12 مقالة بالصحف العربية عن العراق يوم الثلاثاء

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
1  كردستان … «لا قادرة تفلّ ولا قادرة تبقى»  عبدالله ناصر العتيبي

 

 

 الحياة السعودية
 

92 في المئة‏ من المواطنين الكرد قالوا للزعيم مسعود بارزاني نحن خلفك، وهذا بالضبط ما كان يبحث عنه السياسي المخضرم ذو البدلة الكاكي على الدوام. و٩٢ في المئة‏ من الشعب الكردي قالوا نريد دولتنا المستقلة، وهذا ما كان يتخوف منه الساسة في بغداد.

النتيجة الأولى تفسر لنا لماذا لم يستمع بارزاني إلى كثير من الأصوات الصديقة محلياً وإقليمياً وعالمياً، التي دعته إلى تأجيل الاستفتاء. والنتيجة الثانية تفسر لنا لماذا سعت بغداد بكل قوة إلى إلغاء الاستفتاء على رغم علمها بصعوبة تكوين الدولة الكردية في الوقت الحالي.

بارزاني كان مصراً على إجراء الاستفتاء، في تقديري، لأربعة أسباب رئيسة: أولاً ليقول لمعارضيه في الداخل إنه يمتلك الشعبية الأكبر في الداخل. كيف يفعل ذلك؟ يطلب من مواطنيه أن يقولوا نعم لما يحلمون به، فتتحول هذه الـ«نعم» تلقائياً إلى رصيده بنسبة ٩٢ في المئة‏! وثانياً لأنه لن يقدر في المستقبل القريب على إدارة إقليمه في ظل بنادق قادة «البيشمركة» وجنودها، الذين فرغوا للتو منتصرين في معركة وجود! إن عودة الكيان المسلح إلى داخل الدولة منتصراً أقلق وشغل قلوب ساسة أربيل، الذين كانوا يساهمون بكلماتهم وخطبهم في الجهد الحربي من فوق الكراسي الوثيرة وتحت هواء التكييف البارد! لا بد إذاً لبارزاني من أن يخترع مخرجاً مناسباً يتجاوز به المطامع العسكرية التي تكون في أوجها -في كل زمن وفي أي مكان- بعد أي انتصار.. فكان الاستفتاء. وثالثاً لأنه على علم بأن أكراد سورية قريبون جداً من تحقيق حلمهم في حكم أنفسهم ذاتياً، فأراد بهذا الاستفتاء التقدم بالحلم الكردي العراقي خطوة إلى ما بعد الحكم الذاتي، ليبقى هو الزعيم الرمز في وجدان الشعب الكردي في العراق وسورية وتركيا وإيران. أما رابعاً، فلأنه في الواقع يريد بالفعل أن يزرع أول بذرة «قادرة على النمو» في أرض «صالحة بالفعل» لإنشاء الدولة الكردية الحلم. متى ذلك؟ بعد ٣٠ أو ٤٠ أو ٧٠ سنة! المهم هو أن بارزاني هو من وضع أول حرف في اسم الدولة.

في الجانب الآخر، عملت الحكومة العراقية المستحيل لإلغاء الاستفتاء، حاولت بضغوط داخلية شعبية واقتصادية، ولجأت إلى ضغوط خارجية تنتهك حتى سيادة العراق، إيقاف الحلم الكردي، إلا أن المحاولات جميعها ذهبت أدراج الرياح. لم تعد بغداد بعد اليوم قادرة -وهذا ما يؤلمها- على المراهنة على عراقية الأكراد ورفعها في وجه كل زعيم كردي يدعو إلى الانفصال، فهناك الآن حوالى ٩٢ في المئة‏ من الأكراد لا يؤيدون البقاء مواطنين تحت العلم العراقي. حيدر العبادي هو اليوم رئيس وزراء بغداد وكركوك وأربيل، لكنه في يوم غدا قريباً جداً سيصير هو أو خليفته رئيس وزراء في بغداد، ورئيس حكومة احتلال في أربيل!

انتهى الاستفتاء ولم يعترف به العالم، لكنه على الأقل صار نقطة تحول تاريخية في العلاقة بين شمال العراق الكردي وبقية مناطقه العربية. وستبدأ نتائجه بالظهور تباعاً على أرض الواقع، لكن لن يكون من بينها تأسيس دولة كردية في السنوات العشر المقبلة، لأسباب كثيرة يأتي على رأسها التردد الدولي الكبير في منح كردستان الاعتراف اللازم لإقامة الدولة.

لن ينفصل الكرد في الوقت الحالي، ولن ترقي بغداد الفيديرالية الحالية إلى كونفيديرالية بملامح بريطانية، لأن ذلك سيفتح باب الجحيم على العراق، إذ ستبدأ مكونات عربية وغير عربية بالمطالبة بتفعيل مبدأ المعاملة بالمثل، ما سيجعل من العراق مجموعة من الدويلات الطائفية والعرقية تحت علم واحد!

بارزاني الزعيم العظيم، تقدم خطوة إلى الأمام. وسواء أتّفقنا مع هذه الخطوة أم اختلفنا، فالمطلوب الآن من الحكومة المركزية في العراق التقدم خطوة أخرى إلى الأمام بخلق فيديرالية «محسّنة» تسحب من جديد كل من دخل في نسبة «الـ٩٢ في المئة» إلى العمق العراقي، وتقرأ عليهم مدونة ضمانات جديدة يكون منها إمكان توزير الكردي في الوزارات السيادية. على حكومة العبادي أن تذهب أولاً إلى أربيل قبل ذهابها إلى طهران وأنقرة بحثاً عن الحلول! وعليها أن تعترف بأن الاستفتاء صار أمراً واقعاً وجزءاً من التركيبة السياسية للعراق الحديث.

  

 

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
2  تأملات في سردية المظلومية الكردية  

عصام الخفاجي

 

 الحياة السعودية
 

على الرغم من كل ما قيل وقلت عن أسباب الدعوة إلى الاستفتاء الكردستاني وتوقيتها، أتمنّى مخلصاً أن تكون المصاعب التي ستواجه كردستان إقليمياً ودولياً آلام مخاض مصاحبة ولادة جمهورية مستقلة، لا آلام جرح غائر لا علاج له إلا بعملية خياطة تعيده إلى الجسم الذي كاد ينفصل عنه. أتمنّى أن تروي كتب التاريخ المدرسي الكردية قصص ولادة الجمهورية ضمن السرديات الرومانسية التي تحفل بها التواريخ الرسمية للبلدان التي حققت أهدافها في الاستقلال والتحرر، ولا أتمنى لها أن تُضاف إلى سلسلة من السرديات المأسوية التي تحفل بها التواريخ الرسمية للمهزومين، وفي مقدمهم القوميون العرب، عن أمة ينشغل قادة العالم منذ قرن بالتآمر عليها. ستنطوي سردية الانتصار الرسمية على قصّة شعب أعزل إلّا من إرادته وقف في وجه العالم كله وأجبره على الاقتناع بحقه في تقرير مصيره بعد قرن من العذابات. ستلهب صورة النبي الفتيّ الشاب داود الذي صرع الوحش الوثني غولياث، الحماسة والخيال.

لا يمكن منصفاً أن يبخس دور القوى الخارجية في التسبّب بالمآسي التي تعرّض لها الشعب الكردي. ولكن، آن الأوان للمثقفين الديموقراطيين، والكرد منهم بوجه خاص، أن يتجاوزوا سردية مظلومية الشعب الكردي التي تخدّر الوعي الشعبي وتريحه من التفكير، وأن يلعبوا دوراً تنويرياً يكشف للجمهور العوامل الداخلية التي ساهمت في حرمان الأكراد من حقهم في إنشاء دولة خاصة بهم. فليس الأكراد وحدهم من تعرّض لمؤامرات الاستعمار وليسوا الوحيدين الذين توزّعوا في أكثر من دولة. هذه هي حال مئات الشعوب في شبه القارة الهندية وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في أوروبا. ولو تمتعت كل إثنية بدولتها الخاصة لتجاوز عدد الدول القائمة اليوم الخمسمئة.

امتلاك الشجاعة وقدرة التفسير والتنظير مطلوبان الآن أكثر من أي وقت مضى لأن سردية المظلومية على يد قوى خارجية كانت عبر التاريخ أقصر الطرق لإقامة نظم حكم عدوانية متعصبة واستبدادية تستمد مشروعيتها شعبياً من تعبئة الغالبية بروح الحقد والرغبة في الانتقام من عدو خارجي مفتَرَض وإلهائها عن النظر إلى العوامل الداخلية وعن البحث عن إصلاح البنى الداخلية المهترئة التي حرمت الشعب من نيل حقوقه والارتقاء بمستوى رفاهيته. ذلك هو ما آلت إليه سرديات (لا أضعها على قدم المساواة قطعاً) النازيين عن مظلومية الأمة الألمانية على يد اليهود، وسرديات اليهود عن مظلوميتهم على يد الأوروبيين ومن ثم العرب، وسرديات البعث والإسلاميين عن مظلومية العرب على يد الغرب و «صنيعته» إسرائيل وسرديات السياسة الشيعية عن مظلومية الشيعة على يد السنّة، والقائمة تطول.

المنظور التنويري مطلوب الآن لكي يفسّر للمواطن الكردي (ومن شاء التعلّم من قادته) الأسباب التي قادت معظم تحالفات الكرد الخارجية طوال أكثر من قرن لا إلى الفشل فقط، بل إلى نتائج فاجعة. قد يكون السيد بارزاني محقّاً في قوله أن الوقائع الجديدة على الأرض ستدفع دولاً إلى تغيير مواقفها، لكن هذا التغيير قد لا يكون في مصلحة كردستان بالضرورة. والسيناريو الذي يحضرني هنا هو أن ترمي الولايات المتحدّة بثقلها وراء العبادي إن رأت أن الوقوف إلى جانب الكرد يعني صعود المالكي وأتباع إيران المقعقعون بطبول الحرب باسم الحفاظ «على وحدة الوطن وعدم خلق إسرائيل جديدة».

المنظور التنويري يمكن أن يفتح نقاشاً مجدياً عن جهل القادة الأكراد الفاضح في العالم الخارجي على الرغم من امتلاك الكرد بعضاً من أفضل الناشطين في العلاقات الخارجية، وعلى الرغم من إنفاقهم البلايين على لوبيات ومستشارين في الغرب. وهو مطلوب لكي يتفهم الأكراد كيف أن قادتهم كانوا مجبرين على الدخول في تحالفات خاسرة في أحيان أخرى بسبب الحصار الإقليمي المفروض عليهم.

لكن هذا المنظور مطلوب بالدرجة الأولى لكي يدرك المواطن الكردي أن الاعتراف بالتباين بين البنى الاجتماعية الكردية وتعذّر اندماجها في كيان سياسي واحد لا يتناقض أبداً مع الاعتراف بوجود هوية قومية كردية تجمع تلك البنى. فطوال أكثر من قرن كان تركيز القادة الكرد على العدو الخارجي وإغماض أعينهم عن المآزق الداخلية، سبباً في انهيار مشروع إقامة الدولة القومية.

يلخّص السيد مسعود بارزاني سردية المظلومية الكردية، إذ يلعن اتفاقيّة سايكس – بيكو التي قرّرت تقطيع أوصال كردستان وإلحاقها بأربع دول تسودها إثنيات أخرى. ولا بد أنه يبهر جمهرة الكرد حين يعلن بزهو أن عصر سايكس – بيكو الذي رسم حدوداً لدول مصطنعة أوشك على الزوال. أتخيّل مستشاراً تنويرياً له يهمس في أذنه «لو عرفت تاريخ كردستان في فترة انهيار الدولة العثمانية، يا سيادة الرئيس، لترحّمت على روحي سايكس وبيكو، وأثق في أنك ستقيم نصباً تذكارياً للسير مارك سايكس تحديداً».

