمين في تجنب الخسائر البشرية العالية في صفوفهم، تتركز على الحملات الجوية والحصار وعقد الصفقات مع المقاتلين للخروج من معاقلهم.
كان يجري حصار المدينة المستهدفة واستنزافها بالقصف والاشتباكات المحدودة والمتقطعة في نقاط معينة، بما يؤدي لتراجع بطيء ولكن مستمر للمقاتلين. وبعد أن يدرك التنظيم استحالة الدفاع عن المدينة، ومع عدم رغبة قيادته في الانتهاء إلى انتحار جماعي يدمر كل ما حققته خلال سنوات، كان يسمح لمقاتليه بعقد الصفقات للخروج من المدينة. هنالك صفقات علنية وسرية جرت مع قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية لنقل المقاتلين من مكان إلى آخر.
كما كشفت تحقيقات صحافية عن دور كبير لعبه المهربون في تلك المناطق حيث أخرجوا مقاتلي التنظيم وعائلاتهم إلى تركيا. وأخيرا، هنالك من وجد طريقه إلى مناطق نائية في سوريا والعراق ليعيش بين المدنيين. لم يكن هدف داعش خلال العام 2017، والذي شهد نهايته كـ”دولة”، القتال حتى الموت كما يدعي البعض، بل كان مقتصرا على إدارة المعارك بطريقة تضمن البقاء. لقد هزمت “الدولة” التي بناها بتفكك أوصالها وخسارة المدن الرئيسية، ولكن التنظيم لم يهزم بعد.
إن تنظيم داعش اليوم هو أقوى بمرات مما كان عليه في عام مولده 2013. أصبح تنظيما ناشطا في أفغانستان وليبيا وباكستان ونيجيريا واليمن وفي شبه جزيرة سيناء. هذا فضلا عن الآلاف من الأعضاء المنتشرين حول العالم في دول غربية ينتظرون دورا في المستقبل. وهكذا، فإن عودة ظهور التنظيم بصورة جديدة ليست إلا مسألة وقت، كما كانت عندما أعلنت الولايات المتحدة هزيمته في العام 2006.
تتفاقم المشكلة مع استمرار تسلط “الدولة الوطنية” في سوريا والعراق على رقاب السكان وتوزيع المظالم في كل اتجاه في ظل لامبالاة النظام الدولي. لقد كان أحد أهم أسباب ظهور التنظيم في العراق مجددا، وانتقاله إلى سوريا لاحقا، هو انسحاب القوات الأميركية من العراق في العام 2011 واستحواذ الدولة العراقية وأجهزتها الطائفية القمعية على سلطة مطلقة.
وفضلا عن إيقاع الظلم على مئات الآلاف من البشر وتعذيب عشرات الآلاف، دعمت تلك الأنظمة نشر الفكر السلفي الجهادي وعملت على تغذيته في سجونها من أجل إنتاج وحش مرعب يهدد الموالين لها ويربطهم باستمرار بدولة استبدادية طائفية. كبر الوحش وخرج عن السيطرة، ولكنها لم تتعلم الدرس، أو بالأحرى لا تريد التعلم الذي يستدعي في ما يستدعيه التغيير.
لا تنوي تلك الأنظمة أن تغير من آليات عملها قيد أنملة، وبذلك سوف تظل بنى طغيان سياسي واقتصادي وتسلط طائفي ومصدر توليد للمظالم بصورة مستمرة. ولذلك عملت على تدمير البنى والمجتمعات المحلية التي توقع بها كل تلك المظالم في خضم معركتها للقضاء على تنظيم داعش، وذلك بتدمير المدن بصورة تامة وتهجير سكانها من أجل تحقيق ما وصفه بشار الأسد في إحدى مقابلاته بـ”التجانس الاجتماعي” الذي يحفظ وحدة الدولة ويضمن استمرار نظامها للأبد.