لن أكرّر ما كتب غيري وكتبت أنا مراراً: لم تر وثيقة سايكس – بيكو ولا أي من بنودها النور لأن المنتصرين في الحرب العالمية الأولى اكتشفوا أن ثمة وقائع جذرية جديدة نشأت على الأرض جعلت تطبيقها مستحيلاً. ولكن، لو أن تلك الاتفاقية رأت النور، لكان بعضاً من حقوق الكرد تحقق. فلم يكن في تلك الاتفاقية كيان اسمه «العراق»، بل لم يكن ثمة تكوين يجمع أطرافه العربية. نصّت الاتفاقية على أن تكون المنطقة الممتدة من البصرة إلى شمال بغداد مستعمرة يحكمها البريطانيون في شكل مباشر وأن تكون المنطقة الممتدة من كركوك إلى جنوب فلسطين دولة يحكمها أبناؤها تحت الانتداب البريطاني. وكانت ولاية الموصل (التي لم تشمل كركوك) ستمتد إلى حلب لتكوّن دولة تخضع للانتداب الفرنسي يتوحد فيها أكراد العراق وسورية، فضلاً عن ضمّها أجزاء من كردستان التركية. أمّا فارس وأكرادها فكانت في منأى عن كل الاتفاقيات، إذ لم تكن طرفاً في الحرب وكانت الحدود بين أكرادها وأكراد الدولة العثمانية رسمت في شكل نهائي عام 1847، إذ تنازلت الأخيرة عن حقها في خوزستان – عربستان مقابل تنازل الأولى عن حقها في السليمانية.

مع هذا، ليست اتفاقية السير مارك سايكس مع فرنسوا جورج بيكو هي ما يؤهل الأول للحصول على نصب تذكاري في كردستان، بل دفاعه وعمله المخلص على تشكيل دولة «كردستان الجنوبية»، أي كردستان عراق اليوم مع لواحق من كردستان التركية بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها.

لماذا لم تنهض الدولة الكردية إذاً؟ هذا ما تقوله الوثائق البريطانية: «كان هناك عدد من المرشحين (لقيادة كردستان)، وكان الشيخ محمود هو الأكثر بروزاً… فقد ادّعى من السليمانية بقيادته كلَّ كردستان، ولكن حتى البلدات المجاورة مثل كفري وخانقين تبرّأت منه، ناهيك بالقبائل المجاورة… ولم تكن ثمة إمكانية للقبول به في الأماكن الأبعد، حيث كان بالكاد معروفاً».

يلخّص مكدوال الذي يتّفق معظم الباحثين الكرد على تعاطفه مع قضية شعبهم، مآل المحنة الكردستانية، مقتطفاً من الوثائق البريطانية: «صار واضحاً للإداريين البريطانيين أن [مشروع] كردستان جنوبية موحّدة لم يكن قابلاً للتطبيق الفوري… بسبب الحال المتخلّفة للبلاد ونقص إمكانات التواصل وتنافر القبائل. وكان ثمة إدراك في الوقت ذاته أن جنوب كردستان كان متبادلاً الاعتماد مع سهول ما بين النهرين من الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية».

هل كان عرب العراق أكثر وعياً بهويّتهم العراقية من وعي الأكراد بهويتهم الكردية عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى؟ شغلي البحثي يجيب بالنفي.

للجغرافية والبيئة والتكنولوجيا نعمها ونقمها. انبساط الأرض والتواصل عبر نهري دجلة والفرات وتطوّر النقل البخاري أشعر البغدادي والبصري والموصلي وحتى الكردي بحاجة أحدهم إلى الآخر حتى وهم يشعرون بالتمايز. أما بيئة كردستان فكانت نقمة على شعبها، إذ عزلت حواضرها وأريافها عن بعضها بعضاً وجعلت اقتصاد كل من مناطقها مرتبطاً ببيئة غير كردية محيطة بها وتفارقت لهجات اللغة الكردية بسبب تلك العزلة بدرجة تكاد تقارب التفارق بين لهجات المغرب والمشرق العربية.

لعل من يقرأ ما سبق ويوافق عليه يعيد النظر في حكمة شائعة في كردستان (أكررها أنا أيضاً): ليس للأكراد صديق غير الجبل. لعل هذا الجبل الذي حماهم من الغزاة كان السور الذي عطّل وحدتهم.

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
3  من برشلونة إلى أربيل

 

 غسان شربل

 

 

 الشرق الاوسط السعودية
 

جاري البريطاني متوتر منذ أيام. يتابع الصحف وينقب في الشاشات والمواقع الإلكترونية. يشم رائحة كارثة مقتربة. نسي «بريكست» وأوجاعه الحاضرة والمقبلة. وتجاهل مؤتمر حزب المحافظين والخناجر المخبأة خلف الابتسامات. تشغله قضية أكبر وأخطر. ماذا سيحل بفريق برشلونة إذا انتهى الاستفتاء (البارحة) بإعلان استقلال كاتالونيا؟ سيكون الأمر كارثياً. سيغيب النادي العريق عن الدوري الإسباني المرصع بانتصاراته. سيغيب أيضاً عن الدوري الأوروبي الذي رسخ ألقه.

وجاري جدي جداً. لا يعتقد أن من حق حفنة من السياسيين الكاتالونيين أن يقامروا بمصير نادٍ يعتبر وساماً في تاريخهم المعاصر. لا يقر أيضاً للمقترعين أنفسهم بحق تهديد مصير قصة نجاح. هذه القصة لم تعد ملك المدينة أو الإقليم. إنها ملك من أحبوا رؤية «الجنرالات» الذين حملوا راية النادي ودفعوا المستديرة الساحرة إلى شباك الآخرين. قال الرجل إن على الشعوب ألا تُصاب بالتوتر القومي والشعبوي كلما فتحت صناديق الاقتراع، وأنَّ على الكاتالونيين أن يتذكروا أن بعض من صنعوا نجاح نادي برشلونة جاءوا من جنسيات أخرى ومن تحت أعلام أخرى.

حاولت أن ألفته إلى أن المسألة أخطر من مصير نادٍ. قال إنه ليس خائفاً على هذا الصعيد. الأوروبيون طلقوا عادة الحرب الأهلية ورسم الحدود بالدم. الانفجار اليوغوسلافي كان حادثاً عارضاً واستثنائياً. استوعبت مؤسسات القارة القديمة حدثاً بحجم حرب عالمية هو اندحار الاتحاد السوفياتي وفراره إلى غبار المتاحف. ثم إن الوقائع الاقتصادية لن تتأخر في تبريد الرؤوس الحامية وتفكيك هالة الشعبويين.

لا يعتقد جاري أن كاتالونيا ستقفز من القطار الإسباني الذي تستقله منذ خمسة قرون. محاولاتها السابقة لم يكتب لها النجاح. ثم إنها في وضع تحسد عليه. إنها الأفضل بين المقاطعات الإسبانية. تبدو مميزة إذا قورنت أيضاً بمثيلاتها في أوروبا. اختلافها القومي لا يحتاج إلى تأكيد. نجاحاتها واضحة صناعياً ومالياً وسياحياً. ثقافتها ليست مهددة. وعاصمتها برشلونة من جواهر التاج الأوروبي ومن الأكثر دينامية بين مدن القارة اقتصادياً وثقافياً.

تبدو قصة كاتالونيا غريبة فعلاً. هل استيقظت لدى أهاليها تلك الجروح القديمة لتلتقي اليوم بمشاعر العداء للمؤسسة المركزية وبصعود الشعبويين وامتلاكهم قدرة استثنائية على التأثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل ساهمت العولمة في إيقاظ الهويات الصغيرة وهذا الميل إلى العزلة والاستقالة من الأطر التي لا تحمل بصمة واحدة ولوناً واحداً؟ وهل هي الرياح نفسها التي هبت على كيبيك واسكوتلندا والتي ستعاود الهبوب على إقليم الباسك الإسباني إذا نفضت كاتالونيا يديها من الإقامة في البيت الإسباني؟

يستطيع الكاتالونيون التذرع بأن الشرعية الدولية تحدثت عن حق الشعوب في تقرير مصيرها. لكن الواضح هو أن هذا الحق إنما سجل لدعم شعب يرزح تحت الاحتلال أو أقلية مهددة بالإبادة على يد سلطة مستبدة دموية. هذا لا ينطبق بالتأكيد على وضع كاتالونيا الحالي. طبعاً لا يمكن إنكار أن إسبانيا فرنكو أضعفت صوت الكاتالونيين وحاصرت لغتهم وثقافتهم، لكن فرنكو غارق الآن في مقابر التاريخ مع قراراته وارتكاباته.

لكل قومية أو مجموعة جروح تركها التاريخ تحت جلدها أو في أنفاق الروح. لكن كاتالونيا لا تستطيع التحدث عن عذابات استثنائية في العقود الماضية. لا تستطيع مثلاً التحدث كإقليم كردستان عن عمليات الأنفال التي أدّت إلى مقتل 180 ألف شخص وتدمير الكثير من القرى. وليس لدى برشلونة قصة ترويها من قماشة قصة حلبجة التي تعرضت لـ«ضربة خاصة» بناءً على نصيحة «علي الكيماوي». والأكيد أن مدريد لم تقم بوقف رواتب إقليم كاتالونيا ولن تفعل. ومن حسن حظها أنها لا تحمل مثل هذه الجروح والقروح.

أوروبا شيء والشرق الأوسط الرهيب شيء آخر. نحن في الجزء الأكثر هشاشة من العالم. نشرب من منابع الخوف ونسقي أطفالنا. خرائطنا هشة. ودولنا هشة. ودساتيرنا كرتونية. إذا اقتلعت الرياح المستبد حارس الخريطة ومفخخها تتناثر البلاد ميليشيات ميليشيات.

كلما لفظ زعيم كردي كلمة الدولة المستقلة اندلع الزلزال. مناورات عسكرية على الحدود. وخوف من السابقة وتهور الأقليات المشابهة. قرع طبول ورائحة حروب.

البارحة، حدّق الخبراء الأوروبيون بالاستفتاء الكاتالوني. قالوا بوضوح إن إعلان استقلال كاتالونيا لن يؤدي في حال حدوثه إلى قيام دولة مستقلة. مدريد تعتبر الاستفتاء غير شرعي وغير قانوني. الدول الأوروبية لن تعترف بأي كيان ينبثق منه. القوة ليست حلاً في مواجهة ملايين المقترعين. القوة تصبّ ماءً في طاحونة المتطرفين. الخيار الوحيد هو الحوار. بعض الخبراء يعتقد أن إنقاذ وحدة إسبانيا يستحق الذهاب إلى صيغ أخرى ربما تكون الكونفدرالية بينها.

أغلب الظن أن حيدر العبادي ومسعود بارزاني تابعا أمس مجريات الاستفتاء الكاتالوني. يعرف الرجلان أن ثقافتنا لا تؤمن كثيراً برقصة التانغو، حيث على كل راقص أن يضبط حركاته على حركات شريكه. يعرفان أن ثقافتنا لا تسهل الزواج المتكافئ ولا تبيح الطلاق المخملي. ومع ذلك لا جدوى من قرع الطبول وتلميع الخناجر. يكفي العراق ما عاناه. يكفي الأكراد ما عانوه. لا بدّ من طاولة وأفكار جريئة خلاقة. يستحق إنقاذ العراق البحث في خيارات كثيرة قد تكون الكونفدرالية بينها.

القصة في كاتالونيا أبعد من مباراة بين فريق برشلونة وريال مدريد. والقصة في العراق أبعد من عضّ الأصابع بين أربيل وبغداد. الإقرار بفشل التعايش خطوة قاتلة على حدود الدول وداخلها. لا بدّ من إنقاذ التعايش حتى ولو استلزم قرارات مؤلمة. لم يفت الأوان بعد لا في مدريد وبرشلونة ولا في بغداد وأربيل.