ولكن سكان تلك المناطق لم يختفوا من الوجود. هم اليوم محتجزون في مخيمات اللاجئين في العراق وسوريا وتركيا والأردن ولبنان. يولد أطفالهم على وقع تلك المعاناة، ويشبون على الثأر، فيما تراقبهم قيادة التنظيم المهزوم، في انتظار لحظة البعث من جديد.
3 صراع التعافي في العراق!
محمد الرميحي
الشرق الاوسط السعودية
أمام المتابعين افتراضان لا أكثر حول مستقبل العراق السياسي؛ إما التعافي، وله شروطه، أو الدخول في أشكال أخرى وجديدة من الصراع تقضي على بقية «الوطن العراقي» كما عرف. طريق التعافي بدأت تظهر معالمها من خلال موقفين؛ الأول هو موقف المرجع الشيعي العراقي السيد على السيستاني الأسبوع الماضي، حين أعلن متحدث باسمه أنه على «الحشد الشعبي» أن يسلم سلاحه للدولة، انطلاقاً من أن لا سلاح خارج سلطة الدولة، والدولة بسلاحين تعني الفوضى، وقبله بأيام أعلن المجتهد الشيعي العراقي مقتدى الصدر حل الميليشيات التابعة له، وتسليم سلاحها إلى الدولة، الأمر الذي رحبت به الدولة العراقية من خلال تصريح رئيس الوزراء حيدر العبادي، الأمر الآخر في طريق التعافي التي تسير في هذا الاتجاه دعوة الكويت لمؤتمر المانحين من أجل إعمار المناطق المتضررة في العراق، الذي سوف يعقد في فبراير (شباط) المقبل 2018. إلا أن الأمور على الأرض تختلف عن الإعلانات من المراجع أو الدولة العراقية، أو حتى المجتمع الدولي، فهناك شروط للتعافي على الأرض العراقية لم تتحقق، لأنها أكثر تعقيداً من إعلان النوايا، فمن جهةٍ هناك صراع خلف الأبواب حول من يخلف السيد على السيستاني، وهو يبلغ من العمر اليوم سبعاً وثمانين عاماً (من مواليد 4 أغسطس/ آب 1930). النظام الإيراني لا يرى في السيستاني حليفاً، حيث إنه من مؤيدي ما يعرف بـ«الحوزة الصامتة» التي ينحصر دورها في إرشاد أتباعها حول إدارة شؤونهم الحياتية، أي التي لا توافق على فكرة الولاية العامة للفقيه والتدخل في شؤون الدولة، خصوصاً في طبعتها الخمينية، لذلك فإن الدولة الإيرانية والقوى المتحالفة معها في العراق تفضل أن تأتي مرجعية بعد السيستاني قريبة إلى معسكرها، إن لم يكن بالمقدور أن تكون ملتصقة بها وخاضعة لتوجهاتها، على الأقل تؤيد الولاية السياسية، في المقابل هناك من بعض المجتهدين العرب الشيعة من يرى أن تستمر المرجعية الشيعية في العراق قريبة إلى «الصمت السياسي»، أي عدم التدخل في الشؤون السياسية للدولة بشكل مباشر، إلا وقت الحاجة، وبما يحقق المصالح المرسلة للدولة العراقية. ولاية الفقيه (الحوزة الناطقة) التي قال بها السيد آية الله الخميني ونفذت سياسياً في حياته، وامتدت إلى ولاية السيد علي خامنئي، هي جديدة على الفكر الشيعي، كثير من المراجع لا يتقيد بها، لأنها أسست على مصادر فقهية ضعيفة كما يرون، هي أخذت دفعتها التصاعدية المؤثرة بسبب استحواذ تلك المرجعية على السلطة بإيران في ظرف تاريخي محدد، وبسبب عوامل مؤقتة أدت إلى تحكمها في العمل السياسي بالدولة الإيرانية، ومن ثم خلق أدوات على الأرض لتأكيد تلك السلطة، والعمل على توسيعها، وسميت بالحوزة «الناطقة» أو «المشاركة». الولاية في الفقه الشيعي التقليدي موجودة، ولكنها ولاية على القُصر والمحتاجين والضعفاء في المجتمع، ويقوم الولي (المختار من الناس) برعاية تلك الفئات في المجتمع بما يتوفر له من مال من «المقلدين» له، أي الذين يتبعون في حياتهم تعليماته وفتاواه في الأمور التي يحتاجونها، وعادة ما تكون هناك علاقة طردية بين شعبية الولي بهذا المعنى، أو المرجع، وبين المال المتوفر له، فكونه ذا شعبية واسعة، يعني تدفق المال أكثر، وكون «حوزته غنية» يكثر مريدوه من جهة أخرى. ما زال الجدل قائماً في موضوع «الولاية العامة» كما استحدثها السيد الخميني، وهو جدل «صامت» أو غير علني في مدينة قم أحد كراسي التعليم في المذهب الشيعي، أما في النجف، الكرسي الأول للتعليم وربما في نظر البعض الأهم، فإن الجدل أكثر علانية. يرى المعارضون للولاية «الناطقة» أنها تحمل (فكرياً) فناءها بين يديها، فالولي الفقيه في الحكم هو شخص منزه، وهو مسؤول كسياسي عن رفاهية شعبه واستقراره وتقدمه، وهو بفعله ذلك «يعطل ظهور المهدي المنتظر» لأن من شروط ظهور الأخير، أن تصل الأمور في المجتمع إلى حال من التدهور والفساد والظلم، مكاناً لا قاع بعده! فكيف يمكن مواءمة «الحكم الدنيوي للفقيه» الذي يتوجب أن يقدم حياة أفضل لمريديه، مع شروط ظهور الإمام الغائب؟
الصراع في العراق ليس وقفاً على من يرث المرجعية المعتدلة، ولكنه صراع يمتد إلى الصراع الإثني، أي العرب والكرد، ويبدو من تطور الأحداث أن «المسألة» الكردية سوف تبقى قائمة وعائمة على السطح السياسي العراقي، يتراوح الاقتراب منها بين السياسي والعسكري، وبالتالي يمكن أن تفجر صراعاً قد يبدو بعده الصراع السابق مع «داعش» صراعاً منخفض التكلفة نسبياً، حيث كان العالم كله ضد «داعش»، ولكن القضية الكردية لها مناصرون في العالم! على مقلب آخر فإن جزءاً (ولا أقول كل) من الأسباب التي خلقت «داعش» وهيئت الأرض لظهورها، هي أخطاء سياسية ارتكبت من قبل أهل الحكم والسلطة في العراق بدرجات مختلفة بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وأيضاً التدخل غير السوي للنظام الإيراني وأجهزته في شؤون العراق، بالانحياز لمكون شعبي ضد آخر. جزء من تلك العوامل قد عولج من خلال حكومة حيدر العبادي، ولكن أجزاء مهمة ما زالت عالقة، وتحتاج إلى علاج جدي، إلا أن توزيع القوة في السلطة الحالية، وتعدد مراكز القوى والسلاح الميليشياوي، يقعد حكومة العبادي عن اتخاذ خطوات فعالة للحد من النفوذ الإيراني من جهة، أو معالجة الأسباب الحقيقية لنفور بعض المكونات العراقية من النظام الذي ترى أنه يقوم بتهميشها وعزل قياداتها عن العمل الميداني من جهة أخرى يصب زيتاً آخر على النار العراقية التي تختفي وتظهر، ذلك الزيت هو «غول الفساد» المستشري والضارب في جل زوايا الإدارة العامة والسياسية العراقية، وهو فساد يقلل من احتمال مخاطرة أي طرف مالي (حكومة أو شركات عالمية) في المساعدة لتعويم العراق اقتصادياً. القوى المتناقضة، وليس فقط المتنافسة، في العراق اليوم تتعايش مع بعضها على مضض، لأن مشروعاتها متعارضة، إلا أنه في وقت أو آخر سوف يحتم على فريق أن يدخل في صراع نشط ضد الفريق الآخر في مجتمع ما زال يفتقد بشدة إلى آلية حل الصراعات بشكل سلمي، ولو أن المجتمع الدولي يرغب في تعويم حكومة العبادي، والخروج بتوافق سياسي «معقول» بعد الانتخابات العراقية العامة المقبلة في شهر يونيو (حزيران) المقبل 2018 (إن حدثت)، إلا أن الاحتمالات مفتوحة على الكثير من المخاطر، وقد تفيض تلك المخاطر إلى الجوار العراقي أيضاً.