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
4  المسألة الكردية تفضح العقل العربي

 

 مأمون فندي

 

 

 الشرق الاوسط السعودية
 

المسألة الكردية ليست فقط مسألة سياسية كاشفة لطبيعة الدولة العراقية الحالية، بل هي كاشفة وربما فاضحة للعقل العربي، وطريقة تفكير لا بدَّ أن يتوقف أي عاقل عند ضحالتها وسذاجة تفكيرها. في هذا المقال لن أبدأ بالأسئلة الجيوبوليتيكية المعقدة، بل أبدأ بمواجهة العقل العربي المعاصر بعلله وأمراضه المستعصية التي فضحتها المسألة الكردية.

بداية، كيف تتشكل الرؤى العربية اليوم؟ هل هي نابعة من تفكير عميق وفهم لحدود مصالحنا ومصالح الآخر، أم هي مجرد ردات فعل لمواقف الآخرين؟ اليوم هناك موقفان: الأول إيراني ضد استقلال الأكراد، والثاني إسرائيلي مع استقلال الأكراد. بطبيعة تنشئة العرب السياسية، فإننا ضد كل ما توافق عليه أو تريده إسرائيل على طول الخط، ومن هنا إذا كانت إسرائيل مع استقلال الأكراد فيجب علينا ألا نفكر كثيراً. نحن ضد كل ما تكون إسرائيل معه، ومع كل ما تكون إسرائيل ضده.

إذن كل القوميين العرب اليوم ضد استقلال كردستان، ليس لأي سبب مقنع سوى أن إسرائيل مع هذا الاستقلال.

اليوم دخلت إيران وحلفاؤها على الخط، «حزب الله»، وسوريا (الممانعة)، ضد استقلال الأكراد، ومن هنا تكون كل الدول الأخرى والشعوب الأخرى التي ترى أن إيران هي المشكلة، لن تكون مع إيران و«حزب الله» في نفس الخندق. فإذا كانت إيران ضد الأكراد فلا بدّ أن نكون معهم. ولكن انتبه: إسرائيل مع الأكراد، وبهذا تكون أنت واقفاً جنباً إلى جنب مع إسرائيل، فهل هذا ما تريد؟ طبعاً لا. إذن العقل العربي المعاصر لا يريد أن يقف في جانب إيران ضد الأكراد، أو مع إسرائيل الداعم موقفها مع الأكراد. وهنا يقف العقل العربي حائراً! فيمشى العربي اليوم كما النائم؛ لأنه تعوّد أن يكون ضد كل ما إسرائيل معه، ومع كل ما تكون إيران ضده. عقل في ورطة.

ومن هنا تكون فضيحة العقل العربي الخامل: كان متعوداً أن يكون ضد كل ما إسرائيل معه، وبعدها تعود أن يكون مع كل ما تقف ضده إيران. في المسألة الكردية إسرائيل وإيران مختلفتان: واحدة مع استقلال الأكراد والثانية ضده. إذن، أين يقف العقل العربي الآن في هذه الورطة؟

ومن هنا أقول: إن المسألة الكردية إما ترغم العقل العربي على التفكير المستقل بغض النظر عما تريده إيران أو إسرائيل، أو ينكشف على حقيقته المعطلة.

أعتقد أن هذا كاف، فكما يقولون: «الضرب في الميت حرام». ونعود إلى الحديث عن المشكلة الكردية بعقل مستقل ومجرد.

بداية، الدعاوى المضادة لاستقلال الأكراد تنحصر في تصورات جيوبوليتيكية، هي مجرد تخمين في معظمها لا استنتاج: أول دعاوى التخمين هذه أن التشظي والانفصال وانشطار الدول هو خطر جيوبوليتيكي يهز المنطقة كما الزلزال. وكما كان لغزو العراق عام 2003 تبعات إقليمية آخرها الربيع العربي، فإن انفصال الأكراد قد يؤدي إلى حروب إقليمية تبعاتها قد تبقى معنا لعشرات السنين. كل هذا مفهوم وواضح لمن درس «كورس 101» في السياسة، ولكن تبقى هناك أسئلة تخصّ فكرة الدولة التي نريد الأكراد أن يكونوا جزءاً منها، هل هي دولة فيدرالية مبنية على المواطنة المتساوية، أم هي دولة للأغلبية ومهضوم فيها كل حقوق الأقليات من حيث التمثيل والمشاركة؟

العراق اليوم يحتاج أولاً إلى إعادة تعريف هويته الوطنية، بطريقة تشمل الأكراد كقومية وكمواطنين، فما العراق اليوم؟ ما هويته الوطنية؟ هل هو دولة الأغلبية الشيعية التي تهيمن عليها إيران؟ أم فيدرالية تشمل الشيعة والسنة والأكراد والإيزيديين والآشوريين والأقليات الأخرى الدينية والعرقية؟ قد يكون مؤلماً للعراقيين اليوم أن يقال لهم إن الهوية الكردية أقوى بكثير من الهوية الوطنية العراقية، وإن كردستان تصنع دولة أفضل من العراق ذاته.

معظم الحديث يدور اليوم ويركز على أن الأكراد يريدون نفط كركوك، أو يريدون تحسين موقفهم التفاوضي مع الحكومة المركزية، دونما أي اعتبار للمسألة الكردية وتبعاتها. الحديث يدور أيضاً حول أن دولة الأكراد ليس لديها حدود بحرية، أي دولة مغلقة غير قابلة للعيش (landlocked) مع أن هناك ستاً وأربعين دولة اليوم في النظام الحالي حدودها مغلقة، مثل بوليفيا في أميركا اللاتينية، وبوتان في آسيا، والتشيك والنمسا في أوروبا، والبقية في أفريقيا.

الحديث أيضاً يدور حول أن كلاً من حكومة العراق وإيران وسوريا وتركيا، ستتحالف لسحق الأكراد إذا قاموا بخطوة الاستقلال. السحق في ثقافتنا لا نتوقف عنده. مأساة الأكراد لن تكون أقل من مأساة اليهود في ظل هتلر، إذا حدث مثل هذا العدوان، ومع ذلك يقف العقل العربي مع المعتدي.

هناك من يترحم اليوم على صدام حسين الذي حافظ على وحدة العراق؛ لأنه لم يسمح لشيعة العراق أن «يتنفسوا» وكأن اضطهاد شيعة العراق أمر محمود. الاضطهاد واحد، سواء كان اضطهاد صدام ضد الشيعة أو اضطهاد الأغلبية الشيعية الآن للأكراد كقومية وللسنة كمذهب.

بالطبع الأكراد ليسوا ملائكة، وكان من الممكن أن يتحالفوا مع سنة العراق لخلق توازن في الدولة الفيدرالية، ولكنهم آثروا مصالحهم الضيقة.

كردستان الآن دولة (de facto) أي على أرض الواقع؛ رغم أنها ليست دولة بالقانون. الآن أمام العراق والعرب خياران لا ثالث لهما: إما القبول بدولة كردية، أو إعادة النظر في فيدرالية العراق الجائرة على كل الأقليات، وليس على الأكراد وحدهم.

العراق اليوم أمام لحظة الحقيقة، وأحسن الأكراد صنعاً باستفتائهم الذي أوصلنا إلى لحظة الحقيقة.

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
5  هل تُجدي العقوبات ضد كردستان العراق؟  عدنان حسين

 

 

 الشرق الاوسط السعودية
 

عند الحدود مع تركيا في أقصى شمال محافظة دهوك العراقية تقع منطقة برواري بالا، وهي سهل جبلي يشتهر بالزراعة وبتفاح من نوع مميّز له أصول أميركية.

صديق لي كردي من سكان المنطقة، كلّما أسأله عن حالة تفاح برواري يردّ بأنها «سيئة»؛ لماذا؟ يجيب: لأن تفاح العولمة أزاحه من السوق. وتفاح العولمة هو المستورد من الخارج (تركيا في الغالب) ويباع بأسعار متدنية، ما تسبّب بكساد تفاح برواري، لأن سعر تفاح العولمة يقلّ حتى عن قيمة أجور جني أو نَقْل تفاح برواري. وعندما زرتُ المنطقة ذات مرة، كان تفاح برواري متروكاً للتلف في أشجاره أو تحتها.

ربما تلوح الآن الفرصة ليستعيد تفاح برواري وسائر الزراعات الكردستانية مجدها الغابر إذا ما نفّذت تركيا، ومعها إيران والعراق، التهديد بفرض حصار على إقليم كردستان العراق حتى يتراجع عن الاستفتاء الذي أجراه الأسبوع الماضي.

هذا الاستفتاء لم تُفلح تهديدات الحكومات العراقية والتركية والإيرانية في وقفه أو تأجيله، مع أن هذه التهديدات استُعمِلت فيها أقوى الكلمات وأشدّ العبارات، حتى خُيّل للبعض أن واحداً في الأقل من الأطراف الثلاثة سيستعمل القوة العسكرية لوقف عملية الاستفتاء، التي قيل إنها تهدّد الأمن الوطني في البلدان الثلاثة.

ومع أن العملية مرّت بسلام، فإن «الكلام الخشن» لم يزل سيد الموقف في كل من بغداد وأنقرة وطهران التي تواصل حكوماتها التهديد باتخاذ إجراءات «رادعة» ما لم تتراجع إدارة إقليم كردستان عن الاستفتاء.

ما الخيارات المتاحة أمام العواصم الثلاث لتحقيق ما تبغيه؟

على الأرض لم تكن للاستفتاء أية مترتّبات مادية، فما من خطوة نحو الاستقلال يمكن للجانب الكردي اتخاذها على المدى المنظور، وقد أكد الزعماء الكرد غير مرة أن الاستفتاء في حدّ ذاته لا يعني رسم الحدود أو إعلان الاستقلال، إنما هو لتأكيد الرغبة بالاستقلال الذي يتطلّب تحقيقه قبول حكومة العراق بفكرته والدخول في مفاوضات بشأنه مع الطرف الكردي. وبالطبع سيظلّ أمر الاستقلال محكوماً أيضاً بموقف الجارين الأقوى؛ التركي والإيراني، ومن الواضح أن أنقرة وطهران، كما بغداد، ليستا في وارد القبول بفكرة الاستقلال الكردي.

لجهة الخيار العسكري، لم تهدّد أي من العواصم الثلاث صراحة باللجوء إلى القوة العسكرية لحمل الكرد على اعتبار الاستفتاء وكأنه لم يكن. هذا الموقف نابع من إدراك الحكومات الثلاث عدم قدرتها على استخدام القوة، منفردة أو مجتمعة. دولياً سيكون الأمر مستنكراً بشدّة؛ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي وفّر الحماية للكرد من نظام صدام في تسعينات القرن الماضي لن يقبل، والتحالف الدولي الذي يشنّ الحرب على «داعش» الآن بقيادة واشنطن أيضاً لن يقبل، والمجتمع الدولي لن يقبل بالتأكيد، أقله من منطلق إنساني.

داخلياً، الحكومة العراقية لا يمكنها استخدام القوة ضد الكرد، لسبب أخلاقي – سياسي قبل كل شيء، فأي حرب ضد الكرد ستُظهِر النظام العراقي الحالي، الذي تسيطر عليه الأحزاب الشيعية، في صورة نظام صدام حسين الذي اضطهد الكرد والشيعة على نحو مأساوي. باستثناء قلّة من السياسيين (هم إسلاميون في الغالب، أفصحوا في الأسابيع الأخيرة عن شوفينية تضاهي شوفينية نظام حزب البعث)، لن تحظى الحرب على الكرد بالتأييد في الأوساط الشعبية والسياسية.

فضلاً عن هذا فإن القوات العراقية منخرطة الآن في الحرب مع «داعش»، التي تشارك فيها أيضاً قوات البيشمركة الكردية، و«داعش» لم يزل يشكّل تهديداً خطيراً للأمن الوطني العراقي. كما أن القوات العراقية ليست مؤهلة لخوض حرب ثانية.

تركيا وإيران هما أيضاً غير قادرتين على استعمال القوة المسلحة، ففضلاً عن العامل الدولي، ستتعرّض الدولتان على الأرجح، إذا ما قامتا بعمليات عسكرية في كردستان العراق، لاضطرابات في أقاليمهما الكردية التي تضمّ كرداً يعادلون أضعاف كرد العراق عدداً، وتركيا وإيران ليستا في وضع يسمح لحكومة أي منهما بالإقدام على مخاطرة من هذا النوع ومواجهة اضطرابات داخلية.

في تحديد الموقفين التركي والإيراني هناك عامل قوي آخر هو العامل الاقتصادي، فعلى مدى ربع قرن، منذ قيام الإدارة الذاتية الكردية في 1991، نسج كرد العراق علاقات وشراكات اقتصادية واسعة مع تركيا وإيران، والسوق في إقليم كردستان تعتمد الآن على سلع الدولتين اللتين لهما استثمارات بمليارات الدولارات في الإقليم. ويُقدّر ما تحقّقه تركيا من التبادل التجاري مع الإقليم بعشرة مليارات دولار سنوياً فيما تحقّق إيران خمسة مليارات دولار، فضلاً عن التجارة غير الرسمية (التهريب).

وبحسب المعطيات التركية، يحتلّ إقليم كردستان المركز الثالث بين مستوردي السلع التركية بعد ألمانيا وبريطانيا. والإقليم هو بوابة مرور السلع التركية والإيرانية إلى سائر أنحاء العراق. واستثمارات البلدين في الإقليم تشمل مجالات النفط والغاز والصناعة والطرق والنقل والاتصالات والسدود، ويُقدّر عدد الشركات التركية والإيرانية العاملة في الإقليم بنحو 2000 شركة، معظمها تركية. ولتركيا بالذات مصالح استراتيجية أخرى في الإقليم الذي يمرّ نفطه بالكامل إلى تركيا أو عبرها.

سيصعب، والحال هذه، أن تنفّذ أنقرة وطهران عقوبات صارمة على الإقليم لأنهما ستتضرّران أكثر من غيرهما، وهذا مغزى ما ردّده مسؤولون من البلدين في اليومين الأخيرين بأن إجراءاتهم لن تستهدف السكان. وبغداد من جانبها ستواجه وضعاً مماثلاً، فالسلع التركية كلها، ومعظم الإيرانية، تمرّ بإقليم كردستان، وحصّة معتبرة من النفط العراقي تمرّ به إلى ميناء جيهان التركي، فضلاً عن وجود استثمارات مشتركة للعرب والكرد في الإقليم كما في سائر أنحاء العراق، وهي ستتأثر بالتأكيد بأي عقوبات.

أكثر ما تحقّقه العقوبات الصارمة من العواصم الثلاث أنها ستدفع بالكرد للعودة إلى اقتصادهم التقليدي، الزراعة. في تسعينات القرن الماضي تحمّل الكرد حصاراً قاسياً من جانب نظام صدام شمل كل شيء، ولم تكن لديهم آنئذ بنية تحتية، لكنّهم اليوم يتمتّعون ببنية أفضل مستوى مما في سائر أنحاء العراق الذي لم يسمح الفساد الإداري والمالي المفرط بوجود مثل هذه البنية.

مجمل القول إن بغداد، وكذا أنقرة وطهران، ستجد بعد حين أن العقوبات الاقتصادية لن تكون فعّالة، ما يفتح الباب من جديد للتفاوض مع أربيل، وهو باب ليس مغلقًا الآن في الواقع. حينذاك ستكتشف هذه العواصم أيضاً أن العقوبات ستدفع بكرد العراق للتمسّك أكثر بخيار الاستقلال!

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
6   الأكراد.. والحملات الظالمة!

 

 صالح القلاب

 

 

 الراي الاردنية
–          

«عندما يقع الجمل يكثر السلاّخون» وخطأ القيادة الكردية أنها أقدمت على مغامرة «الإستفتاء» الأخير بدون تأنٍّ وبدون دراسة دقيقة مسبقة بل بدون أنْ تستطلع رأي لا الولايات المتحدة ولا روسيا ولا أيٍّ من الدول الفاعلة والمؤثرة الأخرى وأيضاً بدون أن تستشيرْ أيا من أصدقائها وأصدقاء شعبها العرب الذين هم من حيث المبدأ لا يعارضون أن تكون لهذا الشعب الشقيق دولته المستقلة.

 

إن الرئيس مسعود البارزاني بالتأكيد يعرف إنَّ إيران وتركيا لديهما إستعداد فوري لتحريك جيشيهما في إتجاه كردستان العراقية إن هما شعرتا أن هناك نوايا جدية لدى القيادة الكردية بإعلان هذا «الإقليم» دولة مستقلة إنْ على المدى القريب أو البعيد لكنه ومع ذلك قد غامر بالذهاب إلى هذا «الإستفتاء» الذي كان القصد منه «الإستقلال»، والإستقلال يعني الإنفصال، بدون أن يضمن ولو صمت أو سكوت أميركا وصمت وسكوت روسيا والدول الكبرى المعنية الأخرى والعديد من الدول العربية التي تعتبر مؤثرة وفاعلة .

 

لكن ورغم ذلك فإنه لا يجوز أن تكون هناك كل حملات الإستهداف المتواصل والمتصاعد ضد شعب شقيق بالفعل من حقه أن تكون له دولته القومية المستقلة كما أن للإيرانيين والأتراك دولتيهما المستقلتين وكما أن للعرب كل هذه الدول المستقلة التي غدت «أكثر من الهم على القلب» .. ولماذا يا ترى يحرم الأكراد أو «الكُرْد» مما حصلت عليه أمم وشعوب هذه المنطقة؟!

 

كان يجب ألا تقْدم القيادة الكردية على هذه الخطوة بدون حسابات دقيقة وبدون ضمان نجاح هذه الخطوة ولو في الحدود الدنيا فهذه مسألة ضرورية ولازمة لكن وفي كل الأحوال يجب أن يبقى حق الأكراد بتقرير مصيرهم قائماً ويجب ألاّ يتعرضوا لكل هذه الحملات المتواصلة التي تعرضوا لها لأنهم ربما أخطأوا «تكتيكيا» لكنهم لم يخطئوا إستراتيجيا فهم مثلهم مثل أمم وشعوب هذه المنطقة من حقهم أن تكون لهم دولتهم أو دولهم المستقلة.

 

وهنا فإنَّ ما هو مرفوض أخلاقياًّ وسياسيا أن يكون هناك كل هذا «الردح» الرخيص وكل هذا الإسفاف ضد شعب شقيق وصديق طيب بالفعل شارك العرب في الدفاع عن هذه المنطقة وشارك في مسيرتها الحضارية على مدى سنوات طويلة من حقب التاريخ البعيدة والقريبة وهكذا فإنه يستحق ما استحقه الآخرون وأوله تقرير المصير وإقامة كيانه الوطني أسوة بكل هذه الكيانات الكبيرة والصغيرة .

 

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
7  كردستان.. إلى أين؟

 

 

عائشة المري

 

 الاتحاد الاماراتية
  

أدلى مواطنو كردستان العراق في 25 من سبتمبر المنصرم بأصواتهم في استفتاء محفوف بالمخاطر والمناورات والتهديدات، وقد تم إجراؤه على رغم المعارضة الشديدة التي واجهتها فكرة طرح مشروع الاستفتاء داخلياً وخارجياً وحتى دولياً، ليدخل إقليم كردستان العراق منعطفاً تاريخياً حاسماً في تاريخه بإجرائه. وقال مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان في كلمته علي التليفزيون الكردساني الرسمي: «إن الاستفتاء هو الخطوة الأولى ليعبر إقليم كردستان عن رأيه، ثم تبدأ عملية طويلة، ونتحاور مع بغداد لنكون جارين متفاهمين معاً، والاستفتاء ليس لترسيم الحدود أو فرض الأمر الواقع. نريد التحاور مع بغداد لحل المشاكل، والحوار قد يستمر عاماً أو عامين». ويتطلع الأكراد إلى واشنطن لتقديم المساعدة لهم للخروج من الوضع الحالي، ولكن إدانة الولايات المتحدة الأميركية للاستفتاء الكردي شجعت العراق وتركيا وإيران على معاقبة الأكراد على رغبتهم وتطلعاتهم لإقامة دولتهم القومية.

وعلى رغم أن نتائج الاستفتاء ليست ملزمة لا للعراق ولا حتى لإقليم كردستان، إلا أن الأكراد يمكن أن يوظفوه في مفاوضاتهم مع بغداد، لتغيير نظام الحكم في العراق من الفيدرالي إلى الكونفدرالي، بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003، وفي عام 2005 شهد الأكراد ولادة إقليم كردستان العراق بحكومة مستقلة عن الحكومة المركزية في بغداد وبعلم ودستور ونشيد قومي وبرلمان إضافة إلى قوات مسلحة وشرطة محلية، كما انتخب مسعود برزاني رئيساً للإقليم. وفي عام 2009 بدأ الإقليم في تصدير النفط الخام إلى الخارج بمعدل 90 إلى 100 ألف برميل يومياً، ليصل إلى 600 ألف برميل يومياً في 2017 مسبباً خلافات حادة مع الحكومة المركزية ومع دول الجوار.

ومشروع استفتاء استقلال إقليم كردستان طرح في عام 2014 إلا أن اجتياح «داعش» لبعض القرى الكردية أجل الاستفتاء. وفي حديث رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني مع صحيفة «الحياة» بتاريخ 9 أغسطس الماضي قال: «لسنا من فرّط في وحدة العراق. عدم الالتزام بالدستور والسياسات الخاطئة للحكومة العراقية هي التي استهدفت وحدة العراق»، و«بالعكس، نعتبر استقلال كردستان وسيلة لحل المشاكل والعقبات».

 

ويجادل الأكراد بأن نتائج الاستفتاء تشكل الخطوة الأولى في عملية تفاوضية مع بغداد، أو حتى مع جيرانهم الغاضبين في تركيا وإيران وسوريا حيث الخشية مستمرة من أن تمتد النزعة الانفصالية الكامنة في الأكراد إلى أراضيهم حيث يوجد ملايين الأكراد الحالمين بكردستان الكبرى الذين رحبوا بالاستفتاء، إضافة إلى المخاوف من أن تمتد النزعة الانفصالية إلى المكونات الأخرى الإثنية والعرقية والدينية في دول الجوار، مما سيؤدي إلى تفتت دول لم تنجح في إدماج مكوناتها الوطنية لصياغة هوية وطنية واحدة تتجاوز الإثنيات والديانات كنتيجة مباشرة لسياسات العزلة والإقصاء التي مارستها الحكومات المتعاقبة وبدرجات مختلفة في تلك الدول.

 

وقد تصاعدت لهجة التهديدات بعد الاستفتاء لتتحول إلى إجراءات اتخذها جيران كردستان العراق بدءاً بممارسة الضغوط الاقتصادية، ومن ثم ازدادت عزلة الإقليم مع دخول الحظر الجوي الذي فرضته بغداد وأنقرة على أربيل حيز التنفيذ. إن أمام أكراد العراق خيارات ضئيلة في القدرة على الاستمرار، بعد أن ركزت بغداد وجيران كردستان على أضعف النقاط، ألا وهي الاقتصاد. وفي الحقيقة لا أربيل ولا بغداد يمكنهما المضي إلى خيار التصعيد العسكري، وفي ذات الوقت ظهر جلياً أن العراق وإيران وسوريا تعتمد على تركيا لوقف النزعة الانفصالية لدى الأكراد.