آخر الكلام:
لم تستطع القوى المختلفة في العراق المناصرة لإيران إيجاد «دولة دينية» على غرار ولاية الفقيه في إيران، كما رغبت طهران وما زالت، إلا أنه من الواضح أن القوى العراقية المستنيرة لم تستطع أيضاً إيجاد دولة وطنية مدنية عادلة حتى الآن!
4 حتى يكون القضاء على «داعش» مبرماً ونهائياً
بشير عبد الفتاح
الحياة السعودية
برغم الهزيمة النكراء التي تلقاها وتهاوت على إثرها دولة خلافته المزعومة في سورية والعراق، تتنوع المؤشرات التي تشي بأن هزيمة «داعش» قد لا تعني بالضرورة أن كابوس الإرهاب توارى نهائياً، فمن منظور فكري وأيديولوجي لا تزال الحياة تدب في أوصال التنظيم المتهاوي وأفكاره وطروحاته، كما تظل العوامل المساعدة على توفير الحاضنة الاجتماعية للتنظيم الإرهابي قائمة، إذ ما برحت الأمراض المزمنة، على شاكلة الاستقطاب الطائفي والصراع المذهبي بين السنة والشيعة، كما الفقر والقهر والظلم والتمييز والاضطهاد والإحباط وفجوة الأجيال، فضلاً عن الانحياز الأميركي الأعمى للانتهاكات والخروقات الإسرائيلية، تقض مضاجع ملايين البشر وتجعل منهم فرائس سهلة للفكر المتطرف الذي يمهد السبيل للانزلاق في براثن النهج الجهادي التكفيري الإرهابي. وفي العراق وسورية، لا يزال قطاع لا بأس به من السنة المضطهدين والمهمشين هناك ينظرون إلى تنظيم «داعش» كمخلص لهم من جور بني وطنهم من الشيعة الموالين لإيران، ومن بين 30 ألف عنصر كانوا انضموا إلى»داعش»، هناك آلاف من الذين لا يزالون يدينون بالولاء للتنظيم الإرهابي برغم دحره، وتتملكهم رغبات ملحة في تنفيذ عمليات إرهابية انتقامية، مستفيدين لذلك من التدريبات والخبرات التي اكتسبوها من خلال العمل لسنوات مع «داعش»، كما لن يترددوا في الانضواء تحت لوائه حال انبعاثه مجدداً، أو إعادة إنتاجه في صورة أي تنظيم إرهابي آخر، وقد لا يمانعون في الانضمام إلى أي تنظيم تكفيري جديد، يجسد الطبعة الثالثة من التنظيمات الإرهابية ذات الطابع العالمي، والتي بدأت تلقي بظلالها الكئيبة على الأمن العالمي منذ تسعينات القرن الفائت. وعلى الصعيد اللوجيستي، أكدت تقارير مجلس الأمن الدولي، شروع تنظيم «داعش» مع بداية انهياره في الموصل، في العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من موارده المالية وقدراته العسكرية وتجهيزاته التسليحية، عبر نقل الأموال والأسلحة والمقاتلين إلى مناطق وملاذات آمنة بديلة، لم يكن له فروع فيها، في إطار تحسبه المسبق لسقوط دولة الخلافة المزعومة، وضماناً لاستمرار جهوزيته لتنفيذ مزيد من الهجمات حول العالم مستقبلاً. ولا يستبعد خبراء دوليون كثر أن ينشط «داعش» مجدداً، ولكن في حواضن وملاذات مغايرة كشرق آسيا. وبحسب تقرير أمني إندونيسي، تتنامى أعداد الملتحقين بالتنظيم في دول جنوب شرق آسيا وتتزايد قدراتهم الترويجية داخل بلادهم، كما تتحدث تقارير مماثلة عن تشكيل التنظيم كتيبة خاصة للتجنيد، بالتوازي مع تكوين خلايا نائمة في دول آسيوية عدة؛ كسنغافورة وأندونيسيا والفيليبين وماليزيا.