 

إن الشعارات والمبادئ التي يرفعها الراغبون في الانفصال ليست كافية لتحقيق حلم دولة كردستان، فالأكراد وعلى رغم التجاذبات الدولية ليس لديهم دعم دولي يذكر، ويواجهون معارضة كبيرة مما يضع الإقليم في مسار تصادمي مع القوى الإقليمية والدولة العراقية، ويعي الأكراد أنَّ السياسة الواقعية، وليس المثل، هي ما سيحدد نجاح محاولتهم للاستقلال من عدمه.

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
8  من كردستان إلى كاتالونيا  افتتاحية

 

القدس العربي
 

 

مضت حكومة إقليم كاتالونيا أمس قدماً في قرارها إجراء استفتاء مواطنيها على الاستقلال، وذلك بعد أسبوع واحد من إجراء حكومة إقليم كردستان العراقي بإجراء استفتاء مشابه، وهو أمر رفضته الحكومتان المركزيتان في مدريد كما في بغداد وقامتا بكل ما يمكنهما لمنعه.

ورغم اختلاف الظروف بين الإقليمين، ووجودهما في قارتين مختلفتين، واختلاف الظروف التاريخية والجغرافية فإن هناك تشابهات سياسية لا تخطئها العين، ولا يفيد القيام بإجراء مقارنات بين الحالتين في تحليل أسباب وصول الأزمتين إلى ذروتيهما الحاليتين فحسب بل يكشف، من حيث لا نحتسب التشابهات في الأحوال البشرية، بعد أن كف سكان منطقتنا عن مقارنة أنفسهم بأوروبا، ناسين أنها القارة التي قادت خلال القرن الماضي أكبر حربين عالميتين في تاريخ البشرية، وأن بلدانا منها، كإسبانيا والبرتغال واليونان (ناهيك عن بلدان أوروبا الشرقية) كانت تخضع لدكتاتوريات عسكرية يمينية خلال الستينيات والسبعينيات، وهو أحد العوامل التاريخية التي ما تزال تؤثر في الحالة الإسبانية الراهنة، رغم محاولة الأوروبيين تناسي ذلك.

يقود رئيسا الإقليمين، كارليس بويدغمونت، ومسعود بارزاني، حملتي الاستفتاء والانفصال، فيما قاد رئيسا الحكومتين، ماريانو راخوي، وحيدر العبادي، حملة تعتبر الاستفتاءين غير دستوريين، واستخدما كل ما في مكنتهما، قضائيا وعسكريا، لمنع الإقليمين من ممارسة الاستفتاء.

وفيما قامت بغداد بحظر جوّي وبتحشيد عسكريّ على حدود الإقليم وطالبته بتسليم المطارات والمراكز الحدودية، فإن مدريد قامت بإجراءات كبيرة أيضا لكسر الاستفتاء ومنع إعلان نتائجه فاعتقلت 14 من كبار المسؤولين في الإقليم، وداهمت 12 مركزا حكوميا، وأغلقت نصف مراكز الاقتراع، وصادرت 10 ملايين من بطاقات الاستفتاء و1.5 مليون من ملصقات الإعلان عنه، وتتجه الحكومة المركزية لتطبيق فقرة دستورية تلغي استقلالية الإقليم وتسمح لها بالسيطرة التامة عليه لمنع الاستفتاء وإلغاء أي آثار قد تنتج عن القرار.

غير أن التصعيد الكبير للحكومتين المركزيتين، المقصود منه ثني حكومتي إقليمي كردستان وكاتالونيا عن قراريهما أدى إلى مفاعيل معاكسة وجعل أصوات قادة ومؤيدي الأحزاب المعارضة لحكومتي الإقليم، او للانفصال، تتراجع أمام دعوات الاستقلال، فبعد أن كان هناك تعادل بين أصوات مؤيدي ورافضي الاستفتاء في كاتالونيا تصاعدت العواطف القومية وأعطت دفعاً غير متوقع لبارزاني وبويدغمونت.

وبغض النظر عن المساوئ التي ستترتب على المواجهة الحاصلة بين قيادتي الإقليمين والحكومتين المركزيتين، وعن الاستقطاب الحاصل داخل اسبانيا والعراق والدول القريبة المتخوّفة من تشجع التيارات الانفصالية داخلها، كما هو الحال في بلجيكا وإيطاليا، في الحالة الإسبانية، وإيران وتركيا في الحالة الكردية، فإن لجوء الحكومتين المركزيتين للتهديد والقوة هو سيف ذو حدين، فنجاحهما في قمع دعوة الاستقلال بالقوة قد يهدم ما كان الاقليمان قد بنياه من حكم ذاتي واستقلالية اقتصادية وسياسية ولكنه، في الوقت نفسه، سيؤجج الغضب الشعبي ويزيد عدد وقوة مناصري الاستقلال ويدفع المواجهة حثيثا إلى ما يشبه الحرب الأهلية، وهو أمر يتذكره المجتمع الاسباني الذي خاض حربا أهلية دامية في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي تركت مفاعيلها العميقة في المنظومة السياسية الإسبانية اللاحقة، أما العراق فهو في عين العاصفة كما أن الحرب الأهلية والتشظي السياسي والاجتماعي في أعلى تجلياتها.

آثار الاستبداد وتقاليده إذن لا تزول وتبقى المجتمعات تعاني منها لعشرات السنين.

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
9  ضرورة نقد السيرة الحسينية

 

 فريد احمد

 

الوطن البحرينية
  

يعتبر البعض نقد نص السيرة الحسينية تطاولاً على الإمام الحسين عليه السلام وعلى آل البيت فيرفضه من باب أنه ينبغي عدم المساس بالمقدس ومن باب أن هذا النقد قد يأخذ صفة المحاكمة والتحقيق التي لا تليق بصاحب السيرة. والأكيد أن هذا البعض يخشى من التوصل إلى قناعة بوجود روايات موضوعة ومختلقة تعرض هذا المقدس إلى الطعن والتشكيك فيما تم تناقله عبر السنين الطوال، ولعله يرى أن هذا قد يوصل إلى التقليل من شأن صاحب السيرة وفتح الباب أمام نقد كل النصوص التي يجد أنه «لا يجوز» نقدها كونها تنتمي إلى فئة المقدس.

 

لكن هذا البعض يقع – بسبب ضيق أفقه وقوله بعدم جواز المس بسيرة الإمام – في خانة عدم الاهتمام بالدخيل عليها، بل إنه لا يهتم بهذا الأمر حتى وهو متأكد من أن بعض ما دخل على تلك السيرة يسيء إلى الإمام، ذلك أن كل ما يهمه هو عدم فتح هذا الباب لاعتبار أنه داخل في المقدس.

 

كثيرة هي القصص والروايات التي تم اختلاقها ووصم سيرة الإمام الحسين بها على مدى كل هذه السنين، وواجب المسلمين، والشيعة على وجه الخصوص، العمل على محاكمة تلك القصص والروايات والتحقيق فيها بشكل علمي وحذف ما يتبين أنه دخيل ولا أصل ثابت له من دون تردد، ذلك أن الاستمرار في نقل السيرة من دون هذا من شأنه أن يوصل إلى الأجيال المقبلة ما لا علاقة له بالإمام وما يقلل من شأنه عليه السلام وشأن الإسلام.

 

قبل نحو عشرين عاماً أجرت صحيفة «السفير» اللبنانية مقابلة صحافية مع المرجع الديني العلامة السيد محمد حسين فضل الله وسألته عن مصدر نص السيرة الحسينية التي هي أساس إحياء ذكرى عاشوراء فوفر الكثير من المعلومات وانتقد من يرفضون الدخول في النقد العلمي الموضوعي لمثل هذه القصص والأحاديث وقال «لعل حجة الكثيرين أن المسألة هي من المسائل التي يراد بها إثارة المأساة، وليست هناك أية مشكلة تتصل بالجانب العقيدي، أو تتصل بالقضايا السلبية في واقع السلوك الإسلامي في خط القضية الحسينية، ولا سيما أن هذا قد يستثير الكثير من ردود الفعل الشعبية، باعتبار أن الكثير من هذه المفاهيم دخلت في عمق الحس الشعبي». ولا يتأخر عن تحديد موقفه من هذا الرأي والدعوة إلى نقد نص السيرة الحسينية فيقول «ولكننا لا نوافق هؤلاء، ونجد أن من الضروري نقد نص السيرة الحسينية، كنقد نص السيرة النبوية الشريفة، كنقد أي نص تاريخي، لأن التاريخ وإن ابتعد عنا، فهو قد دخل في وجداننا الثقافي، وإحساسنا الديني، وحركتنا السياسية.. وبناءً على ذلك، فعندما نقدم بعض الصور غير الواقعية على أنها تمثل الشرعية، باعتبار أنها تنسب إلى الحسين «ع»، الإمام الذي يعتبر قوله وفعله يمثلان الخط الشرعي الصحيح، فإن ذلك سوف يدخل في حركتنا الثورية ما هو شرعي وما هو غير شرعي».

 

فضل الله أضاف في تلك المقابلة المهمة والجريئة «إنني أتصور أن من الضروري أن ينطلق النقد بشكل موضوعي علمي، يمكن أن نحصل من خلاله على سيرة متوازنة، وإذا لم تكن هي الواقع، فلا مانع من أن نحاول أن تكون الأقرب إلى الواقع، مع إبقاء الجو المأساوي في عناصره الداخلية»، وطمأن قراء التعزية الذين قد يتأثرون بذلك بقوله «…. إذا كانوا يملكون أسلوباً أدبياً فنياً في طريقة التعبير، وعناصر الإثارة، فإنهم يستطيعون أن يحرّكوا المأساة في قضية الإمام الحسين «ع»، من دون الحاجة إلى قصص وحكايات جديدة».

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
10  خطاب البغدادي و”المسكوت عنه”!

 

 محمد ابو رمان

 

الغد الاردنية
كان لافتاً تماماً تزامن الخطاب الأخير لزعيم تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية (داعش)، أبو بكر البغدادي، مع عودة التنظيم إلى شنّ هجمات كبيرة وشرسة في مناطق متعددة، من سورية والعراق!

البغدادي، الذي اختفى قرابة عام، عاد ليكرّس الصيغة الجديدة للتنظيم، ليس في “نصّ” خطابه، الذي تحدث فيه عن التناقض في أجندات الدول في المنطقة، وحثّ على الثبات والصمود والقتال، بل في ما وراء النص، أو ما يسمّى في تحليل الخطاب “المسكوت عنه” في النص!

خطاب البغدادي تجاوز تماماً مفهوم الخلافة ولم يشر إليه ولم يتمسّك الرجل به في أي فقرة من فقرات الخطاب، ولم يعش حالة “إنكار” لانهيار “دولته”، ولم يكرر اللازمة التي أصبحت شعار أبناء التنظيم “باقية وتتمدد”، بل انطلق من ذلك أصلاً ليؤسس لمرحلة جديدة تقوم على حرب العصابات والاستنزاف والاستمرار.

المسكوت عنه، أيضاً، في خطاب البغدادي ثلاثة أمور؛

الأمر الأول يتمثّل في الرهان على ثيمة الهوية السنّية، كبنية رئيسة في خطاب التنظيم وقدرته على الحشد والتجنيد، فهو قد خاطب “السنة المستضعفين”، في العراق وسورية واليمن، وباقي دول العالم العربي، ليقول لهم إن إيران نجحت في التمدد في دولهم، ودمّرت مدنهم، وإنّ الدول العربية عاجزة عن مواجهتها، وبالتالي سيبقى التنظيم هو “الممثل الشرعي” للهوية السنّية، والمدافع عن ملايين السنّة في تلك المناطق.

الأمر الثاني أنّه يراهن على عودة الانقسام الإقليمي والدولي حول العراق وسورية، مع الاستفتاء الكردي، والصراعات الإقليمية، وهي الظروف ذاتها التي استثمرها التنظيم للبروز والصعود في العام 2011، إلى أن تمكّن من السيطرة على مناطق شاسعة في العراق وسورية.

الأمر الثالث قدرة التنظيم الملموسة على إعادة الهيكلة والتكيّف مع المتغيرات والتحولات الواقعية والموضوعية، بالرغم من “صلابته الأيديولوجية”، وهي مفارقة ملحوظة، حصلت مع التنظيم في العام 2009، في العراق، عندما أعاد ترتيب أولوياته وهيكلة استراتيجيته، لمواجهة مرحلة الانحسار التي مرّ بها حينها، ثم عاد للصعود والتمدد لاحقاً، قبل أن يخوض الحروب والمعارك الأخيرة، التي فقد معها أغلب المناطق التي سيطر عليها.

نحن، إذاً، أمام داعش بنسخة جديدة، مرّة ثالثة، قفز فيها التنظيم من مفهوم الدولة وعاد إلى حرب العصابات والخلايا النائمة مرّة أخرى، وبرزت قدرته الكبيرة على التكيّف من خلال عمل كبير أدى إلى قتل قيادات في القوات الروسية، وأكبر حصيلة من القتلى في عمليات بيوم واحد، في حزب الله، وعشرات القتلى في صفوف النظام السوري!  

بالنتيجة؛ لن ينتهي داعش بخروجه من المدن الرئيسة، ولا حتى باستهداف قياداته وقتلهم، فالتنظيم أثبت قدرته على التكيّف واستبدال القيادات، وخطاب البغدادي كشف قدرة التنظيم على بناء تقييم موقف استراتيجي للظروف الواقعية والديناميكيات الإقليمية والدولية والاستفادة منها في الوقت المناسب.

طالما أنّ المشكلات الموضوعية قائمة والشروط التي أدت إلى صعود الراديكالية قائمة، مثل غياب التوافقات الوطنية والشعور بانعدام العدالة الاجتماعية، وأزمات الاندماج، ومشروعات الهيمنة وتوظيف التطرف لمصلحة دول المنطقة، والاستبداد والقتل وما يولّد مشاعر السخط والرفض والإحباط، فإنّ هذه المدخلات كفيلة برفد التنظيم بوقود العمل، بالرغم من وجود “جرثومة الفناء” في ثنايا أيديولوجيته الفكرية، وربما هذه المفارقة الكبرى في قصة صعود التنظيم وهبوطه!

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
11  أميركا والغزو المستمر: تاريخ من الإبادات تبيحه عقيدة حق التضحية بالآخر  سميرة رجب

 

 العرب
 

تحمل مقولة التاريخ لا يكتبه المنتصرون، في قراءتها الأولى الكثير من المغالطات، فالانتصار هنا ليس بالضرورة انتصار حق والمنتصر في الغالب هو الأقوى، المستعمر الذي سيكتب ذلك التاريخ وفق ما يناسبه ويدعم صورته البطولية، مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى تزوير ذلك التاريخ، خصوصا عندما تكون الكتابة مصحوبة بتدمير شواهد ذلك التاريخ. وفيما ما يشهده اليوم الشرق الأوسط مثال على ذلك، حيث تعم الفوضى الخلاقة، وهي عبارة لا تختلف في تناقضاتها عن عبارة التاريخ يكتبه المنتصرون، فالفوضى هدامة للدول المستهدفة لكنها خلاقة بالنسبة للمشروع الأميركي الذي يستمد استمراريته في كل مرة عن عوالم جديدة ينشئها على أنقاض وبناء الانتصار على أنقاض تهديم ممنهج لدول وحضارات.

الفوضى مستمرة لرسم الخارطة الجديدة بأي ثمن

 

يقال إن “التاريخ لا يعيد نفسه”، إنما الواقع يؤكد أنه يعيد نفسه ولكن البشر ينسون؛ فالذاكرة البشرية تتذكر ما يكتبه المنتصرون، أما الحقائق التي لا يؤرخها ذلك المنتصر فإنها تختفي كزبد البحر. كما أن الذاكرة الحية للبشر قصيرة، ومحددة بعمر الجيل الواحد، فلا تتسع الذاكرة البشرية لتخزين الكثير من التاريخ، فالجديد دائما ينسخ القديم، والأولون يموتون وتُدفن معهم الحقيقة، وأجيالهم اللاحقة تنسى… نعم، بكل بساطة ينسى البشر التاريخ الذي لم يعيشوه، وهم في غمرة الحياة والتطلع نحو المستقبل والسير في ركب المنتصر، وفي غمرة أحداث مهولة جديدة، يقف التاريخ عندها مشدوها من شدة الهول.

 

واليوم يقف تاريخ العرب دون حراك أمام هول وحجم الدمار المستمر، وحروب الإبادة الدموية التي فاقت الحروب العالمية دموية. وسنكتشف بعد عدد من السنوات، لن تكون طويلة، أن تاريخ العرب توقف عند عام 2003، وما بعده لن يكون تاريخهم، وسيكتبه المنتصرون؛ أولئك الذين رسموا وخططوا وأبادوا الشعوب العربية، وثقافاتها واستبدلوها بشعوب وثقافات أخرى. سنكتشف أن الحالة العربية اليوم تعبّر بامتياز عن “الفوضى الخلاقة” التي رسمها آخرون للمنطقة. هذه الفوضى التي تعبث في بلادنا العربية، تعني حرفيا إغراق المنطقة في حالة التدمير الذاتي بصوره المتعددة، لتكون محصلتها هدم هياكل الدولة ومواردها وثرواتها وحدودها الجغرافية وإبادة ما أمكن من شعوبها وإزاحة من بقي منها من أماكنها وإعادة تشكيلها ورسم حدودها بجدران إسمنتية وبخطوط وقوانين وشعوب وثقافات جديدة لا علاقة لها بالهيكل الجغرافي والحضاري والثقافي والديموغرافي السابق.

 

باختصار سيثبت التاريخ أن التدمير الاقتصادي والهيكلي الناعم في بعض بلادنا العربية، أو التدمير الدموي وتدمير البنى التحتية، كما هو حال العراق وسوريا واليمن وليبيا، وما يرافق كل هذا الدمار من إزالة لكتل بشرية وتفتيتها تارة بالإبادة الجسدية وتارة بالإزاحة والإبادة الثقافية، بما لا يسمح بالعودة إلى ما كانت عليه سابقا، وبذريعة الحرب على الإرهاب، ما هو إلا تنفيذ حرفي لما جاء على لسان غوندليزا رايس في عام 2006، عندما قالت بثقة وفوقية أمام وسائل الإعلام أثناء القصف الإسرائيلي على لبنان (وليس على حزب الله) “… ينبغي أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو ولادة شرق أوسط جديد، وأننا لن نعود إلى العالم القديم”.

 

في الشرق الأوسط يعيد التاريخ نفسه. ويتم هدم دول وإبادة شعوب وحضارات ليعاد بناء دويلات وشعوب جديدة على أنقاضها. هنا يعاد تاريخ حرب الإبادة الجسدية والثقافية

في الشرق الأوسط يعيد التاريخ نفسه. ويتم هدم دول وإبادة شعوب وحضارات وثقافات ليعاد بناء دويلات وثقافات وشعوب جديدة على أنقاضها. هنا يعاد تاريخ حرب الإبادة الجسدية والثقافية التي عمل بها المستوطنون الإنكليز الأوائل مؤسسو الدولة الأميركية، ضد الهنود الحمر قبل أكثر من قرنين وضد الشعوب الأسترالية والنيوزيلندية الأصلية، وغيرها من مستعمرات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والمنتشرة في أرجاء العالم.

 

 

فهم الحاضر بمراجعة التاريخ

 

انطلاقا من عذابات وآلام ذلك التاريخ التي تأسست عليها الولايات المتحدة، يمكن أن نفهم تلك الثقة والفوقية التي كانت تتحدث بها رايس في ذلك اليوم بأنها نتاج ثقافة القوة والفوقية والبطش، التي غلّفها أولئك المستعمرون بأيديولوجيا القيم المقدسة والرسالية، ليتمكنوا من سلب كل أرض غزوها، ولتبقى الأرض وشعوبها وثرواتها ملكا لهم دون منازع.

 

لطالما كنت أتساءل بأي ذريعة ثقافية وأخلاقية يعيث الجيش الإنجلوأميركي فسادا في الأرض؟ وبأي مبدأ أو ضمير أخلاقي قُصفت مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية؟ لماذا كانت تلك الحرب الهمجية في فيتنام (1955-1975) وحرب كمبوديا وراوندا ويوغسلافيا… وغيرها الكثير؟

 

بأي مبرر إنساني سُرقت أرض فلسطين واستُبدل شعبها بشعب آخر وحضارتها وثقافتها بأخريين؟ بأي حق وضمير يتم احتلال العراق واستبدال شعبه بشعب آخر وإبادة ثقافاته وحضاراته وتاريخه واستبدالها بثقافة الإجرام والإرهاب والفساد والجهل؟

 

وما هي القيم التي سمحت لمادلين أولبرايت أن تؤمن وتعترف بأن تدمير العراق يستحق التضحية بنصف مليون طفل عراقي ماتوا في ظل الحصار الاقتصادي الهمجي الذي فرضته بلادها على العراق؟ وما هي تلك النزعة الحيوانية التي تجعل أقوى جيش في العالم يغتصب في كل أرض يجتاحها؟ فلم يكن اغتصاب مليون امرأة فيتنامية في تلك الحرب الوحشية حالة استثنائية، بل تكرر الأمر، ولا يزال يتكرر، في غرف التعذيب المنتشرة من غوانتانامو إلى أبوغريب وغيرهما من سجون النظام الدولي الجديد في أنحاء العالم.

 

لربما لم أتمكن هنا من وصف كل الجرائم والوحشية الغربية التي عاصرتها وقرأت عنها طوال حياتي، منذ أن تعلمت القراءة والتفكير، إلا أن هذه الأسئلة البشعة لم تتوقف، بل لا تزال تكبر ككرة الثلج، لتصعد على سطحها جريمة الإبادة الجماعية التي شاهدنا فصولها في الموصل وتجري أحداثها اليوم في تلعفر والرقة في ظل تعتيم رهيب، مع سقوط كل القيم الإنسانية في صراعات القرن الأميركي الجديد.

 

قد أزعم أنني وجدت ضالتي في بعض الإجابات على تساؤلاتي من مرجعيتين موسوعيتين للبروفيسور العربي الأميركي منير العكش، “أميركا والإبادات الجماعية” و”أميركا والإبادات الثقافية” (دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2002 و2009).

 

اعتمد الكاتب في الكتابين على المئات من المصادر العامة وصناديق الوثائق الحكومية الأميركية، وسجلات مفوضي المحفوظات الوطنية ووزارة الداخلية ووثائق مكتب الشؤون الهندية ومحفوظات الكونغرس الأميركي والمنظمات التاريخية وغيرها.

 

 

منير العكش: منذ موجة الغزو الأولى حتى هذه اللحظة لم يعرف الغزاة ولا المؤسسة الأميركية، التي ورثت ثقافتهم وأهدافهم وجنونهم الاستعماري لحظة سلام لا مع السكان ولا مع العالم الخارجي

يُعتبر الكتابان عملين دراسيين جادين لفهم “هذه الأميركا التي تمسك بخناق حاضرنا ومستقبلنا”، ومحاولة جادة في تأسيس دراسات أميركية وصيغة أكاديمية لفهم أميركا من الداخل، ومحاولة لرسم الصورة الواقعية للمؤسسة الأميركية الحاكمة وفهم طريقة صناعة القرار السياسي فيها، بما قد “يعين المخلصين من أولي أمرنا في العالم العربي على بناء استراتيجية واقعية لا تصادرها التشنجات والمواقف المسبقة من جهة ولا تقوم على الأوهام والتمنيات من جهة ثانية”.