وقبل أيام، حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال لقائه مسؤولين في الجمهوريات السوفياتية السابقة، من أن تطهير آخر معاقل «داعش» في سورية ينذر بخطر عودة مسلحي التنظيم الإرهابي لينضموا إلى جماعات إجرامية أو تشكيل خلايا نائمة، أو المشاركة في تشكيل قاعدة دعم لهذه الجماعات وتجنيد عناصر جديدة لها. واستشهد بوتين بأنه تم خلال العام الحالي وحده، إحباط 62 مخططاً إرهابياً، تضمنت 19 هجوماً؛ كان آخرها في سان بطرسبرغ. أما على المستوى العسكري، فقد خلّف دحر «داعش» فراغاً جيوسياسياً، تسابقت جماعات وميليشيات مسلحة عدة لملئه في العراق وسورية. وبناءً عليه، لم يستبعد مراقبون اقتراب ظهور النسخة الثالثة من الإرهاب الجهادي التكفيري، بعدما مثلت «القاعدة» الإصدار الأول، و «داعش» الإصدار الثاني، خصوصاً بعدما نجح الآلاف من جنود الخلافة الذين اكتسبوا قدرات قتالية وفنية فارقة في الفرار من العراق وسورية قبل الإجهاز عليهم، ليعيدوا ترتيب أوراقهم بهدف إحياء التنظيم، أو الإعلان عن ميلاد نسخة محدثة من التنظيمات الإرهابية، خصوصاً مع منح قيادة التنظيم بعض الصلاحيات والاستقلالية للخلايا النائمة والشبكات والذئاب المنفردة حول العالم لضمان البقاء المؤثر لأطول مدى ممكن. في غضون ذلك، تشكو أوساط سياسية عراقية من سعي مجموعات مسلحة مثل «الرايات البيض»، التي يقودها سلفي كردي كان أحد أبرز عناصر «داعش» في الحويجة واسمه عاصي قوالي و «المتطوعون» و «خراسان» و «السفياني»، التي تنشط بين جنوب كركوك وشمال ديالي، إلى خلافة تنظيم «داعش» بعد هزيمته واضطراب الأوضاع داخل إقليم كردستان العراق وتدهور العلاقة بينه وبين الحكومة الاتحادية، فلقد هربت هذه المجموعات المسلحة المنتمية إلى «داعش» من الحويجة قبل دخول الجيش العراقي إليها، وربما وجدت بيئة وحلفاء في الجبال الكردية، خصوصاً وسط جماعات سلفية كردية نشطت بعد الاستفتاء الكردي الأخير للانفصال عن العراق. وحذر خبراء أميركيون من أن هذه الجماعة بدأت تنظم نفسها تحت مسميات مختلفة حتى أضحت لا تقل خطورة عن التنظيم الأم، الأمر الذي يجعل من إعلان الانتصار على «داعش» سابقاً لأوانه. من هنا، تبدو أهمية المقاربة التنموية كآلية ناجزة لغلق الأبواب أمام عودة «داعش» وغيره من الحركات التكفيرية والتنظيمات الجهادية، من خلال دعم المجتمع الدولي لجهود إعادة الإعمار وتأهيل المناطق المحررة في العراق وسورية، وإعادة المشردين والنازحين واللاجئين إلى بيوتهم، وتوفير سبل العيش الكريم والحياة الملائمة لهم، بالتوازي مع تنقية الخطاب الإعلامي وتطهير نظام التعليم والخطاب الديني من الرواسب المشوهة والمضللة التي خلّفها التنظيم الإرهابي قبل دحره. فمن شأن هذه الجهود مجتمعة أن تقوض الحاضنة الاجتماعية التي طالما استفاد منها التنظيم الإرهابي في ما مضى، ولا يزال يتطلع إلى استثمارها للعودة مجدداً، وإن في صورة مغايرة أو تحت مسمى آخر.