 

يذكر الدكتور العكش أن الأميركيين استعاروا معنى كلمة “الحضارة”، التي يكثرون من تردادها واستهلاكها، من أسطورة تأسيس الرجل الأبيض للولايات المتحدة على أنقاض جثث الشعب الأصلي، ثم نُسجت من تلك الكلمة التصورات والمعايير والقيم الأخلاقية التي تُمارَس اليوم بواسطة قوة سلاح الدمار الشامل في أرجاء العالم، وهي القيم التي تزعم أن “احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ عمل مقدّس أمر به الله، وبالتالي فإنه يسمو على أخلاق البشر وأعرافهم وقوانينهم وحياتهم وحرياتهم”.

 

إن قيم “الحضارة” الأميركية، التي تمتد في كل أنحاء المعمورة، تزعم أيضا بأن “فكرة أميركا تجسد مشيئة الله…”، وإن المستوطن الإنكليزي المحتل لأرض الغير ما هو إلا “استثناء وجودي” يمثل إرادة الله وهو من له حق تنفيذ هذه الإرادة… أما معاملة السكّان الأصليين فلا تخضع “للقوانين الأخلاقية أو الإنسانية أو المبادئ العقلية”، بل تخضع لحكم الأساطير التي نسجها العقل الإنكليزي بعد نجاح تجاربه المتتالية في قتل شعوب مستعمرات الإنكليز، وهذه الأساطير رسّخت اعتقادهم بأنهم “شعب مختار” لأداء هذا الدور الحضاري في سبيل الله. كل تلك القيم التي نُسجت بعد نجاح فكرة أميركا في العالم الجديد، جعلت من تلك التجربة “مثالا طيبا يمكن تكراره حيثما اشتهى شعب الله”.

 

إن الثقة والفوقية اللتين يتحدث بهما الساسة الأنجلوأميركان عموما، وتحدثت بهما السيدة رايس في مقولتها تلك على سبيل المثال، مستمدتان بكل تأكيد من مبدأ امتلاك القوة، وهو أحد ثلاثة مبادئ تعتمدها الإدارات الأميركية المتعاقبة كركيزة في ميثاق الأمن القومي الأميركي، منذ نشأة الولايات المتحدة؛ القوة والدين والقيم، متمثلا في تحالف رجال السياسة والدين والمال، لتحقيق مصالحها، وحماية أمنها القومي (د. خليل حسين، “الإستراتيجية الإمبراطورية الأميركية في وثيقة الأمن القومي الأميركي”)، تلك القوة التي نجحت بداية في بناء الدولة على أنقاض وجثث الملايين من شعوب القارة الأميركية الأصليين.

 

ويذكر البروفيسور العكش أنه “لم يغب عن أنبياء أميركا وجنرالاتها أن احتلال الأرض والإبادة الجسدية ليسا كل شيء، وأنه لا بد من كسر العمود الفقري لضحيتهم، ألا وهو لغتهم وثقافتهم وتراثهم الروحي”، والتي وصفها الكاتب بـ”المحرقة الأخيرة للوجود”. لقد توقف تاريخ الشعب الأميركي الأصلي بدءا من لحظة تسميتهم بالهنود الحمر، وكأنهم كائنات متوحشة لا اسم لها ولا تاريخ ولا حضارة. واستمر ذلك حتى انتهاء وجودهم الفعلي، وعلى من يرغب اليوم في التعرف على أولئك “الوحوش” يجدهم في بعض المتاحف المنتقاة، بجانب آثار الديناصورات والحيوانات الأخرى المنقرضة. أما ما هو مكتوب عنهم في الكتب المدرسية أو في أرشيف الدراما الهوليوودية، فهو ليس تاريخهم بتاتا، بل هو التاريخ الذي كتبه المنتصرون بعد حفلات الشواء (الباربكيو) التي أحرق فيها الرجل الأبيض مدنهم وقراهم وبيوتهم، ثم مارس متعته بشواء أجسادهم واغتصاب أطفالهم.

 

هل سيكتب التاريخ عن مآسي الإبادة الجماعية والتهجير القسري وكل ما يعيشه الشعب العراقي منذ 2003 حتى هذا اليوم، أم سيبقى ذلك طي الكتمان حفاظا على سمعة المحتلين

 

مبدأ امتلاك القوة

 

في أكثر من 500 صفحة (في الكتابين) يحاول الباحث أن يوضح الصورة الواقعية للمؤسسة الحاكمة الأميركية بالتفاصيل والممارسات والوقائع البشعة التي أبادت الشعب الأميركي الأصلي على مدار ثلاثة قرون. وفي التفاصيل حجم مروع من الانحطاط الأخلاقي والألم مما لا يمكن اختزاله في مقال صغير كهذا.

 

ولكن سأحاول أن أختزل للقارئ منه صورتين من آلاف الصور المخزية لممارسات المستعمر الأبيض ضد ذلك الشعب المسالم، لتكوين تصور واقعي حول مدى خطر العقلية التي تحاول الاستفراد بحكم العالم كله.

 

يقول كاتبنا إنه “على مدى خمسمئة سنة، تعرّض هنود أميركا لحملات غزو إسبانية وبرتغالية وفرنسية وهولندية وإنكليزية سلبتهم إنسانيتهم، وأنزلت بهم فنونا عجيبة من القتل والتدمير، ونظرت كلها إلى حياتهم ولغاتهم وأديانهم باحتقار، لكن الإنكليز (…..) وحدهم كانوا الأكثر عنجهية وعدوانية وإصرارا على تدمير

 

الحياة الهندية واقتلاعها من الذاكرة الإنسانية.

 

وحدهم جاءوا بفكرة مسبقة عن أميركا، نسجوها من لحم فكرة إسرائيل التاريخية؛ فكرة احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ. فاستنسخوا بذلك أحداثها وتقمصوا أبطالها وجعلوها قدرهم المتجلي”.

 

ويؤكد الكاتب أن هذه الفكرة هي التي أرست “الثوابت التاريخية الخمسة التي رافقت كل تاريخ أميركا:

 

1) المعنى الإسرائيلي لأميركا

 

2) عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي

 

3) الدور الخلاصي للعالم

 

4) قدرية التوسع اللانهائي

 

5) حق التضحية بالآخر

 

لم تتوقف هذه الفكرة في حدود الولايات المتحدة، بل إنها طوّرت نفسها وذرائعها من حقبة إلى حقبة، و”جدّدت لغتها من جيل إلى جيل” ومع كل نظرية فكرية، إلا أن “جوهرها ومعناها وأهدافها لازمت المستعمرين الإنكليز وقناعاتهم وتاريخهم وسياساتهم واستحوذت على ألبابهم وعقولهم”.

 

وبذلك بقيت هذه الفكرة وحروبها “الخيرية” ورسالتها الحضارية “واحدة لا تحول ولا تزول”… إنها الفكرة التي تعيش على أسطورة البدو الرعاع الحاقدين على حضارات عصرهم، لتكون ذريعتهم في نهب الحضارات بشعوبها وأرضها وثقافاتها، بعنجهية “الجلاد المقدس”، و”آداب مسخ الآخر وعبادة الذات وتقديس الجريمة”.

 

وهنا يذكرنا الكاتب بالملاحظة التي سجلها داروين في مذكراته بعد رحلته الشهيرة حول العالم قائلا “إنه حيثما خطا الأوروبيون مشى الموت في ركابهم إلى أهل البلاد” التي اجتاحوها، إشارة إلى الحرب الجرثومية التي بدأها المستوطنون البيض ضد الشعب الأميركي الأصلي عبر نشر الأوبئة القاتلة التي أبادت أمما بأكملها في بداية ذلك الغزو اللعين لأرضها.

 

بحسب مصادر واقعية فإن أنواع الحروب الجرثومية المؤكدة التي شنها المستوطنون الإنكليز ضد الهنود الأميركيين كانت “93 وباء شاملا: 41 جدري، 4 طاعون، 17 حصبة، 10 أنفلونزا، و25 سل ودفتيريا وتيفوس وكوليرا”.

 

 

هدم دول وإعادة بناء دويلات

 

طريق الدموع

 

تؤكد المصادر التاريخية أن عدد الهنود الذين كانوا منتشرين على كامل مساحة القارة الأميركية، التي تزيد على مساحة أوروبا بربع مليون كليومتر مربع، أكثر من 112 مليون نسمة موزعين على 400 أمة وحضارة وثقافة، 18.5 مليون نسمة كانوا في أراضي ما يُسمى بالولايات المتحدة الأميركية اليوم.

 

“رحلة الدموع”، كانت أولى ثمار عملية الترحيل القسرية للهنود الأميركيين، والتي سن لها الكونغرس قانونا عام 1830 يسمح باستعمال القوة لترحيلهم، بعد سرقة ونهب وحرق مدنهم وقراهم وبيوتهم، من شرق المسيسبي إلى غربه، عبر المئات من الأميال ومناطق موبوءة بمختلف الأمراض التي أسست لأول حرب جرثومية في العالم، والتي “اعترف بها حاكم ولاية بليموث، وليم برادفودر، في يومياته بقوله إن “الأغطية الملوثة بالجراثيم التي كانوا يهدونها للهنود هي السبب في انتشار الوباء بينهم”… وكان يتم انتزاع هذه البطانيات ممن يقع ميتا وإعطائها لهندي آخر، حتى أنهاهم المرض والجوع والإجهاد.

 

كان “طريق الدموع” واحدة من عمليات القتل والتهجير الجماعي، التي يسميها الكاتب بالترحيل القسري المنظم، وفي جميع الاتجاهات، على مدار قرن.

 

وبحسب إحصاءات عام 1900 لم يتبق من ذلك الشعب أكثر من ربع مليون فرد، بعد استخدام كل وسائل الإبادة ضدهم، وكانت الأوبئة أحد وجوهها الوحشية القاسية، رغم محاولات القتلة التبرؤ من هذه التهمة البشعة مرارا وتكرارا، بمئات الأبحاث والدراسات بذريعة أن عامل المرض الذي انتقل لهم بشكل طبيعي من المستوطنين، ولم يتحمله الهنود لأن أجسادهم لم تمتلك المناعة، هو سبب تلك الإبادة.

 

ولا تزال كتبهم المدرسية تضع صفات عديدة لتلك المأساة “غير المتعمدة” و”غير المقصودة”، والتي “لم يكن تجنبها ممكنا”، وتصفها بالأضرار “الهامشية التي تواكب انتشار الحضارة وطريقة حياتها”.

 

أما من يحاولون أن يخرجوا عن هذه التبريرات فهم “المتحاملون”، “الأشقياء”، السلبيون المتهورون الذين تنبع منهم روح الكراهية” مما يذكرنا بإطلاق عقدة “نظرية المؤامرة” ضد كل من يحاول شرح مؤامرات الإبادة المستمرة في منطقتنا العربية منذ احتلال العراق عام 2003.