ومن جهة أخرى، عمد «داعش» إلى استعراض قدراته على تنفيذ عمليات مدوية في بقاع متفرقة، برغم الضربات الموجعة التي تلقاها. فأخيراً، قام مقاتلوه بمهاجمة مركز للتدريب العسكري تابع للاستخبارات الأفغانية في كابل. وفي السياق ذاته، هدد التنظيم عقب اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، بشن هجمات داخل الولايات المتحدة. ومن جانبها، أعلنت هيئة الأمن الفيدرالية الروسية أنها أوقفت نشاطات خلية سرية لتنظيم «داعش» كانت تخطط لتنفيذ هجمات في مدينة سان بطرسبرغ، ثانية كبريات المدن الروسية في منتصف كانون الأول (ديسمبر) الجاري.
ومن شأن ضبابية الموقف الأميركي إزاء محاربة الإرهاب عموماً، و «داعش» تحديداً، أن يفاقم من غموض مصير التنظيم الإرهابي، فعلى رغم قيادة واشنطن تحالفاً يضم 68 دولة لمحاربة «داعش»، يكتنف الدور الأميركي في هذا الصدد غموض لافت. فبينما أفادت صحيفة «يني شفق» التركية في وقت سابق من الشهر الجاري، نقلاً عن مصادر سورية، بأن أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، نقل بعد توقيفه في العراق على يد الأميركيين مع سبعة آخرين، إلى القاعدة العسكرية الأميركية في رأس العين، ثم إلى أخرى في رميلان في سورية، امتنع البنتاغون عن التعليق على هذا النبأ. ويمكن استشعار خطورة هذا الأمر إذا تمّ الربط بينه وبين سوابق أميركية مشابهة ومثيرة للتساؤل حيال التنظيم الإرهابي، كإسقاط طائرات أميركية أسلحة وذخائر ومعدات لمقاتليه في سورية قبل عامين «من طريق الخطأ»، ثم توفير مظلة أمنية لخروج عناصره بعد هزيمتهم في البوكمال الشهر الماضي ومنع الطيران الروسي من استهدافهم.
وبينما أفضى التنسيق الاستخباراتي بين موسكو وواشنطن إلى إحباط عمل إرهابي لـ»داعش» في سان بطرسبرغ، تبدو الحاجة ماسة إلى تعميم مثل هذا النمط من التنسيق والتعاون عالمياً، علاوة على تفعيل الاتفاقات الدولية ذات الصلة، بالتوازي مع اعتماد مقاربات تنموية وثقافية حيال المناطق التي تتخذ التنظيمات الإرهابية منها ملاذات أو مورداً لتجنيد المقاتلين، حتى يتسنى إجهاض مخططات لاستغلال الأوضاع الإقليمية المضطربة والظروف الدولية القلقة لتعظيم فرص «داعش» في الانبعاث مجدداً.
5
شعوب إيران ودروس القضية الكردية
د. كريم عبديان بني سعيد
السياسة الكويتية
رغم أن الشعب الكردي في العراق، يمر ببعض المشكلات التي نتجت عن الإستفتاء المثير للجدل في إقليم كردستان، لكنه أثبت أن لديه القدرة على التحمل من أجل العبور من المصاعب ومستعد للتضحية من أجل إحقاق حقوقه الوطنية وهويته كبقية الشعوب في المنطقة مثل العرب والفرس والأتراك وغيرهم .
إن الاستفتاء 25 سبتمبر الماضي في كردستان والذي صوت من خلاله الشعب الكردي العراق لصالح الانفصال هو تصبير عن ذروة مرحلتين رئيسيتين مربهما نصال الشعب الكردي في كردستان العراق وهما:
المرحلة الأولى استمرت من العام 1992 إلى 2003، حيث حصلوا أثناء هذه المرحلة على الحكم الذاتي التام وتمكنوا من إنشاء كيانهم القومي وإعادة بناء البنية التحتية وبناء مؤسسات الدولة والتركيز على المدارس والجامعات وإيجاد مجتمع مدني وتطوير لغتهم الأم في الدراسة والاهتمام بالأمور الثقافية والاجتماعية الأخرى وذلك تحت حماية ومظلة القوانين.
أما المرحلة الثّانية، فقد بدأت عندما عملوا مع كل المعارضة العراقية وذلك تحت شعار الإطاحة بنظام صدام والمشاركة في إيجاد الدولة الاتحادية اللامركزية الفيدرالية واستغلوا الفرصة لبناء قدراتهم الذاتية بعيدا عن الشعارات الرنانة والوهمية. وقد استمرت هذه المرحلة حتى العام 2017 والتي انتهت بالاستفتاء الأخير الذي رغم المشكلات الجارية سينتهي عاجلا أو آجلا بتطبيق نظام فدرالي حقيقي أو كونفيدرالية أو الاستقلال التام.
التشابه بين إيران والعراق:
ان كلاً من إيران والعراق متشابهان من حيث التنوع، فإيران متكونة من قوميات وهي الأتراك والعرب والبلوش والتركمان والأكراد، حيث يبلغ عدد اكراد إيران ضعف عدد سكان أبناء جلدتهم في العراق، أكراد إيران و شعوب أخرى تعاني من الاضطهاد القومي، فالدرس الأول الذي لابد لهذه الشعوب الاستفادة منه هو تجربة الشعب الكردي في العراق بسلبياته وإيجابياته.
لقد خطّط أكراد العراق بشكل منهجي وخلال المرحلة الأخيرة، أسسوا سلطاتهم الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية وعملوا على تشكيل قواتهم المسلحة ونظام المحاكم وكافحوا القبلية والتخلص من الطائفية وفصل الدين عن الدولة والمساواة بين الجنسين وعملوا على توفير العناصر الأولية لبناء المجتمع المدني.
لقد وضع الأكراد العراقيون أهدافاً تتناسب مع المراحل، لذلك فأنهم على علم تام بالمواقف المعارضة لمشروع حق تقرير المصر (الاستقلال) بما فيه معارضة الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي.
وإذا ما ألقينا نظرة عابرة على مواقف ومواثيق الأمم المتحدة، كالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وقرار الجمعية العامة لعام 1970، و «وثيقة هلسنكي» الختامية لعام1975، وميثاق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي تم اعتماده في باريس لعام 1994، كلها تشير إلى حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، لكن إذا ما أمعنا النظر في تفاصيل تعريف هذا الحق، سنلاحظ ان هناك تعريفات وتفسيرات عدة مختلفة ومتناقضة له.
فقد تطرق تقرير خبراء الأمم المتحدة خلال مؤتمر برشلونة الذي عقد العام 1998، تحت شعار «مفهوم حق تقرير المصير للحد من الصراعات» إلى مفهومين مختلفين وهما: حق تقرير المصير الداخلي وحق تقرير المصير الخارجي.
فالداخلي يتيح للشعوب والقوميات الواقعة تحت الاضطهاد القومي حق تقرير المصير في إطار الدولة الواحدة والمشاركة في صنع القرار على مستوى الدولة الممثلة لمكوناتها، وحق تلك القوميات في ممارسة حقوقها في المجالات الثقافية واللغوية والدينية، منها «تحقيق الديمقراطية تحت إطار الحكم الذاتي السياسي داخل حدود الدولة القائمة» أو «المشاركة الديمقراطية» أو «الفيدرالية» او «الكونفيدرالية» او «الحكومة المحلية» او «الحكم الذاتي»، بشرط ان لا يتعارض مفهوم حق تقرير المصير مع سيادة الدولة وسلامة حدودها الإقليمية.