 

فيا ترى هل سيكتب التاريخ عن مآسي الإبادة الجماعية والتهجير القسري وكل ما يعيشه الشعب العراقي منذ 2003 حتى هذا اليوم، أم سيبقى ذلك طي الكتمان حفاظا على سمعة المحتلين؟

 

في “حرب التطهير الثقافية” استعان المستوطنون البيض في القارة الجديدة بسلاح التعليم والتمدين من أجل الإبادة، فلجأوا إلى خطف واقتلاع أطفال الهنود من أحضان أمهاتهم قبل بلوغ الرابعة من أعمارهم، “وشحنهم إلى معسكرات أشغال شاقة سُميت بالمدارس” بدعوى التعليم والتمدين، حيث تم استخدامهم بالسخرة في المصانع والمزارع، وحيث تم تجريدهم من “هنديتهم” وتسليمهم لعملية الإبادة الجسدية… في هذه المدارس “مات أكثر من 50 بالمئة من هؤلاء الأطفال على خمسة أجيال متعاقبة”.

 

كان المشرفون والعاملون في هذه المدارس مجموعات من الإرساليات التبشيرية التي وصفهم المؤرخ الأميركي جورج تينكر “بحثالات المجتمع الأميركي من متخرجي السجون وأصحاب السوابق والساديين ومغتصبي الأطفال والمتقاعدين العسكريين والأمنيين…”، لذلك لم تخلُ مدرسة واحدة من الاغتصاب الجنسي.

 

يصف تينكر قصة أخ له بالتبني اسمه دوني انتحر وهو في الثانية والخمسين بعد قصة معاناة طويلة قضاها منذ كان في الخامسة من عمره، عندما اختطفوه من ذراعي أمه ولم ينفع بكاء الأم وضراعة الأب “ووضعوا في يديه القيد أمام أعينهما، وساقوه إلى سيارة تغص بالأطفال. وهناك ربطوه بالسلسلة المعدنية الطويلة التي تصفّد الأطفال جميعا، ثم شحنوه إلى مدرسة القديس فرانسيس ليكون تحت رعاية التبشيريين.

 

يقول تينكر إنه “منذ تلك اللحظة كُتبت قصة انتحار دوني” حيث بدأ برنامج تمدينه بافتراسه جنسيا من ناظر صفّه العملاق الأبيض، حيث كان يدخل غرفته ليلا ويغتصبه هو ورفيق غرفته كونراد الذي كان بعمره. واستمرت غزوات الافتراس المفاجئة التي كان يشنها عليهما بعض العاملين، وغيرهم ممن لا يعرفونهم في تلك المدرسة التبشيرية، إلا أن كونراد كان أسعد حظا، لأنه انتحر قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره.

 

هذه المدارس هي ما وصفها دوغلاس هوغارث، أحد قضاة المحكمة الكبرى في كندا، بأنها “ليست أكثر من مؤسسات للإرهاب الجنسي وأوكار لاغتصاب الغلمان”، حيث يتم إجبار الضحايا “على مواجهة الحقيقة المرة، وهي أنهم هم وأهلهم وكل من تبقى من شعوبهم على قيد الحياة عاجزون عن منع الإذلال أو الإهانة أو أي شكل من أشكال العدوان عليهم لأنهم ضعفاء”. من هنا يمكن تفسير بنية ثقافة الاغتصاب والعنف الجنسي التي تمارسها جيوش المحتلين والغزاة الأنجلوأميركان “تجاه سكان مستعمراتهم من سيدني إلى واشنطن ومن نيوزيلاندا إلى بغداد”، بحسب الشهادات التي وثقها الكاتب بكل الأدلة المادية.

 

ويذكر الكاتب أنه بحسب دراسة إحصائية لظاهرة الاغتصاب في مدارس “التبشيريين” أجريت في عام 1993، أن نسبة الاغتصاب في بعض هذه المدارس ما بين عامي 1950 و1980 “بلغت 100 بالمئة”.

 

 

الشيطان الأميركي

 

من المؤكد أن عدد الكلمات المحدودة في هذا المقال لن يوفي الموضوع حقه، إلا أنني حاولت بقدر الإمكان تنوير القارئ وصانع القرار حول حقيقة الأسلحة البشرية والأيديولوجية والعرقية والطائفية والثقافية والتكنولوجية التي يتم استخدامها اليوم في بلادنا للتدمير الشامل، بالحرب الخارجية تارة والداخلية تارة أخرى، ولمعرفة أسباب انتشار الإرهاب ومحاولات إقناعنا بأننا شعوب وحشية إرهابية بحاجة إلى التمدين بحضارة وديمقراطية الرجل الأبيض وعمليات التعذيب وثقافة الاغتصاب في السجون والمدن المحتلة عموما لقتل كل بذرة مقاومة في روح وعقل الإنسان العربي الذي يواجه الموت والإذلال بدعوى التحرير والحرية.

 

رغم قسوة ما جاء في هذا المقال إلا أن حالة العرب اليوم وأيامهم القادمة، تعد أشد قسوة ولا تقل عن حروب الإبادة تلك التي قضت على 112 مليون نسمة من الشعب الأصلي في القارة الجديدة، ومن يعتقد من الشعوب والأنظمة العربية بأنه في مأمن من سطوة أيديولوجيات الإبادة تلك فهو يعيش في وهم.

 

ونختم بقول البروفيسور العكش الذي يؤكد أنه “منذ موجة الغزو الأولى حتى هذه اللحظة لم يعرف الغزاة ولا المؤسسة الحاكمة الأميركية، التي ورثت ثقافتهم وأهدافهم وجنونهم الاستعماري لحظة سلام واحدة‏، لا مع سكانها ولا مع العالم الخارجي‏.‏ فهي منذ ‏1607‏، تاريخ إنشاء أول مستعمرة إنكليزية دائمة في شمال أميركا، لم تطفئ حربا قبل أن تشعل بنارها حربا غيرها‏.‏

 

ولعل أفضل ما يعبر عن هذا السعار الحربي عنوان كتاب كريس هدجز، الحرب هي القوة التي تعطينا معنى غواية الحرب ومغرياتها (……) وهي التي تمنح أميركا ما تطمح إليه وتتمناه مهما كانت الضحايا‏، وهي التي ترسم للأميركيين غايتهم ومعناهم ومبرر حياتهم.‏

 

دائما أميركا في كل حرب من حروبها الداخلية والخارجية بحاجة إلى شيطان‏ تجرد به الضحية من إنسانيتها وتجعل منها مشروعا مقدسا للإقصاء الوجودي‏.‏ لقد شيطنت ضحاياها بالطريقة التي شيطنت بها النازية ضحاياها وبالطريقة التي صنعت بها الصهيونية من الفلسطينيين فريسة طقسية‏.‏ إنه منطق واحد هو منطق سلب إنسانية الضحية المشتهاة ونبذها من العالم الطبيعي حتي يصبح افتراسها عملا إنسانيا‏”.‏

ت عنوان المقالة او الافتتاحية اسم الكاتب مكان النشر
12  العراق الذي يكذب على نفسه

 

 فاروق يوسف

 

 العرب
يكذب العراقيون على أنفسهم اضطرارا حين يطالبون الحكومة باستعادة سلطة القانون، كما لو أنها قادرة على القيام بذلك ولم تفعل.

“هناك حكومة في بغداد”. هذا وصف واقعي ولكنه ليس حقيقيا. يمكن أن تكون تلك الحكومة أشبه بالأمر الواقع، ذلك لأنها لا تملك ما يؤهلها لتصريف شؤون المواطنين في مختلف أنحاء العراق بطريقة ملزمة، ناهيك عن أن بغداد نفسها غالبا ما تفلت عن سيطرتها.

 

الرجل الذي يقود تلك الحكومة والذي هو عضو في حزب الدعوة لا يجد مصلحة شخصية له في أن يمد يده إلى الملفات الحساسة، وهي ملفات تتعلق بالفساد الذي التهم الجزء الأكبر من ثروة البلاد ودفع بها إلى أن تقـع تحت طـائلـة الديون في وقت يقف فيه العراق في مقدمة الدول المصدرة للنفط.

 

حيدر العبادي الذي هو رئيس تلك الحكومة يعرف أن عائدات النفط توظف في إدامة زخم ماكنة الفساد التي تُدار من قبل مافيات حزبه والأحزاب المتآلفة معه في التحالف الوطني العراقي.

 

هناك حصص مقتطعة من الثروة الوطنية هي من حصة تلك الأحزاب لا يمكن التراجع عنها.

 

تلك الحصص التي أقرت منذ أكثر من عشر سنوات لا يمكن المساس بها، ذلك لأنها صارت عنوانا لمنع الاقتتال الشيعي ــ الشيعي.

 

وبما أن الجزء الأكبر من الثروة الوطنية صار يذهب حصصا توزع بين تلك الأحزاب فإن الدولة ستكتفي بالفتات لإدارة أعمالها. وهو ما يجعلها فاقدة الأهلية بالنسبة للكثير من المؤسسات، التي يفترض أنها تابعة لها، لا فرق في ذلك بين مؤسسات المركز ومؤسسات المحافظات.

 

في حقيقة ما تفعله فإن الدولة العراقية تمول جهات تعمل على تقويضها والحد من سلطتها في حين لا تملك القدرة على ضبط مؤسساتها.

 

تناقض وجد حيدر العبادي في الحرب على الإرهاب فرصة للهروب منه. فهو بطل انتصارات لا يمكن أن تنعكس إيجابيا على مستوى عيش المواطن العراقي المحاط بحلقات متينة من الفقر والجهل والمرض والفوضى والتهديد المستمر بالخطف أو القتل. وهي حلقات تسعى الأحزاب الدينية إلى تطبيعها من خلال خطاب تغلب عليه الخرافة.

 

ما يشهده العراق من تسييس للدين يمثل المستوى الأكثر انحطاطا لذلك المسعى الذي يغدر بالدين ويميّعُ السياسة.

 

فلا شيء من الدين في تلك المحاولة ولا شيء من السياسة أيضا. هناك لصوص استولوا على دولة ثرية وصاروا يتقاسمون ثرواتها. هذه هي الحقيقة بالكلام الواضح والمقتضب والصريح.

 

أما إدارة وتصريف شؤون مواطني تلك الدولة فقد صارت تتم عن طريق الاستدانة التي سيدفع المواطنون أنفسهم ثمنها في القريب العاجل.

 

منذ العام 2003 اقترض العراق 120 مليار دولار. الحكومة العراقية لا تملك حلا لتلك المشكلة.

 

يُلام الأكراد أحيانا على استقلالهم في إدارة شؤون إقليمهم، شمال العراق. ولكن هل تملك الحكومة الاتحادية سلطة فرض قراراتها في المناطق الأخرى؟

 

ما هو مسكوت عنه من عمليات الفساد، التي صارت العمود الفقري لعمل الأحزاب والميليشيات التي تدير وتصرف الأمور في محافظات العراق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، هو أقوى من قدرة الحكومة الاتحادية على مجابهته، لذلك تنأى تلك الحكومة بنفسها عن الكثير من الصراعات بين الأحزاب والقبائل والجماعات المسلحة.

 

وليس غريبا والحالة هذه أن لا يجد المواطن العادي من ينصفه أو يعيد إليه حقوقه إن استلبت أو تم تحريفها.

 

فالدولة، بصيغتها الحالية، هي كيان غير محايد وليس من اختصاصه الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات في ظل اختراق مكشوف من قبل مافيات الفساد المحمية بالسلاح لكل مفاصل الدولة. وهو ما يجبر المواطنين على الخضوع لإملاءات جهات وأطراف انحنى لها القانون منذ سنوات، حين أعيد العراق إلى زمن ما قبل الدولة الحديثة.

 

يكذب العراقيون على أنفسهم اضطرارا حين يطالبون الحكومة باستعادة سلطة القانون، كما لو أنها قادرة على القيام بذلك ولم تفعل.

 

في حقيقتها فإن حكومة بغداد القائمة عل نظام المحاصصة هي ليست سوى واجهة لذلك النظام الذي قُدر له بحكم القانون الذي كُتب من أجله أن يفرط بثروات البلاد من خلال توزيعها حصصا على مكوناته الحزبية.