أما حق تقرير المصير الخارجي وهو يعني الحق الكامل لأي شعب من الشعوب في الانفصال والحق في إقامة دولة مستقلة جديدة.
وبما ان قادة الأحزاب الكردية في العراق لم يرفعوا شعار الاستقلال خلال المرحلة الأولى من نضالهم، رغم أنه كان لديهم كل وسائل والإمكانيات كانوا يخشون ردة فعل الجيش العراقي كما انهم لم يرغبوا برد فعل القوميين العرب ضدهم.
وعلى العكس مما جرى لدى أكراد العراق، فالقوميات المضطهدة في إيران تنقسم في الوقت الحالي إلى تيارين، الاول يسعى إلى إيجاد تحالف وائتلاف واسعين مع القوى التقدمية الفارسية المؤمنة بحقوق القوميات بهدف إسقاط النظام، ومحاولة التعايش بعضها بعضاً تحت مظلة نظام فيدرالي لامركزي .
إما التيار الآخر فيرفع من الآن شعار الانفصال عن إيران، لذلك على هذا التيار ان يستفيد ويتعلم من التجربة الكردية العراقية التي نعيش أوج تطوراتها هذه الأيام. بمعنى أن مشروع الإنفصال من المؤكد أنه سيواجه معارضة داخلية واقليمية ودولية، وتستغله أطراف دولية واقليمية لمآربها المرحلية ضد النظام الإيراني وهو ما لم يجد نفعا في التخلص التام من النظام الإيراني.
لقد دفعت ممارسات النظام الإيراني الوحشية ضد بناء الشعوب غير الفارسية، التيار الداعي للاستقلال إلى انتهاج سياسة راديكالية، مما ترك في نهاية المطاف اثرا سلبيا على مجمل نشاط القوى الداعية الى حق تقرر المصير، كما ان نشاطها هذا ساعد النظام كونه قسّم المعارضة إلى تيارين وسبّبت التصدع في المعارضة المتحدة ضد طهران. كما أثّر هذا الانشقاق والخلاف في عدم استعداد المجتمع الدولي للمراهنة على المعارضة المقسمة.
خلافا لذلك فان الأكراد في العراق، كان لديهم تحليل واقعي للأوضاع ساعدهم في تحقيق مشروعهم الرامي لكن التيار الانفصالي في ايران ليس لديها رؤية ستراتيجية، وخارطة طريق توضح كيفية الوصول إلى الاستقلال. هناك منهم من يراهن على الدعم الخارجي لإطاحة نظام الملالي ثم الفوضى وعدم الاستقرار، حيث يرون انه سيساعد في إعلان الإستقلال، فهذا المنهج نتيجة تفكير شعبوي وعدم الالمام بالقرارات الدولية. ان البلدان الغربية وبخاصة ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط لا تزال متمسكة باتفاقية «سايكس-بيكو»، حيث إنها غير مستعدة على الاقل في الوقت الحالي لإجراء تعديلات على حدود الدول وترى نفسها ملزمة بالحفاظ عليها، خصوصا إن هناك ما يزيد عن 70 حركة انفصالية في العالم، وفق دراسة في جامعة «كمبريج» البريطانية. هذا بالاضافة إلى إصرار الجمتمع الدولي على الاستقرار و الامن في المنطقة.
بناء على ماورد فإن على الشعوب المضطهدة المهمشة التي تعاني من الاضطهاد القومي في إيران استلهام العبر والدروس من تجارب الشعب الكردي في العراق، وذلك من اجل ايجاد حل شامل لمشكلاتهم وذلك عبر ايجاد نظام فيدرالي ديمقراطي متعدد القوميات يتضمن صيغة لتقاسم السلطة بين الحكومة المركزية (الاتحادية) والإطراف القومية بغية الاعتراف بالتنوع، والاستقلالية الإقليمية التي تختلف في اللغة والثقافة والجغرافيا، والتاريخ وترفض الاضطهاد القومي ومنع نشوب حروب أهلية والصراعات الدموية.